فصل: ذكر رحيل صلاح الدين إلى بلد الفرنج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر فتح هونين:

لما فتح صلاح الدين تبنين امتنع من بهونين من تسليمها، وهي من أحسن القلاع وأمنعها، فلم ير التعريج عليها ولا الاشتغال بمحاصرتها، بل سير إليها جماعة من العسكر والأمراء فحصروها، ومنعوا من حمل الميرة إليها؛ واشتغل بما تقدم ذكره من فتح عسقلان والبيت المقدس وغير ذلك، فلما كان يحاصر مدينة صور أرسل من فيها يطلبون الأمان، فأمنهم، فسلموا، ونزلوا منها فوفى لهم بأمانهم.

.ذكر حصر صفد وكوكب والكرك:

لما سار صلاح الدين إلى عسقلان جعل على قلعة كوكب، وهي مطلة على الأردن، من يحصرها، ويحفظ الطريق للمجتازين لئلا ينزل من به من الفرنج يقطعونه، وسير طائفة أخرى من العسكر أيضاً إلى قلعة صفد فحصروها، وهي مطلة على مدينة طبرية.
وكان حصن كوكب للإسبتار، وحصن صفد للداوية، وهما قريبان من حطين، موضع المصاف، فلجأ إليها جمع ممن سلم من الداوية والإسبتار فحموهما، فلما حصرهما المسلمون استراح الناس من شر من فيهما، واتصلت الطرق حتى كان يسير فيها المنفرد فلا يخاف.
وكان مقدم الجماعة الذين يحصرون قلعة كوكب أميراً يقال له سيف الدين، وهو أخو جاولي الأسدي، وكان شهماً شجاعاً، يرجع إلى دين وعبادة، فأقام عليه إلى آخر شوال، وكان أصحابه يحرسون نوباً مرتبة، فلما كان آخر ليلة من شوال غفل الذي كانت نوبته في الحراسة، وكان قد صلى ورده من الليل إلى السحر، وكانت ليلة كثيرة الرعد والبرق، والريح والمطر، فلم يشعر المسلمون وهم نازلون إلا والفرنج قد خالطوهم بالسيوف، ووضعوا السلاح فيهم، فقتلوهم أجمعين، وأخذوا ما كان عندهم من طعام وسلاح وغيره وعادوا إلى قلعتهم، فقووا بذلك قوة عظيمة أمكنتهم أن يحفظوا قلعتهم إلى أن أخذت أواخر سنة أربع وثمانين، على ما سنذكره إن شاء الله.
وأتى الخبر إلى صلاح الدين بذلك، عند رحيله عن صور، فعظم ذلك عليه، مضافاً إلى ما ناله من أخذ شوانيه ومن فيها، ورحيله عن صور، ثم رتب على حصن كوكب الأمير قايماز النجمي في جماعة أخرى من الأجناد، فحصروها.

.ذكر الفتنة بعرفات وقتل ابن المقدم:

