فصل: ذكر أمر الخوارج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ولاية خالد بن عبد الله البصرة:

وفي هذه السنة تنازع ولاية البصرة حمران بن أبان وعبيد الله بن أبي بكرة، فقال ابن أبي بكرة: أنا أعظم منك، كنت أنفق على أصحاب خالد يوم الجفرة. فقيل لحمران: إنك لا تقوى على ابن أبي بكرة فاستعن بعبد الله بن الأهيم. فاستعان به، فغلب على البصرة وعبد الله على شرطها، وكان لحمران منزلة عند بني أمية، وكان هذه المنازعة بعد قتل مصعب.
فلما استولى عبد الملك على العراق بعد قتله استعمل على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فوجه خالد عبيد الله بن أبي بكرة إليها خليفةً له، فلما قدم على حمران قال: أقد جئت لا جئت! فكان عبيد الله عليها حتى قدم خالد، ولما فرغ عبد الملك من أمر العراق عاد إلى الشام.

.ذكر أمر عبد الملك وزفر بن الحارث:

قد ذكرنا في وقعة مرج راهط مسير زفر إلى قرقيسيا واجتماع قيس عليه والسبب في استلائه عليها وما كان منه بعد ذلك، وكان على بيعة ابن الزبير وفي طاعته. فلما مات مروان بن الحكم وولي ابنه عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط وهو على حمص يأمره أن يسير إلى زفر، فسار إليه وعلى مقدمته عبد الله بن زميت الطائي، فواقع عبد الله زفر قبل وصول أبان وكثر في أصحابه بن زفر، وأدركت طيء ثقل زفر ونساءه، فاستوهب محمد بن حصين بن نمير النساء وألحقهن بزفر بقرقيسيا، فقال زفر:
علقن بحبلٍ من حصينٍ لوا أنه ** تغيب حالت دونهن المصائر

أبوكم أبونا في القديم وإنني ** لغابركم في آخر الدهر شاكر

وكان يقال لزفر إنه من كندة.
ثم إن عبد الملك لما أراد المسير إلى مصعب سار إلى قرقيسيا فحصر زفر فيها ونصب عليها المجانيق، فأمر زفر أن ينادي في عسكر عبد الملك: لم نصبتم علينا المجانيق؟ قال: لنثلم ثلمةً نقاتلكم عليها. فقال زفر: قولوا لهم فإنا لا نقاتلكم من وراء الحيطان ولكنا نخرج إليكم. وثلمت المنجنيق من المدينة برجاً مما يلي حريث بن بحدل، فقال زفر:
لقد تركتني منجنيق ابن بحدلٍ ** أحيد هن العصفور حين يطير

وكان خالد بن يزيد بن معاوية مجداً في قتلاهم، فقال رجل من أصحاب زفر من بني كلاب: لأقولن لخالد كلاماً لا يعود إلى ما يصنع. فلما كان الغد خرج خالد للمحاربة، فقال له الكلابي:
ماذا ابتغاء خالدٍ وهمه ** إذ سلب الملك ونيكت أمه

فاستحيا وعاد ولم يرجع يقاتلهم.
وقالت كلب لعبد الملك: إنا إذا لقينا زفر انهزمت القيسية الذين معك فلا تخلطهم معنا.
ففعل، فكتبت القيسية على نبلها: إنه ليس يقاتلكم غداً مضري، ورموا النبل إلى قرقيسيا، فلما أصبح زفر دعا ابنه الهذيل، وبه كان يكنى، وقيل: كان يكنى أبا الكوثر، فقال: اخرج إليهم فشد عليهم شدةً لا ترجع حتى تضرب فسطاط عبد الملك، والله لئن رجعت دون أن تطأ أطناب فسطاطه لأقتلنك. فجمع الهذيل خيله وحمل عليهم، فصبروا قليلاً ثم انكشفوا، وتبعهم الهذيل بخيله حتى وطئوا أطناب الفسطاط وقطعوا بعضها، ثم رجعوا، فقبل زفر رأس الهذيل وقال: لا يزال عبد الملك يحبك بعدها أبداً. فقال الهذيل: والله لو شئت أن أدخل الفسطاط لفعلت. فقال زفر:
ألا لا أبالي من أتاه حمامه ** إذ ما المنايا عن هذيلٍ تجلت

