فصل: فَصْلٌ فِي الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فَصْلٌ فِي الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ:

الشَّرْحُ:
فَصْلٌ: فِي الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ: لَمَّا كَانَ تَحَقُّقُ السَّرِقَةِ مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِ الْمَسْرُوقِ مَالًا مُحْرَزًا وَفَرَغَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْحِرْزِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْوَصْفُ، ثُمَّ الْعِلَّةُ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْ قَرَابَةِ الْوِلَادِ أَمْرَانِ: الْبُسُوطَةُ فِي الْمَالِ وَفِي حَقِّ الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ وَعَنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْبُسُوطَةُ فِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ. (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ) فَالْأَوَّلُ وَهُوَ الْوِلَادُ لِلْبُسُوطَةِ فِي الْمَالِ وَفِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ.
وَالثَّانِي لِلْمَعْنَى الثَّانِي، وَلِهَذَا أَبَاحَ الشَّرْعُ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْهَا، بِخِلَافِ الصَّدِيقَيْنِ لِأَنَّهُ عَادَاهُ بِالسَّرِقَةِ.
وَفِي الثَّانِي خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ أَلْحَقَهَا بِالْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ (وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مَتَاعَ غَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ، وَلَوْ سَرَقَ مَالَهُ مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ يُقْطَعُ) اعْتِبَارًا لِلْحِرْزِ وَعَدَمِهِ (وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قُطِعَ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ، بِخِلَافِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا عَادَةً.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا قَرَابَةَ وَالْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِهَا لَا تُحْتَرَمُ كَمَا إذَا ثَبَتَتْ بِالزِّنَا وَالتَّقْبِيلِ عَنْ شَهْوَةٍ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّضَاعَ قَلَّمَا يَشْتَهِرُ فَلَا بُسُوطَةَ تَحَرُّزًا عَنْ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ النَّسَبِ.
الشَّرْحُ:
(وَلِهَذَا أَبَاحَ الشَّرْعُ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ) الْوَجْهِ وَالْكَفِّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ (وَفِي الثَّانِي) يَعْنِي وَفِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ (خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ يَجِبُ الْقَطْعُ (لِأَنَّهُ أَلْحَقَهَا بِالْغَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ) وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَتَاعَ غَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ لِعَدَمِ الْحِرْزِ (وَلَوْ سَرَقَ مَالَهُ) أَيْ مَالَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ (مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ قُطِعَ) لِوُجُودِ الْحِرْزِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِهَا) أَيْ بِدُونِ الْقَرَابَةِ (لَا تُحْتَرَمُ) أَيْ لَا تُجْعَلُ حُرْمَةً قَوِيَّةً عَادَةً (كَمَا إذَا ثَبَتَتْ) يَعْنِي الْمَحْرَمِيَّةَ (بِالزِّنَا) فَإِنَّهُ إذَا سَرَقَ مِنْ بَيْتِ بِنْتِ الْمَرْأَةِ الَّتِي زَنَى بِهَا لَا يُعَدُّ شُبْهَةً فِي قَطْعِ الْيَدِ بَلْ تُقْطَعُ وَإِنْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ مَوْجُودَةً، وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَتْ بِالتَّقْبِيلِ عَنْ شَهْوَةٍ.
وَقَوْلُهُ (وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالزِّنَا (الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ) يَعْنِي: أَنَّ الْأُمَّ مِنْ الرَّضَاعِ أَشْبَهُ إلَى الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالزِّنَا، ثُمَّ السَّرِقَةُ مِنْ بَيْتِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ كَذَلِكَ.
وَوَجْهُ الْأَقْرَبِيَّةِ أَنَّ إلْحَاقَ الرَّضَاعِ بِالرَّضَاعِ أَقْرَبُ مِنْ إلْحَاقِهِ بِالزِّنَا.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ الْقَطْعُ مَعَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ (لِأَنَّ الرَّضَاعَ قَلَّمَا يُشْتَهَرُ فَلَا بُسُوطَةَ تَحَرُّزًا عَنْ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ النَّسَبِ). (وَإِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ الْعَبْدُ مِنْ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ زَوْجِ سَيِّدَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ) لِوُجُودِ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ عَادَةً، وَإِنْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ حِرْزٍ الْآخَرِ خَاصَّةً لَا يَسْكُنَانِ فِيهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِبُسُوطَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْوَالِ عَادَةً وَدَلَالَةً وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَدَلَالَةُ) مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمَّا بَذَلَتْ نَفْسَهَا وَهِيَ أَنْفَسُ مِنْ الْأَمْوَالِ فَلَأَنْ تَبْذُلَ الْمَالَ أَوْلَى (وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ) فَإِنَّ شَهَادَةَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تُقْبَلُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ هَذِهِ الْبُسُوطَةَ لَمَّا مَنَعَتْ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَلَأَنْ تَمْنَعَ الْقَطْعَ وَهُوَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى. (وَلَوْ سَرَقَ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّ لَهُ فِي أَكْسَابِهِ حَقًّا (وَكَذَلِكَ السَّارِقُ مِنْ الْمَغْنَمِ) لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ دَرْءًا وَتَعْلِيلًا.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَرْءًا وَتَعْلِيلًا) يُرِيدُ بِهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ مِنْ الْمَغْنَمِ فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ وَقَالَ إنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا. وَقَالَ (وَالْحِرْزُ عَلَى نَوْعَيْنِ حِرْزٌ لِمَعْنًى فِيهِ كَالْبُيُوتِ وَالدُّورِ.
وَحِرْزٌ بِالْحَافِظِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: الْحِرْزُ لابد مِنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِسْرَارَ لَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ، ثُمَّ هُوَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِإِحْرَازِ الْأَمْتِعَةِ كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ وَالصُّنْدُوقِ وَالْحَانُوتِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَافِظِ كَمَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعُهُ فَهُوَ مُحَرَّزٌ بِهِ، وَقَدْ «قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ» (وَفِي الْمُحَرَّزِ بِالْمَكَانِ لَا يُعْتَبَرُ الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِدُونِهِ وَهُوَ الْبَيْتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَابٌ أَوْ كَانَ وَهُوَ مَفْتُوحٌ حَتَّى يُقْطَعَ السَّارِقُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْبِنَاءَ لِقَصْدِ الْإِحْرَازِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ لِقِيَامِ يَدِهِ فِيهِ قَبْلَهُ.
بِخِلَافِ الْمُحَرَّزِ بِالْحَافِظِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ، كَمَا أُخِذَ لِزَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ فَتَتِمُّ السَّرِقَةُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا أَوْ نَائِمًا وَالْمَتَاعُ تَحْتَهُ أَوْ عِنْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَدُّ النَّائِمُ عِنْدَ مَتَاعِهِ حَافِظًا لَهُ فِي الْعَادَةِ.
وَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَضْيِيعٍ، بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ فِي الْفَتَاوَى.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَالْحِرْزُ عَلَى نَوْعَيْنِ) الْحِرْزُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ الْحَصِينِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَا يُرَادُ بِهِ حِفْظُ الْأَمْوَالِ.
وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ (حِرْزٍ لِمَعْنًى فِيهِ) وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ، وَيَخْتَلِفُ، ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَمْوَالِ (كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ وَالصُّنْدُوقِ وَالْحَانُوتِ) وَالْحَظِيرَةِ لِلْغَنَمِ وَالْبَقَرِ (وَحِرْزٍ بِالْحَافِظِ كَمَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعُهُ فَإِنَّهُ مُحْرَزٌ بِهِ) وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَكُّ عَنْ الْآخَرِ (وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ مَنْ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ») وَهُوَ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْإِحْرَازَ، وَإِذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَابٌ أَوْ لَهُ بَابٌ وَلَكِنَّهُ مَفْتُوحٌ وَصَاحِبُهُ لَيْسَ عِنْدَهُ يُقْطَعُ (فَفِي الْحِرْزِ بِالْمَكَانِ لَا يُعْتَبَرُ، الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ) فَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتٍ مَأْذُونٍ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ لَكِنْ مَالِكُهُ يَحْفَظُهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْحِرْزُ بِالْمَكَانِ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْطَعُ فِيهِ.
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْحِرْزَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْحِرْزُ بِالْمَكَانِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وُصُولَ الْيَدِ إلَى الْمَالِ وَيَكُونُ الْمَالُ مُخْتَفِيًا بِهِ، وَأَمَّا الْحِرْزُ بِالْحَافِظِ فَإِنَّهُ وَإِنْ مَنَعَ وُصُولَ الْيَدِ إلَيْهِ لَكِنْ الْمَالُ لَا يَخْتَفِي بِهِ، ثُمَّ الْمُحْرَزُ بِالْمَكَانِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِهَتْكِهِ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ مِنْهُ لِقِيَامِ يَدِهِ قَبْلَهُ، وَالْمُحْرَزُ بِالْحَافِظِ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ (لِزَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ فَتَتِمُّ السَّرِقَةُ) وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْحِرْزَ بِالْمَكَانِ أَقْوَى (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا أَوْ نَائِمًا وَالْمَتَاعُ عِنْدَهُ أَوْ تَحْتَهُ) هُوَ الصَّحِيحُ (لِأَنَّ النَّائِمَ عِنْدَ مَتَاعِهِ يُعَدُّ حَافِظًا لِمَتَاعِهِ) وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا إنَّ صَاحِبَ الْمَتَاعِ إنَّمَا يَكُونُ مُحْرِزًا لِمَتَاعِهِ فِي حَالِ نَوْمِهِ إذَا جَعَلَ الْمَتَاعَ تَحْتَ رَأْسِهِ أَوْ تَحْتَ جَنْبِهِ، أَمَّا إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُحْرِزًا فِي حَالِ نَوْمِهِ، أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْأَصْلِ الْمُسَافِرُ يَنْزِلُ فِي الصَّحْرَاءِ فَيَجْمَعُ مَتَاعَهُ وَيَبِيتُ عَلَيْهِ فَسَرَقَ مِنْهُ رَجُلٌ قُطِعَ.