في هذه السنة، يوم عرفة، قتل شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم بعرفات، وهو أكبر الأمراء الصلاحية، وقد تقدم من ذكره ما فيه كفاية.
وسبب قتله أنه لما فتح المسلمون البيت المقدس طلب إذناً من صلاح الدين ليحج ويحرم من القدس، ويجمع في سنة بين الجهاد والحج وزيارة الخليل، عليه السلام، وما بالشام من مشاهد الأنبياء، وبين زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، فأذن له. وكان قد اجتمع تلك السنة من الحجاج بالشام الخلق العظيم من البلاد: العراق، والموصل، وديار بكر، والجزيرة، وخلاط، وبلاد الروم ومصر وغيرها، ليجمعوا بين زيارة البيت المقدس ومكة، فجعل ابن المقدم أميراً عليهم فساروا حتى وصلوا إلى عرفات سالمين، ووقفوا في تلك المشاعر، وأدوا الواجب والسنة.
فلما كان عشية عرفة تجهز هو وأصحابه ليسيروا من عرفات، فأمر بضرب كوساته التي هي أمارة الرحيل، فضربها أصحابه، فأرسل إليه أمير الحاج العراقي، وهو مجبر الدين طاش تكين، ينهاه عن الإفاضة من عرفات قبله، ويأمره بكف أصحابه عن ضرب كوساته، فأرسل إليه: إني ليس لي معك تعلق، أنت أمير الحاج العراقي، وأنا أمير الحاج الشامي، وكل منا يفعل ما يراه ويختاره؛ وسار ولم يقف، ولم يسمع قوله، فلما رأى طاش تكين إصراره على مخالفته ركب في أصحابه وأجناده، وتبعه من غوغاء الحاج العراقي وبطاطيهم، وطاعتهم، والعالم الكثير، والجم الغفير، وقصدوا حاج الشام مهولين عليهم، فلما قربوا منهم خرج الأمر من الضبط، وعجزوا عن تلافيه، فهجم طماعة العراق على حاج الشام وفتكوا فيهم، وقتلوا جماعة ونهيت أموالهم وسبيت جماعة من نسائهم، إلا أنهن رددن عليهم، وجرح ابن المقدم عدة جراحات، وكان يكف أصحابه عن القتال، ولو أذن لهم لانتصف منهم وزاد، لكنه راقب الله تعالى، وحرمة المكان واليوم، فلما أثخن بالجراحات أخذه طاش تكين إلى خيمته، وأنزله عنده ليمرضه ويستدرك الفارط في حقه، وساروا تلك الليلة من عرفات، فلما كان الغد مات بمنى، ودفن بمقبرة المعلى، ورزق الشهادة بعد الجهاد، وشهود فتح البيت المقدس، رحمه الله تعالى.

.ذكر قوة السلطان طغرل على قزل:

في هذه السنة قوي أمر السلطان طغرل، وكثر جمعه، وملك كثيراً من البلاد، فأرسل قزل إلى الخليفة يستنجده، ويخوفه من طغرل، ويبذل من نفسه الطاعة والتصرف على ما يختارونه، وأرسل طغرل رسولاً إلى بغداد يقول: أريد أن يتقدم الديوان بعمارة دار السلطنة لأسكنها إذا وصلت؛ فأكرم رسول قزل ووعده بالنجدة، ورد رسول السلطان طغرل بغير جواب، وأمر الخليفة بنقض دار السلطنة، فهدمت إلى الأرض وعفي أثرها.

.ذكر ملك شرستي من الهند وغيرها وانهزام المسلمين بعدها:

في آخر هذه السنة سار شهاب الدين الغوري، ملك غزنة، إلى بلاد الهند، وقصد بلاد أجمير، وتعرف بولاية السوالك، واسم ملكهم كولة، وكان شجاعاً شهماً، فلما دخل المسلمون بلاده ملكوا مدينة تبرندة، وهي حصن منيع عامر، وملكوا شرستي، وملكوا كورام.
فلما سمع ملكهم جمع العساكر فأكثر، وسار إلى المسلمين، فالتقوا، وقامت الحرب على ساق، وكان مع الهند أربعة عشر فيلاً، فلما اشتدت الحرب انهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم، فقال لشهاب الدين بعض خواصه: قد انكسرت الميمنة والميسرة، فانج بنفسك لا يهلك المسلمون؛ فأخذ شهاب الدين الرمح وحمل على الهنود، فوصل إلى الفيلة، فطعن فيلاً منها في كتفه، وجرح الفيل لا يندمل، فلما وصل شهاب الدين إلى الفيلة زرقه بعض الهنود بحربة، فوقعت الحربة في ساعده، فنفذت الحربة من الجانب الآخر، فوقع حينئذ إلى الأرض، فقاتل عليه أصحابه ليخلصوه، وحرصت الهنود على أخذه، وكان عنده حرب لم يسمع بمثلها، وأخذه أصحابه فركبوه فرسه وعادوا به منهزمين، فلم يتبعهم الهنود، فلما أبعدوا عن موضع الوقعة بمقدار فرسخ أغمي على شهاب الدين من كثرة خروج الدم، فحمله الرجال على أكتافهم في محفة اليد أربعة وعشرين فرسخاً، فلما وصل إلى لهاوور أخذ الأمراء الغورية، وهم الذين انهزموا ولم يثبتوا، وعلق على كل واحد منم عليق شعير؛ وقال: أنتم دواب ما أنتم أمراء! وسار إلى غزنة، وأمر بعضهم فمشى إليها ماشياً، فلما وصل إلى غزنة أقام بها ليستريح الناس، ونذكر ما فعله بملك الهند الذي هزمه سنة ثمان وثمانين إن شاء الله تعالى.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الأول، قتل مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب، وهو أستاذ دار الخليفة، أمر الخليفة بقتله، وكان متحكماً في الدولة، ليس للخليفة معه حكم؛ وكان هو القيم بالبيعة له، وظهر له أموال عظيمة، أخذ جميعها، وان حسن السيرة عفيفاً عن الأموال، وكان الذي سعى به إنسان من أصحابه وصنائعه، يقال له عبيد الله بن يونس، فسعى به إلى الخليفة، وقبح آثاره، فقبض عليه وقتله.
وفيها، في ربيع الآخر، وقع حريق في الحظائر ببغداد، واحترقت أحطاب كثيرة، وسببه أن فقيهاً بالمدرسة النظامية كان يطبخ طعاماً يأكله، فغفل عن النار والطبيخ، فعلقت النار واتصلت إلى الحظائر، فاحترقت جميعها، واحترق درب السلسلة وغيره مما يجاوره.
وفيها، في شوال، استوزر الخليفة الناصر لدين الله أبا المظفر عبيد الله ابن يونس، ولقبه جلال الدين، ومشى أرباب الدولة في ركابه، حتى قضى القضاة، وكان ابن يونس من شهوده. وكان يمشي ويقول: لعن الله طول العمر.
وفيها، في المحرم، توفي عبد المغيث بن زهير الحري ببغداد، وكان من أعيان الحنابلة، قد سمع الحديث الكثير، وصنف كتاباً في فضائل يزيد ابن معاوية أتى فيه بالعجائب، وقد رد عليه أبو الفرج بن الجوزي، وكان بنيهما عداوة.
وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، وولي قضاء القضاة للمقتفي بعد موت الزينبي، ثم للمستنجد بالله، ثم عزل، ثم أعيد إلى المستضيء بأمر الله.
وفيها توفي الوزير جلال الدين أبو الحسن علي بن جمال الدين أبي جعفر محمد بن أبي منصور وزير صاحب الموصل، وهو الجواد ابن الجواد، وقد ذكرنا من أخباره وأخبار أبيه ما يعلم به محلهما، وحمل إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فدفن بها عند أبيه علي بن خطاب بن ظفر الشيخ الصالح من جزيرة ابن عمر، وكان من الأولياء أرباب الكرامات، وصحبته أنا مدة، فلم أر مثله حسن خلق وسمت وكرم وعبادة، رحمه الله.
وفيها ولدت امرأة من سواد بغداد بنتاً لها أسنان.
وفيها توفي نصر بن فتيان بن مطر أبو الفتح بن المني الفقيه الحنبلي، لم يكن لهم مثله، رحمه الله. ثم دخلت:

.سنة أربع وثمانين وخمسمائة:

.ذكر حصر صلاح الدين كوكب:

في هذه السنة، في المحرم انحسر الشتاء، فسار صلاح الدين من عكا فيمن تخلف عنده من العسكر إلى قلعة كوكب، فحصرها، ونازلها، ظناً منه أن ملكها سهل وأن أخذها، وهو في قلة من العسكر، متيسر، فلما رآها عالية منيعة أدرك أن الوصول إليها متعذر، وكان عنده منها ومن صفد والكرك المقيم المقعد، لأن البلاد الساحلية، من عكا إلى جهة الجنوب، كانت قد ملك جميعها، ما عدا هذه الحصون، وكان يختار أن يبقى في وسطها ما يشغل قلبه، ويقسم همه، ويحتاج إلى حفظه، ولئلا ينال الرعايا والمجتازين منهم الضرر والعظيم.
فلما حصر كوكب، ورآها منيعة، يبطئ ملكها وأخذها، رحل عنها، وجعل عليها قايماز النجمي، مستديماً لحصاره. وكان رحيله عنها في ربيع الأول. وأتاه رسل الملك قلج أرسلان. وقزل أرسلان وغيرهما. وينئونه بالفتح والظفر، وسار من كوكب إلى دمشق، ففرح الناس بقدومه، وكتب إلى البلاد جميعها باجتماع العساكر. وأقام بها إلى أن سار إلى الساحل.

