فصل: ذكر فتح رامهرمز وتستر وأسر الهرمزان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر غزوة فارس من البحرين:

قيل: كان عمر يقول لما أخذت الأهواز وما يليها: وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا نصل إليهم منه ولا يصلون إلينا.
وقد كان العلاء بن الحضرمي على البحرين أيام أبي بكر فعزله عمر وجعل موضعه قدامة بن مظعون، ثم عزل قدامة وأعاد العلاء يناوىء سعد بن أبي وقاص، ففاز العلاء في قتال أهل الردة بالفضل، فلما ظفر سعد بأهل القادسية وأزاح الأكاسرة جاء بأعظم مما فعله العلاء، فأراد العلاء أن يصنع في الفرس شيئاً ولم ينظر في الطاعة والمعصية، وقد كان عمر نهاه عن الغزو في البحر ونهى غيره أيضاً اتباعاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وخوف الغرر. فندب العلاء الناس إلى فارس فأجابوه، وفرقهم، أجناداً، على أحدها الجارود بن المعلى، وعلى الآخر سوار بن همام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جميع الناس، وحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن، فعبرت الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا إلى إصطخر وبإزائهم أهل فارس وعليهم الهربذ، فجالت الفرس بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد في الناس فخطبهم ثم قال: أما بعد فإن القوم لم يدعوكم إلى حربهم وإنما جئتم لمحاربتهم والسفن والأرض لمن غلب، ف {استعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرةً إلا على الخاشعين} [البقرة] فأجابوه إلى ذلك ثم صلوا الظهر ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالاً شديداً بمكان يدعى طاووس فقتل سوار والجارود.
وكان خليد قد أمر أصحابه أن يقاتلوا رجالةً ففعلوا من أهل فارس مقتلة عظيمة، ثم خرجوا يريدون البصرة ولم يجدوا في البحر سبيلاً، وأخذت الفرس منهم طرقهم فعسكروا وامتنعوا.
ولما بلغ عمر صنيع العلاء أرسل إلى عتبة بن غزوان يأمره بإنفاذ جند كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا، وقال: فإني قد ألقي في روعي كذا وكذا نحو الذي كان، وأمر العلاء بأثقل الأشياء عليه، تأمير سعد عليه.
فشخص العلاء إلى سعد بمن معه، وأرسل عتبة جيشاً كثيفاً في اثني عشر ألف مقاتل فيهم عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة والأحنف بن قيس وغيرهم، فخرجوا على البغال يجنبون الخيل وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم أحد بني عامر بن لؤي، فسار بالناس وساحل بهم لا يعرض له أحد حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم الطريق عقيب وقعة طاووس، وإنما كان ولي قتالهم أهل إصطخر وحدهم ومن شذ من غيرهم، وكان أهل إصطخر حيث أخذوا الطريق على المسلمين، فجمعوا أهل فارس عليهم فجاؤوا من كل جهة فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاووس وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك، فاقتتلوا ففتح الله على المسلمين وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاؤوا، وهي الغزوة التي شرفت فيها نابتة البصرة، وكانوا أفضل نوابت الأمصار، ثم انكفأوا بما أصابوا، وكان عتبة كتب إليهم بالحث وقلة العرجة، فرجعوا إلى البصرة سالمين.
ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس استأذن عمر في الحج فأذن له، فلما قضى حجة استعفاه فأبى أن يعفيه وعزم عليه ليرجعن إلى عمله، فدعا الله ثم انصرف، فمات في بطن نخلة فدفن، وبلغ عمر موته فمر به زائراً لقبره وقال: أنا قتلتك لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم. وأثنى عليه خيراً ولم يختط فيمن اختط من المهاجرين، وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة بنت غزوان، وكانت تحت عثمان بن عفان، وكان حباب مولاه قد لزم شيمته فلم يختط، ومات عتبة بن غزوان على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد بالمدائن، وذلك بعد أن استنفذ الجند الذين بفارس ونزولهم البصرة، واستخلف على الناس أبا سبرة ابن أبي رهم بالبصرة، فأقره عمر بقية السنة، ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها، فلم ينتقض عليه أحد ولم يحدث شيئاً إلا ما كان بينه وبين أبي بكر. ثم استعمل أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثم استعمل عمر ابن سراقة، ثم صرف ابن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى من الكوفة إلى البصرة، فعمل عليها ثانية. وقد تقدم ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة والاختلاف فيها سنة أربع عشرة.