تراه أمام الخيل أول فارسٍ ** ويضرب في أعجازها إن تولت

ولما ثم برج قرقيسيا قال لعبد الملك بعض أهله: لو قاتلتهم بقضاعة لملكتهم. ففعل وقاتلهم، فلما كان عند المساء انكشفت قضاعة وكثر القتل فيهم، وأقبل روح بن زنباع الجذامي إلى برج منها فسأل أهله وقال: نشدتكم الله كم قتلنا منكم؟ قالوا: والله لم يقتل منا أحد ولم يجرح إلا رجل واحد ولا بأس عليه، ثم قالوا: نشدناك الله كم قتل منكم؟ قال: عدة فرسان وجرحتم ما لا يحصى، فلعن الله ابن بحدل! ورجع روح إلى عبد الملك وقال: إن ابن بحدل يمينك الباطل، فأعرض عن هذا الرجل.
وكان رجل من كلب يقال له الذيال يخرج فيسب زفر فيكثر، فقال زفر للهذيل ابنه أو لبعض أصحابه: أما تكفيني هذا؟ قال: أنا أجيئك به. فدخل عسكر عبد الملك ليلاً فجعل ينادي: من يعرف بغلاً من صفته كذا وكذا؟ حتى انتهى إلى خباء الرجل وقد عرفه. فقال الرجل: رد الله عليك ضالتك. فقال: يا عبد الله إني قد عييت فلو أذنت لي فاسترحت قليلاً. قال: ادخل، فدخل والرجل وحده في خبائه، فرمى بنفسه ونام صاحب الخباء، فقام إليه فأيقظه وقال: والله لئن تكلمت لأقتلنك. قال: قتلت أو سلمت فماذا ينفعك قتلي؟ قال: لئن سكت وجئت معي إلى زفر فلك عهد الله وميثاقه أن أردك إلى عسكرك بعد أن يصلك زفر والرجل معه، فاعلمه أنه قد آمنه، فوهب له زفر دنانير وحمله على رحالة النساء وألبسه ثيابهن وبعث معه رجلاً حتى دنوا من عسكر عبد الملك، فنادوا: هذه جارية قد بعث بها زفر إلى عبد الملك. وانصرفوا، فلما نظر إليه أهل العسكر عرفوه وأخبروا عبد الملك الخبر، فضحك وقال: لا يبعد الله رجلاً نصر، والله إن قتلهم لذل وإن تركهم لحسرة. وكف الرجل فلم يعد يسب زفر، وقيل: أنه هرب من العسكر.
ثم إن عبد الملك أمر أخاه محمداً أن يعرض على زفر وابنه الهذيل الأمان على أنفسهما ومن معهما وما لهم وأن يعطيا ما أحبا. ففعل محمد ذلك، فأجاب الذيل وكلم أباه وقال له: لو صالحت هذا الرجل فقد أطاعه الناس وهو خير لك من ابن الزبير. فأجاب على أن له الخيار في بيعته سنةً وأن ينزل حيث شاء ولا يعين عبد الملك على قتال ابن الزبير. فبينا الرسل تختلف بينهما إذ جاءه رجل من كلب فقال: قد هدم من المدينة أربعة أبراج. فقال عبد الملك: لا أصالحهم.
وزحف إليهم فهزموا أصحابه حتى أدخلوهم عسكرهم. فقال: أعطوهم ما أرادوا. فقال زفر: لو كان قبل هذا لكان أحسن. واستقر الصلح على أمان الجميع، ووضع الدماء والموال، وان لا يبايع عبد لملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة له في عنقه، وأن يعطى مالاً يقسمه في أصحابه.
وخاف زفر أن يغدر به عبد الملك كما غدر بعمرو بن سعيد، فلم ينزل إليه، فأرسل إليه بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم، أماناً له، فنزل إيه، فلما دخل عليه أجلسه معه على سريره، فقال ابن عضاة الأشعري: أنا كنت أحق بهذا المجلس منه. فقال زفر: كذبت هناك، إني عاديت فضررت وواليت فنفعت.
ولما رأى عبد الملك قلة من مع زفر قال: لو علمت أنه في هذه القلة لحاصرته أبداً حتى ينزل على حكمي. فبلغ قوله زفر فقال: إن شئت رجعنا ورجعت. فقال: بل نفي لك يا أبا الهذيل.
وقال له عبد الملك يوماً: بلغني أنك من كندة. فقال: وما خير من لا يبغي حسداً ولا يدعي رغبة! وتزوج مسلمة بن عبد الملك الرباب بنت زفر، فكان يؤذن لأخويها الهذيل والكوثر في أول الناس.
وأمر زفر ابنه الهذيل أن يسير مع عبد الملك إلى قتال مصعب وقال له: أنت لا عهد عليك.
فسار معه، فلما قارب مصعباً هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر، فلما قتل ابن الأشتر اختفى الهذيل بالكوفة حتى استؤمن له من عبد الملك فآمنه، كما تقدم.

