فصل: (فَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِهِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِهِ):

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَإِنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا وَلَا يَلْمِسُهَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» أَفَادَ وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمَوْلَى، وَدَلَّ عَلَى السَّبَبِ فِي الْمَسْبِيَّةِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ حَقِيقَةِ الشُّغْلِ أَوْ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ إرَادَةُ الْوَطْءِ، وَالْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ دُونَ الْبَائِعِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِرَادَةَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ وَالتَّمَكُّنُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ وَالْيَدِ فَانْتَصَبَ سَبَبًا وَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ تَيْسِيرًا، فَكَانَ السَّبَبُ اسْتِحْدَاثَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ الْمُؤَكَّدِ بِالْيَدِ وَتَعَدِّي الْحُكْمِ إلَى سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِهِ:
أَخَّرَ الِاسْتِبْرَاءَ لِأَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ وَطْءٍ مُقَيَّدٍ وَالْمُقَيَّدُ بَعْدَ الْمُطْلَقِ يُقَالُ اسْتِبْرَاءُ الْجَارِيَةِ أَيْ طَلَبُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْ الْحَمْلِ.
وَأَوْطَاسُ مَوْضِعٌ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ، كَانَتْ بِهِ وَقْعَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ، وَلَهُ سَبَبٌ وَعِلَّةٌ وَحِكْمَةٌ.
أَمَّا وُجُوبُهُ فَبِحَدِيثِ سَبَايَا أَوْطَاسٍ: «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ».
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ أَبْلَغَ نَهْيٍ مَعَ وُجُودِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَهُ وَالْيَدِ الْمُمَكَّنَةِ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْوُجُوبِ.
وَأَمَّا سَبَبُهُ فَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ.
وَأَمَّا عِلَّتُهُ فَهِيَ إرَادَةُ الْوَطْءِ.
فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي مَحَلٍّ فَارِغٍ فَيُوجِبُ مَعْرِفَةَ فَرَاغِهِ.
وَأَمَّا حِكْمَتُهُ فَهُوَ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ حَقِيقَةِ الشَّغْلِ أَوْ تَوَهُّمِهِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ بِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَغِيٍّ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ الْحَامِلَ مِنْ الزِّنَا لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا حَمْلًا لِلْحَالِ عَلَى الصَّلَاحِ، أَمَّا الْحِكْمَةُ فَلَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لِتَأَخُّرِهَا عَنْهُ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ هَاهُنَا فَكَذَلِكَ.
لِأَنَّ الْإِرَادَةَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ يَسْتَحْدِثُ الْمِلْكَ قَدْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِ الْإِرَادَةِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ، فَإِنَّ صَحِيحَ الْمِزَاجِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ أَرَادَهُ وَالتَّمَكُّنُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ وَالْيَدِ فَانْتَصَبَ سَبَبًا وَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وُجُودًا وَعَدَمًا تَيْسِيرًا.
هَذَا فِي الْمُسَبَّبَةِ، ثُمَّ تَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْخُلْعِ بِأَنْ جَعَلَتْ الْأَمَةَ بَدَلَ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ بِأَنْ جَعَلَتْ الْأَمَةَ بَدَلًا فِيهَا. وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَمِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَمْلُوكِ وَمِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمُشْتَرَاةُ بِكْرًا لَمْ تُوطَأْ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَإِدَارَةِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ دُونَ الْحُكْمِ لِبُطُونِهَا فَيُعْتَبَرُ تَحَقُّقُ السَّبَبِ عِنْدَ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ.
وَكَذَا لَا يُجْتَزَأُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا فِي أَثْنَائِهَا وَلَا بِالْحَيْضَةِ الَّتِي حَاضَتْهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا بِالْوِلَادَةِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ، وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ، وَكَذَا لَا يُجْتَزَأُ بِالْحَاصِلِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَلَا بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا شِرَاءً صَحِيحًا لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
فَإِنْ قِيلَ: الْمُوجِبُ وَرَدَ فِي الْمَسْبِيَّةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِتَحَقُّقِ الْمُطْلَقِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَهَلَّا يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ غَيْرَهَا فِي مَعْنَاهَا حِكْمَةً وَعِلَّةً وَسَبَبًا فَأُلْحِقَ بِهَا دَلَالَةً.
وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا قُلْنَا: وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ.
بِأَنْ بَاعَ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ الشَّغْلُ شَرْعًا فَيَحْتَاجُ إلَى التَّعَرُّفِ عَنْ الْبَرَاءَةِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَمْلُوكِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ.
وَمِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِكَوْنِهَا أُخْتَهُ رَضَاعًا أَوْ وَرِثَهَا وَهِيَ مَوْطُوءَةُ أَبِيهِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ، وَلَا يُجْتَزَأُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا فِي أَثْنَائِهَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُجْتَزَأُ بِهَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَعَرُّفُ الْبَرَاءَةِ.
وَلَا بِاَلَّتِي حَصَلَتْ بَعْدَ الِاسْتِحْدَاثِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا بِالْوِلَادَةِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَهَا: أَيْ بَعْدَ أَسْبَابِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِتَحَقُّقِ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ السَّبَبِ، لِأَنَّ السَّبَبَ اسْتَحْدَثَ الْمِلْكَ وَالْيَدَ وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ بِالْقَبْضِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْحُكْمِ قَبْلَ السَّبَبِ وَمَا بَعْدَهُ وَاضِحٌ وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ السَّبَبَ اسْتِحْدَاثُ الْمَلِكِ وَالْيَدِ وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ (وَيَجِبُ فِي جَارِيَةٍ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا شِقْصٌ فَاشْتَرَى الْبَاقِيَ)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَمَّ الْآنَ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى تَمَامِ الْعِلَّةِ، وَيُجْتَزَأُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي حَاضَتْهَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ مُكَاتَبَةٌ بِأَنْ كَاتَبَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ الْمَجُوسِيَّةُ أَوْ عَجَزَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِوُجُودِهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ إذْ هُوَ مُقْتَضٍ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لِمَانِعٍ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ (وَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ إذَا رَجَعَتْ الْآبِقَةُ أَوْ رُدَّتْ الْمَغْصُوبَةُ أَوْ الْمُؤَاجَرَةُ) أَوْ فُكَّتْ الْمَرْهُونَةُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ وَهُوَ سَبَبٌ مُتَعَيَّنٌ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَلَهَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ كَتَبْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ حَرُمَ الدَّوَاعِي لِإِفْضَائِهَا إلَيْهِ.
أَوْ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ عَلَى اعْتِبَارِ ظُهُورِ الْحَبَلِ وَدَعْوَةِ الْبَائِعِ.
بِخِلَافِ الْحَائِضِ حَيْثُ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي فِيهَا لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الْوُقُوعُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَلِأَنَّهُ زَمَانُ نَفْرَةٍ فَالْإِطْلَاقُ فِي الدَّوَاعِي لَا يُفْضِي إلَى الْوَطْءِ وَالرَّغْبَةُ فِي الْمُشْتَرَاةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَصْدَقُ الرَّغَبَاتِ فَتُفْضِي إلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّوَاعِيَ فِي الْمَسْبِيَّةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ؛ لِأَنَّهَا لَا يُحْتَمَلُ وُقُوعُهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْحَرْبِيِّ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْآبِقَةِ) يَعْنِي الَّتِي أَبَقَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى مَوْلَاهَا، فَإِنْ أَبَقَتْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا فَلَمْ يَحْدُثْ الْمِلْكُ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا.
وَقَوْلُهُ (حَرُمَ الدَّوَاعِي لِإِفْضَائِهَا إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْوَطْءِ كَمَا إذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَإِنَّهُ حَرَّمَ وَطْأَهَا وَحَرَّمَ دَوَاعِيَهُ لِإِفْضَائِهَا إلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّوَاعِيَ فِي الْمُسَبَّبَةِ) يَعْنِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ.
وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ حَيْثُ تَعَدَّى الْحُكْمُ مِنْ الْأَصْلِ وَهِيَ الْمَسْبِيَّةُ إلَى الْفَرْعِ وَهُوَ غَيْرُهَا حَيْثُ حَرُمَتْ الدَّوَاعِي فِي غَيْرِ الْمَسْبِيَّةِ دُونَهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اقْتِضَاءِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّعَدِّيَ إنْ كَانَ بِالْقِيَاسِ فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ دَافِعٍ لِأَنَّ عَدَمَ التَّغْيِيرِ شَرْطُ الْقِيَاسِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ.