.ذكر عزل المغيرة عن البصرة وولاية أبي موسى:

في هذه السنة عزل عمر المغيرة بن شعبة عن البصرة واستعمل عليها أبا موسى وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الأول؛ قاله الواقدي.
وكان سبب عزله أنه كان بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة منافرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبت الريح ففتحت باب الكوة، فقام أبو بكرة ليسده فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر: قوموا فانظروا. فقاموا فنظروا، وهم أبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد بن أبيه، وهو أخو أبي بكرة لأمه، وشبل بن معبد البجلي، فقال لهم: اشهدوا، قالوا: ومن هذه؟ قال: أم جميل بن الأفقم، وكانت من بني عامر بن صعصعة، وكانت تغشي المغيرة والأمراء والأشراف، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، فلما قامت عرفوها. فلما خرج المغيرة إلى الصلاة منعه أبو بكرة وكتب إلى عمر بذلك، فبعث عمر أبا موسى أميراً على البصرة وأمره بلزوم السنة، فقال: أعني بعدة من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنهم في هذه الأمة كالملح لا يصلح الطعام إلا به. قال له: خذ من أحببت. فأخذ معه تسعة وعشرين رجلاً، منهم: أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر، وخرج معهم فقدم البصرة فدفع الكتاب بإمارته إلى المغيرة، وهو أوجز كتاب وأبلغه: أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميراً، فسلم إليه ما في يدك والعجل. فأهدى إليه المغيرة وليدة تسمى عقيلة.
ورحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشهود، فقدموا على عمر، فقال له المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني أمستقبلهم أم مستدبرهم، وكيف رأوا المرأة أو عرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي؟ والله أتيت إلا امرأتي! وكانت تشبهها. فشهد أبو بكرة أنه رآه على أم جميل يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة وأنه رآهما مستدبرين، وشهد شبل ونافع مثل ذلك. وأما زياد فإنه قال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان واستين مكشوفتين وسمعت حفزاً شديداً. قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا. قال: هل تعرف المرأة؟ قال: لا ولكن أشبهها. قال: فتنح. وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد. فقال المغيرة: اشفني من الأعبد. قال: اسكت أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمت لرجمتك بأحجارك!

.ذكر الخبر عن فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرى:

