فصل: ذكر قطع يد ابن مقلة ولسانه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة ست وعشرين وثلاثمائة:

.ذكر استيلاء معزّ الدولة على الأهواز:

في هذه السنة سار معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه إلى الأهواز وتلك البلاد، فملكها واستولى عليها.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير أبي عبدالله البريديّ إلى عماد الدولة، كما سبق، فلّما وصل إليه أطمعه في العراق والاستيلاء عليه، فسير معه أخاه معز الدولة إلى الأهواز، وترك أبو عبدالله البريدي، ولديه: أبا الحسن محمداً، وأبا جعفر الفياض عند عماد الدولة بن بويه رهينةً وساروا، فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان، فسار لحربهم، فانهزم من بين أيديهم.
وكان سبب الهزيمة أن المطر اتصل أياماً كثيرة، فعطلت أوتار قسي الأتراك، فلم يقدروا على رمي النشاب، فعاد بجكم وأقام بالأهواز، وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم، فقاتلوا معز الدولة بها ثلاثة عشر يوماً، ثم انهزموا إلى تستر، فاستولى معز الدولة على عسكر مكرم؛ وسار بجكم إلى تستر من الأهواز، وأخذ معه جماعة من أعيان الأهواز، وسار هو وعسكره إلى واسط، وأرسل من الطريق إلى ابن رائق يعلمه الخبر، ويقول له: إن العسكر محتاج إلى المال، فإن كان معك مائتا ألف دينار، فتقيم بواسط حتى نصل إليك، وتنفق فيهم المال، وإن كان المال قليلاً فالرأي أنك تعود إلى بغداد لئلا يجري من العسكر شغب.
فلما بلغ الخبر إلى ابن رائق عاد من واسط إلى بغداد، ووصل بجكم إلى واسط فأقام بها، واعتقل من معه من الأهوازيين، وطالبهم بخمسين ألف دينار، وكان فيهم أبو زكرياء يحيى بن سعيد السوسي.
قال أبو زكرياء: أردت أن أعلم ما في نفس بجكم، فأنفذت إليه أقول: عندي نصيحة، فأحضرني عنده، فقتل: أيها الأمير أنت تحدث نفسك بمملكة الدنيا، وخدمة الخلافة، وتدبير الممالك، كيف يجوز أن تعتقل قوماً منكوبين قد سلبوا نعمتهم وتطالبهم بمال وهم في بلد غربة، وتأمر بتعذيبهم حين جعل أمس طشت فيه نار على بطن بعضهم؟ أما تعلم أن هذا إذا سمع عنك استوحش منك الناس وعاداك من لا يعرفك؟ وقد أنكرت على ابن رائق إيحاشه لأهل البصرة، أتراه أساء إلى جميعهم؟ لا والله، بل أساء إلى بعضهم، فأبغضوه كلهم، وعوام بغداد لا تحتمل أمثال هذا. وذكرت له فعل مرداويج، فلما سمع ذلك قال: قد صدقتني، ونصحتني؛ ثم أمر بإطلاقهم.
ولّما استولى ابن بويه والبريدي على عسكر مكرم سار أهل الأهواز إلى البريدي يهنونه، وفيهم طبيب حاذق، وكان البريدي يحم بحمى الربع، فقال لذلك الطبيب: أما ترى يا أبا زكرياء حالي وهذه الحمى؟ فقال له: خلطٌ، يعني في المأكول، فقال له: أكثر من هذا التخليط، قد رهجت الدنيا.