.ذكر رحيل صلاح الدين إلى بلد الفرنج:

لما أراد صلاح الدين المسير عن دمشق حضر عند القاضي الفاضل مودعاً له ومستشيراً، وكان مريضاً، وودعه وسار عن دمشق منتصف ربيع الأول إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس، غربي حمص، وجاءته العساكر: فأول من أتاه من أصحاب الأطراف عماد الدين زنكي بن مودود بن اقسنقر. صاحب سنجار، ونصيبين. الخابور، وتلاحقت العساكر من الموصل وديار الجزيرة وغيرها. فاجتمعت عليه، وكثرت عنده. فسار حتى نزل تحت حصن الأكراد من الجانب الشرقي؛ وكنت معه حينئذ، فأقام يومين، وسار جريدة، وترك أثقال العسكر موضعها تحت الحصن، ودخل إلى بلد الفرنج، فأغار على صافيثا، والعريمة، ويحمور، وغيرها من البلاد والولايات، ووصل إلى قرب طرابلس، وأبصر البلاد، وعرف من أين يأتيها، وأين يسلك منها، ثم عاد إلى معسكره سالماً.
وقد غنم العسكر من الدواب، على اختلاف أنواعها، ما لا حد له، وأقام تحت حصن الأكراد إلى آخر ربيع الآخر.

.ذكر فتح جبلة:

لما أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد، أتاه قاضي جبلة، وهو منصور بن نبيل، يستدعيه إليها ليسلمها إليه، وكان هذا القاضي عند بيمند، صاحب أنطاكية وجبلة، مسموع القول مقبول الكلمة، له الحرمة الوافرة، والمنزلة العالية، وهو يحكم على جميع المسلمين، بجبلة ونواحيها، على ما يتعلق بالبيمند، فحملته الغيرة للدين على قصد السلطان، وتكفل له بفتح جبلة ولاذقية والبلاد الشمالية، فسار صلاح الدين معه رابع جمادى الأولى، فنزل بأنطرطوس سادسه، فرأى الفرنج قد أخلوا المدينة، واحتموا في برجين حصينين، كل واحد منهما قلعة حصينة ومعقل منيع، فخرب المسلمون دورهم ومساكنهم وسور البلد، ونهبوا ما وجدوه من ذخائرهم.
وكان الداوية بأحد البرجين، فحصرهما صلاح الدين، فنزل إليه من في أحد البرجين بأمان وسلموه، فأمنهم، وخرب البرج وألقى حجارته في البحر، وبقي الذي فيه الداوية لم يسلموه، وكان معهم مقدمهم الذي أسره صلاح الدين يوم المصاف، وكان قد أطلقه لما ملك البيت المقدس، فهو الذي حفظ هذا الحصن، فخرب صلاح الدين ولاية أنطرطوس، ورحل عنها وأتى مرقية، وقد أخلاها أهلها، ورحلوا عنها، وساروا إلى المرقب، وهو من حصونهم التي لا ترام، ولا يحدث أحد نفسه بملكه لعلوه وامتناعه، وهو للإسبتار، والطريق تحته، فيكون الحصن على يمين المجتاز إلى جبلة، والبحر عن يساره، والطريق مضيق لا يسلكه إلا الواحد بعد الواحد.
فاتفق أن صاحب صقلية من الفرنج قد سير نجدة إلى فرنج الساحل في ستين قطعة من الشواني، وكانوا بطرابلس، فلما سمعوا بمسير صلاح الدين جاؤوا ووقفوا في البحر، تحت المرقب، في شوانيهم، ليمنعوا من يجتاز بالسهام. فلما رأى صلا الدين ذلك أمر بالطارقيات والجفتيات، فصفت على الطريق ما يلي البحر من أول المضيق إلى آخره، وجعل وراءها الرماة، فمنعوا الفرنج من الدنو إليهم. فاجتاز المسلمون عن آخرهم، حتى عبروا المضيق ووصلوا إلى جبلة ثامن عشر جمادى الأولى. وتسلمها وقت وصوله.
وكان قاضيها قد سبق إليها ودخل. فلما وصل صلاح الدين رفع أعلامه على سورها وسلمها إليه، وتحصن الفرنج الذين كانوا بها بحصنها، واحتموا بقلعتها، فما زال قاضي جبلة يخوفهم ويرغبهم، حتى استنزلهم بشرط الأمان، وأن يأخذ رهائنهم يكونون عنده إلى أن يطلق الفرنج رهائن المسلمين من أهل جبلة.
وكان بيمند. صاحبها، قد أخذ رهائن القاضي ومسلمي جبلة، وتركهم عنده بأنطاكية، فأخذ القاضي رهائن الفرنج فأنزلهم عنده حتى أطلق بيمند رهائن المسلمين فأطلق المسلمون رهائن الفرنج، وجاء رؤساء أهل الجبل إلى صلاح الدين بطاعة أهله، وهو من أمنع الجبال وأشقها مسلكاً، وفيه حصن يعرف ببكسرائيل، بين جبلة ومدينة حماة، فملكه المسلمون، وصار الطريق في هذا الوقت عليه من بلاد الإسلام إلى العسكر، وكان الناس يلقون شدة في سلوكه. وقرر صلاح الدين أحوال جبلة، وجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية، صاحب شيزر، وسار عنها.