.ذكر عدة حوادث:

وفي هذه السنة افتتح عبد الملك قيسارية، في قول الواقدي. وفيها نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة واستعمل عليها طلحة بن عبيد الله ابن عوف، وهو آخر والٍ كان له على المدينة، حتى أتاه طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة وأقام طارق بها حتى سار إلى مكة لقتال ابن الزبير.
وفي إمارة مصعب مات البراء بن عازب بالكوفة. ويويد بن مفرغ الحميري الشاعر بها أيضاً. وعبد الله بن أبي حدود الأسلمي، شهد الحديبية وخيبر. وفي أيامه مات شتير بن شكل القيسي الكوفي، وهو من أصحاب علي وابن مسعود.
شتير بضم الشين المعجمة، وفتح التاء فوقها نقطتان، وبعدها ياء تحتها نقطتان. وشكل بفتح الشين المعجمة، والكاف وآخره لام. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وسبعين:

.ذكر أمر الخوارج:

لما استقر عبد الملك بالكوفة بعد قتل مصعب استعمل خالد بن عبد الله على البصرة، فلما قدمها خالد كان المهلب يحارب الأزارقة، فجعله على خاج الأهواز ومعونتها، وسير أخاه عبد العزيز بن عبد الله إلى قتل الخوارج، وسير معه مقاتل بن مسمع، فخرجا يطلبان الأزراقة، فأتت الخوارج من ناحية كرمان إلى دار ابجرد، فأرسل قطري بن الفجاء المازني مع صالح بن مخارق تسعمائة فارس، فاقبل يسير بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير مهلاً على غير تعبية، فانهزم بالناس، ونزل مقاتل بن مسمع فقاتل حتى قتل، وانهزم عبد العزيز، وأخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت قيمتها مائة ألف، فجاء رجل من قومها من رؤوس الخوارج فقال: تنحوا هكذا، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم! وضرب عنقها، ولحق بالبصرة، فرآه آل المنذر فقالوا: والله ما ندري أنحمدك أم نذمك! فكان يقول: ما فعلته إلا غيره وحمية.
وانتهى عبد العزيز إلى رامهرمز، وأتى المهلب خبره، فأرسل إليه شيخاً من الأزد وقال له: إن كان منهزماً فعزه. فأتاه الرجل فرآه نازلاً في نحو ثلاثين فارساً كئيباً حزيناً، فأبلغه الرسالة، وعاد إلى المهلب بالخبر، فأرسل المهلب إلى أخيه خالد بن عبد الله يخبره بهزيمته. فقال للرسول: كذبت. فقال: والله ما كذبت، فإن كنت كاذباً فاضرب عنقي، وإن كنت صادقاً فأعطني جبتك ومطرفك. فقال: قد رضيت من الخطر العظيم بالخطر اليسير. وحبسه وأحسن إليه حتى صح خبر الهزيمة.
قال ابن قيس الرقيات في هزيمة عبد العزيز وفراره عن امرأته:
عبد العزيز فضحت جيشك كلهم ** وتركتهم صرعى بكل سبيل

