فصل: (بَابُ خِيَارِ الْعَيْبِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ خِيَارِ الْعَيْبِ):

(وَإِذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ) فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ، فَعِنْدَ فَوْتِهِ يَتَخَيَّرُ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ بِلُزُومِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فِي مُجَرَّدِ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي مُمْكِنٌ بِالرَّدِّ بِدُونِ تَضَرُّرِهِ، وَالْمُرَادُ عَيْبٌ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِضًا بِهِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ خِيَارِ الْعَيْبِ): أَخَّرَ خِيَارَ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ اللُّزُومَ بَعْدَ التَّمَامِ، وَإِضَافَةُ الْخِيَارِ إلَى الْعَيْبِ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ.
إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ: أَيْ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْبِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ عَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ عَبْدًا وَكَتَبَ فِي عُهْدَتِهِ هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ عَبْدًا لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ» وَتَفْسِيرُ الدَّاءِ فِيمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَرَضُ فِي الْجَوْفِ وَالْكَبِدِ وَالرِّئَةِ فَإِنَّ الْمَرَضَ مَا يَكُونُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ وَالدَّاءُ مَا يَكُونُ فِي الْجَوْفِ وَالْكَبِدِ وَالرِّئَةِ.
وَفِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: الدَّاءُ الْمَرَضُ، وَالْغَائِلَةُ مَا تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ، وَالْخِبْثَةُ هِيَ الِاسْتِحْقَاقُ، وَقِيلَ هِيَ الْجُنُونُ، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْ الْعَيْبِ، وَوَصْفُ السَّلَامَةِ يَفُوتُ بِوُجُودِ الْعَيْبِ، فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَتَخَيَّرُ لِأَنَّ الرِّضَا دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَنْتَفِي الرِّضَا فَيَتَضَرَّرُ بِلُزُومِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: تَقْرِيرُ كَلَامِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْبَيْعِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ إذَا اقْتَضَى وَصْفَ السَّلَامَةِ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لَهُ، فَإِذَا فَاتَ اللَّازِمُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ الْعَقْدُ اللَّازِمُ، وَمِنْ انْتِفَائِهِ لَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْعَقْدِ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ) لِأَنَّ الْفَائِتَ وَصْفٌ، إذْ الْعَيْبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا يُوجِبُ فَوَاتَ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ كَالْعَمَى وَالْعَوَرِ وَالشَّلَلِ وَالزَّمَانَةِ وَالْأُصْبُعِ النَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ وَالسِّنِّ السَّاقِطَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ مَعْنًى لَا صُورَةً كَالسُّعَالِ الْقَدِيمِ وَارْتِفَاعِ الْحَيْضِ فِي زَمَانِهِ وَالزِّنَا وَالدَّفَرِ وَالْبَخَرِ فِي الْجَارِيَةِ وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَوَاتُ وَصْفٍ وَالْأَوْصَافُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ إمَّا أَنْ يُقَابَلَ بِالْوَصْفِ وَالْأَصْلِ أَوْ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي أَوْ بِالْعَكْسِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى مُزَاحَمَةِ التَّبَعِ الْأَصْلَ فَتَعَيَّنَ الثَّالِثُ (قَوْلُهُ فِي مُجَرَّدِ الْعَقْدِ) احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَتْ الْأَوْصَافُ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ كَمَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إمْسَاكِهِ بِأَخْذِ النُّقْصَانِ أَيْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى، وَفِي إمْسَاكِهِ وَأَخْذِ النُّقْصَانِ زَوَالُهُ بِالْأَقَلِّ فَلَمْ يَكُنْ مَرْضِيَّهُ، وَعَدَمُ رِضَا الْبَائِعِ بِزَوَالِ الْمَبِيعِ مُنَافٍ لِوُجُودِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ إلْزَامًا عَلَى الْبَائِعِ بِلَا بَيْعٍ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِالْعَيْبِ أَيْضًا لَكِنْ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِرَدِّ الْمَبِيعِ بِدُونِ مَضَرَّةٍ فَلَا ضَرُورَةَ فِي أَخْذِ النُّقْصَانِ.
قِيلَ: الْبَائِعُ إذَا بَاعَ مَعِيبًا فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ الْبَائِعُ يَتَضَرَّرُ لِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ نَقَصَ الثَّمَنُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مَعِيبٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ.
وَعَلَى هَذَا فَالْوَاجِبُ إمَّا شُمُولُ الْخِيَارِ لَهُمَا أَوْ عَدَمُهُ لَهُمَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَتَصَرُّفِهِ وَمُمَارَسَتِهِ طُولَ زَمَانِهِ فَأُنْزِلَ عَالِمًا بِصِفَةِ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ ظَهَرَ بِخِلَافِهِ.
وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ مَا رَأَى الْمَبِيعَ، فَلَوْ أَلْزَمْنَا الْعَقْدَ مَعَ الْعَيْبِ تَضَرَّرَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ حَصَلَ لَهُ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْعَيْبِ الْمُوجِبِ لِلْخِيَارِ عَيْبٌ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ: أَيْ رُؤْيَةَ الْعَيْبِ عِنْدَ إحْدَى الْحَالَيْنِ رِضًا بِالْعَيْبِ دَلَالَةً قَالَ (وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ)؛ لِأَنَّ التَّضَرُّرَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ، وَذَلِكَ بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَتِهِ عُرْفُ أَهْلِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ) الْعَيْبُ مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَابِطَةً كُلِّيَّةً يُعْلَمُ بِهَا الْعُيُوبُ الْمُوجِبَةُ لِلْخِيَارِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَقَالَ (وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ لِأَنَّ التَّضَرُّرَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ) وَنُقْصَانُ الْمَالِيَّةِ (بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ، فَالنَّقْصُ بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَتِهِ عُرْفُ أَهْلِهِ). (وَالْإِبَاقُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ وَالسَّرِقَةُ فِي الصَّغِيرِ عَيْبٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ، فَإِذَا بَلَغَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ حَتَّى يُعَاوِدَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ) وَمَعْنَاهُ: إذَا ظَهَرَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ حَدَثَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي صِغَرِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ ذَلِكَ، وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَمْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ فِي الصِّغَرِ لِضَعْفِ الْمَثَانَةِ، وَبَعْدَ الْكِبَرِ لِدَاءٍ فِي بَاطِنِهِ، وَالْإِبَاقُ فِي الصِّغَرِ لِحُبِّ اللَّعِبِ وَالسَّرِقَةُ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ، وَهُمَا بَعْدَ الْكِبَرِ لِخُبْثٍ فِي الْبَاطِنِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الصَّغِيرِ مَنْ يَعْقِلُ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَهُوَ ضَالٌّ لَا آبِقٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ عَيْبًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَالْإِبَاقُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ وَالسَّرِقَةُ عَيْبٌ فِي الصَّغِيرِ) الَّذِي يَعْقِلُ إذَا أَبَقَ مِنْ مَوْلَاهُ مَا دُونَ السَّفَرِ مِنْ الْمِصْرِ إلَى الْقَرْيَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَذَلِكَ عَيْبٌ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْمَنَافِعَ عَلَى الْمَوْلَى، وَالسَّفَرُ وَمَا دُونَهُ فِيهِ سَوَاءٌ، فَلَوْ أَبَقَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ الْغَاصِبِ إلَى مَوْلَاهَا فَلَيْسَ بِإِبَاقٍ، وَإِنْ أَبَقَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَرْجِعْ إلَى مَوْلَاهَا عَالِمَةً بِمَنْزِلِهِ وَتَقْوَى عَلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِ فَهُوَ عَيْبٌ، وَإِنْ فَاتَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ بِعَيْبٍ، وَإِذَا بَالَ فِي الْفِرَاشِ وَهُوَ مُمَيِّزٌ يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَشْرَبُ وَحْدَهُ فَكَذَلِكَ، وَإِذَا سَرَقَ دِرْهَمًا مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ لِإِخْلَالِهَا بِالْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُهُ عَلَى مَالِهِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ عَلَى الدَّوَامِ وَتُقْطَعُ يَدُهُ فِي سَرِقَةِ مَالِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ عَيْبًا بِلَا تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمَوْلَى وَغَيْرِهِ إلَّا فِي الْمَأْكُولَاتِ لِلْأَكْلِ، فَإِنْ سَرَقَهَا مِنْ مَوْلَاهَا لَيْسَتْ بِعَيْبٍ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ الصَّغِيرِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي حَالِ صِغَرِهِ فَهُوَ عَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ، وَإِذَا وُجِدَتْ عِنْدَهُمَا فِي حَالِ كِبَرِهِ فَكَذَلِكَ.
وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ فَكَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي صِغَرِهِ وَعِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي كِبَرِهِ فَلَا يُرَدُّ بِهِ لِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُخْتَلِفٌ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ. قَالَ (وَالْجُنُونُ فِي الصِّغَرِ عَيْبٌ أَبَدًا) وَمَعْنَاهُ: إذَا جُنَّ فِي الصِّغَرِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَاوَدَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ أَوْ فِي الْكِبَرِ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْأَوَّلِ، إذْ السَّبَبُ فِي الْحَالَيْنِ مُتَّحِدٌ وَهُوَ فَسَادُ الْبَاطِنِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ الْمُعَاوَدَةَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ قَلَّمَا يَزُولُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ لِلرَّدِّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَالْجُنُونُ فِي الصِّغَرِ عَيْبٌ أَبَدًا) مَعْنَاهُ: أَنَّ الْجُنُونَ فَارَقَ الْعُيُوبَ الْمَذْكُورَةَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْحَالَتَيْنِ، لِأَنَّ السَّبَبَ فِي الْحَالَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ فَسَادُ الْبَاطِنِ، فَإِذَا جُنَّ فِي يَدِ الْبَائِعِ فِي صِغَرِهِ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً ثُمَّ عَاوَدَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي كِبَرِهِ يُرَدُّ بِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُعَاوَدَةَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِشَرْطٍ كَمَا مَالَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ آثَارَهُ لَا تَرْتَفِعُ، وَذَلِكَ تَبَيَّنَ فِي حَمَالِيقِ عَيْنَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِهِ شَيْءٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ فَلَا يَثْبُتُ وِلَايَةُ الرَّدِّ إلَّا بِالْمُعَاوَدَةِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ. (قَالَ: وَالْبَخَرُ وَالدَّفْرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ يَكُونُ الِاسْتِفْرَاشَ وَطَلَبَ الْوَلَدِ وَهُمَا يُخِلَّانِ بِهِ، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاسْتِخْدَامُ وَلَا يُخِلَّانِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ دَاءٍ؛ لِأَنَّ الدَّاءَ عَيْبٌ (وَالزِّنَا وَوَلَدُ الزِّنَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْغُلَامِ)؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فِي الْجَارِيَةِ وَهُوَ الِاسْتِفْرَاشُ وَطَلَبُ الْوَلَدِ، وَلَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فِي الْغُلَامِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الزِّنَا عَادَةً لَهُ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُنَّ يُخِلُّ بِالْخِدْمَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَالدَّفَرُ وَالْبَخَرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ) الدَّفَرُ: رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ تَجِيءُ مِنْ الْإِبِطِ، وَالذَّفَرُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: شِدَّةُ الرَّائِحَةِ طَيِّبَةً كَانَتْ أَوْ كَرِيهَةً، وَمِنْهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ وَإِبِطٌ دَفْرَاءُ وَهُوَ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ الدَّفَرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الرِّوَايَةِ.
وَالْبَخَرُ: نَتْنُ رَائِحَةِ الْفَمِ، كُلٌّ مِنْهَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ لِلْإِخْلَالِ بِمَا عَسَى يَكُونُ مَقْصُودًا وَهُوَ الِاسْتِفْرَاشُ، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْخِدْمَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا لَا يَكُونُ فِي النَّاسِ مِثْلُهُ.
لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ دَاءٍ وَالدَّاءُ نَفْسُهُ يَكُونُ عَيْبًا، وَالزِّنَا وَوَلَدُ الزِّنَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْغُلَامِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُخِلُّ بِالِاسْتِفْرَاشِ وَالثَّانِي بِطَلَبِ الْوَلَدِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يُعَيَّرُ بِزِنَا أُمِّهِ وَلَيْسَا بِمُخِلَّيْنِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْغُلَامِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ، إلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى مَا قَالَ الْمَشَايِخُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ عَادَةً وَيُحْتَاجُ إلَى اتِّبَاعِهِنَّ وَهُوَ مُخِلٌّ بِالْخِدْمَةِ. قَالَ (وَالْكُفْرُ عَيْبٌ فِيهِمَا)؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ صَرْفُهُ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ فَتَخْتَلُّ الرَّغْبَةُ، فَلَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لَا يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ زَوَالُ الْعَيْبِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ، وَفَوَاتُ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَالْكُفْرُ عَيْبٌ فِيهِمَا) الْكُفْرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ لِأَنَّ طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَتِهِ، وَالنُّفْرَةُ عَنْ الصُّحْبَةِ تُؤَدِّي إلَى قِلَّةِ الرَّغْبَةِ وَهِيَ تُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الثَّمَنِ فَيَكُونُ عَيْبًا، وَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَرْفَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَعَنْ كَفَّارَتَيْ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ عِنْدَ بَعْضٍ فَيُخِلُّ بِالرَّغْبَةِ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَوَجَدَهُ كَافِرًا فَلَا شُبْهَةَ فِي الرَّدِّ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لَمْ يُرَدَّ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ زَوَالُ الْعَيْبِ وَزَوَالُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إيَّاهُ، كَمَا إذَا اشْتَرَى مَعِيبًا فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ، فَعَلَى هَذَا ذَكَرَ الْكُفْرَ فِيمَا اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ لِلْبَرَاءَةِ عَنْ عَيْبِ الْكُفْرِ لَا لِلشَّرْطِ بِأَنْ يُوجَدَ فِيهِ هَذَا الْوَصْفُ الْقَبِيحُ لَا مَحَالَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ فَاتَ شَرْطٌ مَرْغُوبٌ، لِأَنَّ الْأَوْلَى بِالْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَعْبِدَ الْكَافِرَ وَكَانَ السَّلَفُ يَسْتَعْبِدُونَ الْعُلُوجَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَى الدِّيَانَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ. (قَالَ: فَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَالِغَةً لَا تَحِيضُ أَوْ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فَهُوَ عَيْبٌ)؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الدَّمِ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَامَةُ الدَّاءِ، وَيُعْتَبَرُ فِي الِارْتِفَاعِ أَقْصَى غَايَةِ الْبُلُوغِ وَهُوَ سَبْعَ عَشَرَةَ سَنَةً فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْأَمَةِ فَتُرَدُّ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ نُكُولُ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
الشَّرْحُ:
فَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَالِغَةً لَا تَحِيضُ بِأَنْ ارْتَفَعَ عَنْهَا فِي أَقْصَى غَايَةِ الْبُلُوغِ وَهُوَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِيهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَادَّعَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَوْ سَنَتَيْنِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهَا لَمْ تَحِضْ لِحَبَلٍ بِهَا أَوْ لِدَاءٍ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا تُرَدُّ بِهِ، وَالْمَرْجِعُ فِي الْحَبَلِ قَوْلُ النِّسَاءِ.