.ذكر فتح لاذقية:

لما فرغ السلطان من أمر جبلة، سار عنها إلى لاذقية، فوصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، فترك الفرنج المدينة لعجزهم عن حفظها، وصعدوا إلى حصنين لها على الجبل فامتنعوا بهما، فدخل المسلمون المدينة وحصروا القلعتين اللتين فيهما الفرنج، وزحفوا إليهما، ونقبوا السور ستين ذراعاً، وعلقوه، وعظم القتال، واشتد الأمر عند الوصول إلى السور؛ فلما أيقن الفرنج بالعطب، ودخل إليهم قاضي جبلة فخوفهم من المسلمين، طلبوا الأمان فأمنهم صلاح الدين، ورفعوا الأعلام الإسلامية إلى الحصنين، وكان ذلك في اليوم الثالث من النزول عليها.
وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعها، فخرب المسلمون كثيراً منها، ونقلوا رخامها، وشعثوا كثيراً من بيعها التي قد غرم على كل واحد منها الأموال الجليلة المقدار، وسلمها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر، فعمرها، وحصن قلعتها، حتى إذا رآها اليوم من رآها قبل ينكرها، فلا يظن أن هذه تلك؛ وكان عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة الوافرة عليها، كما فعل بقلعة حماة.

.ذكر حال أسطول صقلية:

لما نازل صلاح الدين لاذقية جاء أسطول صقلية الذي تقدم ذكره، فوقف بإزاء ميناء لاذقية، فلما سلمها الفرنج الذين بها إلى صلاح الدين، عزم أهل هذا الأسطول على أخذ من يخرج منها من أهلها غيظاً وحنقاً، حيث سلموها سريعاً، فسمع بذلك أهل لاذقية، فأقاموا، وبذلوا الجزية، وكان سبب مقامهم.
ثم إن مقدم هذا الأسطول طلب من السلطان الأمان ليحضر عنده، فأمنع، وحضر وقبل الأرض بين يديه، وقال ما معناه: إنك سلطان رحيم وكريم، وقد فعلت بالفرنج ما فعلت فذلوا، فاتركهم يكونون مماليكك وجندك تفتح بهم البلاد والممالك، وترد عليهم بلادهم، وإلا جاءك من البحر ما لا طاقة لك به، فيعظم عليك الأمر ويشتد الحال.
فأجابه صلاح الدين بنحو من كلامه من إظهار القوة والاستهانة بكل من يجيء من البحر، وإنهم إن خرجوا أذاقهم ما أذاق أصحابهم من القتل والأسر؛ فصلب على وجهه، ورجع إلى أصحابه.