ثم ساروا إلى الأهواز فأقاموا بها خمسة وثلاثين يوماً، ثم هرب البريدي من ابن بويه إلى الباسيان، فكاتبه بعتب كثير، ويذكر غدره في هربه.
وكان سبب هربه أن ابن بويه طلب عسكره الذين بالبصرة ليسيروا إلى أخيه ركن الدولة بأصبهان، معونةً له على حرب وشمكير، فأحضر منهم أربعة آلاف، فلما حضروا قال لمعز الدولة: إن أقاموا وقع بينهم وبين الديلم فتنة، والرأي أن يسيروا إلى السوس ثم يسيروا إلى أصبهان؛ فأذن له في ذلك، ثم طالبه بأن يحضر عسكره الذين بحصن مهدي ليسيرهم في الماء إلى واسط، فخاف البريدي أن يعمل به مثل ما عمل هو بياقوت.
وكان الديلم يهينونه ولا يلتفتون إليه، فهرب وأمر جيشه الذي بالسوس فساروا إلى البصرة، وكاتب معز الدولة بالافراج له عن الأهواز حتّى يتمكن من ضمانه، فأنه كان قد ضمن الأهواز والبصرة من عماد الدولة بن بويه، كل سنة بثمانية عشر ألف ألف درهم، فرحل عنها إلى عسكر مكرم خوفاً من أخيه عماد الدولة لئلا يقول له: كسرت المال؛ فانتقل البريدي إلى بناباذ، وأنفذ خليفته إلى الأهواز، وأنفذ إلى معز الدولة يذكر له حاله وخوفه منه، ويطلب أن ينتقل إلى السوس من عسكر مكرم ليبعد عنه ويأمن بالأهواز.
فقال له أبو جعفر الصيمري وغيره: إن البريدي يريد أن يفعل بك كما فعل بياقوت، ويفرق أصحابك عنك، ثم يأخذك فيتقرب بك إلى بجكم وابن رائق، ويستعيد أخاك لأجلك؛ فامتنع معز الدولة من ذلك.
وعلم بجكم بالحال، فأنفذ جماعة من أصحابه، فاستولوا على السوس وجنديسابور، وبقيت الأهواز بيد البريدي، ولم يبق بيد معز الدولة من كور الأهواز إلا عسكر مكرم، فاشتد الحال عليه، وفارقه بعض جنده، وأرادوا الرجوع إلى فارس، فمنعم أصفهدوست وموسى قياده، وهما من أكابر القواد، وضمنا لهم أرزاقهم ليقيموا شهراً، فأقاموا وكتب إلى أخيه عماد الدولة يعرفه حاله، فأنفذ له جيشاً، فقوي بهم، وعاد فاستولى على الأهواز، وهرب البريدي إلى البصرة واستقر فيها فاستقر ابن بويه بالأهواز.
وأقام بجكم بواسط طامعاً في الاستيلاء على بغداد ومكان ابن رائق، ولا يظهر له شيئاً من ذلك، وأنفذ ابن رائق علي بن خلف بن طياب إلى بجكم ليسير مع إلى الأهواز ويخرج منها ابن بويه، فإذا فعل ذلك كانت ولايتها لبجكم والخراج إلى علي بن خلف، فلما وصل عليٌ إلى بجكم بواسط استوزره بجكم، وأقام معه، وأخذ بجكم جميع مال واسط.
ولما رأى أبو الفتح الوزير ببغداد إدبار الأمور أطمع ابن رائق في مصر والشام، وصاهره، وعقد بينه وبين ابن طغج عهداً وصهراً، وقال لابن رائق: أنا أجبي إليك مال مصر والشام أن سيرتني إليهما، فأمره بالتجهز للحركة، ففعل وسار أبو الفتح إلى الشام في ربيع الآخر.