قَالُوا: قَوْلُهُ يَبِيتُ عَلَيْهِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُقْطَعُ إذَا نَامَ عَلَيْهِ، وَمَالَ إلَى الْأَوَّلِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ (الْمُودِعُ وَالْمُسْتَعِيرُ لَا يَضْمَنَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَضْيِيعٍ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ فِي الْفَتَاوَى) يَعْنِي قَالَ فِيهَا إنَّهُمَا يَضْمَنَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَقَالُوا إنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ إذَا وَضَعَ الْوَدِيعَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَنَامَ فِيمَا إذَا نَامَ قَاعِدًا، وَأَمَّا إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْحَضَرِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي السَّفَرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ نَامَ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ (وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْ حِرْزٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ قُطِعَ) لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحَرَّزًا بِأَحَدِ الْحِرْزَيْنِ (وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالًا مِنْ حَمَّامٍ أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ) لِوُجُودِ الْإِذْنِ عَادَةً أَوْ حَقِيقَةً فِي الدُّخُولِ فَاخْتَلَّ الْحِرْزُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ حَوَانِيتُ التُّجَّارِ وَالْخَانَاتُ، إلَّا إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ يَخْتَصُّ بِالنَّهَارِ (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَتَاعًا وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ قُطِعَ) لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِالْحَافِظِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا بُنِيَ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ مُحَرَّزًا بِالْمَكَانِ، بِخِلَافِ الْحَمَّامِ وَالْبَيْتِ الَّذِي أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ حَيْثُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِلْإِحْرَازِ فَكَانَ الْمَكَانُ حِرْزًا فَلَا يُعْتَبَرُ الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ حَمَّامٍ) يَعْنِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ (أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ عَادَةً) يَعْنِي فِي الْحَمَّامِ (أَوْ حَقِيقَةً) يَعْنِي فِي الْبَيْتِ الَّذِي أُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي قَوْلِهِ أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا قَطْعَ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَتَاعًا) ظَاهِرٌ. (وَلَا قَطْعَ عَلَى الضَّيْفِ إذَا سَرَقَ مِمَّنْ أَضَافَهُ) لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَبْقَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِي دُخُولِهِ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً لَا سَرِقَةً. (وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَلَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ الدَّارِ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِخْرَاجِ مِنْهَا، وَلِأَنَّ الدَّارَ وَمَا فِيهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا مَعْنًى فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْأَخْذِ فَإِنْ كَانَتْ دَارٌ فِيهَا مَقَاصِيرُ فَأَخْرَجَهَا مِنْ الْمَقْصُورَةِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ) لِأَنَّ كُلَّ مَقْصُورَةٍ بِاعْتِبَارِ سَاكِنِهَا حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ (وَإِنْ أَغَارَ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ عَلَى مَقْصُورَةٍ فَسَرَقَ مِنْهَا قُطِعَ) لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً) أَيْ مَالًا وَسَمَّى الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ سَرِقَةً مَجَازًا، وَمِنْهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ: إذَا كَانَتْ السَّرِقَةُ مُصْحَفًا.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا) أَيْ فِي الدَّارِ (مَقَاصِيرُ) يَعْنِي حُجُرَاتٌ وَبُيُوتٌ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَغَارَ إنْسَانٌ) أَيْ دَخَلَ بِسُرْعَةٍ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الْمُغْرِبِ: إنْ أَغَارَ لَفْظُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَالضَّمْرِيِّ، وَأَمَّا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ وَإِنْ أَعَانَ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ إنْسَانًا عَلَى مَتَاعِ مَنْ يَسْكُنُ مَقْصُورَةً أُخْرَى.
وَلَفْظُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ كَذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْإِغَارَةَ فِي بَابِ السَّرِقَةِ غَيْرُ لَائِقَةٍ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ أَخْذُ مَالٍ فِي خَفَاءٍ وَحِيلَةٍ فَلِذَلِكَ سَمَّى السَّارِقَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسَارِقُ عَيْنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالْإِغَارَةُ أَخْذٌ فِي الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً وَمُغَالَبَةً.
وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ يَدْخُلُ عَلَى بَعْضٍ آخَرَ بِاللَّيْلِ جَهْرًا وَمُكَابَرَةً وَمُخْتَفِيًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَلِيقُ بِهِ إلَّا الْإِغَارَةُ، وَإِذَا صَحَّ الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْإِغَارَةِ مَرْوِيًّا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَسَرَقَ مِنْهَا بَعْدَ قَوْلِهِ أَغَارَ إشَارَةٌ إلَى هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَقْصُورَةٍ إلَخْ. (وَإِذَا نَقَبَ اللِّصُّ الْبَيْتَ فَدَخَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَنَاوَلَهُ آخَرَ خَارِجَ الْبَيْتِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِخْرَاجُ لِاعْتِرَاضِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ عَلَى الْمَالِ قَبْلَ خُرُوجِهِ.
وَالثَّانِي لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ هَتْكُ الْحِرْزِ فَلَمْ تَتِمَّ السَّرِقَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ أَخْرَجَ الدَّاخِلُ يَدَهُ وَنَاوَلَهَا الْخَارِجَ فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلِ، وَإِنْ أَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَتَنَاوَلَهَا مِنْ يَدِ الدَّاخِلِ فَعَلَيْهِمَا الْقَطْعُ.
وَهِيَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ تَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ وَخَرَجَ فَأَخَذَهُ قُطِعَ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ كَمَا لَوْ خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْ، وَكَذَا الْأَخْذُ مِنْ السِّكَّةِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ.
وَلَنَا أَنَّ الرَّمْيَ حِيلَةٌ يَعْتَادُهَا السُّرَّاقُ لِتَعَذُّرِ الْخُرُوجِ مَعَ الْمَتَاعِ، أَوْ لِيَتَفَرَّغَ لِقِتَالِ صَاحِبِ الدَّارِ أَوْ لِلْفِرَارِ وَلَمْ تَعْتَرِضْ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاعْتُبِرَ الْكُلُّ فِعْلًا وَاحِدًا، فَإِذَا خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ فَهُوَ مُضَيِّعٌ لَا سَارِقٌ.
قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ فَسَاقَهُ وَأَخْرَجَهُ) لِأَنَّ سَيْرَهُ مُضَافٌ إلَيْهِ لِسَوْقِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا نَقَبَ اللِّصُّ الْبَيْتَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَهِيَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ تَأْتِي بَعْدَ هَذَا) إشَارَةٌ إلَى مَسْأَلَةِ نَقْبِ الْبَيْتِ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ) وَاضِحٌ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ يَدَهُ تَثْبُتُ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ ثُمَّ بِالرَّمْيِ إلَى الطَّرِيقِ لَمْ تَزُلْ يَدُهُ حُكْمًا لِعَدَمِ اعْتِرَاضِ يَدٍ أُخْرَى عَلَى يَدِهِ.
وَإِذَا بَقِيَتْ يَدُهُ حُكْمًا وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ الثَّانِي وَجَبَ الْقَطْعُ (قَوْلُهُ وَلَمْ تَعْتَرِضْ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّ هُنَاكَ يَدًا مُعْتَبَرَةً اعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَتْ سُقُوطَ الْيَدِ الْحُكْمِيَّةِ لِلسَّارِقِ فَلَمَّا لَمْ تَسْقُطْ الْيَدُ الْحُكْمِيَّةُ هُنَا لَمْ يَرِدْ مَا ذَكَرَهُ زُفَرُ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْحِرْزِ وَلَا مَالَ فِي يَدِهِ.
وَقَوْلُهُ (فَاعْتُبِرَ الْكُلُّ) أَيْ إلْقَاؤُهُ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ أَخْذُهُ مِنْهُ (فِعْلًا وَاحِدًا) كَمَا إذَا أَخَذَ الْمَالَ وَخَرَجَ مَعَهُ مِنْ الْحِرْزِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ وَاحِدٌ كَذَلِكَ.
هَذَا وَقَوْلُهُ (فَإِذَا خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا لَوْ خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إنْ حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ) ظَاهِرٌ. (وَإِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ جَمَاعَةٌ فَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ الْأَخْذَ قُطِعُوا جَمِيعًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ الْحَامِلُ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ وُجِدَ مِنْهُ فَتَمَّتْ السَّرِقَةُ بِهِ.
وَلَنَا أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْكُلِّ مَعْنًى لِلْمُعَاوَنَةِ كَمَا فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَادَ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَحْمِلَ الْبَعْضُ الْمَتَاعَ وَيَتَشَمَّرَ الْبَاقُونَ لِلدَّفْعِ، فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَطْعُ لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ جَمَاعَةٌ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي دُخُولِ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُمْ إذَا اشْتَرَكُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ لَكِنْ دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْبَيْتَ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ وَلَمْ يَدْخُلْ غَيْرُهُ فَالْقَطْعُ عَلَى مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ إنْ عُرِفَ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَعَلَيْهِمْ التَّعْزِيرُ، وَلَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ الدَّاخِلِ يُعِينُ الدَّاخِلَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَدْخُلُوا الْبَيْتَ لَمْ يَتَأَكَّدْ مُعَاوَنَتُهُمْ بِهَتْكِ الْحِرْزِ بِالدُّخُولِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ اشْتِرَاكُهُمْ لِمَا أَنَّ كَمَالَ هَتْكِ الْحِرْزِ إنَّمَا يَكُونُ بِالدُّخُولِ وَقَدْ وُجِدَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَاعْتُبِرَ اشْتِرَاكُهُمْ، قَالُوا: هَذَا إذَا كَانَ الْآخِذُ الْحَامِلُ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ بِأَنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْآخِذُ الْحَامِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَامِلِ فِي هَذَا الْفِعْلِ تَبَعٌ لِلْآخِذِ الْحَامِلِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ عَلَى مَنْ هُوَ أَصْلٌ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ تَبَعٌ وَإِنْ كَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْحَمْلَ وَالْإِخْرَاجَ كَبِيرًا لَكِنْ فِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْكُلِّ وَاحِدٌ وَقَدْ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي فِعْلِ بَعْضِهِمْ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْبَاقِينَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. قَالَ (وَمَنْ نَقَبَ الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَأَخَذَ شَيْئًا لَمْ يُقْطَعْ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْمَالَ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ فِيهِ، كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ فَأَخْرَجَ الْغِطْرِيفِيَّ.
وَلَنَا أَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَمَالُ تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ وَالْكَمَالِ فِي الدُّخُولِ، وَقَدْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ وَالدُّخُولُ هُوَ الْمُعْتَادُ.
بِخِلَافِ الصُّنْدُوقِ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ فِيهِ إدْخَالُ الْيَدِ دُونَ الدُّخُولِ، وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِ الْبَعْضِ الْمَتَاعَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ.
قَالَ (وَإِنْ طَرَّ صُرَّةً خَارِجَةً مِنْ الْكُمِّ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ يُقْطَعُ) لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الرِّبَاطَ مِنْ خَارِجٍ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الظَّاهِرِ فَلَا يُوجَدُ هَتْكُ الْحِرْزِ.
وَفِي الثَّانِي الرِّبَاطُ مِنْ دَاخِلٍ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْكُمُّ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الطَّرِّ حَلُّ الرِّبَاطِ، ثُمَّ الْأَخْذُ فِي الْوَجْهَيْنِ يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ لِانْعِكَاسِ الْعِلَّةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ إمَّا بِالْكُمِّ أَوْ بِصَاحِبِهِ.
قُلْنَا: الْحِرْزُ هُوَ الْكُمُّ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُهُ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ أَوْ الِاسْتِرَاحَةِ فَأَشْبَهَ الْجُوَالِقَ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَمَنْ نَقَبَ الْبَيْتَ) وَاضِحٌ.