وفي هذه السنة فتحت الأهواز ومناذر ونهر تيرى، وقيل: كانت سنة عشرين.
وكان السبب في هذا الفتح أنه لما انهزم الهرمان يوم القادسية، وهو أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت أمته منهم مهرجانقذق وكور الأهواز، فلما انهزم قصد خوزستان فملكها وقاتل بها من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان ودستميسان من مناذر ونهر تيرى. فاستمد عتبة بن غزوان سعداً فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود وأمرهما أن يأتيا أعلى ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى، ووجه عتبة ابن غزوان سلمى بن القين وحرملة بن مريطة، وكانا من المهاجرين مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهما من بني العدوية من بني حنظلة، فنزلا على حدود ميسان ودستميسان بينهم وبين مناذر، ودعوا بني العم، فخرج إليهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكليبي فتركا نعيماً ونعيماً وأتيا سلمى وحرملة وقالا: أنتما من العشيرة وليس لكما منزل، فإذا كان يوم كذا وكذا فانهدا للهرمزان، فإن أحدنا يثور بمناذر والآخر بنهر تيرى فنقتل المقاتلة ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله. ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بن مالك، وكانوا ينزلون خوزستان قبل الإسلام، فأهل البلاد يأمنونهم. فلما كان تلك الليلة ليلة الموعد بين سلمى وحرملة وغالب وكليب، وكان الهرمزان يومئذٍ بين نهر تيرى وبين دلث وخرج سلمى وحرملة صبيحتهما في تعبئة وأنهضا نعيماً ومن معه فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى بن القين على أهل البصرة، ونعيم بن مقرن على أهل الكوفة، فاقتتلوا.
فبينا هم على ذلك أقبل مدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأن مناذر ونهر تيرى قد أخذا، فكسر ذلك قلب الهرمزان ومن معه وهزمه الله وإياهم، فقتل المسلمون منهم ما شاؤوا وأصابوا ما شاؤوا واتبعوهم حتى وقفوا على شاطىء دجيل وأخذوا ما دونه وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وأقام بها، وصار دجيل بين الهرمزان والمسلمين. فلما رأى الهرمزان ما لا طاقة له به طلب الصلح، فاستأمروا عتبة، فأجاب إلى ذلك على الأهواز كلها ومهرجانقذق ما خلا نهر ترى ومناذر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا يرد عليهم، وجعل سلمى على مناذر مسلحةً وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر تيرى وأمرها إلى كليب، فكانا على مسالح البصرة. وهاجرت طوائف من بني العم فنزلوا البصرة.
ووفد عتبة وفداً إلى عمر، منهم: سلمى وجماعة من أهل البصرة، فأمرهم عمر أن يرفعوا حوائجهم، فكلمهم قال: أما العامة فأنت صاحبها، وطلبوا لأنفسهم، إلا ما كان من الأحنف بن قيس فإنه قال: يا أمير المؤمنين إنك كما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة، وإنما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخبر ويسمع بآذانهم، فإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة من العيون العذاب والجنان الخصاب فتأتيهم ثمارهم ولم يحصدوا، وإنا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة وعقة نشاشة، طرفٌ لها في الفلاة وطرف لها في البحر الأجاج، يجري إليها ما جرى في مثل مريء النعامة، دارنا فعمة، وطبقتنا مضيقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فينا كثير، درهمنا كبير، وقفيزنا صغير، وقد وسع الله علينا وزادنا في أرضنا، فوسع علينا يا أمير المؤمنين وزدنا طبقة تطوف علينا ونعيش بها. فلما سمع عمر قوله أحسن إليهم وأقطعهم مما كان فيئاً لأهل كسرى وزادهم، ثم قال: هذا الفتى سيد أهل البصرة. وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه ويرجع إلى رأيه، وردهم إلى بلدهم.
وبينا الناس على ذلك من ذمتهم مع الهرمزان وقع بين الهرمزان وغالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف، فحضر سلمى وحرملة لينظرا فيما بينهم فوجدا غالباً وكليباً محقين والهرمزان مبطلاً فحالا بينهما وبينه، فكفرا الهرمزان ومنع ما قبله واستعان بالأكراد وكف جنده، وكتب سلمى ومن معه إلى عتبة بذلك، فكتب عتبة إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بقصده، وأمد المسلمين بحرقوص بن زهير السعدي، كانت له صحبة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمره على القتال وعلى غلب عليه. وسار الهرمزان ومن معه وسار المسلمون إلى جسر سوق الأهواز وأرسلوا إليه: إما أن تعبر إلينا أو نعبر إليكم. فقال: اعبروا إلينا. فعبروا فوق الجسر فاقتتلوا مما يلي سوق الأهواز، فانهزم الهرمزان وسار إلى رامهرمز، وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها واتسعت له بلادها إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح إلى عمر وأرسل إليه الأخماس.