وَيُكْتَفَى بِقَوْلِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَقِّ سَمَاعِ الْخُصُومَةِ، وَفِي الدَّاءِ قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ عَدْلَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو الْمُعِينِ: يَكْفِي قَوْلُ عَدْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَقَيَّدْنَا بِأَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، لِأَنَّهُ إذَا ادَّعَى فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ لَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْإِصْغَاءُ إلَى ذَلِكَ، وَبِأَنْ تَكُونَ دَعْوَاهُ مُشْتَمِلَةً عَلَى انْضِمَامِ الْحَبَلِ إلَى انْقِطَاعِ الْحَيْضِ، أَوْ عَلَى انْضِمَامِ الدَّاءِ إلَيْهِ لِأَنَّ الِارْتِفَاعَ بِدُونِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُعَدُّ عَيْبًا، وَكَذَا إذَا بَلَغَتْ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَحَاضَتْ وَلَمْ يَنْقَطِعْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا، لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الدَّمِ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَامَةُ الدَّاءِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الَّتِي خُلِقَتْ عَلَى السَّلَامَةِ الْحَيْضُ فِي أَوَانِهِ وَالْمُعَاوَدَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَدُومُ، فَإِذَا جَاوَزَتْ أَقْصَى الْعَدَدِ وَهُوَ سَبْعَةَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ تَحِضْ أَوْ حَاضَتْ وَلَمْ يَنْقَطِعْ كَانَ ذَلِكَ لِدَاءٍ فِي بَطْنِهَا وَالدَّاءُ عَيْبٌ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ: أَيْ الِارْتِفَاعُ وَالِاسْتِمْرَارُ بِقَوْلِ الْأَمَةِ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ ذَلِكَ لَا تُرَدُّ عَلَيْهِ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْأَمَةِ وَحْدَهَا فَيُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ، فَإِنْ نَكَلَ تُرَدُّ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مَقْبُولَةٌ فِي تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ فَقَطْ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُرَدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَوْلِ الْأَمَةِ وَبِشَهَادَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَتَأَكَّدْ فَجَازَ أَنْ يُفْسَخَ بِشَهَادَتِهِنَّ (قَالَ: وَإِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِيَ عَيْبٌ فَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ وَلَا يَرُدُّ الْمَبِيعَ)؛ لِأَنَّ فِي الرَّدِّ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ سَالِمًا، وَيَعُودُ مَعِيبًا فَامْتَنَعَ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَتَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالضَّرَرِ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ: وَإِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ) إذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ بِأَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ سَلِيمًا عَنْ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ وَمَعِيبًا بِهِ فَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ ثُمُنٍ أَوْ سُدُسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ (وَلَا يُرَدُّ الْمَبِيعُ لِأَنَّ فِي الرَّدِّ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ) بِخُرُوجِ الْمَبِيعِ مِنْ مِلْكِهِ سَلِيمًا مِنْ الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَعَوْدِهِ إلَيْهِ مَعِيبًا بِهِ وَالْإِضْرَارُ مُمْتَنِعٌ (وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْبَائِعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِالْمَعِيبِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ، وَالرُّجُوعُ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِلدَّفْعِ فَتَعَيَّنَ مِدْفَعًا، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ الْحَادِثِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالضَّرَرِ، وَالرِّضَا إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ كَمَا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ الْقَدِيمِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ قَوْلُكُمْ الْأَوْصَافُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهَا إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَانَ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا رَجَعَ بِالْعَيْبِ)؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِالْقَطْعِ فَإِنَّهُ عَيْبٌ حَادِثٌ (فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)؛ لِأَنَّ الرَّدَّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِرِضَا الْبَائِعِ فَيَصِيرُ هُوَ بِالْبَيْعِ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ فَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ (فَإِنْ قَطَعَ الثَّوْبَ وَخَاطَهُ أَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ، أَوْ لَتَّ السَّوِيقَ بِسَمْنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِهِ) لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْفَسْخِ فِي الْأَصْلِ بِدُونِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، وَلَا وَجْهَ إلَيْهِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ فَامْتَنَعَ أَصْلًا (وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ)؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا لِحَقِّهِ (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا رَأَى الْعَيْبَ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ) لِأَنَّ الرَّدَّ مُمْتَنِعٌ أَصْلًا قَبْلَهُ فَلَا يَكُونُ بِالْبَيْعِ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ) وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ (فَوَجَدَهُ مَعِيبًا رَجَعَ بِالْعَيْبِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِالْقَطْعِ) الَّذِي هُوَ عَيْبٌ حَادِثٌ.
لَا يُقَالُ: الْبَائِعُ يَتَضَرَّرُ بِرَدِّهِ مَعِيبًا وَالْمُشْتَرِي بِعَدَمِ رَدِّهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ تَرْجِيحَ جَانِبِ الْمُشْتَرِي فِي دَفْعِ الضَّرَرِ لِأَنَّ الْبَائِعَ غَرَّهُ بِتَدْلِيسِ الْعَيْبِ.
لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَعْصِيَةُ لَا تَمْنَعُ عِصْمَةَ الْمَالِ كَالْغَاصِبِ إذَا صَبَغَ الْمَغْصُوبَ فَكَانَ فِي شَرْعِ الرُّجُوعِ بِالْعَيْبِ نَظَرٌ لَهُمَا، وَفِي إلْزَامِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ إضْرَارٌ لِلْبَائِعِ لَا لِفِعْلٍ بَاشَرَهُ، وَفِي عَدَمِ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ إضْرَارًا بِالْمُشْتَرِي لَكِنْ لِعَجْزِهِ بِمَا بَاشَرَهُ فَكَانَا سَوَاءً فَاعْتُبِرَ مَا هُوَ أَنْظَرُ لَهُمَا، إلَّا إذَا قَالَ الْبَائِعُ أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ فَإِنَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الرَّدِّ كَانَ لِحَقِّهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ فَكَانَ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى بَعِيرًا فَنَحَرَهُ فَلَمَّا شَقَّ بَطْنَهُ وَجَدَ أَمْعَاءَهُ فَاسِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ النَّحْرَ إفْسَادٌ لِلْمَالِيَّةِ لِصَيْرُورَةِ الْبَعِيرِ بِهِ عُرْضَةً لِلنَّتْنِ وَالْفَسَادِ، وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ بِسَرِقَتِهِ فَيَخْتَلُّ مَعْنَى قِيَامِ الْمَبِيعِ، فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي يَعْنِي بَعْدَ الْقَطْعِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ كُنْت أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ الرَّدُّ مُمْتَنِعًا بِرِضَا الْبَائِعِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَصِيرُ بِالْعَيْبِ حَابِسًا الْمَبِيعَ وَلَا رُجُوعَ بِالنُّقْصَانِ إذْ ذَاكَ لِإِمْكَانِ رَدِّ الْمَبِيعِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ لَوْلَا الْبَيْعُ، وَلَوْ قَطَعَ الثَّوْبَ وَخَاطَهُ أَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ لَتَّ السَّوِيقَ بِسَمْنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ امْتَنَعَ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ إمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَى الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ أَوْ عَلَيْهِ مَعَهَا وَلَا سَبِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ وَالْفَسْخُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَحَلِّ الْعَقْدِ وَالِامْتِنَاعُ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ لِكَوْنِهِ رِبًا فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ أَنَا آخُذُهُ فَتَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.