.ذكر الحرب بين بجكم والبريدي والصلح بعد ذلك:

لما أقام بجكم بواسط وعظم شأنه خافه ابن رائق لأنه ظن ما فعله بجكم من التغلب على العراق، فراسل أبا عبدالله البريدي وطلب منه الصلح على بجكم، فإذا انهزم تسلم البريدي واسطاً وضمنها بستمائة ألف دينار في السنة على أن ينفذ أبو عبدالله عسكراً.
فسمع بجكم بذلك، فخاف واستشار أصحابه في الذي يفعله، فأشاروا عليه بأن يبتديء بأبي عبدالله البردي، وأن لا يهجم إلى حضرة الخلافة، ولا يكاشف ابن رائق إلا بعد الفراغ من البريدي، فجمع عسكره، وسار إلى البصرة يريد البريدي، فسير أبو عبدالله جيشاً بلغت عدتهم عشرة آلاف رجل، عليهم غلامه أبو جعفر محمد الحمال، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عسكر البريدي، ولم يتبعهم بجكم بل كف عنهم.
وكان البريديون بمطارا ينتظرون ما ينكشف من الحال، فلما انهزم عسكرهم خافوا، وضعفت نفوسهم، إلا أنه لما رأى عسكره سالماً لم يقتل منهم أحد ولا غرق طاب قلبه.
وكانت نية بجكم إذلال البريدي وقطعه عن ابن رائق، ونفسه معلقة بالحضرة، فأرسل ثاني يوم الهزيمة إلى البريدي يعتذر إليه مما جرى، ويقول له: أنت بدأت وتعرضت بي، وقد عفوت عنك وعن أصحابك، ولو تبعتهم لغرق وقتل أكثرهم، وأنا أصالحك على أن أقلدك واسطاً إذا ملكت الحضرة، وأصاهرك؛ فسجد البريدي شكراً لله تعالى، وحلف لبجكم وتصالحا، وعاد إلى واسط، وأخذ في التدبير على ابن رائق، والاستيلاء على الحضرة ببغداد.

.ذكر قطع يد ابن مقلة ولسانه:

في هذه السنة، في منتصف شوال، قطعت يد الوزير أبي عليّ بن مقلة.
وكان سبب قطعها أن الوزير أبا الفتح بن جعفر بن الفرات لما عجز عن الوزارة وسار إلى الشام استوزر الخليفة الراضي بالله أبا علي بن مقلة، وليس له من الأمر شيء إنما الأمر جميعه إلى ابن رائق، وكان ابن رائق قبض أموال ابن مقلة وأملاكه، وأملاك ابنه، فخاطبه فلم يردها، فاستمال أصحابه، وسألهم مخاطبته في ردها، فوعدوه، فلم يقضوا حاجته، فلما رأى ذلك سعى بابن رائق، فكاتب بجكم يطمعه في موضع ابن رائق، وكتب إلى وشمكير بمثل ذلك، وهو بالري، وكتب إلى الراضي يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأصحابه ويضمن أنه يستخرج منهم ثلاثة آلاف ألف دينار، وأشار عليه باستدعاء بجكم وإقامته مقام ابن رائق، فأطمعه الراضي وهو كاره لما قاله، فعجل ابن مقلة وكتب إلى بجكم يعرفه إجابة الراضي، ويستحثه على الحركة والمجيء إلى بغداد.
وطلب ابن مقلة من الراضي أن ينتقل ويقيم عنده بدار الخلافة إلى أن يتم على ابن رائق ما اتفقا عليه، فأذن له في ذلك، فحضر متنكراً ليلة من رمضان، وقال: أن القمر تحت الشعاع، وهو يصلح للأسرار؛ فكان عقوبته حيث نظر إلى غير الله أن ذاع سره وشهر أمره، فلما حصل بدار الخليفة لم يوصله الراضي إليه، واعتقله في حجرة، فلما كان الغد أنفذ إلى ابن رائق يعرفه الحال، ويعرض عليه خط ابن مقلة، فشكر الراضي، وما زالت الرسل تتردد بينهما في معنى ابن مقلة إلى منتصف شوال، فأُخرج ابن مقلة من محبسه، وقطعت يده ثم عولج فبرأ، فعاد يكاتب الراضي، ويخطب الوزارة، ويذكر أن قطع يده لم يمنعه من عمله، وكان يشد القلم على يده المقطوعة ويكتب.
فلما قرب بجكم من بغداد سمع الخدم يتحدثون بذلك، فقال: أن وصل بجكم فهو يخلصني، وأكافئ ابن رائق؛ وصار يدعو على من ظلمه وقطع يده، فوصل خبره إلى الراضي وإلى ابن رائق، فأمرا بقطع لسانه، ثم نقل إلى محبس ضيق، ثم لحقه ذرب في الحبس، ولم يكن عنده من يخدمه، فآل به الحال إلى أن كان يستقي الماء من البئر بيده اليسرى ويمسك الحبل بفيه، ولحقه شقاء شديد إلى أن مات ودفن بدار الخليفة، ثم إن أهله سألوا فيه، فنبش وسلم إليهم، فدفنوه في داره، ثم نبش فنقل إلى دار أخرى.
ومن العجب أنه ولي الوزارة ثلاث دفعات، ووزر لثلاثة خلفاء، وسافر ثلاث سفرات: اثنتين منفياً إلى شيراز، وواحدة في وزارته إلى الموصل، ودفن بعد موته ثلاث مرات وخص به من خدمة ثلاثة.