.ذكر فتح صهيون وعدة من الحصون:

ثم رحل صلاح الدين عن لاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى، وقصد قلعة صهيون، وهي قلعة منيعة شاهقة في الهواء، صعبة المرتقى، على قرنة جبل، يطيف بها واد عميق، فيه ضيق في بعض المواضع، بحيث إن حجر المنجنيق يصل منه إلى الحصن، إلا أن الجبل متصل بها من جهة الشمال، وقد عملوا لها خندقاً عميقاً لا يرى قعره، وخمسة أسوار منيعة، فنزل صلاح الدين على هذا الجبل الملتصق بها، ونصب عليه المجانيق ورماها، وتقدم إلى ولده الظاهر، صاحب حلب، فنزل على المكان الضيق من الوادي، ونصب عليه المجانيق أيضاً، فرمى الحصن منه.
وكان معه من الرجالة الحلبيين كثير، وهم في الشجاعة بالمنزلة المشهورة، ودام رشق السهام من قسي اليد، والجرخ، والزنبورك، والزيار، فجرح أكثر من بالحصن، وهم يظهرون التجلد والامتناع، وزحف المسلمون إليهم ثاني جمادى الآخرة، فتعلقوا بقرنة من ذلك الجبل قد أغفل الفرنج إحكامها، فتسلقوا منها بين الصخور، حتى التحقوا بالسور الأول فقاتلوهم عليه حتى ملكوه، ثم إنهم قاتلوهم على باقي الأسوار فملكا منها ثلاثة وغنموا ما فيها من أبقار ودواب وذخائر وغير ذلك، واحتمى الفرنج بالقلة التي للقلعة، فقاتلهم المسلمون عليها، فنادوا وطلبوا الأمان، فلم يجبهم صلاح الدين إليه، فقرروا على أنفسهم مثل قطيعة البيت المقدس، وتسلم الحصن وسلمه إلى أمير يقال له ناصر الدين منكوبرس، صاح قلعة أبي قبيس، فحصنه وجعله من أحصن الحصون.
ولما ملك المسلمون صهيون تفرقوا في تلك النواحي، فملكوا حصن بلاطنوس، وكان من به من الفرنج قد هربوا منه وتركوه خوفاً ورعباً. وملك أيضاً حصن العيدو، وحصن الجماهرتين، فاتسعت المملكة الإسلامية بتلك الناحية، إلا أن الطريق إليها من البلاد الإسلامية على عقبة بكسرائيل شاق شديد، لان الطريق السهلة كانت غير مسلوكة، لأن بعضها بيد الإسماعيلية، وبعضها بيد الفرنج.

.ذكر فتح حصن بكاس والشغر:

ثم سار صلاح الدين عن صهيون، ثالث جمادى الآخرة، فوصل إلى قلعة بكاس فرأى الفرنج قد أخلوها، وتحصنوا بقلعة الشغر، فملك قلعة بكاس بغير قتال، وتقدم إلى قلعة الشغر وحصرها، وهي وبكاس على الطريق السهل المسلوك إلى لاذقية وجبلة، والبلاد التي افتتحها صلاح الدين من بلاد الشام الإسلامية.
فلما نازلها رآها منيعة حصينة لا ترام، ولا يوصل إليها بطريق من الطرق؛ إلا أنه أمر بمزاحفتهم ونصب منجنيق عليهم، ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيق، فلم يصل من أحجاره إلى القلعة شيء إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمون عليه أياماً لا يرون فيه طمعاً، وأهله غير مهتمين بالقتال لامتناعهم عن ضرر يتطرق إليهم، وبلاء ينزل عليهم.
فبينما صلاح الدين جالس، وعنده أصحابه، وهم في ذكر القلعة وإعمال الحلية في الوصول إليها. قال بعضهم: هذا الحصن كما قال الله تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً} الكهف 97، فقال صلاح الدين: أو يأتي الله بنصر من عنده وفتح.
فبينما هم في هذا الحديث إذ قد أشرف عليهم فرنجي ونادى بطلب الأمان لرسول يحضر عند صلاح الدين، فأجيب إلى ذلك، ونزل رسول، وسأل إنظارهم ثلاثة أيام، فإن جاءهم من يمنعهم، وإلا سلموا القلعة بما فيها من ذخائر ودواب وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائنهم على الوفاء به.
فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه، واتفق يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة؛ وكان سبب استمهالهم أنهم أرسلوا إلى البيمند، صاحب أنطاكية، وكان هذا الحصن له، يعرفونه أنهم محصورون، ويطلبون منه أن يرحل عنهم المسلمين، فإن فعل، إلا سلموها، وإنما فعلوا ذلك لرعب قذفه الله تعالى في قلوبهم، وإلا فلو أقاموا الدهر الطويل لم يصل إليهم أحد، ولا بلغ المسلمون منهم غرضاً؛ فلما تسلم صلاح الدين الحصن سلمه إلى أمير يقال له قلج، وأمره بعمارته، ورحل عنه.