وَلَا يُشْكِلُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْبَيْعِ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي الزِّيَادَةِ مُمْكِنٌ تَبَعًا لِلْأَصْلِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَا تَمَحَّضَتْ تَبَعًا لِلْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ التَّوَلُّدِ.
بِخِلَافِ الصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ إمَّا مُتَّصِلَةٌ أَوْ مُنْفَصِلَةٌ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْمَبِيعِ أَوْ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ.
فَالْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ الْمَبِيعِ كَالْجَمَالِ وَالْحُسْنِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ تَمْنَعُ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ تَمْنَعُ مِنْهُ لِمَا مَرَّ مِنْ التَّعْلِيلِ، وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْكَسْبِ لَا تَمْنَعُ، لَكِنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ وَتُسَلَّمُ الزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي مَجَّانًا، بِخِلَافِ الْوَلَدِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكَسْبَ لَيْسَ بِمَبِيعٍ بِحَالٍ مَا لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ الْأَعْيَانِ وَلِهَذَا كَانَتْ مَنَافِعُ الْحُرَّةِ مَالًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُرُّ مَالًا وَالْوَلَدُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْمَبِيعِ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْمَبِيعِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسَلَّمَ لَهُ مَجَّانًا لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا، فَإِنْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الثَّوْبَ الْمَخِيطَ أَوْ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ بِالْحُمْرَةِ أَوْ السَّوِيقَ الْمَلْتُوتَ بِالسَّمْنِ بَعْدَ مَا رَأَى الْعَيْبَ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ الرَّدَّ كَانَ مُمْتَنِعًا قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ حَابِسًا بِالْمَبِيعِ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ كَانَ حَابِسًا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِيهِ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَيُمْكِنُهُ الرَّدُّ بِرِضَا الْبَائِعِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِيهِ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَيُمْكِنُهُ الرَّدُّ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَعَنْ هَذَا (قُلْنَا: إنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ لِبَاسًا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَخَاطَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ، وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ حَصَلَ فِي الْأَوَّلِ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ، وَفِي الثَّانِيَ بَعْدَهَا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ).
الشَّرْحُ:
(وَعَنْ هَذَا) أَيْ عَمَّا قُلْنَا إنَّ الْمُشْتَرِيَ مَتَى كَانَ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ حَابِسًا يَرْجِعُ (قُلْنَا: إنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ لِبَاسًا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَخَاطَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ) لِأَنَّ التَّمْلِيكَ حَصَلَ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَطَعَهُ لِبَاسًا لَهُ كَانَ وَاهِبًا لَهُ وَقَابِضًا لِأَجَلِهِ فَتَتِمُّ الْهِبَةُ بِنَفْسِ الْإِيجَابِ وَقَامَتْ يَدُهُ مَقَامَ يَدِ الصَّغِيرِ.
فَالْقَطْعُ عَيْبٌ حَادِثٌ وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَطْعَ لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَهُوَ تَمْلِيكٌ لَهُ صَارَ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ، وَهَذِهِ نَظِيرُ مَا إذَا بَاعَ بَعْدَ الْقَطْعِ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ، وَعَلَى هَذَا ذَكَرَ الْخِيَاطَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهَا بِمُقَابَلَةِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ (وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ) لِأَنَّ الْقَطْعَ عَيْبٌ حَادِثٌ، فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ وَبِالْخِيَاطَةِ امْتَنَعَ الرُّجُوعُ حَقًّا لِلشَّرْعِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ، فَبِالتَّمْلِيكِ وَالتَّسْلِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ قَبْلَهُ، وَهَذِهِ نَظِيرُ مَا إذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْخِيَاطَةِ وَالصَّبْغِ وَاللَّتِّ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ أَوْ مَاتَ عِنْدَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِهِ) أَمَّا الْمَوْتُ؛ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَهِي بِهِ وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا يَفْعَلُهُ، وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَالْقَتْلِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَا خُلِقَ فِي الْأَصْلِ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ مُوَقَّتًا إلَى الْإِعْتَاقِ فَكَانَ إنْهَاءً فَصَارَتْ كَالْمَوْتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ وَالرَّدَّ مُتَعَذِّرٌ.
وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ النَّقْلُ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ بِالْأَمْرِ الْحُكْمِيِّ (وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) لِأَنَّهُ حَبَسَ بَدَلَهُ وَحَبْسُ الْبَدَلِ كَحَبْسِ الْمُبْدَلِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ (أَوْ مَاتَ عِنْدَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ أَمَّا الْمَوْتُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَهِي بِهِ) أَيْ يَتِمُّ، وَكُلُّ مَا انْتَهَى فَقَدْ لَزِمَ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ حِينَئِذٍ، وَفِيهِ إضْرَارٌ لِلْمُشْتَرِي بِمَا لَيْسَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ فَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ (وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا بِفِعْلِهِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ إذَا كَانَ بِفِعْلِهِ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ أَحْمَرَ فَإِنَّهُ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِفِعْلِهِ وَيُوجِبُ الرُّجُوعَ بِالْعَيْبِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ هُنَاكَ بِسَبَبِ وُجُودِ زِيَادَةٍ فِي الْمَبِيعِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَكَانَ الِامْتِنَاعُ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَهُوَ شُبْهَةُ الرِّبَا.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا يَفْعَلُهُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الزِّيَادَةَ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ عَدَمُ الرَّدِّ فِي الصَّبْغِ بِمَا حَصَلَ مِنْ فِعْلِهِ مِنْ وُجُودِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ لَا بِفِعْلِهِ، وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِفِعْلِهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، لِأَنَّهُ لَمَّا اكْتَسَبَ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ الرَّدِّ كَانَ حَابِسًا حُكْمًا فَكَأَنَّهُ فِي يَدِهِ يَحْبِسُهُ وَيُرِيدُ الرُّجُوعَ فَصَارَ كَالْقَتْلِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَرْجِعُ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَا خَلَفَ فِي الْأَصْلِ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ مُوَقَّتًا إلَى وَقْتِ الْإِعْتَاقِ وَالْمُوَقَّتُ إلَى وَقْتٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَائِهِ، فَكَانَ الْإِعْتَاقُ إنْهَاءً كَالْمَوْتِ (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ جَوَازُ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ وَالرَّدُّ فَصَارَ حَابِسًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ بِالْعِتْقِ وَالْوَلَاءُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ فَبَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ أَصْلِ الْمِلْكِ (وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ) لِأَنَّ النَّقْلَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ تَعَذَّرَ بِالرَّدِّ بِالْأَمْرِ الْحُكْمِيِّ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ وَالْمِلْكِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونَانِ كَالْإِعْتَاقِ وَهُوَ مِنْهُ دُونَهُمَا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِنْهَاءَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَقْرِيرِ الْمِلْكِ بِجَعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ كَائِنًا، وَهَاهُنَا مُتَقَرِّرٌ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ (وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ) أَوْ كَاتَبَهُ (فَإِنْ قَتَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ أَوْ كَانَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمَّا الْقَتْلُ فَالْمَذْكُورُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ) لِأَنَّ قَتْلَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ دُنْيَاوِيٌّ فَصَارَ كَالْمَوْتِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَيَكُونُ إنْهَاءً.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ إلَّا مَضْمُونًا، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَفِيدِ بِهِ عِوَضًا، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لَا مَحَالَةً كَإِعْتَاقِ الْمُعْسِرِ عَبْدًا مُشْتَرَكًا، وَأَمَّا الْأَكْلُ فَعَلَى الْخِلَافِ، فَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ وَعِنْدَهُ لَا يَرْجِعُ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا لَبِسَ الثَّوْبَ حَتَّى تَخَرَّقَ لَهُمَا أَنَّهُ صَنَعَ فِي الْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ.
وَلَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْهُ فِي الْمَبِيعِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالْقَتْلَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِهِ مَقْصُودًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، فَإِنْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَارَ كَبَيْعِ الْبَعْضِ، وَعِنْدَهُمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي الْكُلِّ، وَعَنْهُمَا أَنَّهُ يَرُدُّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ.
الشَّرْحُ:
(لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) لِأَنَّهُ حَبَسَ بَدَلَهُ، وَحَبْسُ الْبَدَلِ كَحَبْسِ الْمُبْدَلِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ لِأَنَّ الْمَالَ فِيهِ لَيْسَ بِأَمْرٍ أَصْلِيٍّ بَلْ مِنْ الْعَوَارِضِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ بِهِ، وَإِنْ قَتَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَرْجِعْ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ، وَذَكَرَ فِي الْيَنَابِيعِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَهُ لِأَنَّ قَتْلَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ دُنْيَوِيٌّ يُفِيدُ بَدَلًا كَالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فَصَارَ كَالْمَوْتِ بِمَرَضٍ عَلَى فِرَاشِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ إلَّا مَضْمُونًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفَرَّجٌ» أَيْ مُبْطَلٌ، وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ عَنْ الْمَوْلَى فِي قَتْلِ عَبْدِهِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَصَارَ كَالْمُسْتَفِيدِ بِالْمِلْكِ عِوَضًا، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مُطْلَقًا لِعَدَمِ نُفُوذِهِ، وَمِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْ الضَّمَانِ فَلَمْ يَصِرْ بِهِ مُسْتَقْضِيًا فَيَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ طَعَامًا فَأَكَلَهُ أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حَتَّى تَخَرَّقَ لَا يَرْجِعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِالْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الرَّدَّ تَعَذَّرَ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ كَمَا إذَا بَاعَ أَوْ قَتَلَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَكْلَ وَاللُّبْسَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَبِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عِوَضٍ سُلِّمَ لَهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِهِ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَكَلَ بَعْضَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ، فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَارَ كَبَيْعِ الْبَعْضِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الطَّعَامَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَا يُرَدُّ بَعْضُهُ بِالْعَيْبِ وَأَكْلُ الْكُلِّ عِنْدَهُمَا لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالْعَيْبِ فَأَكْلُ الْبَعْضِ أَوْلَى.
وَفِي رِوَايَةٍ: يُرَدُّ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الرَّدِّ فِي الْبَعْضِ كَمَا قَبَضَهُ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا أَكَلَهُ.
وَفِي بَيْعِ الْبَعْضِ عَنْهُمَا رِوَايَتَانِ: فِي إحْدَاهُمَا لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا لِأَنَّ الطَّعَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَبَيْعُ الْبَعْضِ فِيهِ كَبَيْعِ الْكُلِّ.
وَفِي الْأُخْرَى يُرَدُّ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ وَلَكِنْ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا بَاعَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ. (قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى بَيْضًا أَوْ بِطِّيخًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا أَوْ جَوْزًا فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ رَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلُّهُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْجَوْزِ صَلَاحُ قِشْرِهِ عَلَى مَا قِيلَ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ اللُّبِّ (وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ فَسَادِهِ لَمْ يَرُدَّهُ)؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ عَيْبٌ حَادِثٌ (وَ) لَكِنَّهُ (يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ) دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ بِتَسْلِيطِهِ.
قُلْنَا: التَّسْلِيطُ عَلَى الْكَسْرِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ، وَلَوْ وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا وَهُوَ قَلِيلٌ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلٍ فَاسِدٍ.
وَالْقَلِيلُ مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْجَوْزُ عَادَةً كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فِي الْمِائَةِ، وَإِنْ كَانَ الْفَاسِدُ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ وَيَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ فَصَارَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى بَيْضًا أَوْ بِطِّيخًا) إذَا اشْتَرَى بَيْضًا أَوْ بِطِّيخًا (أَوْ قِثَّاءً أَوْ جَوْزًا) أَوْ شَيْئًا مِنْ الْفَوَاكِهِ (فَكَسَرَهُ) غَيْرَ عَالِمٍ بِعَيْبِهِ (فَوَجَدَ الْكُلَّ فَاسِدًا) بِأَنْ كَانَ مُنْتِنًا أَوْ مُرًّا أَوْ خَالِيًا بِحَيْثُ لَا يَصْلُحُ لِأَكْلِ النَّاسِ وَلَا لِعَلَفِ الدَّوَابِّ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَمَا ذَاقَهُ (فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْكَسْرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ إذْ الْمَالُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ إمَّا فِي الْحَالِ وَإِمَّا فِي الْمَآلِ وَالْمَذْكُورُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَتَفَطَّنْ مِنْ الْقُيُودِ بِأَضْدَادِهَا، فَإِنَّهُ إذَا كَسَرَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ صَارَ رَاضِيًا.
وَإِذَا صَلَحَ لِأَكْلِ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ الدَّوَابِّ أَوْ وَجَدَهُ قَلِيلَ اللُّبِّ كَانَ مِنْ الْعُيُوبِ لَا مِنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ تَنَاوَلَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَمَا ذَاقَهُ صَارَ رَاضِيًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا.
فَإِنْ قِيلَ: التَّعْلِيلُ صَحِيحٌ فِي الْبَيْضِ لِأَنَّ قِشْرَهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَأَمَّا الْجَوْزُ فَرُبَّمَا يَكُونُ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ فِي مَوْضِعٍ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحَطَبِ لِعِزَّتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي الْقِشْرِ بِحِصَّتِهِ لِمُصَادَفَتِهِ الْمَحَلِّ وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ اللُّبِّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ مَشَايِخِنَا.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْجَوْزِ صَلَاحُ قِشْرِهِ عَلَى مَا قِيلَ، لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْجَوْزِ قَبْلَ الْكَسْرِ بِاعْتِبَارِ اللُّبِّ دُونَ الْقِشْرِ، وَإِذَا كَانَ اللُّبُّ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَمْ يُوجَدْ مَحَلُّ الْبَيْعِ فَيَقَعُ بَاطِلًا فَيُرَدُّ الْقِشْرُ وَيَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ بَيْضَ النَّعَامَةِ فَوَجَدَهَا بِالْكَسْرِ مَذِرَةً ذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَهَذَا الْفَصْلُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ مَالِيَّةَ بَيْضِ النَّعَامَةِ قَبْلَ الْكَسْرِ بِاعْتِبَارِ الْقِشْرِ وَمَا فِيهِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَرُدَّهُ لِتَعَيُّبِهِ بِالْكَسْرِ الْحَادِثِ لَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَرُدُّهُ لِأَنَّ الْكَسْرَ وَإِنْ كَانَ عَيْبًا حَادِثًا لَكِنَّهُ بِتَسْلِيطِهِ.
قُلْنَا: التَّسْلِيطُ عَلَى الْكَسْرِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ لِأَنَّ بِالْبَيْعِ لَمْ يَبْقَ مِلْكُهُ فَلَمْ يَكُنْ التَّسْلِيطُ إلَّا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ هَدَرٌ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ حَصَلَ التَّسْلِيطُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ هَدَرًا، وَلَوْ وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا فَالْفَاسِدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا كَاثْنَيْنِ فِي الْمِائَةِ أَوْ كَثِيرًا كَمَا فَوْقَهُ.