وَالثَّانِي أَنَّ مَا دَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الدَّوَاعِي فِي غَيْرِ الْمَسْبِيَّةِ أَمْرَانِ: الْإِفْضَاءُ وَالْوُقُوعُ فِي غَيْرِ الْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ تَحْرُمْ بِالثَّانِي فَلْتَحْرُمْ بِالْأَوَّلِ، إذْ الْحُرْمَةُ تُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّعْدِيَةَ هُنَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَحَقِّ دَلَالَةُ حُكْمِ الدَّلِيلِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلْحَقِ بِهِ لِعَدَمِهِ، وَالدَّلِيلُ هَاهُنَا أَنَّ حُرْمَةَ الدَّوَاعِي فِي هَذَا الْبَابِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَلَمَّا كَانَ عِلَّتُهَا فِي الْمَسْبِيَّةِ أَمْرًا وَاحِدًا لَمْ تُعْتَبَرْ وَلَمَّا كَانَ فِي غَيْرِهَا أَمْرَانِ تَعَاضَدَا اُعْتُبِرَتْ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَالرَّغْبَةُ فِي الْمُشْتَرَاةِ أَصْدَقُ الرَّغَبَاتِ. (وَالِاسْتِبْرَاءُ فِي الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ) لِمَا رَوَيْنَا (وَفِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ بِالشَّهْرِ)؛ لِأَنَّهُ أُقِيمَ فِي حَقِّهِنَّ مَقَامَ الْحَيْضِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ، وَإِذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَائِهِ بَطَلَ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْأَيَّامِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ.
فَإِنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا تَرَكَهَا، حَتَّى إذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَتْ بِحَامِلٍ وَقَعَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَقِيلَ يَتَبَيَّنُ بِشَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَعَنْهُ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِعِدَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي الْوَفَاةِ.
وَعَنْ زُفَرَ سَنَتَانِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَلَا الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» وَقَوْلُهُ (وَإِنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا) أَيْ امْتَدَّ طُهْرُهَا فِي أَوَانِ الْحَيْضِ لَا يَطَؤُهَا حَتَّى إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ جَامَعَهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَقَدْ حَصَلَ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَبَلَ لَوْ كَانَ لِظُهْرٍ وَلَيْسَ فِيهَا تَقْدِيرٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِشَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ إلَخْ.
قِيلَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَهَا شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لِظُهُورِ الْحَبَلِ فِي ذَلِكَ غَالِبًا. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَيْنِ فِي الشُّفْعَةِ.
وَالْمَأْخُوذُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَقْرَبْهَا فِي طُهْرِهَا ذَلِكَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا قَرِبَهَا.
وَالْحِيلَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْمُشْتَرِي حُرَّةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا.
وَلَوْ كَانَتْ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا وَيَقْبِضَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لَهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ.
وَإِنَّ حَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَوَانُ وُجُودِ السَّبَبِ كَمَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا وَيَقْبِضَهَا أَوْ يَقْبِضَهَا) لَفٌّ وَنَشْرٌ: يَعْنِي يَشْتَرِيهَا وَيَقْبِضُهَا إذَا زَوَّجَهَا الْبَائِعُ أَوْ يَقْبِضُهَا إذَا زَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوثَقْ بِهِ رُبَّمَا لَا يُطَلِّقُهَا فَكَانَ احْتِيَالًا عَلَيْهِ لَا لَهُ.
وَالْحِيلَةُ فِي تَمْشِيَةِ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يُزَوِّجَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَمْرُهَا بِيَدِهِ يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ يُطَلِّقُ الزَّوْجُ: يَعْنِي بَعْدَ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَهُ كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي الِاسْتِبْرَاءُ إذَا قَبَضَهَا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِذَا قَبَضَهَا وَالْقَبْضُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَيْسَتْ فِي نِكَاحٍ وَلَا عِدَّةٍ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ.
وَقَوْلُهُ (إذَا لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لَهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ) لِأَنَّ الْقَبْضَ إذْ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُمَكِّنٍ مِنْ الْوَطْءِ وَالْمُمَكِّنُ مِنْهُ جُزْءُ الْعِلَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَزْوِيجَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ قَبْضًا حُكْمًا لَمْ يُعْتَبَرْ لِكَوْنِهِ مُزِيلًا لِلتَّمَكُّنِ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ) يَعْنِي إذَا اشْتَرَى أَمَةً مُعْتَدَّةً وَقَبَضَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ، لِأَنَّ عِنْدَ اسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لِلْمُشْتَرِي.
فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ وَقْتَ الِاسْتِحْدَاثِ لَمْ يَجِبْ بَعْدَهُ لِعَدَمِ تَجَدُّدِ السَّبَبِ. قَالَ (وَلَا يَقْرَبُ الْمَظَاهِرُ وَلَا يَلْمِسُ وَلَا يُقَبِّلُ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يُكَفِّرَ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ الْوَطْءُ إلَى أَنْ يُكَفِّرَ حَرُمَ الدَّوَاعِي لِلْإِفْضَاءِ إلَيْهِ.
لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ سَبَبَ الْحَرَامِ حَرَامٌ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ وَفِي الْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيْضِ وَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ يَمْتَدُّ شَطْرَ عُمْرِهَا وَالصَّوْمَ يَمْتَدُّ شَهْرًا فَرْضًا وَأَكْثَرُ الْعُمْرِ نَفْلًا، فَفِي الْمَنْعِ عَنْهَا بَعْضُ الْحَرَجِ، وَلَا كَذَلِكَ مَا عَدَدْنَاهَا لِقُصُورِ مُدَدِهَا.