وَالْغِطْرِيفِيُّ هُوَ الدِّرْهَمُ الْمَنْسُوبُ إلَى غِطْرِيفِ بْنِ عَطَاءٍ الْكِنْدِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ أَيَّامَ الرَّشِيدِ، وَالدَّرَاهِمُ الْغِطْرِيفِيَّةُ كَانَتْ مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ بِبُخَارَى كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.
وَيُؤَيِّدُ وَجْهَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: اللِّصُّ إذَا كَانَ ظَرِيفًا لَا يُقْطَعُ، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْ يَنْقُبَ الْبَيْتَ وَيُدْخِلَ يَدَهُ وَيُخْرِجَ الْمَتَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الصُّنْدُوقِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْكَمَالُ فِي هَتْكِ الْحِرْزِ شَرْطًا تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ لَمَا وَجَبَ الْقَطْعُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِ بَعْضِ الْقَوْمِ الْمَتَاعَ دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ.
أَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ (وَإِنْ طَرَّ صُرَّةً) الطَّرَّارُ هُوَ الَّذِي يَطُرُّ الْهِمْيَانَ: أَيْ يَشُقُّهَا وَيَقْطَعُهَا، وَالصُّرَّةُ وِعَاءُ الدَّرَاهِمِ، يُقَالُ صَرَرْت الصُّرَّةَ: أَيْ شَدَدْتهَا، وَالْمُرَادُ بِالصُّرَّةِ هُنَا نَفْسُ الْكُمِّ الْمَشْدُودِ فِيهِ الدَّرَاهِمُ.
وَفِي هَذَا التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّ الطَّرَّارَ يُقْطَعُ لَيْسَ بِمُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ مَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ فَطَرَّهَا (قَوْلُهُ فَلَا يُوجَدُ هَتْكُ الْحِرْزِ) يَعْنِي إدْخَالَ الْيَدِ فِي الْكُمِّ وَإِخْرَاجَ الدَّرَاهِمِ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ مِنْ الْخَارِجِ وَالدَّاخِلِ.
وَقَوْلُهُ (يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ حَلَّ الرِّبَاطَ خَارِجَ الْكُمِّ يَجِبُ الْقَطْعُ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الرِّبَاطَ الَّذِي كَانَ خَارِجَ الْكُمِّ وَقَعَتْ الدَّرَاهِمُ فِي الْكُمِّ فَاحْتَاجَ فِي أَخْذِ الدَّرَاهِمِ إلَى إدْخَالِ الْيَدِ فِي الْكُمِّ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ مِنْ الْكُمِّ فَقَدْ هَتَكَ الْحِرْزَ.
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَلَّ الرِّبَاطَ فِي دَاخِلِ الْكُمِّ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الرِّبَاطَ فِي دَاخِلِ الْكُمِّ بَقِيَتْ الدَّرَاهِمُ خَارِجَ الْكُمِّ ظَاهِرَةً مَحْلُولَةً، فَكَانَ الْأَخْذُ مِنْ خَارِجِ الْكُمِّ فَلَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزَ فِي أَخْذِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ أَدْخَلَ الْيَدَ فِي الْكُمِّ إلَّا أَنَّهُ أَدْخَلَهَا لِحَلِّ الرِّبَاطِ لَا لِأَخْذِ الْمَالِ مِنْ الْكُمِّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ لِانْعِكَاسِ الْعِلَّةِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُهُ) أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ الْكُمِّ يَعْتَمِدُ الْكُمَّ فِي حِفْظِ الْمَالِ لَا قِيَامَ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ صَاحِبِ الْكُمِّ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَ الْمَالِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: قَطْعِ الْمَسَافَةِ، أَوْ الِاسْتِرَاحَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الْمَشْيِ أَوْ فِي غَيْرِ حَالَتِهِ، فَفِي الْأَوَّلِ قَصْدُهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ لَا حِفْظُ الْمَالِ، وَفِي الثَّانِي قَصْدُهُ الِاسْتِرَاحَةُ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَقَّ الْجُوَالِقَ الَّذِي عَلَى إبِلٍ تَسِيرُ وَأَخَذَ الدَّرَاهِمَ مِنْهُ يُقْطَعُ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ اعْتَمَدَ الْجُوَالِقَ حِرْزًا لَهَا فَكَانَ سَارِقُ الدَّرَاهِمِ مِنْ الْجُوَالِقِ هَاتِكًا لِلْحِرْزِ فَيُقْطَعُ.
وَمَنْ سَرَقَ الْجُوَالِقَ بِمَا فِيهِ وَالْجُوَالِقُ عَلَى إبِلٍ تَسِيرُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ السَّائِقَ وَالْقَائِدَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَالسَّوْقَ لَا الْحِفْظَ فَلَمْ يَصِرْ الْجُوَالِقُ مُحْرَزًا بِهِ مَقْصُودًا عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ. (وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْقِطَارِ بَعِيرًا أَوْ حِمْلًا لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّزٍ مَقْصُودًا فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّائِقَ وَالْقَائِدَ وَالرَّاكِبَ يَقْصِدُونَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَنَقْلَ الْأَمْتِعَةِ دُونَ الْحِفْظِ.
حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَ الْأَحْمَالِ مَنْ يَتْبَعُهَا لِلْحِفْظِ قَالُوا يُقْطَعُ (وَإِنْ شَقَّ الْحِمْلَ وَأَخَذَ مِنْهُ قُطِعَ) لِأَنَّ الْجُوَالِقَ فِي مِثْلِ هَذَا حِرْزٌ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِيهِ صِيَانَتَهَا كَالْكُمِّ فَوُجِدَ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ (وَإِنْ سَرَقَ جُوَالِقًا فِيهِ مَتَاعٌ وَصَاحِبُهُ يَحْفَظُهُ أَوْ نَائِمٌ عَلَيْهِ قُطِعَ) وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَ الْجُوَالِقُ فِي مَوْضِعٍ هُوَ لَيْسَ بِحِرْزٍ كَالطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ حَتَّى يَكُونَ مُحَرَّزًا بِصَاحِبِهِ لِكَوْنِهِ مُتَرَصِّدًا لِحِفْظِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْحِفْظُ الْمُعْتَادُ وَالْجُلُوسُ عِنْدَهُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهِ يُعَدُّ حِفْظًا عَادَةً وَكَذَا النَّوْمُ بِقُرْبٍ مِنْهُ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَصَاحِبُهُ نَائِمٌ عَلَيْهِ أَوْ حَيْثُ يَكُونُ حَافِظًا لَهُ، وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْقِطَارِ بَعِيرًا) الْقِطَارُ: الْإِبِلُ تَقْطُرُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ وَالْجَمْعُ قُطُرٌ، وَمِنْهُ تَقَاطَرَ الْقَوْمُ إذَا جَاءُوا أَرْسَالًا.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ وَإِثْبَاتِهِ:

قَالَ (وَيُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ وَيُحْسَمُ) فَالْقَطْعُ لِمَا تَلَوْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْيَمِينُ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْ الزَّنْدِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْيَدَ إلَى الْإِبِطِ، وَهَذَا الْمَفْصِلُ: أَعْنِي الرُّسْغَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ، وَالْحَسْمُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَاقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ،» وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْسَمْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ (فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا لَمْ يُقْطَعْ وَخُلِّدَ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَيُعَزَّرُ أَيْضًا، ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الثَّالِثَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَفِي الرَّابِعَةِ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُمْنَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ» وَيُرْوَى مُفَسَّرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، وَلِأَنَّ الثَّالِثَةَ مِثْلُ الْأُولَى فِي كَوْنِهَا جِنَايَةً بَلْ فَوْقَهَا فَتَكُونُ أَدْعَى إلَى شَرْعِ الْحَدِّ.
وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ: إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلًا يَمْشِي عَلَيْهَا، وَبِهَذَا حَاجَّ بَقِيَّةَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَحَجَّهُمْ فَانْعَقَدَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ إهْلَاكٌ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ، وَلِأَنَّهُ نَادِرُ الْوُجُودِ وَالزَّجْرُ فِيمَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُسْتَوْفَى مَا أَمْكَنَ جَبْرًا لِحَقِّهِ.
وَالْحَدِيثُ طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى السِّيَاسَةِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ وَإِثْبَاتِهِ): لَمَّا ذَكَرَ وُجُوبَ قَطْعِ الْيَدِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وَهَذَا الْفَصْلُ فِي بَيَانِهِ.
الزَّنْدُ مَفْصِلُ طَرَفِ الذِّرَاعِ مِنْ الْكَفِّ.
وَالْحَسْمُ مِنْ حَسَمَ الْعِرْقَ: كَوَاهُ بِحَدِيدَةٍ مُحْمَاةٍ لِئَلَّا يَسِيلَ دَمُهُ (فَالْقَطْعُ لِمَا تَلَوْنَاهُ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الْآيَةَ (وَالْيَمِينُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ) فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَهِيَ مَشْهُورَةٌ جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهَا عَلَى الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأُصُولِ (وَمِنْ الزَّنْدِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْيَدَ إلَى الْإِبِطِ، وَهَذَا الْمَفْصِلُ: أَعْنِي الرُّسْغَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ) مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ وَالْمَقْطُوعُ لِكَوْنِهِ أَقَلَّ، فَقَوْلُنَا مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ إنَّ الْمُسْتَحَقَّ قَطْعُ الْأَصَابِعِ فَقَطْ لِأَنَّ بَطْشَهُ كَانَ بِالْأَصَابِعِ فَتُقْطَعُ أَصَابِعُهُ لِيَزُولَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْبَطْشِ بِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعًا مُكَرَّرًا، وَفِيمَا قُلْنَا قَطْعٌ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ الْيَدُ، وَقَوْلُنَا مِنْ حَيْثُ الْمَقْطُوعُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ مِنْ الْمَنْكِبِ لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ لِأَنَّ فِيهِ تَكْثِيرًا لِلْمَقْطُوعِ.
وَقَوْلُهُ (كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَطْعِ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ وَالْحَسْمِ») رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا سَرَقَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَا إخَالُهُ سَرَقَ, فَقَالَ السَّارِقُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ, ثُمَّ احْسِمُوهُ» الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْسَمْ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَخُلِّدَ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ) حَاصِلُهُ أَنَّ السَّارِقَ لَا يُؤْتَى عَلَى أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ بِالْقَطْعِ؛ وَإِنَّمَا يُقْطَعُ يَمِينُهُ أَوَّلَ سَرِقَةٍ.
وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى ثَانِيهَا، ثُمَّ يُعَزَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُحْبَسُ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ الرَّابِعَةِ يُحْبَسُ.
وَعِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ يُقْتَلُ.