من بين ذي عطشٍ يجود بنفسه ** وملحبٍ بين الرجال قتيل

هلا صبرت مع الشهيد مقاتلاً ** إذ رحت منكث القوى بأصيل

وتركت جيشك لا أمير عليهم ** فارجع بعارٍ في الحياة طويل

ونسيت عرسك إذ تقاد سبيةً ** تبكي العيون برنةٍ وعويل

فكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بذلك، فكتب إليه عبد الملك: قد عرفت ذلك وسألت رسولك عن المهلب فأخبرني أنه عامل على الهواز، فقيح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابياً من أهل مكة على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة، المقاسي للحرب، ابنها وابن أبنائها، أرسل إلى المهلب يستقبلهم، وقد بعثت إلى بشر بالكوفة ليمك بجيش، فسر معهم لا ولا تعمل في عدوك برأي حتى يحضره المهلب، والسلام.
وكتب عبد الملك إلى بشر أخيه بالكوفة يأمره بإنفاذ خمسة آلاف مع رجل يرضاه لقتال الخوارج، فإذا قضوا غزوتهم ساروا إلى الري فقاتلوا عدوهم وكانوا مسلحةً فبعث بشر خمسة آلاف، وعليهم عبد الرحمن بن محمد الأشعث، فكتب له عهداً على الري عند الفراغ من قتاله.
وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، وقدمها عبد الرحمن بن محمد فيأهل الكوفة، وجاءت الأزارقة حتى دنوا من الأهواز، فقال المهلب لخالد: إني أرى هاهنا سفناً كثيرة فضمها إليك فإنهم سيحرقونها، فلم يمض إلا ساعة حتى أرسلوا إليها فأحرقوها.
وجعل خالد المهلب على ميمنته، وعلى ميسرته داود بن قحذم من بني قيس بن ثعلبة، ومر المهلب على عبد الرحمن بن محمد ولم يخندق عليه، فقال: ما يمنعك من الخندق؟ فقال: هم أهون علي من ضرطة الجمل. قال: لا يهنوا عليك فإنهم سباع العرب.
ولم يبرح المهلب حتى خندق عبد الرحمن عليه، فأقاموا نحواً من عشرين ليلة، ثم زحف خالد إليهم بالناس، فرأوا أمراً هالهم من كثرة الناس، فكثرت عليهم الخيل وزحفت إليهم، فانصرفوا كأنهم على حامية وهم مولون لا يرون طاقةً بقتل جماعة الناس. فأرسل خالد داود بن قحذم في آثارهم، وانصرف خالد إلى البصرة، وسار عبد الرحمن إلى الري، وأقام المهلب بالأهواز، وكتب خالد إلى عبد الملك بذلك.
فلما وصل كتابه إلى عبد الملك كتب إلى أخيه بشر يأمره أن يبعث أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة مع رجل بصير بالحرب إلى فارس في طلب الأزارقة، ويأمر صاحبه بموافقة داود بن قحذم إن اجتمعا. فبعث بشر عتاب بن ورقاء في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، فساروا حتى لحقوا داود فاجتمعوا ثم ابتعوا الخوارج حتى علكت خيول عامتهم وأصابهم الجوع والجهد، ورجع عامة الجيشين مشاة إلى الأهواز.
وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الخارجي، وهو من بني قيس بن ثعلبة، فغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحنفي، فاجتمع على خالد بن عبد الله نزول قطري الأهواز وأمر أبي فديك، فبعث أخاه أمية بن عبد الله في جند كثيف إلى أبي فديك، فهزمه أبو فديك وأخذ جاريةً له فاتخذها لنفسه، فكتب خالد إلى عبد الملك بذلك.

.ذكر قتل عبد الله بن خازم:

ولما قتل مصعب كان ابن خازم يقاتل بحير بن ورقاء الصريمي التميمي بنيسابور، فكتب عبد الملك إلى ابن خازم يدعوه إلى البيعة له ويطعمه خراسان سبع سنين، وأرسل الكتاب مع سوادة بن أشتم النميري، وقيل: مع مكمل الغنوي. فقال ابن خازم: لولا أن أضرب بين بني سليم وبني عامر لقتلتك، ولكن كل كتابك فأكله.
وقيل: بل كان الكتاب مع سوادة بن عبيد الله النميري، وقيل: مع مكمل الغنوي فقال له ابن خازم: إنما بعثك أبو الذبان لأنك من غني وقد علم أني لا أقتل رجلاً من قيس، ولكن كل كتابه.
وكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح، وكان خليفة ابن خازم على مرو، بعهده على خراسان، ووعده ومناه، فخلع بكير عبد الله بن الزبير ودعا إلى عبد الملك، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير فيجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور، فترك بحيراً وأقبل إلى مرو ويزيد ابنه بترمذ، فاتبعه بحير فلحقه بقرية على ثمانية فراسخ من مرو، فقاتله ابن خازم، فقتل ابن خازم؛ وكان الذي قتله وكيع بن عمرو القريعي، أعثر وكيع وبحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز فطعنوه فصرعوه، وقعد وكيع على صدره فقتله. فقال بعض الولاة لوكيع: كيف قتلته؟ قال: غلبته بفضل القنا، فلما صرع قعدت على صدره، فلم يقدر أن يقوم، وقلت: يا لثارات دويلة! وهو أخو كيع لأمه، قتل في بعض تلك الحروب. قال وكيع: فتنخم في وجهي وقال: لعنك الله! أتقتل كبش مضر بأخيك وهو لا يساوي كفاً من نوى؟ أو قال: من تراب. قال: فما رأيت أكثر ريقاً منه على تلك الحال عند الموت.
وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم إلى عبد الملك يخبره بقتله، ولم يبعث بالرأس، وبعث بحير بكير بن وشاح في أهل مرو فوافاهم حين قتل ابن خازم فأراد أخذ الرأس وإنفاذه إلى عبد الملك، فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود وحبسه وسير الرأس إلى عبد الملك وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله. فلما قدم الرأس دعا عبد الملك برسول بحير وقال: ما هذا؟ قال: لا أدري، وما فارقت القوم حتى قتل ابن خازم.
وقيل: إن ابن خازم إنما قتل بعد قتل عبد الله بن الزبير، وإن عبد الملك أنفذ إليه رأس ابن الزبير ودعاه إلى نفسه، فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى أهله بالمدينة وأطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لقتلتك. وقيل: بل قطع يديه ورجليه وقتله وحلف أن لا يطيع عبد الملك أبداً.
بحير بفتح الباء الموحدة، وكسر الحاء المهملة.