.ذكر صلح الهرمزان وأهل تستر مع المسلمين:

وفي هذه السنة فتحت تستر، وقيل: سنة ست عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة.
قيل: ولما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز وافتتحها المسلمون بعث حرقوص جزء بن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سوق الأهواز، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشعر وأعجزه الهرمزان، فمال جزء إلى دورق، وهي مدينة سرق، فأخذها صافيةً ودعا من هرب إلى الجزية، فأجابوه، وكتب إلى عمر وعتبة بذلك، فكتب عمر إلى حرقوص وإليه بالمقام فيما غلبا عليه حتى يأمرهما بأمره، فعمر جزء البلاد وشق الأنهار وأحيا الموات. وراسلهم الهرمزان يطلب الصلح، فأجاب عمر إلى ذلك وأن يكون ما أخذه المسلمون بأيديهم، ثم اصطلحوا على ذلك، وأقام الهرمزان والمسلمون يمنعونه إذا قصده الأكراد ويجيء إليهم. ونزل حرقوص جبل الأهواز، وكان يشق على الناس الاختلاف إليه، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه يأمره بنزول السهل وأن لا يشق على مسلم ولا معاهد ولا تدركك فترة ولا عجلة فتكدر دنياك وتذهب آخرتك. وبقي حرقوص إلى يوم صفين، وصار حرورياً وشهد النهروان مع الخوارج.

.ذكر فتح رامهرمز وتستر وأسر الهرمزان:

قيل: كان فتح رامهرمز وتستر والسوس في سنة سبع عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين.
وكان سبب فتحها أن يزدجرد لم يزل وهو بمرو يثير أهل فارس أسفاً على ما خرج من ملكهم، فتحركوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز وتعاقدوا على النصرة، فجاءت الأخبار حرقوص بن زهير وجزءاً وسلمى وحرملة، فكتبوا إلى عمر بالخبر، فكتب عمر إلى سعد وهو بالكوفة: أن ابعث إلى الأهواز جنداً كثيفاً مع النعمان بن مقرن وعجل فلينزلوا بإزاء الهرمزان ويتحققوا أمره. وكتب إلى أبي موسى: أن ابعث إلى الأهواز جنداً كثيفاً وأمر عليهم سهل ابن عدي أخا سهيل وابعث معه البراء بن مالك ومجزأة بن ثور وعرفجة بن هرثمة وغيرهم، وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعاً أبو سبرة بن أبي رهم.
فخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة فسار إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، فخلف حرقوصاً وسلمى وحرملة وسار نحو الهرمزان وهو برامهرمز. فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة ورجا أن يقتطعه ومعه أهل فارس، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم إن الله، عز وجل، هزم الهرمزان فترك رامهرمز ولحق بتستر، وسار النعمان إلى رامهرمز ونزلها وصعد إلى إيذج، فصالحه تيرويه على إيذج ورجع إلى رامهرمز فأقام بها. ووصل أهل البصرة فنزلوا سوق الأهواز وهم يريدون رامهرمز، فأتاهم خبر الوقعة وهم بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أن الهرمزان قد لحق بتستر، فساروا نحوه وسار النعمان أيضاً وسار حرقوص وسلمى وحرملة وجزء فاجتمعوا على تستر وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس والجبال والأهواز في الخنادق، وأمدهم عمر بأبي موسى وجعله على أهل البصرة، وعلى الجميع أبو سبر، فحاصروهم أشهراً وأكثروا فيهم القتل، وقتل البراء بن مالك، وهو أخو أنس بن مالك، في ذلك الحصار إلى الفتح مائةً مبارزةً سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مثله مجزأة بن ثور وكعب بن ثور وعدة من أهل البصرة وأهل الكوفة، وزاحفهم المشركون أيام تستر ثمانين زحفاً يكون لهم مرة ومرة عليهم. فلما كان في آخر زحفٍ منها واشتد القتال قال المسلمون: يا براء أقسم على ربك ليهزمنهم لنا. قال: اللهم اهزمهم لنا واستشهدنين وكان مجاب الدعوة، فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم ثم دخلوا مدينتهم وأحاط بها المسلمون.
فبينما هم على ذلك وقد ضاقت المدينة بهم وطالت حربهم خرج رجل إلى النعمان يستأمنه على أن يدله على مدخل يدخلون منه، ورمى في ناحية أبي موسى بسهم: إن آمنتموني دللتكم على مكان تأتون المدينة منه. فآمنوه في نشابة. فرمى إليهم بأخرى وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء فإنكم تقتحمونها. فندب الناس إليه فانتدب له عامر بن عبد قيس وبشرٌ كثير ونهدوا لذلك المكان ليلاً، وقد ندب النعمان أصحابه ليسيروا مع الرجل الذي يدلهم على المدخل إلى المدينة، فانتدب له بشرٌ كثير، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، فدخلوا في السرب والناس من خارج. فلما دخلوا المدينة كبروا فيها وكبر المسلمون من خارج وفتحت الأبواب فاجتلدوا فيها فأناموا كل مقاتل، وقصد الهرمزان القلعة فتحصن وأطاف به الذين دخلوا، فنزل إليهم على حكم عمر، فأوثقوه واقتسموا ما أفاء الله عليهم، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الراجل ألفاً. وجاء صاحب الرمية والرجل الذي خرج بنفسه فآمنوهما ومن أغلق معهما.
وقتل من المسلمين تلك الليلة بشرٌ كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بن ثور والبراء بن مالك. وخرج أبو سبرة بنفسه في أثر المنهزمين إلى السوس ونزل عليها ومعه النعمان بن مقرن وأبو موسى، وكتبوا إلى عمر فكتب إلى أبي موسى بردة إلى البصرة، وهي المرة الثالثة، فانصرف إليها على السوس.
وسار زر بن عبد الله بن كليب الفقيمي إلى جند يسابور فنزل عليها، وهو من الصحابة، وأمر عمر على جند البصرة المقترب، وهو الأسود بن ربيعة أحد بني ربيعة بن مالك، وهو صحابي أيضاً، وكانا مهاجرين، وكان الأسود قد وفد على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: جئت لأقترب إلى الله بصحبتك، فسماه المقترب.
وأرسل أبو سبرة وفداً إلى عمر بن الخطاب فيهم أنس بن مالك والأحنف ابن قيس ومعهم الهرمزان، فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب وتاجه، وكان مكللاً بالياقوت، وحليته ليراه عمر والمسلمون، فطلبوا عمر فلم يجدوه، فسألوا عنه فقيل: جلس في المسجد لوفد من الكوفة، فوجدوه في المسجد متوسداً برنسه، وكان قد لبسه للوفد، فلما قاموا عنه توسده ونام، فجلسوا دونه وهو نائم والدرة في يده، فقال الهرمزان: أين عمر؟ قالوا: هو ذا. فقال: أين حرسه وحجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب. قال: فينبغي أن يكون نبياً. قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء.
فاستيقظ عمر بجلبة الناس فاستوى جالساً ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم. فقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وغيره أشباهه! فأمر بنزع ما عليه، فنزعوه وألبسوه ثوباً صفيقاً، فقال له عمر: يا هرمزان، كيف رأيت عاقبة الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر، إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم، فلما كان الآن معكم غلبتمونا فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا. ثم قال له: ما حجتك وما عذرك في انتفاضك مرة بعد أخرى؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك. قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماء فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشاً لم أستطع أن أشرب في مثل هذا! فأتي به في إناء يرضاه، فقال: إني أخاف أن أقتل وأن أشرب. فقال عمر: لابأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش. فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به. فقال عمر له: إني قاتلك. فقال: قد آمنتني. فقال: كذبت. قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد آمنته. قال عمر: يا أنس، أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك! والله لتأتين بمخرج أو لأعاقبنك. قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني ولابأس عليك حتى تشربه. وقال له من حوله مثل ذلك. فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا أن تسلم. فأسلم، ففرض له في ألفين وأنزله المدينة؛ وكان المترجم بينهما المغيرة بن شعبة، وكان يفقه شيئاً من الفارسية، إلى أن جاء المترجم.
وقال عمر للوفد: لعل المسلمين يؤذون أهل الذمة فلهذا ينتقضون بكم؟ قالوا: ما نعلم إلا وفاء. قال: فكيف هذا؟ فلم يشفه أحد منهم، إلا أن الأحنف قال له: يا أمير المؤمنين إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد وإن ملك فارس بين أظهرهم ولا يزالون يقاتلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان متفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً بعد شيء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا بالانسياح فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس. فقال: صدقتني والله! ونظر في حوائجهم وسرحهم. وأتى عمر الكتاب باجتماع أهل نهاوند فأذن في الانسياح في بلاد الفرس.
وقتل محمد بن جعفر بن أبي طالب شهيداً على تستر في قول بعضهم.
أربك بفتح الهمزة، وسكون الراء، وضم الباء الموحدة، وفي آخره كاف: موضع عند الأهواز.