وَقَوْلُهُ (وَيُرْوَى) مُفَسَّرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ هُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى, وَفِي الثَّانِيَةِ الرِّجْلُ الْيُسْرَى، وَفِي الثَّالِثَةِ الْيَدُ الْيُسْرَى، وَفِي الرَّابِعَةِ الرِّجْلُ الْيُمْنَى» (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الثَّالِثَةَ) ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ فَحَجَّهُمْ أَيْ غَلَبَهُمْ فِي الْحُجَّةِ، يُقَالُ حَاجَّهُ فَحَجَّهُ: أَيْ نَاظَرَهُ فِي الْحُجَّةِ فَغَلَبَهُ بِهَا وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْقِصَاصِ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: لَوْ قَطَعَ رَجُلٌ أَرْبَعَةَ أَطْرَافٍ اُقْتُصَّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ هُنَاكَ مَوْجُودٌ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلٌ يَمْشِي عَلَيْهَا.
وَفِيهِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَنَادِرُ الْوُجُودِ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْعِبَادِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ يُرَاعَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِالنَّصِّ (وَالْحَدِيثُ) الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ دَلِيلًا عَلَى دَعْوَاهُ هَذِهِ (طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ) قَالَ: تَتَبَّعْنَا هَذِهِ الْآثَارَ فَلَمْ نَجِدْ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا أَشَارَ بِهَا إلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ: قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنَّهُ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَقِينَاهُ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ يُنْكِرُونَهُ وَيَقُولُونَ: لَمْ نَجِدْ لَهُ أَصْلًا (أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى السِّيَاسَةِ) بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ. (وَإِذَا كَانَ السَّارِقُ أَشَلَّ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ أَقْطَعَ أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَطْشًا أَوْ مَشْيًا، وَكَذَا إذَا كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ لِمَا قُلْنَا (وَكَذَا إذَا كَانَتْ إبْهَامُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ أَوْ الْأُصْبُعَانِ مِنْهَا سِوَى الْإِبْهَامِ) لِأَنَّ قِوَامَ الْبَطْشِ بِالْإِبْهَامِ (فَإِنْ كَانَتْ أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ سِوَى الْإِبْهَامِ مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ قُطِعَ) لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَاحِدَةِ لَا يُوجِبُ خَلَلًا ظَاهِرًا فِي الْبَطْشِ، بِخِلَافِ فَوَاتِ الْأُصْبُعَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَتَنَزَّلَانِ مَنْزِلَةَ الْإِبْهَامِ فِي نُقْصَانِ الْبَطْشِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَطْشًا) يَعْنِي إنْ كَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى مُؤَفَّةً (أَوْ مَشْيًا) إنْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى كَذَلِكَ وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ. قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَمِينَ هَذَا فِي سَرِقَةٍ سَرَقَهَا فَقَطَعَ يَسَارَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ وَيَضْمَنُ فِي الْعَمْدِ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَضْمَنُ فِي الْخَطَأِ أَيْضًا وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْمُرَادُ بِالْخَطَأِ هُوَ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ، وَأَمَّا الْخَطَأُ فِي مَعْرِفَةِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ لَا يُجْعَلُ عَفْوًا.
وَقِيلَ يُجْعَلُ عُذْرًا أَيْضًا.
لَهُ أَنَّهُ قَطَعَ يَدًا مَعْصُومَةً وَالْخَطَأُ فِي حَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ فَيَضْمَنَا.
قُلْنَا إنَّهُ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ، إذْ لَيْسَ فِي النَّصِّ تَعْيِينُ الْيَمِينِ، وَالْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ مَوْضُوعٌ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مَعْصُومًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأْوِيلٍ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ فَلَا يُعْفَى وَإِنْ كَانَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ لِلشُّبْهَةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَتْلَفَ وَأَخْلَفَ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ إتْلَافًا كَمَنْ شَهِدَ عَلَى غَيْرِهِ بِبَيْعِ مَالِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَطَعَهُ غَيْرُ الْحَدَّادِ لَا يَضْمَنُ أَيْضًا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَسَارَهُ وَقَالَ هَذِهِ يَمِينِي لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ قَطْعَهُ بِأَمْرِهِ.
ثُمَّ فِي الْعَمْدِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ حَدًّا.
وَفِي الْخَطَأِ كَذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَعَلَى طَرِيقَةِ الِاجْتِهَادِ لَا يَضْمَنُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَمِينَ هَذَا السَّارِقِ) الْحَدَّادُ هُوَ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ فَعَّالٌ مِنْهُ كَالْجَلَّادِ مِنْ الْجَلْدِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ يَمِينَ هَذَا لِأَنَّهُ إذَا قَالَ اقْطَعْ يَدَهُ مُطْلَقًا فَقَطَعَ الْحَدَّادُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ.
فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ وَالْيُسْرَى يَدٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ مَا إذَا قَطَعَ الْيَمِينَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ اقْطَعْ.
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْيَدِ قَدْ سَقَطَتْ بِقَضَاءِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ.
فَالْقَاطِعُ اسْتَوْفَى يَدًا لَا قِيمَةَ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، لَكِنْ أَدَّبَهُ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ حِينَ قَطَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ الْإِمَامُ بِهِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (بِغَيْرِ حَقٍّ) دَلِيلُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْيَمِينِ فِي السَّرِقَةِ وَهُوَ أَيْضًا لَمْ يَقْطَعْ يَسَارَ أَحَدٍ لِيَكُونَ حَقُّ الْقَطْعِ الْيَسَارِ قِصَاصًا (وَلَا تَأْوِيلَ) حَيْثُ لَمْ يُخْطِئْ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَعَمَّدَ فِي قَطْعِ الْيَسَارِ (فَلَا يُعْفَى) كَمَا لَوْ قَطَعَ رِجْلَهُ أَوْ أَنْفَهُ (وَإِنْ كَانَ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ) لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُعَذَّرُ فِيمَا إذَا أَخْطَأَ إذَا كَانَ الدَّلِيلُ ظَاهِرًا كَالْحُكْمِ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا (وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ لِلشُّبْهَةِ) وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يُوجِبُ تَنَاوُلَ الْيَدَيْنِ جَمِيعًا فَصَارَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْقِصَاصِ، إذْ الْقِصَاصُ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ، بِخِلَافِ ضَمَانِ الْمَالِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) تَقْرِيرُهُ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مَعْصُومًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأْوِيلَ، لَكِنَّهُ أَخْلَفَ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ إتْلَافًا (وَعَلَى هَذَا) التَّقْرِيرِ (لَوْ قَطَعَهُ غَيْرُ الْحَدَّادِ) أَيْ لَوْ قَطَعَ يَسَارَ السَّارِقِ غَيْرُ الْحَدَّادِ بَعْدَ حُكْمِ الْقَاضِي بِقَطْعِ يَمِينِهِ (لَا يَضْمَنُ) شَيْئًا لِأَنَّ امْتِنَاعَ قَطْعِ الْيَمِينِ بَعْدَ قَطْعِ الْيَسَارِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَاطِعُ الْيَسَارِ مَأْمُورَ الْحَاكِمِ أَوْ أَجْنَبِيًّا غَيْرَ مَأْمُورٍ وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَقَالَ فِيهِ: وَلَوْ قَطَعَ غَيْرُهُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَإِنَّ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصَ وَفِي الْخَطَإِ الدِّيَةَ، وَسَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ فِي الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ أَدَّى إلَى الِاسْتِهْلَاكِ، وَيَرُدُّ السَّرِقَةَ إنْ كَانَ قَائِمًا وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ فِي الْهَالِكِ قَوْلُهُ وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَسَارَهُ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ ثُمَّ فِي الْعَمْدِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى السَّارِقِ (ضَمَانُ الْمَالِ) الْمَسْرُوقِ إنْ كَانَ هَالِكًا (لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ حَدًّا) وَإِنَّمَا خَصَّ أَبَا حَنِيفَةَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ بِالِاتِّفَاقِ دَفْعًا لِمَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ قَطْعَ الْيَسَارِ وَقَعَ حَدًّا عِنْدَهُ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْحَدَّادِ، فَأَزَالَ ذَلِكَ بِبَيَانِ وُجُوبِ الضَّمَانِ إيذَانًا بِأَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَقَعْ حَدًّا، إذْ الْقَطْعُ حَدًّا وَالضَّمَانُ لَا يَجْتَمِعَانِ وَعَدَمُ الضَّمَانِ عَلَى الْحَدَّادِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَخْلَفَ خَيْرًا لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَطْعَ وَقَعَ حَدًّا، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِهِمَا فَظَاهِرٌ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ لِأَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْحَدَّادَ فِي الْعَمْدِ فَلَا يَقَعُ الْقَطْعُ حَدًّا لَا مَحَالَةَ فَيَضْمَنُ السَّارِقُ لِعَدَمِ لُزُومِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالْقَطْعِ حَدًّا.
وَقَوْلُهُ (وَفِي الْخَطَإِ كَذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ) أَيْ عَلَى طَرِيقَةِ أَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَقَعْ حَدًّا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقَعْ حَدًّا لَمْ يُوجَدْ مَا يُنَافِي الضَّمَانَ وَالْمُقْتَضِي وَهُوَ الْإِتْلَافُ مَوْجُودٌ فَيَجِبُ الضَّمَانُ أَلْبَتَّةَ (وَعَلَى طَرِيقَةِ الِاجْتِهَادِ) الَّذِي قُلْنَا فِي طَرِيقِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ ضَمَانَ الْيَدِ عَلَى الْحَدَّادِ بَطَلَ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ (لَا يَضْمَنُ) السَّارِقُ الْمَالَ لِوُقُوعِ الْقَطْعِ مَوْقِعَ الْحَدِّ بِالِاجْتِهَادِ وَالضَّمَانُ وَالْقَطْعُ حَدًّا لَا يَجْتَمِعَانِ. (وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ فَيُطَالِبُ بِالسَّرِقَةِ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِخُصُومَتِهِ، وَكَذَا إذَا غَابَ عِنْدَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِ حُضُورِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَطَلَبِهِ السَّرِقَةَ لِلْقَطْعِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ حِسْبَةً كَالزِّنَا، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَنْبَنِي عَلَى الدَّعْوَى فِي الْحَالِ، فَمَا لَمْ يَحْضُرْ هُوَ أَوْ نَائِبُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ غَابَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ.