.ذكر عدة حوادث:

كان العامل على المدينة طارقاً لعبد الملك، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان، في قول بعضهم: بكير بن وشاح، وفي قول بعضهم: عبد الله بن خازم وفي هذه السنة مات عبيدة السلماني، وهو من أصحاب علي.
عبيدة بفتح العين، وكسر الباء الموحدة. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وسبعين:

.ذكر قتل عبد الله بن الزبير:

لما بويع عبد الملك بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام وأمره أن لا يدخل المدينة وأن يعسكر بالعرصة، وكان عامل عبد الله بن الزبير على المدينة الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمحي، فهرب الحارث، وكان ابن أنيف يدخل ويصلي بالناس الجمعة ثم يعود إلى معسكره، فأقام شهراً ولم يبعث إليهم ابن الزبير أحداً.
وكتب إليه عبد الملك بالعود إليه، فعاد هو ومن معه، وكان يصلي بالناس بعده عبد الرحمن بن سعد القرظي، ثم عاد الحارث إلى المدينة، وبعث ابن الزبير سليمان بن خالد الرزقي الأنصاري، وكان رجلاً صالحاً عاملاً على خيبر وفدك، فنزل في عمله، فبعث عبد الملك عبد الواحد بن الحارث بن الحكم، وقيل: اسمه عبد الملك، وهو أصح، في أربعة آلاف، فسار حتى نزل وادي القرى وسير سريةً عليها أبو القمقام في خمسمائة إلى سليمان، فوجدوه قد هرب، فطلبوه فأدركوه فقتلوه ومن معه. فاغتم عبد الملك بن مروان لقتله وقال: قتلوا رجلاً مسلماً صالحاً بغير ذنب.
وعزل ابن الزبير الحارث واستعمل مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري، فوجه جابر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة فارس وأربعين فارساً إلى خيبر، فوجدوا أبا القمقام ومن معه مقيمين بفدك يعسفون الناس فقاتلوهم، فانهزم أصحاب أبي القمقام وأسر منهم ثلاثون رجلاً فقتلوا صبراً. وقيل: بل قتل الخمسمائة أو أكثرهم.
ووجه عبد الملك طارق بن عمرو مولى عثمان وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى ويمنع عمال ابن الزبير من الإنتشار ويسد خللاً إن ظهر له. فوجه طارق إلى أبي بكر خيلاً، فاقتتلوا فأصيب أبو بكر في المعركة وأصيب من أصحابه أكثر من مائتي رجل.
وكان ابن الزبير قد كتب إلى القباع أيام كان عامله على البصرة يأمره أن يرسل إليه ألفي فارس ليعينوا عامله على المدينة، فوجه إليه ألفي رجل، فلما قتل أبو بكر أمر ابن الزبير جابر بن الأسود أن يسير جيش البصرة إلى قتال طارق، فسار البصريون عن المدينة، وبلغ طارقاً الخبر فسار نحوه، فالتقيا، فقتل مقدم البصريين وقتل أصحابه قتلاً ذريعاً، وطلب طارق مدبرهم وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم. ورجع طارق إلى وادي القرى، وكان عامل ابن الزبير بالمدينة جابر بن الأسود، وعزل ابن الزبير جابراً واستعمل طلحة بن عبيد الله بن عوف، الذي يعرف بطلحة الندى، سنة سبعين فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق.
فلما قتل عبد الملك مصعباً وأتى الكوفة وجه منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ألفين، وقيل: في ثلاثة آلاف، من أهل الشام لقتال عبد الله بن الزبير. وكان السبب في تسييره دون غيره أنه قال لعبد الملك: قد رأيت في المنام أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه وولني قتاله. فبعثه وكتب معه أماناً لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا، فسار في جمادى الأولي سنة اثنتين وسبعين، ولم يعرض للمدينة، ونزل الطائف، وكان يبعث الخيل إلى عرفة ويبعث ابن الزبير أيضاً فيقتلون بعرفة فتنهزم خيل ابن الزبير في كل ذلك وتعود خيل الحجاج بالظفر.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم وحصر ابن الزبير ويخبره بضعفه وتفرق أصحابه ويستمده، فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجاج، فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وأخرج عامل ابن الزبير عنها وجعل عليها رجلاً من أهل الشام اسمه ثعلبة، فكان ثعلبة يخرج المخ وهو على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأكل عليه التمر لغيظ أهل المدينة، وكان مع ذلك شديداً على أهل الزبير، وقدم طارق على الحجاج بمكة في سلخ ذي الحجة في خمسة آلاف.
وأما الحجاج فإنه قدم مكة في ذي القعدة وقد أحرم بحجة، فنزل بئر ميمون، وحج بالناس تلك السنة الحجاج، إلا أنه لم يطف بالكعبة ولا سعى بين الصفا والمروة، منعه ابن الزبير من ذلك، فكان يلبس السلاح ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل ابن الزبير، ولم يحج ابن الزبير ولا أصحابه لأنهم لم يفوا بعرفة ولم يرموا الجمار، ونحر ابن الزبير بدنة بمكة.
ولما حصر الحجاج ابن الزبير نصب المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة، وكان عبد الملك ينكر ذلك أيام يزيد بن معاوية ثم أمر به، فكان الناس يقولون: خذل في دينه.