وَقَدْ صَحَّ: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُضَاجِعُ نِسَاءَهُ وَهُنَّ حُيَّضٌ»
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا يَقْرَبُ الْمُظَاهِرُ وَلَا يَلْمِسُ إلَخْ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الِاسْتِبْرَاءِ، لَكِنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ اسْتِطْرَادًا، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَمَّا انْسَاقَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ إلَى حُرْمَةِ الدَّوَاعِي وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُرْمَةُ الدَّوَاعِي ذَكَرَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: صَدَّرَ الْفَصْلَ بِالِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِهِ وَهَذِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْحَيْضَ يَمْتَدُّ شَطْرَ عُمُرِهَا) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ يَقْرُبُ مِنْ شَطْرِ عُمُرِهَا وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَكَانَ قَرِيبًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهِيَ نِصْفُ الشَّهْرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّطْرَ هُوَ النِّصْفُ.
وَيَتَقَوَّى بِذَلِكَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. قَالَ (وَمَنْ لَهُ أَمَتَانِ أُخْتَانِ فَقَبَّلَهُمَا بِشَهْوَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُجَامِعُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَمَسُّهَا بِشَهْوَةٍ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ يُعْتِقُهَا)، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ لَا يَجُوزُ وَطْئًا لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لِلْمُحَرَّمِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الدَّوَاعِي لِإِطْلَاقِ النَّصِّ، وَلِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَى الْوَطْءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، فَإِذَا قَبَّلَهُمَا فَكَأَنَّهُ وَطِئَهُمَا، وَلَوْ وَطِئَهُمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَ إحْدَاهُمَا وَلَا أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّوَاعِي فِيهِمَا، فَكَذَا إذَا قَبَّلَهُمَا وَكَذَا إذَا مَسَّهُمَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهِمَا بِشَهْوَةٍ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنْ يَمْلِكَ فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ يُعْتِقَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ فَرْجُهَا لَمْ يَبْقَ جَامِعًا.
وَقَوْلُهُ (بِمِلْكٍ)أَرَادَ بِهِ مِلْكَ يَمِينٍ فَيَنْتَظِمُ التَّمْلِيكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِهِ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهُ، وَتَمْلِيكُ الشِّقْصِ فِيهِ كَتَمْلِيكِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَحْرُمُ بِهِ، وَكَذَا إعْتَاقُ الْبَعْضِ مِنْ إحْدَاهُمَا كَإِعْتَاقِ كُلِّهَا، وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ فِي هَذَا لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَبِرَهْنِ إحْدَاهُمَا وَإِجَارَتِهَا وَتَدْبِيرِهَا لَا تَحِلُّ الْأُخْرَى؛ أَلَا يَرَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ بِهَا عَنْ مِلْكِهِ، وَقَوْلُهُ (أَوْ نِكَاحٍ) أَرَادَ بِهِ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ.
أَمَّا إذَا زَوَّجَ إحْدَاهُمَا نِكَاحًا فَاسِدًا لَا يُبَاحُ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى إلَّا أَنْ يَدْخُلَ الزَّوْجُ بِهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا، وَالْعِدَّةُ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي التَّحْرِيمِ.
وَلَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا حَلَّ لَهُ وَطْءُ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بِوَطْءِ الْأُخْرَى لَا بِوَطْءِ الْمَوْطُوءَةِ.
وَكُلُّ امْرَأَتَيْنِ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْأُخْتَيْنِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ لَهُ أَمَتَانِ أُخْتَانِ فَقَبَّلَهُمَا) هَذِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَمَّا إنْ قَبَّلَهُمَا أَوْ لَمْ يُقَبِّلْهُمَا أَوْ قَبَّلَ إحْدَاهُمَا، فَإِنْ لَمْ يُقَبِّلْهُمَا أَصْلًا كَانَ لَهُ أَنْ يُقَبِّلَ وَيَطَأَ أَيَّتَهمَا شَاءَ سَوَاءٌ كَانَ اشْتَرَاهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَإِنْ كَانَ قَبَّلَ إحْدَاهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْمُقَبَّلَةَ دُونَ الْأُخْرَى.
وَأَمَّا إذَا قَبَّلَهُمَا بِشَهْوَةٍ، وَقَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وَالْأَصْلُ فِي الْأَبْضَاعِ الْحِلُّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْحِلِّ وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ مِلْكُ الْيَمِينِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لِلْمُحَرِّمِ) لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا فَلَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ لِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ مَشْرُوعٌ لِلْوَطْءِ.
فَحُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَطْئًا فَوَجَبَ تَرْجِيحُ الْمُحَرِّمِ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ (وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ) كَلِمَةُ كَذَا زَائِدَةٌ وَقَوْلُهُ (فِي هَذَا) أَيْ فِي أَنَّهُ يَحِلُّ وَطْءُ الْأُخْرَى.
وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى حَتَّى يَلْزَمَهُ اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ بَعْدَ الْعَجْزِ وَلَمْ يَحِلَّ فَرْجُهَا لِغَيْرِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحِلَّ يَزُولُ بِالْكِتَابَةِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ بِوَطْئِهَا، فَجُعِلَ زَوَالُ الْحِلِّ عَنْهَا بِالْكِتَابَةِ كَزَوَالِهِ بِالتَّزْوِيجِ فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى. قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ فَمَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ يُعَانِقَهُ) وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِالتَّقْبِيلِ وَالْمُعَانَقَةِ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَانَقَ جَعْفَرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» وَلَهُمَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُكَامَعَةِ وَهِيَ الْمُعَانَقَةُ، وَعَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَهِيَ التَّقْبِيلُ».
وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ.
قَالُوا: الْخِلَافُ فِي الْمُعَانَقَةِ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَارَثُ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ صَافَحَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ وَحَرَّكَ يَدَهُ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُ».
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ فَمَ الرَّجُلِ إلَخْ) وَاضِحٌ.
وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُئِلَ عَنْ الْمُعَانَقَةِ فَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ عَانَقَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَانَ بِمَكَّةَ فَأَقْبَلَ إلَيْهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ بِالْأَبْطَحِ قِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَرْكَبَ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَنَزَلَ وَمَشَى إلَى إبْرَاهِيمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاعْتَنَقَهُ، فَكَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ عَانَقَ.
وَالشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ: الْمَكْرُوهُ مِنْ الْمُعَانَقَةِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ سَبَبٌ يُفْضِي إلَيْهَا، فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَعَنْ سُفْيَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَقْبِيلُ يَدِ الْعَالِمِ سُنَّةٌ، وَتَقْبِيلُ يَدِ غَيْرِهِ لَا يُرَخَّصُ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِيَامَ تَعْظِيمًا لِلْغَيْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ الْقِيَامَ» وَعَنْ الشَّيْخِ الْحَكِيمِ أَبِي الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ يَقُومُ وَيُعَظِّمُهُ وَلَا يَقُومُ لِلْفُقَرَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ.
فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لِأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَتَوَقَّعُونَ مِنِّي التَّعْظِيمَ، فَلَوْ تَرَكْت تَعْظِيمَهُمْ تَضَرَّرُوا، وَالْفُقَرَاءُ وَطَلَبَةُ الْعِلْمِ لَا يَطْمَعُونَ مِنِّي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَطْمَعُونَ جَوَابَ السَّلَامِ وَالْكَلَامَ مَعَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِتَرْكِ الْقِيَامِ.

.فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ:

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَشَابَهُ الْعَذِرَةَ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ.
وَلَنَا أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُلْقَى فِي الْأَرَاضِيِ لِاسْتِكْثَارِ الرِّيعِ فَكَانَ مَالًا، وَالْمَالُ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ.
بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا مَخْلُوطًا.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَخْلُوطِ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَكَذَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَخْلُوطِ لَا بِغَيْرِ الْمَخْلُوطِ فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَخْلُوطُ بِمَنْزِلَةِ زَيْتٍ خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ) أَخَّرَ فَصْلَ الْبَيْعِ عَنْ فَصْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللَّمْسِ وَالْوَطْءِ لِأَنَّ أَثَرَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ مُتَّصِلٌ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ وَهَذَا لَا، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ اتِّصَالًا كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ.
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَنْ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعَذِرَةِ الْخَالِصَةِ يَجُوزُ. قَالَ (وَمَنْ عَلِمَ بِجَارِيَةٍ أَنَّهَا لِرَجُلٍ فَرَأَى آخَرَ يَبِيعُهَا وَقَالَ وَكَّلَنِي صَاحِبُهَا بِبَيْعِهَا فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنَّهُ يَبْتَاعُهَا وَيَطَؤُهَا)؛ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ.
وَكَذَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهَا لِي أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ لِمَا قُلْنَا.
وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً.
وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ، وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَسَعْ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا لِفُلَانٍ، وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهَا لِفُلَانٍ، وَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهَا أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ، وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يُعْتَبَرُ أَكْبَرُ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ صَاحِبُ الْيَدِ بِشَيْءٍ.