.ذكر استيلاء بجكم على بغداد:

وفي هذه السنة دخل بجكم بغداد، ولقي الراضي، وقلد إمرة الأمراء مكان ابن رائق، ونحن نذكر ابتداء أمر بجكم، وكيف بلغ إلى هذه الحال، فإن بعض أمره قد تقدم، وإذا افترق لم يحصل الغرض منه.
كان بجكم هذا من غلمان أبي علي العارض، وكان وزيراً لما كان بن كالي الديلمي، فطلبه منه ما كان، فوهبه له، ثم إنه فارق ما كان مع من فارقه من أصحابه والتحق بمرداويج، وكان في جملة من قتله، وسار إلى العراق، واتصل بابن رائق، وسيره إلى الأهواز فاستولى عليها وطرد البريدي عنها.
ثم خرج البريدي مع معز الدولة بن بويه من فارس إلى الأهواز، فأخذوها من بجكم، وانتقل بجكم من الأهواز إلى واسط، وقد تقدم ذكر ذلك مفصلاً، فلما استقر بواسط تعلقت همته بالاستيلاء على حضرة الخليفة، وهو مع ذلك يظهر التبعية لابن رائق، وكان على أعلامه وتراسه بجكم الرائقي، فلما وصلته كتب ابن مقلة يعرفه أنه قد استقر مع الراضي أن يقلده إمرة الأمراء، طمع في ذلك، وكاشف ابن رائق، ومحا نسبته إليه من أعلامه، وسار من واسط نحو بغداد غرة ذي القعدة.
واستعد ابن رائق له، وسأل الراضي أن يكتب إلى بجكم يأمره بالعود إلى واسط، فكتب الراضي إليه، وسير الكتاب، فلما قرأه ألقاه عن يده ورمى به، وسار حتى نزل شرقي نهر ديالي، وكان أصحاب ابن رائق على غربيه، فألقى أصحاب بجكم نفوسهم في الماء فانهزم أصحاب ابن رائق، وعبر أصحاب بجكم وساروا إلى بغداد، وخرج ابن رائق عنها إلى عكبرا ودخل بجكم بغداد ثالث عشر ذي القعدة، ولقي الراضي من الغد، وخلع عليه، وجعله أمير الأمراء، وكتب كتباً عن الراضي إلى القواد الذين مع ابن رائق يأمرهم بالرجوع إلى بغداد، ففارقوه جميعهم وعادوا.
فلما رأى ابن رائق ذلك عاد إلى بغداد واستتر، ونزل بجكم بدار مؤنس، واستقر أمره ببغداد، فكانت مدة إمارة أبي بكر بن رائق سنة واحدة وعشرة أشهر وستة عشر يوماً، ومن مكر بجكم أنه كان يراسل ابن رائق على لسان أبي زكرياء يحيى بن سعيد السوسي، قال أبو زكرياء: أشرت على بجكم أنه لا يكاشف ابن رائق، فقال: لم أشرت بهذا؟ فقلت له: أنه قد كان له عليك رئاسة وإمرة، وهو أقوى منك وأكثر عدداً، والخليفة معه، والمال عنده كثير؛ فقال: أما كثرة رجاله فهم جوز فارغ، وقد بلوتهم، فما أبالي بهم قلوا أم كثروا؛ وأما كون الخليفة معه، فهذا لا يضرني عند أصحابي؛ وأما قلة المال معي فليس الأمر كذلك، وقد وفيت أصحابي مستحقهم، ومعي ما يستظهر به، فكم تظن مبلغه؟ فقلت: لا أدري؟! فقال: على كل حال؛ فقلت: مائة ألف درهم؛ فقال: غفر الله لك، معي خمسون ألف دينار لا أحتاج إليها.
فلما استولى على بغداد قال لي يوماً: أتذكر إذ قلت لك: معي خمسون ألف دينار؟ والله لم يكن معي غير خمسة آلاف درهم؛ فقلت: هذا يدلّ على قلة ثقتك بي؛ قال: لا ولكنك كنت رسولي إلى ابن رائق، فإذا علمت قلة المال معي ضعفت نفسك فطمع العدو فينا فأردت أن تمضي إليه بقلب قوي، فتكلمه بما تخلع به قلبه وتضعف نفسه. قال: فعجبت من مكره وعقله.