وحج ابن عمر تلك السنة فأرسل إلى الحجاج: أن اتق الله واكفف هذه الحجارة عن الناس فإنك في شهر حرام وبلد حرام وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيراً، وإن المنجنيق قد منعهم عن الطواف، فاكفف عن الرمي حتى يقضوا ما يجب عليهم بمكة. فبطل الرمي حتى عاد الناس من عرفات وطافوا وسعوا، ولم يمنع ابن الزبير الحاج من الطواف والسعي، فلما فرغوا من طواف الزيارة نادى منادي الحجاج: انصرفوا إلى بلادكم فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير الملحد.
وأول ما رمي بالمنجنيق إلى الكعبة رعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد على الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم، فأخذ الحجاج حجر المنجنيق بيده فوضعه في ورمى به معهم، فلما أصبحوا جاءت الصواعق فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلاً، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام لا تنكروا هذا، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها وهذا الفتح قد حضر فأبشروا. فلما كان الغد جاءت الصاعقة فأصابت من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة وهم على خلافها؟ وكان الحجر يقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي فلا ينصرف، وكان أهل الشام يقولون:
يا ابن الزبير طالما عصيكا ** وطالما عنيتنا إليكا

لتجزين بالذي أتيكا يعنون: عصيت وأتيت.
وقدم عليه قوم من الأعراب فقالوا: قدمنا للقتال معك، فنظر فإذا مع كل امرئ منهم سيف كأنه شفرة وقد خرج من غمده، فقال: يا معشر الأعراب لا قربكم الله! فوالله إن سلاحكم لرث، وإن حديثكم لغث؛ وإنكم لقتال في الجدب، أعداء في لخصب. فتفرقوا ولم يزل القتال بينهم دائماً، فغلت الأسعار عند ابن الزبير وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح فرسه وقسم لحمها في أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد الذرة بعشرين درهماً، وإن بيوت ابن الزبير لمملوءة قمحاً وشعيراً وذرة وتمراً، وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده، وكان يحفظ ذلك ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق، ويقول: أنفس أصحابي قوية ما لم يفن.
فلما كان قبيل مقتله تفرق الناس عنه وخرجوا إلى الحجاج بالأمان، خرج من عنده نحو عشرة آلاف، وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، وأخذا لأنفسهما أماناً، فقال عبد الله لابنه الزبير: خذ لنفسك أماناً كما فعل أخواك، فو الله إني لأحب بقاءكم. فقال ما كنت لأرغب بنفسي عنك. فصبر معه فقتل.
ولما تفرق أصحابه عنه خطب الحجاج الناس وقال: قد ترون قلة من مع ابن الزبير وماهم عليه من الجهد والضيق. ففرحوا واستبشروا فتقدموا فملأوا ما بين الحجون إلى الأبواء. فدخل على أمه فقال: يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك في الدنيا! القتل أحسن! فقال: يا أماه أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني. قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ إذا ذبحت، فامض على بصيرتك واستعن بالله.
فقبل رأسها وقال: هذا رأيي والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر إلى الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملاً بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكني أقوله تعزية لأمي حتى تسلو عني! فقالت أمه: غني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً، إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك، أخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. فقال: جزاك الله خيراً، فلا تدعي الدعاء لي. قالت: لا أدعه لك أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذاك القيام في الليل الطويل وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة وبره بأبيه وبي! اللهم قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين! فتناول يديها لقبلهما فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودعاً لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا. قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودعك. فدنا منها فعانقها وقبلها، فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد. فقال: مالبسته إلا لأشد منك. قالت: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم درج كمية وشد أسفل قميصه وجبة خز تحت أثناء السراويل وادخل أسفلها تحت المنطقة وأمه تقول له: البس ثيابك مشمرة. فخرج وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ** وإنما يعرف يومه الحر