فَإِنْ كَانَ عَرَّفَهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَعْلَمَ انْتِقَالَهَا إلَى مِلْكِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَوَّلِ دَلِيلُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ فَاسِقًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْفَاسِقِ دَلِيلُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْفَاسِقِ وَالْعَدْلِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِاعْتِمَادِهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ.
وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهَا عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَمْ يَقْبَلْهَا وَلَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَسْأَلَ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا مِلْكَ لَهُ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهُ أَذِنَ لَهُ وَهُوَ ثِقَةٌ قُبِلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يُعْتَبَرُ أَكْبَرُ الرَّأْيِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ لَمْ يَشْتَرِهَا لِقِيَامِ الْحَاجِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ) يَعْنِي حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا رَجُلًا أَوْ امْرَأَة.
وَقَوْلُهُ (لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَرْسَلَ أَجِيرًا لَهُ مَجُوسِيًّا، وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْعَدَالَةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً يُنَاقِضُ قَوْلَهُ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ثِقَةً أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكْذِبَ الْفَاسِقُ لِمُرُوءَتِهِ أَوْ لِوَجَاهَتِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يَقُومُ مَقَامَ الْيَقِينِ) يَعْنِي فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ إنْسَانٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا إذَا كَانَ ثِقَةً عِنْدَهُ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى غَيْرِهِ لَيْلًا شَاهِرًا سَيْفَهُ فَلِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لِصٌّ قَصَدَ قَتْلَهُ وَأَخْذَ مَالِهِ، وَإِذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ لِصٍّ لَمْ يُعَجِّلْ بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَ ذَلِكَ) كَدِرَّةٍ فِي يَدِ فَقِيرٍ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا.
أَوْ كِتَابٍ فِي يَدِ جَاهِلٍ لَمْ يَكُنْ فِي آبَائِهِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهَا) أَيْ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ هَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ وَمَنْ عَلِمَ بِجَارِيَةٍ أَنَّهَا لِفُلَانٍ فَرَأَى آخَرَ يَبِيعُهَا: يَعْنِي أَنَّ الْآتِيَ بِالْجَارِيَةِ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً وَقَالَ لِآخَرَ وَهَبْتهَا مِنْك أَوْ بِعْتهَا مِنْك فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ وَلَا أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْمِلْكِ وَهُوَ الرِّقُّ مَعْلُومٌ فِيهِ، فَمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ دَلِيلٌ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ مَنْ رَآهُ فِي يَدِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الشِّرَاءُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ لَمْ يَشْتَرِهَا لِقِيَامِ الْحَاجِرِ) بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ الْمَانِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ. قَالَ (وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَهَا ثِقَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا الْغَائِبَ مَاتَ عَنْهَا، أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَتَاهَا بِكِتَابٍ مِنْ زَوْجِهَا بِالطَّلَاقِ، وَلَا تَدْرِي أَنَّهُ كِتَابُهُ أَمْ لَا.
إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهَا أَنَّهُ حَقٌّ) يَعْنِي بَعْدَ التَّحَرِّي (فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَعْتَدَّ ثُمَّ تَتَزَوَّجَ)؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ وَلَا مُنَازِعَ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ لِرَجُلٍ طَلَّقَنِي زَوْجِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.
وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْمُطَلَّقَةُ الثَّلَاثَ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ، وَدَخَلَ بِي ثُمَّ طَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ جَارِيَةٌ كُنْت أَمَةَ فُلَانٍ فَأَعْتَقَنِي؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ.
وَلَوْ أَخْبَرَهَا مُخْبِرٌ أَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ فَاسِدًا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ حِينَ تَزَوَّجَهَا مُرْتَدًّا أَوْ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
وَكَذَا إذَا أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ أَنَّك تَزَوَّجْتهَا وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ أَوْ أُخْتُك مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِأُخْتِهَا أَوْ أَرْبَعٍ سِوَاهَا حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ عَدْلَانِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفَسَادٍ مُقَارَنٍ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِنْكَارِ فَسَادِهِ فَثَبَتَ الْمُنَازَعُ بِالظَّاهِرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ صَغِيرَةً فَأَخْبَرَ الزَّوْجُ أَنَّهَا ارْتَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ حَيْثُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ، وَالْإِقْدَامُ الْأَوَّلُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُنَازِعُ فَافْتَرَقَا، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ يَدُورُ الْفَرْقُ.
وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً صَغِيرَةً لَا تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ فَلَمَّا كَبُرَتْ لَقِيَهَا رَجُلٌ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَقَالَتْ أَنَا حُرَّةُ الْأَصْلِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِتَحَقُّقِ الْمُنَازِعِ وَهُوَ ذُو الْيَدِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَهَا ثِقَةٌ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاطِعَ إذَا كَانَ طَارِئًا وَلَا مُنَازِعَ لِلْمَخْبَرِ بِهِ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ.