فَفِي الْأَوَّلِ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْبَائِعَ لِأَجْلِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ الرِّضَا بِالْمُعْتَادِ وَالْجَوْزُ فِي الْعَادَةِ لَا يَخْلُو عَنْ هَذَا.
وَفِي الثَّانِي لَا يَجُوزُ وَيَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْقِنِّ. (قَالَ: وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَإِنْ قَبِلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ)؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَجَعَلَ الْبَيْعَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ أَنْكَرَ قِيَامَ الْعَيْبِ لَكِنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِالْقَضَاءِ، وَمَعْنَى الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ أَنَّهُ أَنْكَرَ الْإِقْرَارَ فَأُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِالْبَيِّنَةِ حَيْثُ يَكُونُ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هُنَاكَ وَاحِدٌ وَالْمَوْجُودُ هَاهُنَا بَيْعَانِ، فَيُفْسَخُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ لَا يَنْفَسِخُ (وَإِنْ قَبِلَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ)؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ وَإِنْ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا وَالْأَوَّلُ ثَالِثُهُمَا (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الَّذِي بَاعَهُ) وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَوَابَ فِيمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَفِيمَا لَا يَحْدُثُ سَوَاءٌ.
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُيُوعِ: إنْ كَانَ فِيمَا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي) وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي (ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَ) إمَّا (أَنْ قَبِلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي) أَوْ بِغَيْرِ قَضَائِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِقْرَارٍ، وَمَعْنَى الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ الْخَصْمَ ادَّعَى عَلَى الْمُشْتَرِي الْإِقْرَارَ بِالْعَيْبِ وَالْمُشْتَرِي أَنْكَرَ ذَلِكَ فَأَثْبَتَ الْخَصْمُ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُنْكِرْ إقْرَارَهُ لَا يَكُونُ الرَّدُّ مُحْتَاجًا إلَى الْقَضَاءِ بَلْ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ، وَحِينَئِذٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ (بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ) وَفِي كُلِّ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ (لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَجُعِلَ الْبَيْعُ الثَّانِي كَالْمَعْدُومِ) وَالْبَيْعُ الْأَوَّلُ قَائِمٌ فَلَهُ الْخُصُومَةُ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ (قَوْلُهُ غَايَةُ الْأَمْرِ) إشَارَةٌ إلَى جَوَابِ زُفَرَ عَمَّا قَالَ: إذَا جَحَدَ الْعَيْبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ أَنَّ بِهِ عَيْبًا لِكَوْنِ كَلَامِهِ مُتَنَاقِضًا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ غَايَةَ أَمْرِ الْمُشْتَرِي إنْكَارُهُ قِيَامَ الْعَيْبِ، لَكِنَّهُ لَمَّا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ارْتَفَعَتْ الْمُنَاقَضَةُ وَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَأَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ وَاسْتَحَقَّهُ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ (قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ إذَا رُدَّ الْمَبِيعُ بِعَيْبٍ عَلَى الْوَكِيلِ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي لَيْسَ رَدًّا عَلَى الْبَائِعِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي صُورَةِ الْوَكِيلِ بَيْعٌ وَاحِدٌ فَرَدُّهُ عَلَى الْوَكِيلِ رَدٌّ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَيْعَانِ وَبِرَدِّ أَحَدِهِمَا لَا يَرْتَدُّ الْآخَرُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ وَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ ثَالِثُهُمَا هَذَا إذَا رَدَّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَأَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الرَّدُّ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَصَارَ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَوْ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَصَرَّحَ بِذِكْرِ وَضْعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِوَارَ فِي عَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ أَوْ النَّاقِصَةِ، وَفِي عَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ كَالْقُرُوحِ وَالْأَمْرَاضِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَيْبَ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَحْدُثُ وَقَدْ رَدَّهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ لِتَيَقُّنِهِ بِوُجُودِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ بُيُوعِ الْأَصْلِ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ إقَالَةٌ تَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا وَهُوَ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَلَا يَعُودُ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ لِيُخَاصِمَهُ. (قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَقَبَضَهُ فَادَّعَى عَيْبًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَحْلِفَ الْبَائِعُ أَوْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً) لِأَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ حَيْثُ أَنْكَرَ تَعَيُّنَ حَقِّهِ بِدَعْوَى الْعَيْبِ، وَدَفْعُ الثَّمَنِ أَوَّلًا لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُ بِإِزَاءِ تَعَيُّنِ الْمَبِيعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُضِيَ بِالدَّفْعِ فَلَعَلَّهُ يَظْهَرُ الْعَيْبُ فَيُنْتَقَضُ الْقَضَاءُ فَلَا يَقْضِي بِهِ صَوْنًا لِقَضَائِهِ (فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي شُهُودِي بِالشَّامِ اُسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ وَدَفَعَ الثَّمَنَ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ فِي الِانْتِظَارِ ضَرَرًا بِالْبَائِعِ، وَلَيْسَ فِي الدَّفْعِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى حُجَّتِهِ، أَمَّا إذَا نَكَلَ أُلْزِمَ الْعَيْبَ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَقَبَضَهُ فَادَّعَى عَيْبًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَحْلِفَ الْبَائِعُ أَوْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ) فَإِنْ حَلَفَ الْبَائِعُ دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ فَهُوَ إنْ شَاءَ يَدْفَعُ الثَّمَنَ أَوْ الْمَبِيعَ.
وَاسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِأَنَّهُ جَعَلَ غَايَةَ عَدَمِ الْإِجْبَارِ إمَّا يَمِينَ الْبَائِعِ أَوْ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُولَى صَحِيحٌ، لِأَنَّ بِالْيَمِينِ يَتَوَجَّهُ الْإِجْبَارُ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّانِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَسْتَمِرُّ عَدَمُ الْإِجْبَارِ لَا يَنْتَهِي بِهِ.
وَأَجَابُوا بِأَوْجُهٍ: بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ: عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا تَقْدِيرُهُ وَسَقَيْتهَا مَاءً بَارِدًا، وَبِأَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ مُتَضَمِّنًا لِلَفْظٍ عَامٍّ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْغَايَتَانِ فَيُقَالُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَظْهَرَ وَجْهُ الْحُكْمِ: أَيْ حُكْمِ الْإِجْبَارِ أَوْ حُكْمِ عَدَمِ الْإِجْبَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَلِفِ وَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ عَلَفْتهَا تِبْنًا أَنَّهُ بِمَعْنَى أَطْعَمْتهَا، فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي السَّقْيِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّعْمِ فِي مَعْنَى الشُّرْبِ، قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} أَيْ وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْهُ وَبِأَنَّ الِانْتِظَارَ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الْإِجْبَارِ، وَذِكْرُ اللَّازِمِ وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ كِنَايَةٌ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِشْكَالَ إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى مَفْهُومِ الْغَايَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ) تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ الْإِجْبَارِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَنْكَرَ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ تَعَيُّنَ حَقِّهِ بِدَعْوَى الْعَيْبِ، وَإِنْكَارُ تَعَيُّنِ الْحَقِّ إنْكَارُ عِلَّةِ وُجُوبِ دَفْعِ الثَّمَنِ، لِأَنَّ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ أَوَّلًا لَيْسَ إلَّا لِتَعَيُّنِ حَقِّ الْبَائِعِ بِإِزَاءِ تَعَيُّنِ الْمَبِيعِ فَحَيْثُ أَنْكَرَ تَعَيُّنَ حَقِّهِ فِي الْمَبِيعِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي السَّلِيمِ فَقَدْ أَنْكَرَ عِلَّةَ وُجُوبِ دَفْعِ الثَّمَنِ أَوَّلًا وَفِي إنْكَارِ الْعِلَّةِ إنْكَارُ الْمَعْلُولِ فَانْتَصَبَ خَصْمًا وَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ حُجَّةٍ، وَهِيَ إمَّا بَيِّنَةٌ أَوْ يَمِينُ الْبَائِعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ فَسَادُ الْوَضْعِ لِأَنَّ صِفَةَ الْإِنْكَارِ تَقْتَضِي إسْنَادَ الْيَمِينِ إلَيْهِ لَا إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بِالْحَدِيثِ.