.ذكر استيلاء لشكري على أذربيجان وقتله:

وفيها تغلب لشكري بن مردى على أذربيجان، ولشكري هذا أعظم من الذي تقدم ذكره، فإن هذا كان خليفة وشمكير على أعمال الجبل، فجمع مالاً ورجالاً وسار إلى أذربيجان، وبها يومئذ ديسم بن إبراهيم الكردي، وهو من أصحاب ابن أبي الساج، فجمع عسكراً وتحارب هو ولشكري، فانهزم ديسم، ثم عاد وجمع، وتصافا مرة ثانية، فانهزم أيضاً واستولى لشكري على بلاده، إلا أردبيل، فإن أهلها امتنعوا بها لحصانتها، ولهم بأس ونجدة، وهي دار المملكة بأذربيجان، فراسلهم لشكري، ووعدهم الإحسان لما كان يبلغهم من سوء سيرة الديلم مع بلاد الجبل همذان وغيرها، فحصرهم وطال الحصار، ثم صعد أصحابه السور ونقبوه أيضاً في عدة مواضع ودخلوا البلد.
وكان لشكري يدخله نهاراً، ويخرج منه ليلاً إلى عسكره، فبادر أهل البلد وأصلحوا ثلم السور، وأظهروا العصيان، وعاودوا الحرب، فندم على التفريط وإضاعة الحزم؛ فأرسل أهل أردبيل إلى ديسم يعرفونه الحال ويواعدونه يوماً يجيء فيه ليخرجوا فيه إلى قتال لشكري، ويأتي هو من ورائه، ففعل وسار نحوهم، وظهروا يوم الموعد في عدد كثير، وقاتلوا لشكري، وأتاه ديسم من خلف ظهره، فانهزم أقبح هزيمة، وقتل من أصحابه خلق كثير، وانحاز إلى موقان، فأكرمه أصبهبذها ويعرف بابن دولة، وأحسن ضيافته.
وجمع لشكري وسار نحو ديسم، وساعده ابن دولة، فهرب ديسم وعبر نهر أرس، وعبر بعض أصحاب لشكري إليه، فانهزم ديسم، وقصد وشمكير، وهو بالري، وخوفه من لشكري، وبذل له مالاً كل سنة ليسير معه عسكراً، فأجابه إلى ذلك وسير معه عسكراً، وكاتب عسكر لكشري وشمكير يعلمونه بما هم عليه من طاعته، وأنهم متى رأوا عسكره صاروا معه على لشكري، فظفر لشكري بالكتب، فكتم ذلك عنهم، فلما قرب منه عسكر وشمكير جمع أصحابه وأعلمهم ذلك وأنه لا يقوى بهم، وأنه يسير بهم نحو الزوزان، وينهب من على طريقه من الأرمن، ويسير نحو الموصل ويستولي عليها وعلى غيرها، فأجابوه إلى ذلك، فسار بهم إلى أرمينية وأهلها غافلون، فنهب وغنم وسبى، وانتهى إلى الزوزان ومعهم الغنائم؛ فنزل بولاية إنسان أرمني، وبذل له مالاً ليكف عنه وعن بلاده، فأجابه إلى ذلك.
ثم إن الأرمني كمن كميناً في مضيق هناك، وأمر بعض الأرمن أن ينهب شيئاً من أموال لشكري ويسلك ذلك المضيق، ففعلوا، وبلغ إلى لشكري، فركب في خمسة أنفس، فسار وراءهم، فخرج عليه الكمين فقتلوه ومن معه، ولحقه عسكره، فرأوه قتيلاً ومن معه، فعادوا وولوا عليهم ابنه لشكرستان، واتفقوا على أن يسيروا على عقبة التنين، وهي تجاوز الجودي، ويحرزوا سوادهم، ويرجعوا إلى بلد الأمني فيدركوا آثارهم، فبلغ ذلك طرم فرتب الرجال على تلك المضايق يرمونهم بالحجارة، ويمنعونهم العبور، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وسلم القليل منهم، وفيمن سلم لشكرستان، وسار فيمن معه إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل، فأقام بعضهم عنده وانحدر بعضهم إلى بغداد.
فأما الذين أقاموا بالموصل فسيرهم مع ابن عم أبي عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان إلى ما بيده من أذربيجان لما أقبل نحوه ديسم ليستولي عليه، وكان أبو عبدالله من قبل ابن عمه ناصر الدولة على معاون أذربيجان، فقصده ديسم وقاتله فلم يكن لابن حمدان به طاقة، ففارق أذربيجان واستولى عليها ديسم.