.ذكر فتح سرمينية:

لما كان صلاح الدين مشغولاً بهذه القلاع والحصون، سير ولده الظاهر غازي، صاحب حلب، فحصر سرمينية، وضيق على أهلها، واستنزلهم على قطيعة قررها عليهم، فلما أنزلهم، وأخذ منهم المقاطعة، هدم الحصن وعفى أثره وعالي بنيانه.
وكان فيه وفي هذه الحصون من أسارى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا، وأعطوا كسوة ونفقة، وكان فتحه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة.
واتفق أن فتح هذه المدن والحصون جميعها من جبلة إلى سرمينية، مع كثرتها، كان في ست جمع مع أنها في أيدي أشجع الناس وأشدهم عداوة للمسلمين، فسبحان من إذا أراد أن يسهل الصعب فعل؛ وهي جميعها من أعمال أنطاكية، ولم يبق لها سوى القصير، وبغراس، ودرب ساك، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه.

.ذكر فتح برزية:

لما رحل صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية، وكانت قد وصفت له، وهي تقابل حصن أفامية، وتناصفها في أعمالها، وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصي وعيون تتفجر من جبيل برزية وغيره، وكان أهلها أضر شيء على المسلمين، يقطعون الطريق، ويبالغون في الأذى، فلما وصل إليها نزل شرقيها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ثم ركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعاً يقاتلها منه، فلم يجد إلا من جهة الغرب، فنصب له هناك خيمة صغيرة، ونزل فيها ومعه بعض العسكر جريدة لضيق المواضع.
وهذا القلعة لا يمكن أن تقاتل من جهة الشمال والجنوب البتة، فإنها لا يقدر أحد أن يصعد جبلها من هاتين الجهتين، وأما الجانب الشرقي فيمكن الصعود منه لكن لغير مقاتل، لعلوه وصعوبته، وأما جهة الغرب فإن الوادي المطيف بجبلها قد ارتفع هناك ارتفاعاً كثيراً، حتى قارب القلعة، بحيث يصل منه حجر المنجنيق والسهام، فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق، ونصب أهل القلعة عليها منجنيقاً بطلها.
ورأيت أنا من رأس جبل عال يشرف على القلعة، لكنه لا يصل منه شيء إليها، امرأة ترمي من القلعة عن المنجنيق، وهي التي بطلت منجنيق المسلمين، فلما رأى صلاح الدين أن المنجنيق لا ينتفعون به، عزم على الزحف، ومكاثرة أهلها بجموعه، فقسم عسكره ثلاثة أقسام: يزحف قسم، فإذا تعبوا وكلوا عادوا وزحف القسم الثاني، فإذا تعبوا وضجروا عادا وزحف القسم الثالث، ثم يدور الدور مرة بعد أخرى حتى يتعب الفرنج وينصبوا، فإنهم لم يكن عندهم من الكثرة ما يتقسمون كذلك، فإذا تعبوا وأعيوا سلموا القلعة.
فلما كان الغد، وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة، تقدم أحد الأقسام، وكان المقدم عليهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، صاحب سنجار، وزحفوا، وخرج الفرنج من حصنهم، فقاتلهم على فصليهم، ورماهم المسلمون بالسهام من وراء الجفتيات والجنويات والطارقيات، ومشوا إليهم حتى قربوا إلى الجبل، فلا قاربوا الفرنج عجوزا عن الدنو منهم لخشونة المرتقى، وتسلط الفرنج عليهم، لعلو مكانهم، بالنشاب والحجارة، فإنهم كانوا يلقون الحجارة الكبار فتتدحرج إلى أسفل الجبل، فلا يقوم لها شيء.