فَإِنْ كَانَ ثِقَةً لَا يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لابد مِنْ انْضِمَامِ أَكْبَرِ رَأْيِ الْمُخْبِرِ لَهُ، وَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ سَهُلَ تَطْبِيقُ الْفُرُوعِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ فِيهِ) وَالْإِقْدَامُ الْأَوَّلُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُنَازِعُ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إنْ قُبِلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي إفْسَادِ النِّكَاحِ بَعْدَ الصِّحَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَوَجْهٌ آخَرُ فِيهِ يُوجِبُ عَدَمَ الْقَبُولِ، وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ لِلزَّوْجِ فِيهَا ثَابِتٌ وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْغَيْرِ فِيهَا لَا يَبْطُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَمِلْكُهُ فِيهَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْهُ وَالْبَاقِي وَاضِحٌ. قَالَ (وَإِذَا بَاعَ الْمُسْلِمُ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَلَا بَأْسَ بِهِ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَدْ بَطَلَ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَحِلُّ أَخْذُهُ مِنْ الْبَائِعِ.
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي صَحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَمَلَكَهُ الْبَائِعُ فَيَحِلُّ الْأَخْذُ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ الْمُسْلِمُ خَمْرًا إلَخْ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا إذَا كَانَ الْقَضَاءُ الِاقْتِضَاءَ بِالتَّرَاضِي، فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِأَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِهَذَا الثَّمَنِ غَيْرَ عَالِمٍ بِكَوْنِهِ ثَمَنَ الْخَمْرِ طَابَ لَهُ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ. قَالَ (وَيُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ فِي أَقْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ يَضُرُّ الِاحْتِكَارُ بِأَهْلِهِ وَكَذَلِكَ التَّلَقِّي.
فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ فَلَا بَأْسَ بِهِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ، وَفِي الِامْتِنَاعِ عَنْ الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ وَتَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ فَيُكْرَهُ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ الْبَلْدَةُ صَغِيرَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَضُرَّ بِأَنْ كَانَ الْمِصْرُ كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ حَابِسٌ مِلْكَهُ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ التَّلَقِّي عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ «نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ وَعَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ».
قَالُوا هَذَا إذَا لَمْ يُلَبِّسْ الْمُتَلَقِّي عَلَى التُّجَّارِ سِعْرَ الْبَلْدَةِ.
فَإِنْ لَبَّسَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ غَادِرٌ بِهِمْ.
وَتَخْصِيصُ الِاحْتِكَارِ بِالْأَقْوَاتِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْقَتِّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ مَا أَضَرَّ بِالْعَامَّةِ حَبْسُهُ فَهُوَ احْتِكَارٌ وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ ثَوْبًا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا احْتِكَارَ فِي الثِّيَابِ؛ فَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الضَّرَرِ إذْ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْكَرَاهَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ الضَّرَرَ الْمَعْهُودَ الْمُتَعَارَفَ.
ثُمَّ الْمُدَّةُ إذَا قَصُرَتْ لَا يَكُونُ احْتِكَارًا لِعَدَمِ الضَّرَرِ، وَإِذَا طَالَتْ يَكُونُ احْتِكَارًا مَكْرُوهًا لِتَحَقُّقِ الضَّرَرِ.
ثُمَّ قِيلَ: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ» وَقِيلَ بِالشَّهْرِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ عَاجِلٌ، وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ، وَقَدْ مَرَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ بَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْعِزَّةَ وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْقَحْطَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَقِيلَ الْمُدَّةُ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا إمَّا يَأْثَمُ وَإِنْ قَلَّتْ الْمُدَّةُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الطَّعَامِ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ) الِاحْتِكَارُ افْتِعَالٌ مِنْ حَكَرَ: أَيْ حَبَسَ، وَالْمُرَادُ بِهِ حَبْسُ الْأَقْوَاتِ مُتَرَبِّصًا لِلْغَلَاءِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ لَيْسَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي فِي الْإِضْرَارِ وَعَدَمِهِ. قَالَ (وَمَنْ احْتَكَرَ غَلَّةَ ضَيْعَتِهِ أَوْ مَا جَلَبَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَلَيْسَ بِمُحْتَكَرٍ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَزْرَعَ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمَذْكُورُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَامَّةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا جُمِعَ فِي الْمِصْرِ وَجُلِبَ إلَى فِنَائِهَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكْرَهُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ مَا يُجْلَبُ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ فِي الْغَالِبِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ فِنَاءِ الْمِصْرِ يَحْرُمُ الِاحْتِكَارُ فِيهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَامَّةِ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَلَدُ بَعِيدًا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالْحَمْلِ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ. قَالَ (وَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تُسَعِّرُوا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ» وَلِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّ الْعَاقِدِ فَإِلَيْهِ تَقْدِيرُهُ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِحَقِّهِ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ دَفْعُ ضَرَرِ الْعَامَّةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ.
وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي هَذَا الْأَمْرُ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّعَةِ فِي ذَلِكَ وَيَنْهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ، فَإِنْ رُفِعَ إلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ عَلَى مَا يَرَى زَجْرًا لَهُ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ أَرْبَابُ الطَّعَامِ يَتَحَكَّمُونَ وَيَتَعَدَّوْنَ عَنْ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ بِمَشُورَةٍ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَتَعَدَّى رَجُلٌ عَنْ ذَلِكَ وَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَجَازَهُ الْقَاضِي، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ وَكَذَا عِنْدَهُمَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ.
وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْبَيْعِ، هَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ.
قِيلَ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي بَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ، وَقِيلَ يَبِيعُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ، وَهَذَا كَذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَتَعَدَّوْنَ عَنْ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا) بِأَنْ يَبِيعُوا قَفِيزًا بِمِائَةٍ وَهُوَ يُشْتَرَى بِخَمْسِينَ فَيَمْنَعُونَ مِنْهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ (يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ) يَعْنِي كَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ. قَالَ (وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ) مَعْنَاهُ مِمَّنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّهُ تَسْبِيبٌ إلَى الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي السِّيَرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يُكْرَهُ بِالشَّكِّ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا)؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَامُ بِعَيْنِهِ بَلْ بَعْدَ تَغْيِيرِهِ، بِخِلَافِ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ. قَالَ (وَمَنْ أَجَّرَ بَيْتًا لِيُتَّخَذَ فِيهِ بَيْتُ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بِيعَةٌ أَوْ يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ بِالسَّوَادِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْرِيَهُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وَلَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ، وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالسَّوَادِ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ اتِّخَاذِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَإِظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي الْأَمْصَارِ لِظُهُورِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِيهَا.
بِخِلَافِ السَّوَادِ.
قَالُوا: هَذَا كَانَ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ، لِأَنَّ غَالِبَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ.
فَأَمَّا فِي سَوَادِنَا فَأَعْلَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ فَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهَا أَيْضًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ (وَمَنْ حَمَلَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَ إلَيْهِ لَهُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي شُرْبِهَا وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَلَيْسَ الشِّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ الْمَقْرُونِ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ الشُّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ) لِأَنَّ الشُّرْبَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الْحَمْلِ، وَبِالْعَكْسِ فَلَا يَكُونُ الْحَمْلُ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَعْصِيَةِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ أَرْضِهَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَرْضِهَا أَيْضًا.
وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ لِظُهُورِ الِاخْتِصَاصِ الشَّرْعِيِّ بِهَا فَصَارَ كَالْبِنَاءِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُورَثُ» وَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ مُحْتَرَمَةٌ لِأَنَّهَا فِنَاءُ الْكَعْبَةِ.
وَقَدْ ظَهَرَ آيَةُ أَثَرِ التَّعْظِيمِ فِيهَا حَتَّى لَا يُنَفَّرَ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، فَكَذَا فِي حَقِّ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِ الْبَانِي.
وَيُكْرَهُ إجَارَتُهَا أَيْضًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ آجَرَ أَرْضِ مَكَّةَ فَكَأَنَّمَا أَكَلَ الرِّبَا» وَلِأَنَّ أَرَاضِيَ مَكَّةَ تُسَمَّى السَّوَائِبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا سَكَنَهَا وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا أُسْكِنَ غَيْرَهُ (وَمَنْ وَضَعَ دِرْهَمًا عِنْدَ بَقَّالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ قَرْضًا جَرَّ بِهِ نَفْعًا، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ حَالًّا فَحَالًّا.
«وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا»، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوْدِعَهُ ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ جُزْءًا فَجُزْءًا؛ لِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ وَلَيْسَ بِقَرْضٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا شَيْءَ عَلَى الْآخِذِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ وَضَعَ دِرْهَمًا عِنْدَ بَقَّالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ) وَاضِحٌ، وَلَكِنْ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ اشْتِبَاهٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ لِلْوَدِيعَةِ، فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَ صُورَةِ الْوَدِيعَةِ وَالْقَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ خَارِجًا مَخْرَجَ الشَّرْطِ: يَعْنِي وَضَعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ، وَأَمَّا إذَا وَضَعَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا فَهُوَ وَدِيعَةٌ إنْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ الْبَقَّالُ شَيْئًا.