فَالْجَوَابُ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى لَا بِالصُّورَةِ، وَهُوَ فِيهِ مُدَّعٍ يَدَّعِي مَا يُوجِبُ دَفْعَ الثَّمَنِ أَوَّلًا وَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ مُنْكِرًا (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بِالدَّفْعِ) دَلِيلٌ آخَرُ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ مَا قَبْلَ الْمُوجِبِ لِلْجَبْرِ وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ الْقَبْضِ مُتَحَقِّقٌ، وَمَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَيْبِ مَوْهُومٌ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ مَوْهُومًا لَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي اعْتِبَارُهُ صَوْنًا لِقَضَائِهِ عَنْ النَّقْضِ، فَإِنَّهُ إذَا قَضَى بِالدَّفْعِ فَلَعَلَّهُ يَظْهَرُ الْعَيْبُ فَيَنْتَقِضُ الْقَضَاءُ.
قَالَ (فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي شُهُودِي بِالشَّامِ) إذَا طُلِبَ مِنْ الْمُشْتَرِي إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَقَالَ شُهُودِي بِالشَّامِ غُيَّبٌ (اُسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ) فَإِنْ حَلَفَ دُفِعَ إلَيْهِ الثَّمَنُ لِأَنَّ فِي الِانْتِظَارِ ضَرَرًا بِالْبَائِعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فِي إلْزَامِ الْمُشْتَرِي دَفْعَ الثَّمَنِ ضَرَرٌ لَهُ أَيْضًا.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ فِي دَفْعِ الثَّمَنِ كَبِيرُ ضَرَرٍ بِهِ لِأَنَّهُ عَلَى حُجَّتِهِ) يَعْنِي هُوَ بِسَبِيلٍ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ حُضُورِ شُهُودِهِ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مَا قِيلَ فِي بَقَاءِ الْمُشْتَرِي عَلَى حُجَّتِهِ بُطْلَانُ قَضَاءِ الْقَاضِي وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ.
وَالثَّانِي أَنَّ الِانْتِظَارَ وَإِقَامَةَ الْحُجَّةِ بَعْدَ الدَّفْعِ مُؤَقَّتَانِ بِحُضُورِ الشُّهُودِ فَكَيْفَ كَانَ أَحَدُهُمَا ضَرَرًا وَالْآخَرُ دُونَهُ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَاضِيَ هَاهُنَا قَدْ قَضَى بِأَدَاءِ الثَّمَنِ إلَى حِينِ حُضُورِ الشُّهُودِ لَا مُطْلَقًا فَلَا يَلْزَمُ الْبُطْلَانُ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ فِي دَعْوَى غَيْبَةِ الشُّهُودِ مُتَّهَمٌ.
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُمَاطَلَةً فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَإِذَا طَلَبَ الْمُشْتَرِي يَمِينَ الْبَائِعِ فَنَكَلَ أُلْزِمَ الْعَيْبَ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ فِي ثُبُوتِ الْعَيْبِ.
قِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ النُّكُولِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِالْإِجْمَاعِ وَعَنْ النُّكُولِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. (قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَادَّعَى إبَاقًا لَمْ يُحَلَّفْ الْبَائِعُ حَتَّى يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ) وَالْمُرَادُ التَّحْلِيفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْبَقْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ قَوْلَهُ وَلَكِنَّ إنْكَارَهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ بِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحُجَّةِ (فَإِذَا أَقَامَهَا حَلَفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَمَا أَبَقَ عِنْدَهُ قَطُّ) كَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ شَاءَ حَلَّفَهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ حَقُّ الرَّدِّ عَلَيْك مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِي أَوْ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ عِنْدَك قَطُّ أَمَّا لَا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ وَلَا بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلرَّدِّ، وَالْأَوَّلُ ذُهُولٌ عَنْهُ وَالثَّانِي يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ فَيَتَأَوَّلُهُ فِي الْيَمِينِ عِنْدَ قِيَامِهِ وَقْتَ التَّسْلِيمِ دُونَ الْبَيْعِ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ يُحَلَّفُ عَلَى قَوْلِهِمَا.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ فَكَذَا يَتَرَتَّبُ التَّحْلِيفُ.
وَلَهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَعْضُ أَنَّ الْحَلِفَ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَلَيْسَتْ تَصِحُّ إلَّا مِنْ خَصْمٍ وَلَا يَصِيرُ خَصْمًا فِيهِ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ.
وَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عِنْدَهُمَا يَحْلِفُ ثَانِيًا لِلرَّدِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَادَّعَى إبَاقًا) إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي إبَاقَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى وَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ فَالْقَاضِي لَا يَسْمَعُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يَثْبُتَ وُجُودُ الْعَيْبِ عِنْدَهُ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ يَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَقَالَ الْبَائِعُ هَلْ كَانَ عِنْدَك هَذَا الْعَيْبُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ قَالَ نَعَمْ رَدَّهُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَدَّعِ الرِّضَا أَوْ الْإِبْرَاءَ، وَإِنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُ عِنْدَهُ أَوْ ادَّعَى اخْتِلَافَ الْحَالَةِ قَالَ الْقَاضِي لِلْمُشْتَرِي أَلَك بَيِّنَةٌ فَإِنْ أَقَامَهَا عَلَيْهِ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ الْيَمِينَ يُسْتَحْلَفُ أَنَّهُ لَمْ يَأْبَقْ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْلِفْ قَبْلَ إقَامَةِ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ قَوْلَ الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ مُنْكِرًا لَكِنَّ إنْكَارَهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ بِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ السَّلَامَةَ أَصْلٌ وَالْعَيْبَ عَارِضٌ، وَمَعْرِفَتُهُ إنَّمَا لَا تَكُونُ بِالْحُجَّةِ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُقْبَلُ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ بِمُدَّعٍ، بَلْ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْعَيْبَ فِي يَدِ الْبَائِعِ.