فلما تعب هذا القسم انحدروا، وصعد القسم الثاني، وكانوا جلوساً ينتظرونهم، وهم حلقة صلاح الدين الخاص، فقاتلوا قتالاً شديداً، وكان الزمان حراً شديداً، فاشتد الكرب على الناس، وصلاح الدين في سلاحه يطوف عليهم ويحرضهم، وكان تقي الدين ابن أخيه كذلك، فقاتلوهم إلى قريب الظهر ثم تعبوا، ورجعوا.
فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقدم إليهم وبيده جماق يردهم، وصاح في القسم الثالث، وهم جلوس ينتظرون نوبتهم، فوثبوا ملبين، وساعدوا إخوانهم، وزحفوا معهم، فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به، وكان أصحاب عماد الدين قد استراحوا، فقاموا أيضاً معهم، فحينئذ اشتد الأمر على الفرنج وبلغت القلوب الحناجر، وكانوا قد اشتد تعبهم ونصبهم، فظهر عجزهم عن القتال، وضعفهم عن حمل السلاح لشدة الحر والقتال، فخالطهم المسلمون فعاد الفرنج يدخلون الحصن، فدخل المسلمون معهم، وكان طائفة قليلة في الخيام، شرقي الحصن، فرأوا الفرنج قد أهملوا ذلك الجانب، لأنهم لا يرون فيه مقاتلاً، وليكثروا في الجهة التي فيها صلاح الدين، فصعدت تلك الطائفة من العسكر، فلم يمنعهم مانع، فصعدوا أيضاً الحصن من الجهة الأخرى، فالتقوا مع المسلمين الداخلين مع الفرنج؛ فملكوا الحصن عنوة وقهراً، ودخل الفرنج القلة التي للحصن، وأحاط بها المسلمون، وأرادوا نقبها.
وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب، فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبروا في سطح القلة، وظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا على السطح فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسر، فملكها المسلمون عنوة، ونهبوا ما فيها، وأسروا وسبوا من فيها، وأخذوا صاحبها وأهلها، وأمست خالية لا ديار بها، وألقى المسلمون النار في بعض بيوتهم فاحترقت.
ومن أعجب ما يحكى من السلامة أنني رأيت رجلاً من المسلمين على هذا الحصن قد جاء من طائفة من المؤمنين شمالي القلعة إلى طائفة أخرى من المسلمين جنوبي القلعة، وهو يعدو في الجبل عرضاً، فألقيت عليه الحجارة، وجاءه حجر كبير لو ناله لبعجه، فنزل عليه، فناداه الناس يحذرونه، فالتفت ينظر ما الخبر، فسقط على وجهه من عثرة، فاسترجع الناس، وجاء الحجر إليه، فلا قاربه وهو منبطح على وجهه، لقيه حجر آخر ثابت في الأرض فوق الرجل، فضبه المنحدر فارتفع عن الأرض، وجاز الرجل، ثم عاد إلى الأرض من جانبه الآخر لم ينله منه أذى ولا ضرر، وقام يعدو حتى لحق بأصحابه، فكان سقوطه سبب نجاته فتعست أم الجبان.
وأما صاحب برزية، فإنه أسر هو وامرأته وأولاده، ومنهم بنت له معها زوجها، فتفرقهم العسكر، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم، وجمع شمل بعضهم ببعض؛ فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها، وكانت امرأة صاحب برزية أخت امرأة بيمند، صاحب أنطاكية، وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه، وتعلمه كثيراً من الأحوال التي تؤثر، فأطلق هؤلاء لأجلها.