.ذكر فتح السوس:

قيل: ولما نزل أبو سبر على السوس وبها شهريار أخو الهرمزان أحاط المسلمون بها وناوشوهم القتال مرات، كل ذلك يصيب أهل السوس في المسلمين، فأشرف عليهم الرهبان والقسيسون فقالوا: يا معشر العرب إن مما عهد إلينا علماؤنا أنه لا يفتح السوس إلا الدجال أو قوم فيهم الدجال، فإن كان فيكم فستفتحونها.
وسار أبو موسى إلى البصرة من السوس وصار مكانه على أهل البصرة بالسوس المقترب بن ربيعة، واجتمع الأعاجم بنهاوند، والنعمان على أهل الكوفة محاصراً أهل السوس مع أبي سبرة، وزر محاصراً أهل جند يسابور. فجاء كتاب عمر بصرف النعمان إلى أهل نهاوند من وجهه ذلك، فناوشهم القتال قبل مسيره، فصاح أهلها بالمسلمين وناوشوهم وغاظوهم، وكان صافي بن صياد مع المسلمين في خيل النعمان، فأتى صافي باب السوس فدقه برجله فقال: انفتح بظار! وهو غضبان، فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق وتفتحت الأبواب ودخل المسلمون وألقى المشركون بأيديهم ونادوا: الصلح الصلح. فأجابهم إلى ذلك المسلمون بعدما دخلوها عنوةً، واقتسموا ما أصابوا.
ثم افترقوا فسار النعمان حتى أتى نهاوند، وسار المقترب حتى نزل على جنديسابور مع زر.
وقيل لأبي سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة. قال: وما علي بذلك! فأقره في أيديهم.
وكان دانيال قد لزم نواحي فارس بعد بخت نصر. فلما حضرته الوفاة ولم ير أحداً على الإسلام أكرم كتاب الله عمن لم يجبه فقال لابنه: أئت ساحل البحر فاقذف بهذا الكتاب فيه، فأخذه الغلام وغاب عنه وعاد وقال له: قد فعلت. قال: ما صنع البحر؟ قال: ما صنع شيئاً. فغضب وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به! فخرج من عنده وفعل فعلته الأولى. فقال: كيف رأيت البحر صنع؟ قال: ماج واصطفق. فغضب أشد من الأول وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به. فعاد إلى البحر وألقاه فيه، فانفلق البحر عن الأرض وانفجرت له الأرض عن مثل التنور، فهوى فيها ثم انطبقت عليه واختلط الماء، فلما رجع إليه وأخبره بما رأى: الآن صدقت. ومات دانيال بالسوس، وكان هناك يستسقى بجسده، فاستأذنوا عمر فيه فأمر بدفنه.
وقيل في أمر السوس: إن يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء فنزل إصطخر ومعه سياه في سبعين من عظماء الفرس فوجهه إلى السوس والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه الكلتانية، وبلغ أهل السوس أمر جلولاء ونزلو يزدجرد إصطخر، فسألوا أبا موسى الصلح، وكان محاصراً لهم، فصالحهم وسار إلى رامهرمز، ثم سار إلى تستر، ونزل سياه بين رامهرمز وتستر ودعا من معه من عظماء الفرس وقال لهم: قد علمتم أنا كنا نتحدث أن هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة وتروث دوابهم في إيوانات إصطخر ويشدون خيولهم في شجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، فانظروا لأنفسكم. قالوا: رأينا رأيك. قال: أرى أن تدخلوا في دينهم. ووجهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى، فشرط عليهم أن يقاتلوا معه العجم ولا يقاتلوا العرب، وإن قاتلهم أحد من العرب منعهم منهم، وينزلوا حيث شاؤوا، ويلحقوا بأشرف العطاء، ويعقد لهم ذلك عمر على أن يسلموا، فأعطاهم عمر ما سألوا، فأسلموا وشهدوا مع المسلمين حصار تستر. ومضى سياه إلى حصن قد حاصره المسلمون في زي العجم، فألقى نفسه إلى جانب الحصن ونضح ثيابه بالدم، فرآه أهل الحصن صريعاً فظنوه رجلاً منهم ففتحوا باب الحصن ليدخلوه إليهم، فوثب وقاتلهم حتى خلوا عن الحصن وهربوا، فملكه وحده. وقيل: إن هذا الفعل كان منه بتستر.