.ذكر اختلال أمور القرامطة:

في هذه السنة فسد حال القرامطة، وقتل بعضهم بعضاً.
وسبب ذلك أنه كان رجل منهم يقال له ابن سنبر، وهو من خواص أبي سعيد القرمطي والمطلعين على سره وكان له عدو من القرامطة اسمه أبو حفص الشريك، فعمد ابن سنبر إلى رجل من أصبهان وقال له: إذا ملكتك أمر القرامطة أريد منك أن تقتل عدوي أبا حفص؛ فأجابه إلى ذلك وعاهده عليه، فأطلعه على أسرار أبي سعيد، وعلامات كان يذكر أنها في صاحبهم الذي يدعون إليه، فحضر عند أولاد أبي سعيد، وذكر لهم ذلك، فقال أبو طاهر: هذا هو الذي يدعون إليه، فحضر عند أولاد أبي سعيد، وذكر لهم ذلك، فقال أبو طاهر: هذا هو الذي يدعو إليه؛ فأطاعوه، ودانوا له، حتى كان يأمر الرجل بقتل أخيه فيقتله، وكان إذا كره رجلاً يقول له إنه مريض، يعني أنه قد شك في دينه، ويأمر بقتله.
وبلغ أبا طاهر أن الأصبهاني يريد قتله ليتفرد بالملك، فقال لإخوته: لقد أخطأنا في هذا الرجل، وسأكتشف حاله، فقال له: إن لنا مريضاً، فانظر إليه ليبرأ، فحضروا وأضجعوا والدته وغطوها بإزار، فلما رآها قال: أن هذا المريض لا يبرأ فاقتلوه! فقالوا له: كذبت، هذه والدته؛ ثم قتلوه بعد أن قتل منهم خلق كثير من عظمائهم وشجعانهم. وكان هذا سبب تمسكهم بهجر، وترك قصد البلاد، والإفساد فيها.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة، وكان القيم به ابن ورقاء الشيباني، وكان عدة من فودي من المسلمين ستة آلاف وثلاثمائة من بين ذكر وأنثى، وكان الفداء على نهر البدندون.
وفيها ولد الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد. ثم دخلت:

.سنة سبع وعشرين وثلاثمائة:

.ذكر مسير الراضي وبجكم إلى الموصل وظهور ابن رائق ومسيره إلى الشام:

في هذه السنة، في المحرم، سار الراضي بالله وبجكم إلى الموصل وديار ربيعة.
وسبب ذلك أن ناصر الدولة بن حمدان أخر المال الذي عليه من ضمان البلاد التي بيده، فاغتاظ الراضي منه لسبب ذلك، فسار هو وبجكم إلى الموصل، ومعهما قاضي القضاة أبو الحسين عمر بن محمد، فلما بلغوا تكريت أقام الراضي بها، وسار بجكم، فلقيه ناصر الدولة بالكحيل على ستة فراسخ من الموصل، فاقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم أصحاب ناصر الدولة، وساروا إلى نصيبين، وتبعهم بجكم ولم ينزل بالموصل.
فلما بلغ نصيبين سار ابن حمدان إلى آمد، وكتب بجكم إلى الراضي بالفتح، فسار من تكريت في الماء يريد الموصل، وكان مع الراضي جماعة من القرامطة، فانصرفوا عنه إلى بغداد قبل وصول كتاب بجكم، وكان ابن رائق يكاتبهم، فلما بلغوا بغداد ظهر ابن رائق من استتاره واستولى على بغداد، ولم يعرض لدار الخليفة.
وبلغ الخبر إلى الراضي، فأصعد من الماء إلى البر، سار إلى الموصل، وكتب إلى بجكم بذلك، فعاد عن نصيبين، فلما بلغ خبر عوده إلى ناصر الدولة سار من آمد إلى نصيبين، فاستولى عليها وعلى ديار ربيعة، فقلق بجكم لذلك، وتسلل أصحابه إلى بغداد، فاحتاج أن يحفظ أصحابه، وقال: قد حصل الخليفة وأمير الأمراء على قصبة الموصل حسب.
وأنفذ ابن حمدان قبل أن يتصل به خبر ابن رائق، يطلب الصلح ويعجل خمسمائة ألف درهم، ففرح بجكم بذلك، وأنهاه إلى الراضي، فأجاب إليه، واستقر الصلح بينهم، وانحدر الراضي وبجكم إلى بغداد. وكان قد راسلهم ابن رائق مع أبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد يلتمس الصلح، فسار إليهم إلى الموصل وأدى الرسالة إلى بجكم، فأكرمه بجكم وأنزله معه، وأحسن إليه، وقدمه إلى الراضي فأبلغه الرسالة أيضاً، فأجابه الراضي وبجكم إلى ما طلب وأرسل في جواب رسالته قاضي القضاة أبا الحسين عمر بن محمد، وقلده طريق الفرات وديار مضر: حران والرها وما جاورها وجند قنسرين والعواصم، فأجاب ابن رائق أيضاً إلى هذه القاعدة، وسار عن بغداد إلى ولايته، ودخل الراضي وبجكم بغداد تاسع ربيع الآخر.

.ذكر وزارة البريدي للخليفة:

في هذه السنة مات الوزير أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بالرملة، وقد ذكرنا سبب مسيره إلى الشام، فكانت وزارته سنة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوماً، ولما سار إلى الشام استناب بالحضرة عبد الله بن علي النقري.
وكان بجكم قد قبض على وزيره علي بن خلف بن طباب، فاستوزر أبا جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد، فسعى أبو جعفر في الصلح بين بجكم والبريدي، فتم ذلك، ثم ضمن البريدي أعمال واسط بستمائة ألف دينار كل سنة، ثم شرع ابن شيرزاد أيضاً، بعد موت أبي الفتح الوزير بالرملة، في تقليد أبي عبدالله البريدي الوزارة؛ فأرسل إليه الراضي في ذلك، فأجاب إليه في رجب، واستناب بالحضرة عبدالله بن علي النقري أيضاً كما كان يخلف أبا الفتح.