إذ بعضهم يعرف ثم ينكر فسمعته فقالت: تصبر إن شاء الله، أبواك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب. فحمل على أهل الشام حملةً منكرةً فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه، وقال له بعض أصحابه: لو لحقت بموضع كذا. قال: بئس الشيخ أنا إذاً في الإسلام لئن أوقعت قوماً فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم. ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب، وكانوا يصيحون به: يا ابن ذات النطاقين، فيقول: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وجعل أهل الشام على أبواب المسجد رجلاً من أهل كل بلد، لكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني تميم، وكان الحجاج وطارق من ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية ومرة في هذه الناحية ومرة في هذه الناحية، فكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال يعدو في أثر القوم حتى يخرجهم، ثم يصيح: أبا صفوان! ويل أمه فتحاً لو كان له رجال أو كان قرني واحداً كفيته! فيقول أبو صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف: إي والله وألف.
فلما رأى الحجاج أن الناس لا يقدمون على ابن الزبير غضب وترجل وأقبل يسوق الناس ويصمد بهم صمد صاحب علم ابن الزبير وهو بين يديه. فتقدم ابن الزبير على صاحب علمه وضاربهم وانكشفوا، وعرج وصلى ركعتين عند المقام، فحملوا على صاحب علمه فقتلوه عند باب بني شيبة وصار العلم بأيدي أصحاب الحجاج. فلما فرغ من صلاته تقدم فقاتل بغير علم فضرب رجلاً من أهل الشام وقال: خذها وأنا ابن الحواري! وضرب آخر، وكان حبشياً، فقطع يده وقال: اصبر أبا حمدة، اصبر ابن حام. وقاتل معه عبد الله بن مطيع وهو يقول:
أنا الذي فررت يوم الحره ** والحر لا يفر إلا مره

واليوم أجزي فرةً بكره وقاتل حتى قتل، وقيل: إنه أصابته جراح فمات منها بعد أيام.
وقال ابن الزبير لأصحابه وأهله يوم قتل بعد صلاة الصبح: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم، وعليهم لمغافر. ففعلوا. فقال: يا آل الزبير لو طبتم بي نفساً عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلحنا في الله، فلا يرعكم وقع السيوف، فإن ألم الدواء للجراح أشد من ألم وقعها، صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، غضوا أبصاركم من البارقة وليشغل كل امرئٍ قرنه ولا تسألوا عني، فمن كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول، احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، فرمي بآجرة، رماه رجل من السكون، فأصابته في وجهه فأرعش لها ودمي وجهه، فلما وجد الدم على وجهه قال:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدما

وقاتلهم قتالاً شديداً، فتعاوروا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة، وتولى قتله رجل من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد ووفد السكوني والمرادي إلى عبد الملك بالخبر، فأعطى كل واحد منهما خمسمائة دينار.
وسار الحجاج طارق وطارق حتى وقفا عليه، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا. فقال الحجاج: أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، غنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا بل يفضل علينا. فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقاً.
ولما قتل ابن الزبير كبر أهل الشام فرحاً بقتله، فقال ابن عمر: انظروا إلى هؤلاء ولقد كبر المسلمون فرحاً بولادته وهؤلاء يكبرون فرحا بقتله.
وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان وأخذ جثته فصلبها على الثنية اليمنى بالحجون. فأرسلت إليه فكتب إليه يلومه ويقول: ألا خليت بينه وبين أمه! فأذن لها الحجاج فدفنته بالحجون، فمر به عبد الله بن عمر فقال: السلام عليك يا أبا خبيب! أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ولقد كنت صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله إن قوماً أنت شرهم لنعم القوم.
وكان ابن الزبير قبل قتله بقي أياماً يستعمل الصبر والمسك لئلا ينتن، فلما صلب ظهرت منه رائحة المسك، فقيل: إن الحجاج صلب معه كلباً ميتاً فغلب على ريح المسك، وقيل: بل صلب معه سنوراً.
ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة ناقةً لم ير مثلها فسار إلى عبد الملك فقدم الشام قبل وصول رسل الحجاج بقتل عبد الله، فأتى باب عبد الملك فاستأذن عليه فأذن له، فلما دخل سلم عليه بالخلافة، فرد عليه عبد الملك ورحب به وعانقه وأجلسه على السرير، فقال عروة:
متت بأرحامٍ إليك قريبةٍ ** ولا قرب للأرحام ما لم تقرب

ثم تحدثا حتى جرى ذكر عبد الله، فقال عروة: إنه كان، فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل، فخر ساجداً، فقال عروة: إن الحجاج صلبه فهب جثته لأمه. قال: نعم، وكتب إلى الحجاج يعظم صلبه. وكان الحجاج لما فقد عروة كتب إلى عبد الملك يقول له: عن عروة كان مع أخيه، فلما قتل عبد الله أخذ مالاً من مال الله فهرب. فكتب إليه عبد الملك: إنه لم يهرب ولكنه أتاني مبايعاً وقد آمنته وحللته مما كان، وهو قادم عليك فإياك وعروة. وعاد عروة إلى مكة وكانت غبيته عنها ثلاثين يوماً.
فأنزل الحجاج جثة عبد الله عن الخشبة بعث به إلى أمه، فغسلته، فلما أصابه الماء تقطع، فغسلته عضواً عضواً فاستمسك، وصلى عليه عروة، فدفنته.
وقيل: إن عروة لما كان غائباً عند عبد الملك كتب إليه الحجاج وعاوده في إنفاذ عروة إليه، فهم عبد الملك بإنفاذه، فقال عروة: ليس الذليل من قتلتموه ولكن الذليل من ملكتمخوه، وليس بملوم من صبر فمات، ولكن الملوم من فر من الموت. فسمع مثل هذا الكلام فقال عبد الملك: يا أباعبد الله لن تسمع منا شيئاً تكرهه.
وإن عبد الله لم يصل عليه أحد، منع الحجاج من الصلاة عليه، وقال: غنما أمر أمير المؤمنين بدفنه، وقيل: صلى عليه غير عروة، والذي ذكره مسلم في صحيحه: إن عبد الله بن الزير ألقي في مقابر اليهود، وعاشت أمه بعده قليلاً وماتت، وكانت قد أضرت، وهي أم عروة أيضاً.
فلما فرغ الحجاج من أمر ابن الزبير دخل مكة فبايعه أهلها لعبد الملك ابن مروان، وأمر بكنس المسجد الحرام من الحجارة والدم، وسار إلى المدينة، وكان عبد الملك قد استعمله على مكة والمدينة، فلما قدم المدينة أقام بها شهراً أو شهرين فأساء إلى أهلها واستخف بهم وقال: أنتم قتلة أمير المؤمنين عثمان، وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة، منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد، ثم عاد إلى مكة، فقال حين خرج منها: الحمد الله الذي أخرجني من أم نتن، أهلها أخبث بلد وأغشه لأمير المؤمنين وأحسدهم له على نعمة الله، والله لو ما كنت تأتيني كتب أمير المؤمنين فيهم لجعلتها مثل جوف الحمار أعواداً يهودون بها ورمة قد بليت، يغلون منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبلغ جابر بن عبد الله قوله فقال: إن وراءه ما يسوءه، قد قال فرعون ما قال ثم أخذه الله بعد أن أنظره.
وقيل: إن ولاية الحجاج المدينة وما فعله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان سنة أربع وسبعين في صفر.
خبيب بن عبد الله بن الزير بضم الخاء المعجمة، وببائين موحدتين بينهما ياء مثناه من تحت، وكان عبد الله يكنى به ويأبي بكر أيضاً.