وَعِنْدَنَا حُضُورُهُ شَرْطٌ فِي الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ جَمِيعًا عِنْدَ الْأَدَاءِ وَعِنْدَ الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ لِقِيَامِ احْتِمَالِ رَدِّ الْإِقْرَارِ وَالْإِقْرَارُ لَهُ بِالْمِلْكِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَبِهِ تَنْتَفِي السَّرِقَةُ، وَكُلُّ مَا هُوَ شَرْطُ الشَّيْءِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ فَكَانَ الْقَطْعُ قَبْلَ حُضُورِهِ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ مَعَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَكَلَامُهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ خَلَا أَنَّ فِيهِ تَوَهُّمَ التَّكْرَارِ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِخُصُومَةٍ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِهَا: أَيْ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ وَهِيَ الْجِنَايَةُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ تَعْلِيلٌ لِاشْتِرَاطِ الْحُضُورِ، وَالثَّانِيَ لِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ قَدْ تَقَدَّمَ. (وَلِلْمُسْتَوْدَعِ وَالْغَاصِبِ وَصَاحِبِ الرِّبَا أَنْ يَقْطَعُوا السَّارِقَ مِنْهُمْ) وَلِرَبِّ الْوَدِيعَةِ أَنْ يَقْطَعَهُ أَيْضًا، وَكَذَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ.
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَوْدَعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُضَارِبُ وَالْمُسْتَبْضِعُ وَالْقَابِضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُرْتَهِنُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ يَدٌ حَافِظَةٌ سِوَى الْمَالِكِ، وَيُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ فِي السَّرِقَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ إنَّمَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْعَيْنِ بِدُونِهِ.
وَالشَّافِعِيُّ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ لَا خُصُومَةَ لِهَؤُلَاءِ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَهُ.
وَزُفَرُ يَقُولُ: وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةُ الْحِفْظِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ الصِّيَانَةِ.
وَلَنَا أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ فِي نَفْسِهَا، وَقَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ مُطْلَقًا إذْ الِاعْتِبَارُ لِحَاجَتِهِمْ إلَى الِاسْتِرْدَادِ فَيَسْتَوْفِي الْقَطْعَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْخُصُومَةِ إحْيَاءُ حَقِّهِ وَسُقُوطُ الْعِصْمَةِ ضَرُورَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِشُبْهَةٍ مَوْهُومَةِ الِاعْتِرَاضِ كَمَا إذَا حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمُؤْتَمَنُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ شُبْهَةُ الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الْحِرْزِ ثَابِتَةً.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَصَاحِبُ الرِّبَا) قِيلَ صُورَتُهُ: رَجُلٌ بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَقَبَضَهُ فَسُرِقَ مِنْهُ يُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَتِهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَاقِدَ الْآخَرَ مِنْ عَاقِدَيْ الرِّبَا فَكَأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مِلْكٌ وَلَا يَدٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ، بِخِلَافِ رَبِّ الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَهُمَا بَاقٍ (قَوْلُهُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ يَدٌ حَافِظَةٌ) يُرِيدُ مُتَوَلِّيَ الْوَقْفِ وَالْأَبَ وَالْوَصِيَّ، وَلَوْ سَرَقَ سَارِقٌ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ وَخَاصَمَ الْمَالِكُ قُطِعَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ السَّرِقَةُ مِنْ عِنْدِهِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ نُسَخُ الْهِدَايَةِ فِيهِ، فَفِي بَعْضِهَا إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ إنَّمَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِي بَعْضِهَا حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ.
وَاسْتَصْوَبَهُ الشَّارِحُونَ نَقْلًا وَعَقْلًا؛ أَمَّا نَقْلًا فَلِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ الْإِيضَاحِ وَالْمُحِيطِ.
قَالَ فِي الْمُحِيطِ: إذَا سُرِقَ الرَّهْنُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْطَعَهُ وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْطَعَهُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى أَخْذِ الرَّهْنِ.
قَالَ: وَإِنْ قَضَى الرَّاهِنُ الدَّيْنَ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ.
وَكَذَا فِي الْإِيضَاحِ.
وَأَمَّا عَقْلًا فَلِأَنَّ السَّارِقَ إنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ بِخُصُومَةِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ ذَلِكَ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّهْنِ الْمَرْهُونُ، وَالضَّمِيرُ فِي (بِدُونِهِ) رَاجِعٌ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَعَلَى النُّسْخَةِ الْأُولَى إلَى قِيَامِ الرَّهْنِ فَكَانَ شَرْطُ جَوَازِ الْقَطْعِ بِخُصُومَةِ الرَّاهِنِ أَمْرَيْنِ: قِيَامَ الْمَرْهُونِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ عَلَيْهِ لِبُطْلَانِ دَيْنِهِ عَنْهُ.
وَقَضَاءُ الدَّيْنِ لِحُصُولِ وِلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ حِينَئِذٍ، وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ اتَّفَقَا فِي الْحُكْمِ وَاخْتَلَفَا فِي تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ (فَالشَّافِعِيُّ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ لَا خُصُومَةَ لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَهُ) إذَا جَحَدَ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى خُصُومِهِمْ (وَزُفَرُ يَقُولُ: وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةُ الْحِفْظِ) وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا (فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي ظُهُورِهَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ (تَفْوِيتَ الصِّيَانَةِ) لِأَنَّ الْمَالَ مَضْمُونٌ عَلَى السَّارِقِ، فَلَوْ اسْتَوْفَى الْقَطْعَ سَقَطَ الضَّمَانُ فَيَكُونُ فِيهِ تَضْيِيعٌ لَا صِيَانَةٌ وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ (وَلَنَا أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ فِي نَفْسِهَا) وَهَذَا ظَاهِرٌ (وَ) السَّرِقَةُ (قَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ مُطْلَقًا) أَيْ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ، فَالْمُوجِبُ لِلْقَطْعِ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَإِنَّمَا قَالَ إنَّ الْخُصُومَةَ غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ (لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِرْدَادِ الْيَدِ) وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْمَالِكِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ خُصُومَةِ الْمَالِكِ لِحَاجَتِهِ إلَى إظْهَارِ السَّرِقَةِ لِإِعَادَةِ الْيَدِ عَلَى الْمَحَلِّ تَحْصِيلًا لِلْأَغْرَاضِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْيَدِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَؤُلَاءِ، أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُسْتَعِيرُ فَلِاحْتِيَاجِهِمَا إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمَحَلِّ، وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ وَالْمُودَعُ فَلِلرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ تَخْلِيصًا لِلذِّمَّةِ عَنْ عُهْدَةِ الضَّمَانِ وَالْتِزَامِ الْحِفْظِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخُصُومَةَ مُطْلَقَةٌ انْدَفَعَ مَا قَالَ زُفَرُ إنَّهَا ضَرُورَةُ الْحِفْظِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْخُصُومَةِ) أَيْ مَقْصُودُ صَاحِبِ الْيَدِ (إحْيَاءُ حَقِّ الْمَالِكِ وَسُقُوطُ) الضَّمَانِ بِسُقُوطِ (الْعِصْمَةِ) مِنْ ضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَكَانَ ضِمْنِيًّا وَالضِّمْنِيُّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ الصِّيَانَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِشُبْهَةٍ مَوْهُومَةِ الِاعْتِرَاضِ) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَنْ يُقَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ السَّارِقُ بِدُونِ حَضْرَةِ الْمَالِكِ كَمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةٍ قُبَيْلَ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَقَرَّ لِلسَّارِقِ بِالْمَسْرُوقِ.
وَتَوْجِيهُ الْجَوَابِ هَذِهِ شُبْهَةٌ مَوْهُومَةُ الِاعْتِرَاضِ فَلَا تُعْتَبَرُ (كَمَا إذَا حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمُؤْتَمَنُ) فَإِنَّ فِيهِ شُبْهَةً مَوْهُومَةً أَيْضًا وَهُوَ أَنْ يَحْضُرَ الْمُؤْتَمَنُ وَيَقُولَ إنَّهُ كَانَ ضَيْفًا عِنْدِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي سُرِقَ ذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ حُضُورَ الْمُؤْتَمَنِ بَلْ يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَيَّدَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازًا عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَالِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ حَالَ غَيْبَةِ الْمُودِعِ لِأَنَّ السَّارِقَ لَمْ يَسْرِقْ مِنْ الْمَالِكِ وَإِنَّمَا سُرِقَ مِنْ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالِبَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَبَيْنَ مَا إذَا أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ فِي غَيْبَةِ الْمَالِكِ حَيْثُ لَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يَحْضُرْ مَعَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ فِي نَفْسِهَا وَقَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ الْإِقْرَارُ مَوْجُودَةٌ وَشُبْهَةُ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ أَوْ الْإِقْرَارِ بِالْمَسْرُوقِ لِلسَّارِقِ مَوْهُومَةُ الِاعْتِرَاضِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقْطَعُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ السَّرِقَةُ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فَلَمْ تُؤَثِّرْ الشُّبْهَةُ فِي دَفْعِ الْعِلَّةِ عَنْ مُقْتَضَاهَا لِقُوَّتِهَا، بِخِلَافِ صُورَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ.