.ذكر مخالفة بالبا على الخليفة:

كان بجكم قد استناب بعض قواد الأتراك ويعرف ببالبا على الأنبار، فكاتبه يطلب أن يقلد أعمال طريق الفرات بأسرها ليكون في وجه ابن رائق، وهو بالشام، فقلده بجكم ذلك، فسار إلى الرحبة، وكاتب ابن رائق، وخالف على بجكم والراضي، وأقام الدعوة لابن رائق وعظم أمره.
فبلغ الخبر إلى بجكم فسير طائفة من عسكره وأمرهم بالجد وأن يطووا المنازل ويسبقوا خبرهم ويكبسوا بالرحبة، ففعلوا ذلك، فوصلوا إلى الرحبة في خمسة أيام، ودخلوها على حين غفلة من بالبا، وهو يأكل الطعام، فلما بلغه الخبر اختفى عند إنسان حائك، ثم ظفروا به فأخذوه وأدخلوه بغداد على جمل ثم حبس، فكان آخر العهد به.

.ذكر ولاية أبي علي بن محتاج خراسان:

في هذه السنة استعمل الأمير السعيد نصر بن أحمد على خراسان وجيوشها أبا علي أحمد بن أبي بكر محمد بن المظفر بن محتاج، وعزل أباه واستقدمه إلى بخارى.
وسبب ذلك أن أبا بكر مرض مرضاً شديداً طال به، فأنفذ السعيد فأحضر ابنه أبا علي من الصغانيان، واستعمله مكان أبيه، وسيره إلى نيسابور، وكتب إلى أبيه يستدعيه إليه، فسار عن نيسابور، فلقيه ولده على ثلاث مراحل من نيسابور، فعرفه ما يحتاج إلى معرفته، وسار أبو بكر إلى بخارى مريضاً، ودخل ولده أبو علي نيسابور أميراً في شهر رمضان من هذه السنة.
وكان أبو علي عاقلاً شجاعاً حازماً، فأقام بها ثلاثة أشهر يستعد للمسير إلى جرجان وطبرستان، وسنذكر ذلك سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.

.ذكر غلبة وشمكير على أصبهان وألموت:

وفيها أرسل وشمكير بن زيار أخو مرداويج جيشاً كثيفاً من الري إلى أصبهان، وبها أبو علي الحسن بن بويه، وهو ركن الدولة، فأزالوه عنها، واستولوا عليها، وخطبوا فيها لوشمكير، ثم سار ركن الدولة إلى بلاد فارس فنزل بظاهر إصطخر، وسار وشمكير إلى قلعة ألموت فملكها وعاد عنها، وسيرد من أخبارهما سنة ثمان وعشرين ما تقف عليه.

.ذكر الفتنة بالأندلس:

وفي هذه السنة عصى أمية بن إسحاق، بمدينة شنترين، على عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس.
وسبب ذلك أنه كان له أخ اسمه أحمد، وكان وزيراً لعبد الرحمن، فقتله عبد الرحمن، وكان أمية بشنترين، فلما بلغه ذلك عصى فيها، والتجأ إلى ردمير ملك الجلالقة، ودله على عورات المسلمين، ثم خرج أمية في بعض الأيام يتصيد، فمنعه أصحابه من دخول البلد، فسار إلى ردمير فاستوزره.
وغزا عبد الرحمن بلاد الجلالقة، فالتقى هو وردمير هذه السنة، فانهزمت الجلالقة، وقتل منهم خلق كثير، وحصرهم عبد الرحمن.
ثم إن الجلالقة خرجوا عليه وظفروا به وبالمسلمين، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأراد اتباعهم، فمنعه أمية وخوفه المسلمين ورغبه في الخزائن والغنيمة.
وعاد عبد الرحمن بعد هذه الوقعة فجهز الجيوش إلى بلاد الجلالقة، فألحوا عليهم بالغارات، وقتلوا منهم أضعاف ما قتلوا من المسلمين، ثم إن أمية استأمن إلى عبد الرحمن، فأكرمه.