.ذكر مصالحة جنديسابور:

وفي هذه السنة سار المسلمون عن السوس فنزلوا بجنديسابور، وزر بن عبد الله محاصرهم، فأقاموا عليها يقاتلونهم، فرمي إلى من بها من عسكر المسلمين بالأمان، فلم يفجأ المسلمين إلا وقد فتحت أبوابها وأخرجوا أسواقهم وخرج أهلها، فسألهم المسلمون، فقالوا: رميتم بالأمان فقبلناه وأقررنا بالجزية على أن تمنعونا. فقالوا: ما فعلنا فقالوا: ما كذبنا! وسأل المسلمون فإذا عبد يدعى مكثفاً كان أصله منها فعل هذا، فقالوا: هو عبد. فقال أهلها: لا نعرف العبد من الحر، وقد قبلنا الجزية وما بدلنا، فإن شئتم فاغدروا. فكتبوا إلى عمر فأجاز أمانهم، فآمنوهم وانصرفوا عنهم.

.ذكر مسير المسلمين إلى كرمان وغيرها:

قيل: في سنة سبع عشرة أذن عمر للمسلمين في الانسياح في بلاد فارس، وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بن قيس وعرف فضله وصدقه، فأمر أبا موسى أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمة البصرة فيكون هناك حتى يأتيه أمره، وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدي، فدفع لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس، ولواء أردشير خره وسابور إلى مجاشع بن مسعود السلمي، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء فساودارابجرد إلى سارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان إلى سهيل بن عدي، ولواء سبجستان إلى عاصم بن عمرو، وكان من الصحابة، ولواء مكران إلى الحكم بن عمير التغلبي، فخرجوا ولم يتهيأ مسيرهم إلى سنة ثماني عشرة، وأمدهم عمر بنفر من أهل الكوفة، فأمد سهيل بن عدي بعبد الله بن عتبان، وأمد الأحنف بعلقمة بن النضر وبعبد الله بن أبي عقيل وبربعي بن عامر وبابن أم غزال، وأمد عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعي، وأمد الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق في جموع.
وقيل: كان ذلك سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة اثنتين وعشرين، وسنذكر كيفية فتحها هناك وذكر أسبابها إن شاء الله تعالى.
وكان على مكة هذه السنة عتاب بن أسيد في قول، وعلى اليمن يعلى ابن منية، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة ابن محصن، وعلى الشام من ذكر قبل، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقاص، وعلى قضائها أبو قرة، وعلى البصرة وأرضها أبو موسى، وعلى القضاء أبو مريم الحنفي، وقد ذكر من كان على الجزيرة والموصل قبل.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب. ثم دخلت: