فصل: (كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ: في التَّعْشِيرُ وَالنَّقْطُ فِي الْمُصْحَفِ:

قَالَ (وَيُكْرَهُ التَّعْشِيرُ وَالنَّقْطُ فِي الْمُصْحَفِ) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَرِّدُوا الْقُرْآنَ.
وَيُرْوَى: جَرِّدُوا الْمَصَاحِفَ.
وَفِي التَّعْشِيرِ وَالنَّقْطِ تَرْكُ التَّجْرِيدِ.
وَلِأَنَّ التَّعْشِيرَ يُخِلُّ بِحِفْظِ الْآيِ وَالنَّقْطُ بِحِفْظِ الْإِعْرَابِ اتِّكَالًا عَلَيْهِ فَيُكْرَهُ.
قَالُوا: فِي زَمَانِنَا لابد لِلْعَجَمِ مِنْ دَلَالَةٍ.
فَتَرْكُ ذَلِكَ إخْلَالٌ بِالْحِفْظِ وَهِجْرَانٌ لِلْقُرْآنِ فَيَكُونُ حَسَنًا.
الشَّرْحُ:
مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ: التَّعْشِيرُ: جَعْلُ الْعَوَاشِرِ فِي الْمُصْحَفِ، وَهُوَ كِتَابَةُ الْعَلَامَةِ عِنْدَ مُنْتَهَى عَشْرِ آيَاتٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: جَرِّدُوا الْقُرْآنَ.
فَقِيلَ الْمُرَادُ نَقْطُ الْمَصَاحِفِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى كَرَاهَةِ نَقْطِ الْمَصَاحِفِ، وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ الْأَحَادِيثِ، وَقَالُوا: هَذَا بَاطِلٌ، وَقِيلَ هُوَ حَثٌّ عَلَى أَنْ لَا يُتَعَلَّمَ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ غَيْرِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ غَيْرَهُ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَيْسُوا بِمُؤْتَمَنِينَ عَلَيْهَا. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةِ الْمُصْحَفَ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ.
وَصَارَ كَنَقْشِ الْمَسْجِدِ وَتَزْيِينِهِ بِمَاءِ الذَّهَبِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَاةِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ ذَلِكَ: وَقَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ.
لِلشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ جَنَابَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ اغْتِسَالًا يُخْرِجُهُ عَنْهَا، وَالْجُنُبُ يَجْنَبُ الْمَسْجِدَ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ، وَالتَّعْلِيلُ بِالنَّجَاسَةِ عَامٌّ فَيَنْتَظِمُ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا.
وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ» وَلِأَنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ.
وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلَاءً وَاسْتِعْلَاءً أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ (وَيُكْرَهُ اسْتِخْدَامُ الْخُصْيَانِ)؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي اسْتِخْدَامِهِمْ حَثُّ النَّاسِ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ وَهُوَ مُثْلَةٌ مُحَرَّمَةٌ قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِخِصَاءِ الْبَهَائِمِ وَإِنْزَاءِ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ)؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَهِيمَةِ وَالنَّاسِ.
وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَكِبَ الْبَغْلَةَ» فَلَوْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ حَرَامًا لَمَا رَكِبَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ فَتْحِ بَابِهِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ)؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ بِرٍّ فِي حَقِّهِمْ، وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَادَ يَهُودِيًّا مَرِضَ بِجِوَارِهِ».
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) قَيَّدَ بِهِمَا لِأَنَّ فِي عِيَادَةِ الْمَجُوسِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمْ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِ وَنِكَاحُهُمْ بِخِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي عِيَادَةِ الْفَاسِقِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَالْعِيَادَةُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ: أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك) وَلِلْمَسْأَلَةِ عِبَارَتَانِ: هَذِهِ، وَمَقْعَدُ الْعِزِّ، وَلَا رَيْبَ فِي كَرَاهَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُعُودِ، وَكَذَا الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ وَهُوَ مُحْدَثٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ قَدِيمٌ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك؛ وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك، وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى وَكَلِمَاتِك التَّامَّةِ» وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الِامْتِنَاعِ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَاؤُك وَرُسُلِك)؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ. قَالَ (وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَالْأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَكُلِّ لَهْوٍ)؛ لِأَنَّهُ إنْ قَامَرَ بِهَا فَالْمَيْسِرُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ قِمَارٍ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ فَهُوَ عَبَثٌ وَلَهْوٌ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَهْوُ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا الثَّلَاثَ: تَأْدِيبُهُ لِفَرَسِهِ، وَمُنَاضَلَتُهُ عَنْ قَوْسِهِ، وَمُلَاعَبَتُهُ مَعَ أَهْلِهِ» وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُبَاحُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْحِيذِ الْخَوَاطِرِ وَتَذْكِيَةِ الْأَفْهَامِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
لَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي دَمِ الْخِنْزِيرِ» وَلِأَنَّهُ نَوْعُ لَعِبٍ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ فَيَكُونُ حَرَامًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا أَلْهَاك عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ» ثُمَّ إنْ قَامَرَ بِهِ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ فِيهِ.
وَكَرِهَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِمْ تَحْذِيرًا لَهُمْ، وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهِ بَأْسًا لِيَشْغَلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِقَبُولِ هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَاسْتِعَارَةِ دَابَّتِهِ.
وَتُكْرَهُ كِسْوَتُهُ الثَّوْبَ وَهَدِيَّتُهُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَفِي الْقِيَاسِ: كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبِلَ هَدِيَّةَ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَانَ عَبْدًا، وَقَبِلَ هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً» وَأَجَابَ رَهْطٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَعْوَةَ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ وَكَانَ عَبْدًا، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ضَرُورَةً لَا يَجِدُ التَّاجِرُ بُدًّا مِنْهَا، وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكِسْوَةِ وَإِهْدَاءِ الدَّرَاهِمِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. قَالَ (وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَقِيطٌ لَا أَبَ لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَبْضُهُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ لَهُ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الصِّغَارِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: نَوْعٌ هُوَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا مَنْ هُوَ وَلِيٌّ كَالْإِنْكَاحِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ لِأَمْوَالِ الْقُنْيَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ، وَنَوْعٌ آخَرُ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ حَالِ الصِّغَارِ وَهُوَ شِرَاءُ مَا لابد لِلصَّغِيرِ مِنْهُ وَبَيْعُهُ وَإِجَارَةُ الْأَظْآرِ.
وَذَلِكَ جَائِزٌ مِمَّنْ يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأُمِّ وَالْمُلْتَقِطُ إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِمْ.
وَإِذَا مَلَكَ هَؤُلَاءِ هَذَا النَّوْعَ فَالْوَلِيُّ أَوْلَى بِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ، وَنَوْعٌ ثَالِثٌ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقَبْضِ، فَهَذَا يَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ وَالْأَخُ وَالْعَمُّ وَالصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ، لِأَنَّ اللَّائِقَ بِالْحِكْمَةِ فَتْحُ بَابِ مِثْلِهِ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ فَيَمْلِكُ بِالْعَقْلِ وَالْوِلَايَةِ وَالْحِجْرِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْفَاقِ.
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ، وَيَجُوزُ لِلْأُمِّ أَنْ تُؤَاجِرَ ابْنَهَا إذَا كَانَ فِي حِجْرِهَا وَلَا يَجُوزُ لِلْعَمِّ)؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ بِاسْتِخْدَامٍ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُلْتَقِطُ وَالْعَمُّ (وَلَوْ أَجَّرَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ لَا يَجُوزُ)؛ لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِالضَّرَرِ (إلَّا إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ)؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَمَحَّضَ نَفْعًا فَيَجِبُ الْمُسَمَّى وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَقِيطٌ لَا أَبَ لَهُ إلَخْ) ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَبَ لَهُ بِشَرْطٍ لَازِمٍ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِي صَغِيرَةٍ لَهَا زَوْجٌ هِيَ عِنْدَهُ يَعُولُهَا وَلَهُ أَبٌ فَوَهَبَ لَهَا أَنَّهَا لَوْ قَبَضَتْ أَوْ قَبَضَ لَهَا أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَلَمْ يَمْتَنِعْ صِحَّةُ قَبْضِ الزَّوْجِ لَهَا بِقِيَامِ الْأَبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَفْعًا مَحْضًا كَانَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ فِي فَتْحِ بَابِ الْإِصَابَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ: مِنْ وَجْهِ الْوِلَايَةِ وَمِنْ وَجْهِ الْعَوْلِ وَالنَّفَقَةِ وَمِنْ وَجْهِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَدَمَ الْأَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَمْوَالُ الْقُنْيَةِ مَا يَكُونُ لِلنَّسْلِ لَا لِلتِّجَارَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِجَارَةُ الصِّغَارِ) فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي بَعْضِهَا: وَإِجَارَةُ الْأَظْآرِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُؤَاجِرَ) هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ وَإِجَارَةُ الصِّغَارِ ظَاهِرًا فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فَالْأَوَّلُ عَلَى رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ كَمَا مَرَّ وَالثَّانِي عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ غَيَّرَ لَفْظَ الْكِتَابِ إلَى لَفْظِ الْأَظْآرِ كَمَا مَرَّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَهُمَا فَحَمَلَ جَوَازَ إجَارَتِهِ عَلَى مَا إذَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ بِدَلِيلِ وُقُوعِهِ فِي النَّوْعِ الَّذِي فِيهِ تَعْدَادُ الضَّرُورَةِ وَعَدَمُ جَوَازِهَا عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرُورَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْعَمِّ) يَعْنِي وَإِنْ كَانَ فِي حَجْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ آجَرَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ لَا يَجُوزُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ لَا يَلْزَمُ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي فِي بَابِ إجَارَةِ الْعَبْدِ. قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ الرَّايَةَ) وَيَرْوُونَ الدَّايَةَ، وَهُوَ طَوْقُ الْحَدِيدِ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُحَرِّكَ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَ الظَّلَمَةِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةُ أَهْلِ النَّارِ فَيُكْرَهُ كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ (وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَيِّدَهُ) لِأَنَّهُ سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي السُّفَهَاءِ وَأَهْلِ الدَّعَارَةِ فَلَا يُكْرَهُ فِي الْعَبْدِ تَحَرُّزًا عَنْ إبَاقِهِ وَصِيَانَةً لِمَالِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ الرَّايَةَ) رَايَةُ الْغُلَامِ غُلٌّ يُجْعَلُ فِي عِتْقِ الْغُلَامِ عَلَامَةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ آبِقٌ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَأَمَّا الدَّايَةُ بِالدَّالِ فَغَلَطٌ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.
قَالُوا: هَذَا كَانَ فِي زَمَانِهِمْ عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبَاقِ، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا بَأْسَ بِهِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ خُصُوصًا فِي الْهُنُودِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالْحُقْنَةِ يُرِيدُ بِهِ التَّدَاوِيَ) لِأَنَّ التَّدَاوِيَ مُبَاحٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ وَرَدَ بِإِبَاحَتِهِ الْحَدِيثَ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْمُحَرَّمُ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (يُرِيدُ بِهِ التَّدَاوِيَ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ أَرَادَ بِهِ التَّسْمِينَ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ وَرَدَ بِإِبَاحَتِهِ): أَيْ بِإِبَاحَةِ التَّدَاوِي، الْحَدِيثُ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا خَلَقَ دَاءً إلَّا وَقَدْ خَلَقَ لَهُ دَوَاءً، إلَّا السَّامَ وَالْهَرَمَ» وَالْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّوَكُّلِ عِنْدَ اكْتِسَابِ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ التَّوَكُّلُ بَعْدَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْأَسْبَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَرْيَمَ {وَهُزِّي إلَيْك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَرْزُقَهَا مِنْ غَيْرِ هَزٍّ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْمُحَرَّمُ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ) قِيلَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً وَلَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ آخَرُ غَيْرُهُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِشْفَاءُ بِهِ.
وَمَعَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
يُحْتَمَلُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ ذَلِكَ فِي دَاءٍ عُرِفَ لَهُ دَوَاءٌ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ، لِأَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِالْحَلَالِ عَنْ الْحَرَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تَنْكَشِفُ الْحُرْمَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا يَكُونُ الشِّفَاءُ بِالْحَرَامِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْحَلَالِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِرِزْقِ الْقَاضِي)؛ «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ إلَى مَكَّةَ وَفَرَضَ لَهُ، وَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ وَفَرَضَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِمْ وَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَبْسَ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ كَمَا فِي الْوَصِيِّ وَالْمُضَارِبِ إذَا سَافَرَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهَذَا فِيمَا يَكُونُ كِفَايَةً، فَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَهُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ، إذْ الْقَضَاءُ طَاعَةٌ بَلْ هُوَ أَفْضَلُهَا، ثُمَّ الْقَاضِي إذَا كَانَ فَقِيرًا: فَالْأَفْضَلُ بَلْ الْوَاجِبُ الْأَخْذُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ فَرْضِ الْقَضَاءِ إلَّا بِهِ، إذْ الِاشْتِغَالُ بِالْكَسْبِ يُقْعِدُهُ عَنْ إقَامَتِهِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَالْأَفْضَلُ الِامْتِنَاعُ عَلَى مَا قِيلَ رِفْقًا بِبَيْتِ الْمَالِ.
وَقِيلَ الْأَخْذُ وَهُوَ الْأَصَحُّ صِيَانَةً لِلْقَضَاءِ عَنْ الْهَوَانِ وَنَظَرًا لِمَنْ يُوَلَّى بَعْدَهُ مِنْ الْمُحْتَاجِينَ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْقَطَعَ زَمَانًا يَتَعَذَّرُ إعَادَتُهُ ثُمَّ تَسْمِيَتُهُ رِزْقًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ، وَقَدْ جَرَى الرَّسْمُ بِإِعْطَائِهِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُؤْخَذُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ وَهُوَ يُعْطَى مِنْهُ، وَفِي زَمَانِنَا الْخَرَاجُ يُؤْخَذُ فِي آخَرِ السَّنَةِ وَالْمَأْخُوذُ مِنْ الْخَرَاجِ خَرَاجُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ اسْتَوْفَى رِزْقَ سَنَةٍ وَعُزِلَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا، قِيلَ هُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ مَعْرُوفٍ فِي نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إذَا مَاتَتْ فِي السَّنَةِ بَعْدَ اسْتِعْجَالِ نَفَقَةِ السَّنَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِرِزْقِ الْقَاضِي إلَخْ) إذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ رَجُلًا الْقَضَاءَ لَا بَأْسَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ رِزْقًا بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ لَا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ التَّقْلِيدِ: «لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَكَّةَ وَفَرَضَ لَهُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فِي السَّنَةِ» وَالْأُوقِيَّةُ بِالتَّشْدِيدِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَتَكَلَّمُوا فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَيِّ مَالٍ رَزَقَهُ وَلَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ الدَّوَاوِينُ وَلَا بَيْتُ الْمَالِ، فَإِنَّ الدَّوَاوِينَ وُضِعَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقِيلَ إنَّمَا رَزَقَهُ مِنْ الْفَيْءِ، وَقِيلَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَمِنْ الْجِزْيَةِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى اخْتِلَافٍ مَعْرُوفٍ فِي نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ) يَعْنِي عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ رَدُّ حِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجِبُ.
قَاسُوا عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ إذَا اسْتَعْجَلَتْ نَفَقَةَ السَّنَةِ فَمَاتَ الزَّوْجُ فِي نِصْفِ السَّنَةِ رَدَّتْ نَفَقَةَ مَا بَقِيَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُسَافِرَ الْأَمَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ)؛ لِأَنَّ الْأَجَانِبَ فِي حَقِّ الْإِمَاءِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ وَالْمَسِّ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ أَمَةٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِيهَا وَإِنْ امْتَنَعَ بَيْعُهَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ أَنْ تُسَافِرَ الْأَمَةُ إلَى آخِرِهِ) قِيلَ هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ.
أَمَّا الْآنَ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الْفُسُوقِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قَبْلِ فَصْلِ الِاسْتِبْرَاءِ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِهَا وَالْمُسَافَرَةُ فَقَدْ قِيلَ يُبَاحُ كَمَا فِي الْمَحَارِمِ.

.(كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ):

قَالَ (الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِيِ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الزِّرَاعَةَ) سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُطْلَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
قَالَ (فَمَا كَانَ مِنْهَا عَادِيًّا لَا مَالِكَ لَهُ أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرْيَةِ بِحَيْثُ إذَا وَقَفَ إنْسَانٌ مِنْ أَقْصَى الْعَامِرِ فَصَاحَ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ فِيهِ فَهُوَ مَوَاتٌ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ، وَمَعْنَى الْعَادِيِّ مَا قَدُمَ خَرَابُهُ.
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ مَعَ انْقِطَاعِ الِارْتِفَاقِ بِهَا لِيَكُونَ مَيْتَةً مُطْلَقًا، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لَا تَكُونُ مَوَاتًا، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ تَكُونُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ مَالِكٌ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَيَضْمَنُ الزَّارِعُ نُقْصَانَهَا، وَالْبُعْدُ عَنْ الْقَرْيَةِ عَلَى مَا قَالَ شَرَطَهُ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ لَا يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ فَيُدَارِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ.
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ (ثُمَّ مَنْ أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ مَلَكَهُ، وَإِنْ أَحْيَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: يَمْلِكُهُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي الْحَطَبِ وَالصَّيْدِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ نَفْسُ إمَامِهِ بِهِ» وَمَا رَوَيَاهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذْنٌ لِقَوْمٍ لَا نَصْبٌ لِشَرْعٍ، وَلِأَنَّهُ مَغْنُومٌ لِوُصُولِهِ إلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ كَمَا فِي سَائِرِ الْغَنَائِمِ.
وَيَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْقَاءُ الْخَرَاجِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَاءِ.
فَلَوْ أَحْيَاهَا، ثُمَّ تَرَكَهَا فَزَرَعَهَا غَيْرُهُ فَقَدْ قِيلَ الثَّانِي أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَلَكَ اسْتِغْلَالَهَا لَا رَقَبَتَهَا، فَإِذَا تَرَكَهَا كَانَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِعُهَا مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْإِحْيَاءِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، إذْ الْإِضَافَةُ فِيهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَمِلْكُهُ لَا يَزُولُ بِالتَّرْكِ.
وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً ثُمَّ أَحَاطَ الْإِحْيَاءُ بِجَوَانِبِهَا الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ طَرِيقَ الْأَوَّلِ فِي الْأَرْضِ الرَّابِعَةِ لِتَعَيُّنِهَا لِتَطَرُّقِهِ وَقَصَدَ الرَّابِعُ إبْطَالَ حَقِّهِ.
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ) مُنَاسَبَةُ هَذَا الْكِتَابِ بِكِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ مَا يُكْرَهُ، وَمَا لَا يُكْرَهُ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ التَّسْبِيبُ لِلْخِصْبِ فِي أَقْوَاتِ الْأَنَامِ وَمَشْرُوعِيَّتُهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» وَشُرُوطُهُ سَتُذْكَرُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ.
وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ كَمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَحُكْمُهُ تَمَلُّكُ الْمُحْيِي مَا أَحْيَاهُ.
قَالَ (الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِي) شِبْهُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِيِ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بِأَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرِّمَالُ أَوْ صَارَ سَبْخَةً بِالْمَيِّتِ مِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي بَطَلَتْ مَنَافِعُهُ فَسُمِّيَ مَوَاتًا، وَإِحْيَاؤُهُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهِ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ.
قَوْلُهُ (فَمَا كَانَ مِنَّا عَادِيًا) لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى عَادٍ.
لِأَنَّ عَادًا لَمْ يَمْلِكْ جَمِيعَ أَرَاضِي الْمَوَاتِ.
وَلَكِنْ مُرَادُهُ مَا تَقَدَّمَ خَرَابُهُ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ) قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةُ إذَا انْقَرَضَ أَهْلُهَا فَهِيَ كَاللُّقَطَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ) مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ (فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْقُرْبِ مَرْجِعٌ حُكْمِيٌّ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ قَرِيبًا.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ مَنْ أَحْيَاهُ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَا رَوَيَاهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذْنٌ لِقَوْمٍ لَا نَصْبٌ لِشَرْعٍ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَصْبُ الشَّرْعِ.
وَالْآخَرُ إذْنٌ بِالشَّرْعِ.
فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ» وَالْآخَرُ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» أَيْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْغَازِي بِهَذَا الْقَوْلِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذْنًا لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ» مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُفَسَّرٌ لَا يَقْبَلُهُ فَكَانَ رَاجِحًا، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» يَدُلُّ عَلَى السَّبَبِ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا تَرَتَّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ دَلَّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَشْرُوطًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ») يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِعُهَا مِنْ الثَّانِي) بَيَانُهُ أَنَّ الْمَشَايِخَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ يُثْبِتُ مِلْكَ الِاسْتِغْلَالِ أَوْ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ الْفَقِيهُ أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ الْبَلْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى الْأَوَّلِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مُبَاحٍ فَإِنَّ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِهِ.
فَإِذَا قَامَ عَنْهُ وَأَعْرَضَ بَطَلَ حَقُّهُ.
وَعَامَّتُهُمْ إلَى الثَّانِي اسْتِدْلَالًا بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ أَضَافَ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ فِي قَوْلِهِ فَهِيَ لَهُ وَمِلْكُهُ لَا يَزُولُ بِالتَّرْكِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا صَحِيحٌ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى كَوْنِهِ إذْنًا لَا شَرْعًا فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إذْنًا لَهُ لَكِنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ كَانَ شَرْعًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ مَلَكَ سَلَبَ مَنْ قَتَلَهُ.
وَقَوْلُهُ (لِتَعَيُّنِهَا لِتَطَرُّفِهِ) لِأَنَّهُ حِينَ سَكَتَ عَنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ صَارَ الْبَاقِي طَرِيقًا لَهُ، فَإِذَا أَحْيَاهُ الرَّابِعُ فَقَدْ أَحْيَا طَرِيقَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَكُونُ لَهُ فِيهِ طَرِيقٌ. قَالَ (وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ)؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذْنُ الْإِمَامِ مِنْ شَرْطِهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ حَتَّى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَصْلِنَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ) الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي تَمَلُّكِ مَا أَحْيَاهُ سَوَاءٌ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي السَّبَبِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ كَمَا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ حَتَّى الِاسْتِيلَاءِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَصْلِنَا كَالْمُسْلِمِينَ. قَالَ (وَمَنْ حَجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ) لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلِ كَانَ لِيَعْمُرَهَا فَتَحْصُلُ الْمَنْفَعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ.
فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ يَدْفَعُ إلَى غَيْرِهِ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ، وَلِأَنَّ التَّحْجِيرَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ لِيَمْلِكَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ إنَّمَا هُوَ الْعِمَارَةُ وَالتَّحْجِيرُ الْإِعْلَامُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّمُونَهُ بِوَضْعِ الْأَحْجَارِ حَوْلَهُ أَوْ يُعَلِّمُونَهُ لِحَجْرِ غَيْرِهِمْ عَنْ إحْيَائِهِ فَبَقِيَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَمَا كَانَ هُوَ الصَّحِيحُ.
وَإِنَّمَا شَرَطَ تَرْكَ ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ.
وَلِأَنَّهُ إذَا أَعْلَمَهُ لابد مِنْ زَمَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى وَطَنِهِ وَزَمَانٍ يُهَيِّئُ أُمُورَهُ فِيهِ، ثُمَّ زَمَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَا يَحْجُرُهُ فَقَدَّرْنَاهُ بِثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا مِنْ السَّاعَاتِ وَالْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ لَا يَفِي بِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَرَكَهَا.
قَالُوا: هَذَا كُلُّهُ دِيَانَةً، فَأَمَّا إذَا أَحْيَاهَا غَيْرُهُ قَبْلَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَلَكَهَا لِتَحَقُّقِ الْإِحْيَاءِ مِنْهُ دُونَ الْأَوَّلِ وَصَارَ كَالِاسْتِيَامِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ، وَلَوْ فُعِلَ يَجُوزُ الْعَقْدُ.
ثُمَّ التَّحْجِيرُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْحَجَرِ بِأَنْ غَرَزَ حَوْلَهَا أَغْصَانًا يَابِسَةً أَوْ نَقَّى الْأَرْضَ وَأَحْرَقَ مَا فِيهَا مِنْ الشَّوْكِ أَوْ خَضَدَ مَا فِيهَا مِنْ الْحَشِيشِ أَوْ الشَّوْكِ، وَجَعَلَهَا حَوْلَهَا وَجَعَلَ التُّرَابَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتِمَّ الْمُسَنَّاةَ لِيَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ، أَوْ حَفَرَ مِنْ بِئْرٍ ذِرَاعًا أَوْ ذِرَاعَيْنِ، وَفِي الْأَخِيرِ وَرَدَ الْخَبَرُ.
وَلَوْ كَرَبَهَا وَسَقَاهَا فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إحْيَاءٌ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا يَكُونُ تَحْجِيرًا، وَلَوْ حَفَرَ أَنْهَارَهَا وَلَمْ يَسْقِهَا يَكُونُ تَحْجِيرًا، وَإِنْ سَقَاهَا مَعَ حَفْرِ الْأَنْهَارِ كَانَ إحْيَاءً لِوُجُودِ الْفِعْلَيْنِ، وَلَوْ حَوَّطَهَا أَوْ سَنَّمَهَا بِحَيْثُ يَعْصِمُ الْمَاءَ يَكُونُ إحْيَاءً؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ، وَكَذَا إذَا بَذَرَهَا.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَمَنْ حَجَّرَ أَرْضًا) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَجَرِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِهِ، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَعْلَمَ بِوَضْعِ الْأَحْجَارِ حَوْلَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَعْلَمَ بِحَجْرِ الْغَيْرِ عَنْ إحْيَائِهَا فَكَانَ التَّحْجِيرُ هُوَ الْإِعْلَامُ، فَإِذَا حَجَّرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَشَايِخَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُفِيدُ مِلْكًا مُؤَقَّتًا إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ لَا يُفِيدُ وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (هُوَ الصَّحِيحُ) قِيلَ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جَاءَ إنْسَانٌ آخَرُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ وَأَحْيَاهُ، فَإِنَّهُ مَلَكَهُ عَلَى الثَّانِي وَلَمْ يَمْلِكْهُ عَلَى الْأَوَّلِ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ حَقٌّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ نَفَى الْحَقَّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَيَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَالْحَقُّ الْكَامِلُ هُوَ الْمِلْكُ.
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَقَوْلُهُ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتِمَّ الْمُسَنَّاةَ) هُوَ مَا يُبْنَى لِلسَّيْلِ لِيَرُدَّ الْمَاءَ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي الْأَخِيرِ) يُرِيدُ حَفْرَ الْبِئْرِ (وَرَدَ الْخَبَرُ) وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا مِقْدَارَ ذِرَاعٍ فَهُوَ مُتَحَجِّرٌ». قَالَ (وَلَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ وَيُتْرَكُ مَرْعًى لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَمَطْرَحًا لِحَصَائِدِهِمْ) لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَلَا يَكُونُ مَوَاتًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ وَالنَّهْرِ.
عَلَى هَذَا قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ مَا لَا غِنًى بِالْمُسْلِمِينَ عَنْهُ كَالْمِلْحِ وَالْآبَارِ الَّتِي يَسْتَقِي النَّاسُ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً) يَعْنِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ (أَوْ دَلَالَةً) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ الْإِمَامُ) يُقَالُ أَقْطَعَ السُّلْطَانُ رَجُلًا أَرْضًا: أَيْ أَعْطَاهُ إيَّاهَا وَخَصَّصَهُ بِهَا.
وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا.
الْعَطَنُ: مُنَاخُ الْإِبِلِ وَمَبْرَكُهَا. قَالَ (وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَرِّيَّةٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا) وَمَعْنَاهُ إذَا حَفَرَ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَهُ أَوْ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ حَفْرَ الْبِئْرِ إحْيَاءٌ.
قَالَ (فَإِنْ كَانَتْ لِلْعَطَنِ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» ثُمَّ قِيلَ: الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ لِأَنَّ فِي الْأَرَاضِيِ رَخْوَةً وَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا (وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّاضِحِ فَحَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَهَذَا عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا) لَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسمِائَةِ ذِرَاعٍ, وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» وَلِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَنْ يُسَيِّرَ دَابَّتَهُ لِلِاسْتِقَاءِ، وَقَدْ يَطُولُ الرِّشَاءُ وَبِئْرُ الْعَطَنِ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهُ بِيَدِهِ فَقَلَّتْ الْحَاجَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَاوُتِ.
وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِهِ، فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ تَرَكْنَاهُ وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَقَى مِنْ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُدْبِرَ الْبَعِيرَ حَوْلَ الْبِئْرِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ: قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَحَرِيمُهَا خَمْسمِائَةِ ذِرَاعٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ وَمِنْ حَوْضٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ.
وَمِنْ مَوْضِعٍ يُجْرَى فِيهِ إلَى الْمَزْرَعَةِ فَلِهَذَا يُقَدَّرُ بِالزِّيَادَةِ، وَالتَّقْدِيرُ بِخَمْسِمِائَةٍ بِالتَّوْقِيفِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَطَنِ، وَالذِّرَاعُ هِيَ الْمُكَسَّرَةُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَقِيلَ إنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْعَيْنِ وَالْبِئْرِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِصَلَابَةٍ بِهَا وَفِي أَرَاضِيِنَا رَخَاوَةٌ فَيُزَادُ كَيْ لَا يَتَحَوَّلَ الْمَاءُ إلَى الثَّانِي فَيَتَعَطَّلَ الْأَوَّلُ.
قَالَ (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ مِنْهُ) كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ حَقِّهِ وَالْإِخْلَالِ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ مَلَكَ الْحَرِيمَ ضَرُورَةً تُمَكِّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ؛ فَإِنْ احْتَفَرَ آخَرُ بِئْرًا فِي حَرِيمِ الْأَوَّلِ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُصْلِحَهُ وَيَكْبِسَهُ تَبَرُّعًا، وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ الثَّانِي فِيهِ قِيلَ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَكْبِسَهُ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ جِنَايَةِ حَفْرِهِ بِهِ كَمَا فِي الْكُنَاسَةِ يُلْقِيهَا فِي دَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِرَفْعِهَا، وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ ثُمَّ يَكْبِسُهُ بِنَفْسِهِ كَمَا إذَا هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ.
وَذَكَرَ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ، وَمَا عَطِبَ فِي الْأَوَّلِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا.
وَالْعُذْرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْحَفْرِ تَحْجِيرًا وَهُوَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِهِ، وَمَا عَطِبَ فِي الثَّانِيَةِ فَفِيهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ حَيْثُ حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَإِنْ حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا وَرَاءَ حَرِيمِ الْأَوَّلِ فَذَهَبَ مَاءُ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَفْرِهَا، وَلِلثَّانِي الْحَرِيمُ مِنْ الْجَوَانِبِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْجَانِبِ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ مِلْكِ الْحَافِرِ الْأَوَّلِ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (قِيلَ الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ) يَعْنِي يَكُونُ فِي كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» فَإِنَّهُ بِظَاهِرِهِ يَجْمَعُ الْجَوَانِبَ الْأَرْبَعَ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَرِيمِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأُولَى كَيْ لَا يَحْفِرَ بِحَرِيمِهِ أَحَدٌ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّلَ إلَيْهَا مَاءُ بِئْرِهِ، وَهَذَا الضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِيَقِينٍ، فَإِنَّ الْأَرَاضِيَ تَخْتَلِفُ فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَفِي مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَتَيَقَّنُ بِدَفْعِ الضَّرَرِ.
وَالنَّاضِحُ: الْبَعِيرُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُ مَا رَوَيْنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» يَعْنِي بَيْنَ الْعَطَنِ وَالنَّاضِحِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ، فَيَكُونُ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ الْعَطَنِ وَالنَّاضِحِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِلتَّغْلِيبِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي انْتِفَاعِ الْآبَارِ فِي الْفَلَوَاتِ هَذَا الطَّرِيقُ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْعَطَنِ ذِكْرًا لِجَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} قَيَّدَ بِالْبَيْعِ لِمَا أَنَّ الْغَالِبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْبَيْعُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} وَالْوَعِيدُ لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ بِالْأَكْلِ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ مِنْ أَمْرِهِ الْأَكْلُ فَأَخْرَجَهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْغَالِبُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَبُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَهَاهُنَا وَهَاهُنَا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي حَرِيمِهِ وَفِي مَائِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ) يُرِيدُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا» لِأَنَّ كَلِمَةَ «مَنْ» تُفِيدُ الْعُمُومَ (أَوْلَى عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ) يُرِيدُ بِهِ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ: «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَطَنُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا».
وَرُدَّ عُمُومُ الْأَوَّلِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِلْعَطَنِ فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْعَطَنِ كَمَا تَرَى.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَطَنًا لَيْسَ صِفَةً لِبِئْرٍ حَتَّى يَكُونَ مُخَصِّصًا، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْحَاجَةِ إلَى الْأَرْبَعِينَ لِيَكُونَ دَافِعًا لِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْحَافِرِ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ وَاسْتِحْقَاقَهُ بِالْعَمَلِ، فَفِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ اسْتِحْقَاقُهُ لَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَاتْرُكْهُ فِي النَّاضِحِ أَيْضًا لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّحَكُّمُ.
قُلْنَا: حَدِيثُهُ فِيهِ مُعَارَضٌ بِالْعُمُومِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ فَحَفِظْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ» وَقَوْلُهُ (وَالذِّرَاعُ هِيَ الْمُكَسَّرَةُ) يَعْنِي أَنْ يَكُونَ سِتَّ قَبَضَاتِ وَهُوَ ذِرَاعُ الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا نَقَصَتْ عَنْ ذِرَاعِ الْمَلِكِ وَهُوَ بَعْضُ الْأَكَاسِرَةِ بِقَبْضَةٍ، وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ بِذِرَاعِ الْكِرْبَاسِ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ فَإِنَّهَا هِيَ الْمُكَسَّرَةُ.
قَالَ (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا يُمْنَعُ مِنْهُ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (أَنْ يَطِمَّهُ) أَيْ يُصْلِحَهُ وَيَكْبِسَهُ مِنْ بَابِ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرْمُهُ فِي كَوْنِ الْعَطْفِ لِلتَّفْسِيرِ فَإِنَّ إصْلَاحَهُ كَبْسُهُ.
قَوْلُهُ (وَذَكَرَ طَرِيقَةَ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ) وَهُوَ أَنْ يَقُومَ الْأَوَّلُ قَبْلَ حَفْرِ الثَّانِيَةِ وَبَعْدَهُ فَيَضْمَنُ نُقْصَانَ مَا بَيْنَهُمَا.
وَالْقَنَاةُ: مَجْرَى الْمَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ تُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ كاريز. (وَالْقَنَاةُ لَهَا حَرِيمٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهَا) وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ.
وَقِيلَ هُوَ عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَهُ لَا حَرِيمَ لَهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ نَهْرٌ فِي التَّحْقِيقِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّهْرِ الظَّاهِرِ.
قَالُوا: وَعِنْدَ ظُهُورِ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ فَوَّارَةٍ فَيُقَدَّرُ حَرِيمُهُ بِخَمْسِمِائَةِ ذِرَاعٍ (وَالشَّجَرَةُ تُغْرَسُ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ لَهَا حَرِيمٌ أَيْضًا حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا فِي حَرِيمِهَا)؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حَرِيمٍ لَهُ يَجِدُ فِيهِ ثَمَرَهُ وَيَضَعُهُ فِيهِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، بِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (بِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ) يُرِيدُ بِهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا غَرَسَ شَجَرَةً فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ فَجَاءَ آخَرُ فَأَرَادَ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرَةً أُخْرَى بِجَنْبِ شَجَرَتِهِ، فَشَكَا صَاحِبُ الشَّجَرَةِ الْأُولَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ الْحَرِيمِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ وَأَطْلَقَ لِلْآخَرِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ» وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ. قَالَ (وَمَا تَرَكَ الْفُرَاتُ أَوْ الدِّجْلَةُ وَعَدَلَ عَنْهُ الْمَاءُ وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهُ) لِحَاجَةِ الْعَامَّةِ إلَى كَوْنِهِ نَهْرًا (وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِعَامِرٍ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ، لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ وَهُوَ الْيَوْمَ فِي يَدِ الْإِمَامِ. قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ حَرِيمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَا: لَهُ مُسْنَاةُ النَّهْرِ يَمْشِي عَلَيْهَا وَيُلْقِي عَلَيْهَا طِينَهُ) قِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ حَفَرَ نَهْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ عِنْدَهُ.
وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْحَرِيمِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَشْيِ لِتَسْيِيلِ الْمَاءِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَادَةً فِي بَطْنِ النَّهْرِ وَإِلَى إلْقَاءِ الطِّينِ، وَلَا يُمْكِنُهُ النَّقْلُ إلَى مَكَان بَعِيدٍ إلَّا بِحَرَجٍ فَيَكُونُ لَهُ الْحَرِيمُ اعْتِبَارًا بِالْبِئْرِ.
وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِي الْبِئْرِ عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْحَرِيمِ فِيهِ فَوْقَهَا إلَيْهِ فِي النَّهْرِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ فِي النَّهْرِ مُمْكِنٌ بِدُونِ الْحَرِيمِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْبِئْرِ إلَّا بِالِاسْتِقَاءِ وَلَا اسْتِقَاءَ إلَّا بِالْحَرِيمِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ.
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا تَبَعًا لِلنَّهْرِ، وَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَبِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ تَنْعَدِمُ الْيَدُ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً فَلَهُمَا أَنَّ الْحَرِيمَ فِي يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ بِاسْتِمْسَاكِهِ الْمَاءَ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَقْضَهُ.
وَلَهُ أَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْأَرْضِ صُورَةً وَمَعْنًى، أَمَّا صُورَةً فَلِاسْتِوَائِهِمَا، وَمَعْنًى مِنْ حَيْثُ صَلَاحِيَّتُهُ لِلْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ، وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهِ.
كَاثْنَيْنِ تَنَازَعَا فِي مِصْرَاعِ بَابٍ لَيْسَ فِي يَدِهِمَا، وَالْمِصْرَاعُ الْآخَرُ مُعَلَّقٌ عَلَى بَابِ أَحَدِهِمَا يُقْضَى لِلَّذِي فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَالْقَضَاءُ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ قَضَاءُ تَرْكٍ، وَلَا نِزَاعَ فِيمَا بِهِ اسْتِمْسَاكُ الْمَاءِ إنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا وَرَاءَهُ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْغَرْسِ، عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مُسْتَمْسِكًا بِهِ مَاءُ نَهْرِهِ فَالْآخَرُ دَافِعٌ بِهِ الْمَاءَ عَنْ أَرْضِهِ، وَالْمَانِعُ مِنْ نَقْضِهِ تَعَلُّقُ حَقِّ صَاحِبِ النَّهْرِ لَا مِلْكُهُ.
كَالْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ وَإِنْ كَانَ مَلَكَهُ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نَهْرٌ لِرَجُلٍ إلَى جَنْبِهِ مُسَنَّاةٌ وَلِآخَرَ خَلْفَ الْمُسَنَّاةِ أَرْضٌ تَلْزَقُهَا، وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ).
وَقَالَا: هِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمًا لِمُلْقَى طِينِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا) مَعْنَاهُ: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ غَرْسٌ وَلَا طِينٌ مُلْقًى فَيَنْكَشِفُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، أَمَّا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَصَاحِبُ الشُّغْلِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ صَاحِبُ يَدٍ.
وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ غَرْسٌ لَا يُدْرَى مَنْ غَرَسَهُ فَهُوَ مِنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ أَيْضًا.
وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِصَاحِبِ النَّهْرِ.
وَأَمَّا إلْقَاءُ الطِّينِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ إنَّ لِصَاحِبِ النَّهْرِ ذَلِكَ مَا لَمْ يُفْحِشْ.
وَأَمَّا الْمُرُورُ فَقَدْ قِيلَ يُمْنَعُ صَاحِبُ النَّهْرِ عِنْدَهُ، وَقِيلَ لَا يُمْنَعُ لِلضَّرُورَةِ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: آخُذُ بِقَوْلِهِ فِي الْغَرْسِ وَبِقَوْلِهِمَا فِي إلْقَاءِ الطِّينِ.
ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَرِيمَهُ مِقْدَارُ نِصْفِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِقْدَارُ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
وَهَذَا أَرْفَقُ بِالنَّاسِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ) ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ أَنَّ نَهْرًا لِرَجُلٍ وَأَرْضًا عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ لِآخَرَ فَتَنَازَعَا فِي الْمُسَنَّاةِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ النَّهْرِ حَائِلٌ كَالْحَائِطِ وَنَحْوِهِ فَالْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَلِصَاحِبِ النَّهْرِ فِيهَا حَقٌّ، حَتَّى إنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ إذَا أَرَادَ رَفْعَهَا: أَيْ هَدْمَهَا كَانَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ مَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ.
وَذَكَرَ فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي نَهْرٍ كَبِيرٍ لَا يُحْتَاجُ إلَى كَرْبِهِ فِي كُلِّ حِينٍ، أَمَّا الْأَنْهَارُ الصِّغَارُ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى كَرْبِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَهَا حَرِيمٌ بِالِاتِّفَاقِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يُنَافِيهِ وَقَوْلُهُ (فَيَكُونُ لَهُ حَرِيمٌ اعْتِبَارًا بِالْبِئْرِ) يَعْنِي بِجَامِعِ الِاحْتِيَاجِ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ الْحَاجَةَ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النَّهْرِ كَهِيَ فِي الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ مِنْهُمَا إلَيْهِ (وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ إلَى آخِرِهِ.
وَفِي الْبِئْرِ عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ فَكَانَ الْحُكْمُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ، وَقَوْلُهُ (وَالْحَاجَةُ إلَى الْحَرِيمِ فِيهِ) أَيْ فِي الْبِئْرِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ هَبْ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلْيَلْحَقْ بِهِ بِالدَّلَالَةِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِلْحَاقَ بِالدَّلَالَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْأَعْلَى بِالْأَدْنَى أَوْ الْمُسَاوِي، وَالْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْحَرِيمِ فِيهِ: أَيْ فِي الْبِئْرِ بِمَعْنَى الْقَلِيبِ فَوْقَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي النَّهْرِ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ فِي النَّهْرِ مُمْكِنٌ بِدُونِ الْحَرِيمِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْبِئْرِ إلَّا بِالِاسْتِقَاءِ، وَلَا اسْتِقَاءَ إلَّا بِالْحَرِيمِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ.
وَقَوْلُهُ (وَوَجْهُ الْبِنَاءِ، إلَى قَوْلِهِ: وَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الْيَدِ) مِنْ جِهَتِهِمَا.
وَقَوْلُهُ (وَلِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ إلَى آخِرِهِ) مِنْ جِهَةِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ (أَمَّا صُورَةً فَلِاسْتِوَائِهِمَا) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُسَنَّاةُ مُرْتَفِعَةً عَنْ الْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُسَنَّاةُ أَرْفَعَ مِنْ الْأَرْضِ فَهِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ارْتِفَاعَهُ لِإِلْقَاءِ طِينِهِ.
وَقَوْلُهُ (يُقْضَى لِلَّذِي فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْمُتَنَازَعِ فِيهِ) هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَالْقَضَاءُ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ قَضَاءُ تَرْكٍ لَا قَضَاءُ مِلْكٍ، فَلَوْ أَقَامَ صَاحِبُ النَّهْرِ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُسَنَّاةَ مِلْكُهُ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءَ مِلْكٍ لَمَا قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ فِي حَادِثَةٍ قَضَاءُ مِلْكٍ لَا يَصِيرُ مَقْضِيًّا لَهُ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَا نِزَاعَ فِيمَا بِهِ اسْتِمْسَاكُ الْمَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ الْحَرِيمَ فِي يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ بِإِمْسَاكِ الْمَاءِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَانِعُ مِنْ نَقْضِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَقْضَهُ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
وَقَوْلُهُ (لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُسَنَّاةِ بِتَأْوِيلِ الْحَرِيمِ.