(وَإِنْ قُطِعَ سَارِقٌ بِسَرِقَةٍ فَسُرِقَتْ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا لِرَبِّ السَّرِقَةِ أَنْ يَقْطَعَ السَّارِقَ الثَّانِي) لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ السَّارِقِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ فَلَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا، وَلِلْأَوَّلِ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ فِي رِوَايَةٍ لِحَاجَتِهِ إذْ الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ (وَلَوْ سَرَقَ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُقْطَعَ الْأَوَّلُ أَوْ بَعْدَ مَا دُرِئَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْأَوَّلِ) لِأَنَّ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ ضَرُورَةُ الْقَطْعِ وَلَمْ يُوجَدْ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِنْ قُطِعَ سَارِقٌ بِسَرِقَةٍ) الْمَسْرُوقُ إذَا سُرِقَ مِنْ السَّارِقِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ قُطِعَ يَدُهُ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ: أَيْ لِلسَّارِقِ وَلَا لِلْمَالِكِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ السَّارِقِ الثَّانِي، أَمَّا السَّارِقُ فَلِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا (أَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا يَجِبَ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ فَلَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا) وَالثَّانِيَ أَنَّ يَدَهُ لَمْ تَبْقَ مِنْ الْأَيْدِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ مِلْكٍ وَضَمَانٍ الْوَدِيعَةٍ وَخُصُومَةٍ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْقَطْعِ وَأَمَّا الْمَالِكُ فَلِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِلْأَوَّلِ) أَيْ السَّارِقِ الْأَوَّلِ (وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ فِي رِوَايَةٍ لِحَاجَتِهِ إذْ الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ) وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ لِكَوْنِ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ عِبَارَةً عَنْ أَنْ تَكُونَ يَدَ مَالِكٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ أَمَانَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ كَانَ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ، وَكَذَا خُرُوجُ يَدِهِ عَنْ كَوْنِهَا يَدَ ضَمَانٍ كَانَ لِذَلِكَ وَقَدْ انْتَفَى ذَلِكَ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ وَالدَّرْءُ بِالشُّبْهَةِ لِعَدَمِ الْقَطْعِ هَاهُنَا وَلِهَذَا قَرَنَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا. (وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ قَبْلَ الِارْتِفَاعِ) إلَى الْحَاكِمِ (لَمْ يُقْطَعْ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا رَدَّهُ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ حُجَّةَ ضَرُورَةِ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ لِانْتِهَاءِ الْخُصُومَةِ لِحُصُولِ مَقْصُودِهَا فَتَبْقَى تَقْدِيرًا.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ) فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهَا (قَبْلَ الِارْتِفَاعِ إلَى الْحَاكِمِ) أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يُقْطَعْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا رَدَّهُ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ) بِجَامِعِ أَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْخُصُومَةِ فَكَانَ مَا قَبْلَ الِارْتِفَاعِ وَمَا بَعْدَهُ سَوَاءً (وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ حُجَّةً ضَرُورَةَ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ) يَعْنِي أَنَّ السَّرِقَةَ تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ ضَرُورَةِ قَطْعِ الْخُصُومَةِ وَقَطْعُ الْخُصُومَةِ بِدُونِهَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ (وَالْخُصُومَةُ قَدْ انْقَطَعَتْ) بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ فَشَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ قَدْ انْقَطَعَ، وَإِذَا انْقَطَعَ شَرْطُ ظُهُورِهَا انْقَطَعَ ظُهُورُهَا وَلَا قَطْعَ بِدُونِ ظُهُورِهَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ قُطِعَ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَنْقَطِعْ بَلْ انْتَهَى بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِرْدَادُ الْمَالِ إلَى الْمَالِكِ، وَالشَّيْءُ يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ لَا أَنَّهُ يَبْطُلُ كَالنِّكَاحِ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ لَا أَنَّهُ يَبْطُلُ، لَكِنَّهَا أَعْنِي الْخُصُومَةَ تُجْعَلُ بَاقِيَةً تَقْدِيرًا لِاسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ، وَالرَّدُّ إلَى ابْنِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَإِلَى أَخِيهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ وَهُمْ فِي عِيَالِهِ وَكَذَا إلَى امْرَأَتِهِ أَوْ أَجِيرِهِ مُشَاهَرَةً أَوْ عَبْدِهِ، وَكَذَا الرَّدُّ إلَى أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ جَدِّهِ سَوَاءٌ كَانُوا فِي عِيَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَالرَّدِّ إلَى نَفْسِهِ اسْتِحْسَانًا. (وَإِذَا قُضِيَ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ فَوُهِبَتْ لَهُ لَمْ يُقْطَعْ) مَعْنَاهُ إذَا سُلِّمَتْ إلَيْهِ (وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا الْمَالِكُ إيَّاهُ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتْ انْعِقَادًا وَظُهُورًا، وَبِهَذَا الْعَارِضِ لَمْ يَتَبَيَّنْ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ السَّرِقَةِ فَلَا شُبْهَةَ.
وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالِاسْتِيفَاءِ، إذْ الْقَضَاءُ لِلْإِظْهَارِ وَالْقَطْعُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهَا مِنْهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِالْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ فَوَهَبَهُ الْمَالِكُ) وَسَلَّمَهُ إيَّاهُ (أَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ لَمْ يُقْطَعْ) وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ كَلَامَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ إذَا سُلِّمَتْ لِأَنَّ الْهِبَةَ إذَا لَمْ تَتَّصِلْ بِالتَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ لَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ (وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، قَالُوا: لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتْ انْعِقَادًا) بِأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ إذْ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي ذَلِكَ (وَظُهُورًا) لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ قَضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِهَا (وَبِهَذَا الْعَارِضِ) يَعْنِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلسَّارِقِ بِسَبَبِ الْهِبَةِ أَوْ الْبَيْعِ (لَمْ يَتَبَيَّنْ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ السَّرِقَةِ) لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِهِمَا إنَّمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، وَهَذَا احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا أَقَرَّ بِهِ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ لِلسَّارِقِ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ يَظْهَرُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُقِرِّ لَهُ مِنْ الْمِلْكِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلسَّارِقِ وَقْتَ وُجُودِ السَّرِقَةِ فَيَكُونُ شُبْهَةً (وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ) يَعْنِي أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِ الْقَاضِي حَكَمْت أَوْ قَضَيْت بِالْقَطْعِ أَوْ بِالرَّجْمِ أَوْ بِالْحَدِّ (فِي هَذَا الْبَابِ) يَعْنِي بَابَ الْحُدُودِ (لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْقَضَاءِ (بِالِاسْتِيفَاءِ) يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يُغْنِي غِنَاءَهُ: أَيْ لَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ (لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِلْإِظْهَارِ) وَلَا إظْهَار هَاهُنَا (لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَهُ) فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ الِاسْتِيفَاءُ قَضَاءً فِي هَذَا الْبَابِ لَعَرَى عَنْ الْفَائِدَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ بَاطِلٌ.
بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فِيهَا يُفِيدُ إظْهَارَ الْحَقِّ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِ الْإِمْضَاءِ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ، وَهَذَا فِقْهُ تَفْوِيضِ اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ إلَى الْأَئِمَّةِ دُونَ سَائِرِ الْحُقُوقِ (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) أَيْ إذَا كَانَ الْإِمْضَاءُ مِنْ الْقَضَاءِ (يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ) كَمَا يُشْتَرَطُ وَقْتَ ابْتِدَاءِ الْقَاضِي الْقَضَاءَ وَقَدْ انْتَفَى ذَلِكَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَهَذَا لِأَنَّ مَا يَكُونُ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ يُرَاعَى وُجُودُهُ إلَى وَقْتِ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ بِدَلِيلِ الْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالرِّدَّةِ وَالْفِسْقِ فِي الشُّهُودِ، فَإِنَّ الْحُدُودَ لَا تُسْتَوْفَى إذَا كَانَتْ الشُّهُودُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ وَقَوْلُهُ (وَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ) يَعْنِي صَارَ الْمِلْكُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمِلْكِ الْحَادِثِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُمْ الْخُصُومَةَ بَاقِيَةً تَقْدِيرًا فِي صُورَةِ رَدِّ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِيفَاءُ ثَمَّةَ مِنْ الْقَضَاءِ حَتَّى أَوْجَبْتُمْ الْقَطْعَ، وَهَاهُنَا جَعَلْتُمْ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحَدِّ وَجَعَلْتُمْ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ دَافِعًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَمَا ذَلِكَ إلَّا تَنَاقُضٌ صِرْفٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُطْلَقًا، لَكِنْ فِي صُورَةِ الرَّدِّ لَمْ يَحْصُلْ بِالرَّدِّ سَرَى الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ، وَهَاهُنَا حَدَثَ بَيْنَهُمَا تَصَرُّفٌ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ وَكَانَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ. قَالَ (وَكَذَا إذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا مِنْ النِّصَابِ) يَعْنِي قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ.
وَلَنَا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا يُشْتَرَطُ قِيَامُهُ عِنْدَ الْإِمْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ النُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَكَمُلَ النِّصَابُ عَيْنًا وَدَيْنًا، كَمَا إذَا اُسْتُهْلِكَ كُلُّهُ، أَمَّا نُقْصَانُ السِّعْرِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
(وَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا مِنْ النِّصَابِ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَوَهَبْت لَهُ.
وَقَوْلُهُ (يَعْنِي قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ) بَيَانٌ لِذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَانَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ.
وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ) يَعْنِي بِأَنْ هَلَكَ دِرْهَمٌ مِنْ الْعَشَرَةِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ السَّرِقَةِ وَيَوْمَ الْقَطْعِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَطْعِ فِي الْعَيْنِ لَمْ يَمْنَعْ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ لِتَرَاجُعِ السِّعْرِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ اعْتِبَارًا بِالْأَوَّلِ بِجَامِعِ وُجُودِ سَرِقَةِ النِّصَابِ فِيهِمَا.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ (أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا) فِي الِابْتِدَاءِ (يُشْتَرَطُ قِيَامُهُ عِنْدَ الْإِمْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا) أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ (أَنَّ النُّقْصَانَ فِي الْعَيْنِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى السَّارِقِ وَالضَّمَانُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَضْمُونِ فَكَانَ النِّصَابُ كَامِلًا عَيْنًا وَقْتَ الْأَخْذِ وَدَيْنًا وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ (كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَ كُلَّهُ، أَمَّا نُقْصَانُ السِّعْرِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ) فَكَانَ النِّصَابُ نَاقِصًا عِنْدَ الْقَطْعِ فَصَارَ شُبْهَةً (فَافْتَرَقَا). (وَإِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ مِلْكُهُ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِالسَّرِقَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ سَارِقٌ فَيُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ.
وَلَنَا أَنَّ الشُّبْهَةَ دَارِئَةٌ وَتَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِلِاحْتِمَالِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا قَالَ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ مِلْكُهُ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ) وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (مَعْنَاهُ بَعْدَمَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِالسَّرِقَةِ) وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِالِاتِّفَاقِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِإِفْضَائِهِ إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ حَيْثُ لَا يَعْجِزُ سَارِقٌ عَنْ ذَلِكَ.
وَلَنَا أَنَّ الشُّبْهَةَ دَارِئَةٌ وَ) الشُّبْهَةُ (تَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى) لِاحْتِمَالِ الصِّدْقِ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا قَالَ) إنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ سَارِقٌ (بِدَلِيلِ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ صَحِيحٌ) وَمَا مِنْ مُقِرٍّ إلَّا وَيَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ فَكَذَا هَذَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ وَالْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ لِمَا عُرِفَ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُورِثُ الشُّبْهَةِ فِي الْحُجَّةِ الْقَاصِرَةِ مُورِثًا لَهَا فِي الْكَامِلَةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَمَالَ وَالْقُصُورَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّعَدِّي إلَى الْغَيْرِ وَعَدَمِهِ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقِرِّ فَهُمَا سَوَاءٌ. (وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلَانِ بِسَرِقَةٍ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ مَالِي لَمْ يُقْطَعَا) لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَامِلٌ فِي حَقِّ الرَّاجِعِ وَمُورِثٌ لِلشُّبْهَةِ فِي حَقِّ الْآخَرِ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى الشَّرِكَةِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلَانِ بِسَرِقَةٍ) مَبْنَاهُ عَلَى صِحَّةِ الرُّجُوعِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَامِلٌ فِي حَقِّ الرَّاجِعِ) يَعْنِي لِعَدَمِ الْمُكَذِّبِ (وَمُورِثٌ لِلشُّبْهَةِ فِي حَقِّ الْآخَرِ لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى الشَّرِكَةِ) فَيَكُونُ فِعْلًا وَاحِدًا. (فَإِنْ سَرَقَا ثُمَّ غَابَ أَحَدُهُمَا وَشَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى سَرِقَتِهِمَا قُطِعَ الْآخَرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا) وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ رُبَّمَا يَدَّعِي الشُّبْهَةَ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ عَلَى الْغَائِبِ فَيَبْقَى مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَوَهُّمِ حُدُوثِ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا مَرَّ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ رُبَّمَا يَدَّعِي الشُّبْهَةَ) يَعْنِي وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْحَاضِرِ، فَلَوْ قَطَعْنَا الْحَاضِرَ قَطَعْنَاهُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ (وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ عَلَى الْغَائِبِ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الْغَائِبَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَأَنَّهُ مَعْدُومٌ (وَالْمَعْدُومُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ) فِي حَقِّ الْمَوْجُودِ وَهَذَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هِيَ الْمُحَقَّقَةُ الْمَوْجُودَةُ لَا الْمَوْهُومَةُ (عَلَى مَا مَرَّ) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِشُبْهَةٍ مَوْهُومَةِ الِاعْتِرَاضِ. (وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَتُرَدُّ السَّرِقَةُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْطَعُ وَالْعَشَرَةُ لِلْمَوْلَى.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُقْطَعُ وَالْعَشَرَةُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.
وَمَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُ الْمَوْلَى (وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ قُطِعَتْ يَدُهُ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ يُقْطَعُ فِي الْوَجْهَيْنِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُقْطَعُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَرِدُ عَلَى نَفْسِهِ وَطَرَفِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلَّا أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ وَالْمَالِ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِهِ لِكَوْنِهِ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ.
وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ أَيْضًا، وَنَحْنُ نَقُولُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِيَّةِ فَيَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَضْرَارِ، وَمِثْلُهُ مَقْبُولٌ عَلَى الْغَيْرِ.
لِمُحَمَّدٍ فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ بَاطِلٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْغَصْبِ فَيَبْقَى مَالُ الْمَوْلَى، وَلَا قَطْعَ عَلَى الْعَبْدِ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْمَوْلَى.
يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَالَ أَصْلٌ فِيهَا وَالْقَطْعُ تَابِعٌ حَتَّى تُسْمَعَ الْخُصُومَةُ فِيهِ بِدُونِ الْقَطْعِ وَيَثْبُتُ الْمَالُ دُونَهُ، وَفِي عَكْسِهِ لَا تُسْمَعُ وَلَا يَثْبُتُ، وَإِذَا بَطَلَ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ بَطَلَ فِي التَّبَعِ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ صَحِيحٌ فَيَصِحُّ فِي حَقِّ الْقَطْعِ تَبَعًا.
وَلِأَبِي يُوسُف أَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ: بِالْقَطْعِ وَهُوَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَصِحُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَبِالْمَالِ وَهُوَ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ فِيهِ، وَالْقَطْعُ يُسْتَحَقُّ بِدُونِهِ؛ كَمَا إذَا قَالَ الْحُرُّ الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ سَرَقْته مِنْ عَمْرٍو وَزَيْدٌ يَقُولُ هُوَ ثَوْبِي يُقْطَعُ يَدُ الْمُقِرِّ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَدَّقُ فِي تَعْيِينِ الثَّوْبِ حَتَّى لَا يُؤْخَذَ مِنْ زَيْدٍ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَطْعِ قَدْ صَحَّ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا فَيَصِحُّ بِالْمَالِ بِنَاءً عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يُلَاقِي حَالَةَ الْبَقَاءِ، وَالْمَالُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ تَابِعٌ لِلْقَطْعِ حَتَّى تَسْقُطَ عِصْمَةُ الْمَالِ بِاعْتِبَارِهِ وَيُسْتَوْفَى الْقَطْعُ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ.
بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَجِبُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ الْمُودَعِ.
أَمَّا لَا يَجِبُ بِسَرِقَةِ الْعَبْدِ مَالَ الْمَوْلَى فَافْتَرَقَا وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى يُقْطَعُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِزَوَالِ الْمَانِعِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ مَالٍ) إذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَوْ مُسْتَهْلَكًا، وَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى أَوْ صَدَّقَهُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ يُقْطَعُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَالثَّلَاثَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ بِمَالٍ قَائِمٍ أَوْ مُسْتَهْلَكٍ، وَيُرَدُّ الْقَائِمُ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ مُسْتَهْلَكٍ قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ قَائِمٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْطَعُ يَدُهُ وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى.
حُكِيَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت أُسْتَاذِي ابْنَ أَبِي عِمْرَانَ يَقُولُ: الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
فَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَخَذَ بِهِ مُحَمَّدٌ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، فَأَخَذَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَطْعَ أَصْلٌ أَوْ الْمَالَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَطْعُ أَصْلٌ وَالْمَالُ تَابِعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَبْغِي الْمَالَ وَلَا أَبْغِي الْقَطْعَ لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: كُلٌّ مِنْهُمَا أَصْلٌ، أَمَّا أَصَالَةُ الْقَطْعِ فِيمَا قَالُوا فِي الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ وَقَالَ سَرَقْت هَذَا الْمَالَ مِنْ زَيْدٍ وَهُوَ فِي يَدِ عَمْرٍو وَكَذَّبَهُ عَمْرٌو، وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ دُونَ الْمَالِ، وَأَمَّا أَصَالَةُ الْمَالِ فَلِأَنَّهُ إذَا سَرَقَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يُقْطَعُ وَالْخُصُومَةُ شَرْطٌ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَالَ أَصْلٌ لَوَجَبَ الْقَطْعُ بِدُونِهَا لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يُسْتَوْفَى بِلَا طَلَبٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَالُ أَصْلٌ وَالْقَطْعُ تَبَعٌ، وَوَجْهُهُ وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ فِي أَصَالَةِ الْمَالِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ مَا فِي الْكِتَابِ سِوَى أَلْفَاظٍ نُبَيِّنُهَا، فَقَوْلُهُ (فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَوْ مُسْتَهْلَكًا.
وَقَوْلُهُ (فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ، وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَوْ مُسْتَهْلَكًا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى نَفْسِهِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِقَتْلِ الْغَيْرِ عَمْدًا (أَوْ طَرَفِهِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ.
وَقَوْلُهُ (يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ) يَعْنِي فِي الْمُسْتَهْلَكِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَالُ) يَعْنِي إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ.
وَقَوْلُهُ (مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آدَمِيٌّ مُخَاطَبٌ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ، وَالْعَبْدُ فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ فَإِقْرَارُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّ كَإِقْرَارِ الْحُرِّ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَمَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الْإِقْرَارَ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ فَالْعَبْدُ فِيهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْحُرِّ كَالطَّلَاقِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِيَّةِ فَيَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ) يَعْنِي لَمَا صَحَّ إقْرَارُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ يَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ أَيْضًا بِالسِّرَايَةِ إلَيْهَا لِأَنَّ آدَمِيَّتَهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ مَالِيَّتِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْعَبْدِ (مِنْ الْأَضْرَارِ) لِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِاسْتِيفَاءِ الْعُقُوبَةِ مِنْهُ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ الْمَوْلَى (وَمِثْلُهُ مَقْبُولٌ عَلَى الْغَيْرِ) أَيْ وَمِثْلُ مَا كَانَ ضَرَرُ الْإِقْرَارِ فِيهِ سَارِيًا إلَى الْمُقِرِّ وَإِلَى الْغَيْرِ يُسْمَعُ عَلَى الْغَيْرِ أَيْضًا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِانْعِدَامِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ فِي ذَلِكَ الْإِقْرَارِ، كَمَا إذَا شَهِدَ الْوَاحِدُ عِنْدَ الْإِمَامِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَفِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ يَقْبَلُ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ حَيْثُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ كَمَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ الْمَدْيُونُ الْمُفْلِسُ إذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا قَطْعَ عَلَى الْعَبْدِ فِي سَرِقَتِهِ) أَيْ فِي سَرِقَةِ مَالِ مَوْلَاهُ.
وَقَوْلُهُ (يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَالَ أَصْلٌ فِيهَا) إشَارَةٌ إلَى مَا مَهَّدْنَا مِنْ الْأَصْلِ.
وَقَوْلُهُ (حَتَّى تُسْمَعَ فِيهِ الْخُصُومَةُ بِدُونِ الْقَطْعِ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَطْلُبُ مِنْهُ الْمَالَ دُونَ الْقَطْعِ وَيَثْبُتُ الْمَالُ دُونَهُ كَمَا إذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ رَجَعَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَالَ وَلَا يُقْطَعُ (وَفِي عَكْسِهِ) بِأَنْ قَالَ أَطْلُبُ الْقَطْعَ دُونَ الْمَالِ (لَا تُسْمَعُ) الْخُصُومَةُ (وَلَا يَثْبُتُ) الْقَطْعُ دُونَ الْمَالِ.
وَقَوْلُهُ (فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ فِيهِ) أَيْ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فِي الْمَالِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْقَطْعُ يُسْتَحَقُّ بِدُونِهِ) أَيْ بِدُونِ الْمَالِ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ كَمَا إذَا شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْقَطْعُ دُونَ الْمَالِ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ.
قَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ.
وَقَوْلُهُ (فَيَصِحُّ بِالْمَالِ بِنَاءً عَلَيْهِ) أَيْ لِمَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ أَنَّهُ لِغَيْرِ الْمَوْلَى بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالْقَطْعِ لِمَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ أَصْلِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يُلَاقِي حَالَةَ الْبَقَاءِ) يُرِيدُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالشَّيْءِ إظْهَارُ أَمْرٍ قَدْ كَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا عَلَى الْإِخْبَارِ.
وَقَوْلُهُ (حَتَّى تَسْقُطُ) بِالرَّفْعِ لِأَنَّ حَتَّى بِمَعْنَى الْفَاءِ.
قَوْلُهُ (بِاعْتِبَارِهِ) أَيْ بِاعْتِبَارِ الْقَطْعِ لِمَا يَجِيءُ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الضَّمَانِ، ثُمَّ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ وَالتَّقَوُّمُ فِي حَقِّ السَّارِقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلًا لَمَا تَغَيَّرَ حَالُهُ مِنْ التَّقَوُّمِ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ مَقْصُودِيَّتَهُ إنَّمَا تَكُونُ بِالتَّقَوُّمِ، وَكَذَلِكَ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، إذْ لَا وُجُودَ لِلتَّابِعِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْأَصْلِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحُرِّ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ بِقَوْلِهِ إذَا قَالَ الْحُرُّ الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ إلَخْ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْحُرَّ لَمَّا لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُ سَرَقْته مِنْ عَمْرٍو فِي حَقِّ الرَّدِّ إلَى عَمْرٍو لَا يَلْزَمُهُ عَدَمُ الْقَطْعِ، بَلْ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمُقَرَّ لَهُ وَهُوَ عَمْرٌو بِمَنْزِلَةِ الْمُودِعِ فَلَا يُوجِبُ رَدَّ الْمَالِ إلَيْهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ السَّارِقَ إذَا سَرَقَ الْمَالَ مِنْ الْمُودَعِ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ إلَيْهِ الْمَالَ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَوْ لَمْ يَرُدَّ الْمَالَ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَالُ مَالَ الْمَوْلَى.
فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا سَرَقَ مَالَ الْمَوْلَى لَا تُقْطَعُ يَدُهُ.
ثُمَّ اتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ عَلَى قَطْعِ يَدِ الْعَبْدِ، فَقَدْ جَعَلَاهُ سَارِقًا مَالَ غَيْرِ الْمَوْلَى فَيَرُدُّ إلَى الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى) قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ. قَالَ (وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ رُدَّتْ عَلَى صَاحِبِهَا) لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ (وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً لَمْ يَضْمَنْ) وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَشْمَلُ الْهَلَاكَ وَالِاسْتِهْلَاكَ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ قَدْ اخْتَلَفَ سَبَبَاهُمَا فَلَا يَمْتَنِعَانِ فَالْقَطْعُ حَقُّ الشَّرْعِ وَسَبَبُهُ تَرْكُ الِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ.
وَالضَّمَانُ حَقُّ الْعَبْدِ وَسَبَبُهُ أَخْذُ الْمَالِ فَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فِي الْحَرَمِ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ مَمْلُوكَةٍ لِذِمِّيٍّ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ» وَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يُنَافِي الْقَطْعَ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ وَمَا يُؤَدِّي إلَى انْتِفَائِهِ فَهُوَ الْمُنْتَفِي، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَبْقَى مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ، إذْ لَوْ بَقِيَ لَكَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ فَيَصِيرُ مُحَرَّمًا حَقًّا لِلشَّرْعِ كَالْمَيْتَةِ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا يَظْهَرُ سُقُوطُهَا فِي حَقِّ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ آخَرُ غَيْرِ السَّرِقَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا الشُّبْهَةُ تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ السَّبَبُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إتْمَامُ الْمَقْصُودِ فَتُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ فِيهِ، وَكَذَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ سُقُوطِهَا فِي حَقِّ الْهَلَاكِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (كَاسْتِهْلَاكِ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فِي الْحَرَمِ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ لِلْمَالِكِ وَقِيمَةٌ أُخْرَى جَزَاءَ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ (أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلذِّمِّيِّ) يَعْنِي عَلَى أَصْلِكُمْ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْخَمْرِ بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا يَجِبُ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ لِلذِّمِّيِّ (وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ») لَا يُقَالُ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً لَا تُرَدُّ إلَى صَاحِبِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى غُرْمًا.
وَقَوْلُهُ (وَمَا يُؤَدِّي إلَى انْتِفَائِهِ) إنَّمَا كَانَ مَا يُؤَدِّي إلَى انْتِفَائِهِ هُوَ الْمُنْتَفِي لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ (إذْ لَوْ بَقِيَ) يَعْنِي مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ (لَكَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ) لِأَنَّهُ عَرَفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ مَا هُوَ حَرَامٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَهُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ وَكَانَ الْمَالُ لِلسَّارِقِ حَرَامًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ (فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ) إذْ الشُّبْهَةُ هُوَ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَحِينَئِذٍ يُدْرَأُ بِالْحَدِيثِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ يَصِيرُ مُحَرَّمًا (حَقًّا لِلشَّرْعِ كَالْمَيْتَةِ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ) وَهَذَا مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا صَارَتْ الْمَالِيَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَحَلِّ لَمْ يَبْقَ لِلْعَبْدِ فَالْتُحِقَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَكِنْ هَذَا لَا يَتَقَرَّرُ إلَّا بِاسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ لَا مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَتَمَامُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَخْذِ مُرَاعًى إنْ اسْتَوْفَى بِهِ الْقَطْعَ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْعَبْدِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ تَبَيَّنَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ كَانَ لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ الْعِصْمَةُ لَمَّا انْتَقَلَتْ لِلَّهِ تَعَالَى وَصَارَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ كَالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِيهِ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ إنَّمَا كَانَ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ الْقَطْعِ، وَمَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّهَا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى فِعْلٍ آخَرَ هُوَ الِاسْتِهْلَاكُ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقَطْعَ وَلَا مِنْ لَوَازِمِهِ (وَكَذَا الشُّبْهَةُ) وَهُوَ كَوْنُهُ حَرَامًا لِغَيْرِهِ (تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ السَّبَبُ) وَهُوَ السَّرِقَةُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الشُّبْهَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِجَعْلِ السَّبَبِ فِي الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ غَيْرَ مُوجِبٍ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ وَالِاسْتِهْلَاكُ لَيْسَ بِسَبَبٍ فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشُّبْهَةُ (وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ) وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ كَمَا فِي الْهَلَاكِ (أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إتْمَامُ الْمَقْصُودِ) بِالسَّبَبِ وَهُوَ السَّرِقَةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَرَقَ لِيَصْرِفَهُ إلَى بَعْضِ حَوَائِجِهِ فَكَانَ تَتِمَّةً لِلسَّبَبِ لَا أَنَّهُ فِعْلٌ آخَرُ (فَتُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ فِيهِ) لِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ كَاعْتِبَارِهَا فِي نَفْسِ السَّبَبِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ سُقُوطِهَا فِي حَقِّ الْهَلَاكِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ لِأَنَّ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فِي فَصْلِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ فِي فَصْلِ الْهَلَاكِ.
وَأَقُولُ: مَعْنَاهُ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ سُقُوطِهَا فِي الْهَلَاكِ وَالْمَلْزُومُ ثَابِتٌ فَاللَّازِمُ كَذَلِكَ، وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَتْ الْعِصْمَةُ بَاقِيَةً فِي الِاسْتِهْلَاكِ مُوجِبَةً وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَسْتَوْجِبُ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَضْمُونِ وَالْمَضْمُونِ بِهِ بِالنَّصِّ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ بِهِ مَالٌ مَعْصُومٌ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، حَتَّى لَوْ غَصَبَهُ أَحَدٌ ضَمِنَهُ هَلَكَ عِنْدَهُ أَوْ اسْتَهْلَكَ، وَالْمَضْمُونُ وَهُوَ الْمَسْرُوقُ مَعْصُومٌ فِي الِاسْتِهْلَاكِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ دُونَ الْهَلَاكِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَعْصُومِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَالْمَعْصُومِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ لِأَنَّهُ أَيْ لِأَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ مِنْ ضَرُورَاتِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ: يَعْنِي أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ سُقُوطُ الضَّمَانِ.
وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَسْرُوقِ وَضَمَانِهِ فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ سَاقِطُ الْعِصْمَةِ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ حَقًّا لِلشَّرْعِ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ.
وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ السَّارِقِ مَالٌ مَعْصُومٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ لِعَيْنِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِانْتِفَاءِ الْمُعَادَلَةِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُهُ فَتَأَمَّلْ. قَالَ (وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَاتٍ فَقُطِعَ فِي إحْدَاهَا فَهُوَ لِجَمِيعِهَا، وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا: يَضْمَنُ كُلَّهَا إلَّا الَّتِي قُطِعَ لَهَا) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا حَضَرَ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا وَقُطِعَتْ يَدُهُ لِخُصُومَتِهِمْ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا بِالِاتِّفَاقِ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا.
لَهُمَا أَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُصُومَةِ لِتَظْهَرَ السَّرِقَةُ فَلَمْ تَظْهَرْ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَائِبَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ الْقَطْعُ لَهَا فَبَقِيَتْ أَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةً.
وَلَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكُلِّ قَطْعٌ وَاحِدٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ وَالْخُصُومَةُ شَرْطٌ لِلظُّهُورِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِذَا اسْتَوْفَى فَالْمُسْتَوْفَى كُلُّ الْوَاجِبِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَرْجِعُ نَفْعُهُ إلَى الْكُلِّ فَيَقَعُ عَنْ الْكُلِّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَتْ النُّصُبُ كُلُّهَا لِوَاحِدٍ فَخَاصَمَ فِي الْبَعْضِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَاتٍ فَقُطِعَ فِي إحْدَاهَا فَهُوَ بِجَمِيعِهَا) كَلَامُهُ وَاضِحٍ وَقَوْلُهُ (لَهُمَا أَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ) تَقْرِيرُهُ الْحَاضِرُ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ، وَمَنْ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ لَيْسَ لَهُ الْخُصُومَةُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُصُومَةِ لِأَنَّهَا شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ فَلَمْ تَظْهَرْ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَائِبِينَ فَلَمْ يَقَعْ الْقَطْعُ لَهَا، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْقَطْعُ لَهَا بَقِيَتْ أَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةً وَالْمَالُ الْمَعْصُومُ مَضْمُونٌ لَا مَحَالَةَ (وَلَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكُلِّ) أَيْ بِكُلِّ السَّرِقَاتِ (قَطْعٌ وَاحِدٌ) لِأَنَّهُ يَجِبُ (حَقًّا لِلَّهِ) وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَدَاخَلُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ (وَالْخُصُومَةُ شَرْطُ الظُّهُورِ عِنْدَ الْحَاكِمِ) وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُرَاعَى وُجُودُهُ لَا وُجُودُهُ قَصْدًا (فَإِذَا اسْتَوْفَى) يَعْنِي ذَلِكَ الْقَطْعَ الْوَاحِدَ (فَالْمُسْتَوْفَى كُلُّ الْوَاجِبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَفْعَهُ) وَهُوَ الِانْزِجَارُ يَرْجِعُ إلَى الْكُلِّ.
فَإِنْ قِيلَ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ ضِمْنًا لَا يَرْبُو عَلَى الثَّابِتِ صَرِيحًا، وَالْقَطْعُ يَتَضَمَّنُ الْبَرَاءَةَ عَنْ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْوَاحِدُ عَنْ ضَمَانِ الْكُلِّ نَصًّا لَمْ يَبْرَأْ فَكَيْفَ يَبْرَأُ إذَا ثَبَتَ ضِمْنًا؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا كَبَيْعِ الشُّرْبِ وَوَقْفِ الْمَنْقُولِ، ثُمَّ هَاهُنَا لَمَّا وَقَعَ الْقَطْعُ فِي حَقِّ الْكُلِّ بِالْإِجْمَاعِ تَبِعَهُ مَا هُوَ الثَّابِتُ فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ سُقُوطُ الضَّمَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ الْقَطْعِ بِجَمِيعِ السَّرِقَاتِ بِالْإِجْمَاعِ، فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الضَّمَانِ.
فَالْقَوْلُ بِالضَّمَانِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ فَذَلِكَ تَنَاقُضٌ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ النُّصُبُ كُلُّهَا لِوَاحِدٍ) يَعْنِي لَوْ سَرَقَ النُّصُبَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَخَاصَمَ فِي الْبَعْضِ فَقُطِعَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ النُّصُبَ الْبَاقِيَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