وَالثَّانِي أَنَّ سَلَامَةَ الذِّمَمِ عَنْ الدَّيْنِ أَصْلٌ وَالشُّغْلَ بِهِ عَارِضٌ، كَمَا أَنَّ السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ أَصْلٌ وَالْعَيْبَ عَارِضٌ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ دَيْنًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَيَأْمُرُ الْخَصْمَ بِالْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قِيَامُ الدَّيْنِ فِي الْحَالِ وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ إقَامَةَ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ مِنْ تَتِمَّةِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ تِلْكَ إلَّا بِهَذِهِ فَكَانَتْ مِنْ الْمُدَّعِي بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ فِي الْحَالِ لَوْ كَانَ شَرْطًا لِاسْتِمَاعِ الْخُصُومَةِ لَمْ يَتَوَسَّلْ الْمُدَّعِي إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهَا لِمَوْتٍ أَوْ غَيْبَةٍ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ تَوَسُّلَ الْمُشْتَرِي إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّ الْعَيْبَ إذَا كَانَ مِمَّا يُعَايَنُ وَيُشَاهَدُ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بِالتَّعَرُّفِ عَنْ آثَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْآثَارِ أَمْكَنَ التَّعَرُّفُ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَطِبَّاءِ وَالْقَوَابِلِ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فَإِذَا أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ حَلَفَ الْبَائِعُ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَمَا أَبَقَ عِنْدَهُ قَطُّ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هَاهُنَا الْجَامِعُ الصَّغِيرُ، وَإِنْ شَاءَ حَلَّفَهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ حَقُّ الرَّدِّ عَلَيْك مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُدَّعَى أَوْ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ عِنْدَك قَطُّ، وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ لِأَنَّ هَذَا الْعَيْبَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلرَّدِّ، وَفِي ذَلِكَ غَفْلَةٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَبِهِ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ لَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا، وَلِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَيَكُونُ غَرَضُ الْبَائِعِ عَدَمَ وُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، فَفِي وُجُودِهِ فِي أَحَدِهِمَا يَكُونُ بَارًّا لِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ وَبِهِ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي.
وَإِنَّمَا قَالَ يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا إشَارَةً إلَى أَنَّ تَأْوِيلَ الْبَائِعِ ذَلِكَ فِي يَمِينِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ لِذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِي التَّحْلِيفِ وَقَالَ: إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: النَّظَرُ لِلْمُشْتَرِي يَنْعَدِمُ إذَا اسْتَحْلَفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
وَذَكَرَ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَنْفِي الْعَيْبَ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَيْبُ مُنْتَفِيًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَى هَذَا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ قَالَ (أَمَّا لَا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ) وَعَلَّلَهُ (بِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ فَيَتَأَوَّلُهُ) وَقَالُوا: إنَّمَا قَالَ يُوهِمُ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّأْوِيلُ صَحِيحًا كَانَ التَّحْلِيفُ بِهِ جَائِزًا.
وَهُوَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ لَا يُحَلِّفُهُ إلَّا إذَا حُمِلَ النَّفْيُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْوَطِ فَيَسْتَقِيمُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْإِبَاقُ فِعْلُ الْغَيْرِ وَالتَّحْلِيفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتَاتِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ سَلِيمًا كَمَا الْتَزَمَهُ.
وَقِيلَ التَّحْلِيفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ إذَا ادَّعَى الَّذِي يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ، أَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّ لِي عِلْمًا بِذَلِكَ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ لِادِّعَائِهِ الْعِلْمَ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي النَّوَادِرِ ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ، وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (لَهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ) وَكُلُّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ (يَتَرَتَّبُ) عَلَيْهِ (التَّحْلِيفُ) بِالِاسْتِقْرَاءِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا تَحْلِيفَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْحَلِفَ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى إلَّا مِنْ خَصْمٍ، وَلَا يَصِيرُ الْمُدَّعِي وَهُوَ الْمُشْتَرِي هَاهُنَا خَصْمًا إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ بِالْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَدْ عَجَزَ عَنْهَا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْلِيفُ؛ فَإِنَّ دَعْوَى الْوَكَالَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ دُونَ التَّحْلِيفِ، وَالْبَيِّنَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الدَّعْوَى فَضْلًا عَنْ صِحَّتِهَا بَلْ قَدْ تَقُومُ عَلَى مَا لَا دَعْوَى فِيهِ أَصْلًا كَمَا فِي الْحُدُودِ، بِخِلَافِ التَّحْلِيفِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّحْلِيفَ شُرِعَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ فَكَانَ مُقْتَضِيًا سَابِقَةَ الْخَصْمِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي هُنَا خَصْمًا إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ قِيَامِ الْعَيْبِ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ هَاهُنَا فَمَشْرُوعَةٌ لِإِثْبَاتِ كَوْنِهِ خَصْمًا فَلَا تَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ خَصْمًا (وَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عِنْدَهُمَا يَحْلِفُ ثَانِيًا لِلرَّدِّ) عَلَى الْبَتَاتِ (عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي إبَاقِ الْكَبِيرِ يَحْلِفُ مَا أَبَقَ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ فِي الصِّغَرِ لَا يُوجِبُ رَدَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: الْمُصَنِّفُ (إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي إبَاقِ الْكَبِيرِ يَحْلِفُ مَا أَبَقَ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ لِأَنَّ الْإِبَاقَ فِي الصِّغَرِ لَا يُوجِبُ رَدَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ) لِمَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ حَلَفَ مُطْلَقًا كَانَ تَرْكُ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ إذَا أَبَقَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَدْ كَانَ أَبَقَ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ وَمِثْلُ هَذَا الْإِبَاقِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلرَّدِّ امْتَنَعَ الْبَائِعُ عَنْ الْيَمِينِ حَذَرًا عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ لِنُكُولِهِ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ. (قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَتَقَابَضَا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُك هَذِهِ وَأُخْرَى مَعَهَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْتنِيهَا وَحْدَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي)؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْقَابِضِ كَمَا فِي الْغَصْبِ (وَكَذَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارِ الْمَبِيعِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمَقْبُوضِ) لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَتَقَابَضَا) وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَتَقَابَضَ الْمُتَبَايِعَانِ الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ (فَوَجَدَ) الْمُشْتَرِي (بِهَا عَيْبًا) فَأَرَادَ الْبَائِعُ تَخْصِيصَ الثَّمَنِ عَلَى تَقْدِيرِ الرَّدِّ (فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك هَذِهِ وَأُخْرَى مَعَهَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِعْتَنِيهَا وَحْدَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْقَابِضِ) لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَا قُبِضَ كَمَا فِي الْغَصْبِ فَإِنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ الْغَاصِبُ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ فَقَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ غَصَبْت مِنِّي غُلَامَيْنِ وَقَالَ الْغَاصِبُ غُلَامًا وَاحِدًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ الْقَابِضُ (وَكَذَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارِ الْمَبِيعِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمَقْبُوضِ) فِي مِقْدَارِهِ بِأَنْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَتَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ قَبَضْتهمَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي مَا قَبَضْت إلَّا إحْدَاهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي (لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ فِي الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَابِضِ، بَلْ هَاهُنَا أَوْلَى لِأَنَّ كَوْنَ الْمَبِيعِ شَيْئَيْنِ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا سَبَبٌ مُطْلَقًا لِقَبْضِهِمَا، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَابِضِ فَهَاهُنَا أَوْلَى. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَدْعُهُمَا)؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ بِقَبْضِهِمَا فَيَكُونُ تَفْرِيقُهَا قَبْلَ التَّمَامِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَهُ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ فَالتَّفْرِيقُ فِيهِ كَالتَّفْرِيقِ فِي الْعَقْدِ.
وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَقْبُوضِ عَيْبًا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرُدُّهُ خَاصَّةً، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَرُدُّهُمَا؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ تَعَلَّقَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَصَارَ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ لَمَّا تَعَلَّقَ زَوَالُهُ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ لَا يَزُولُ دُونَ قَبْضِ جَمِيعِهِ (وَلَوْ قَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ) بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا يَرُدُّهُ خَاصَّةً خِلَافًا لِزُفَرَ.
هُوَ يَقُولُ: فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ وَلَا يَعْرَى عَنْ ضَرَرٍ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِضَمِّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَخِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ.
وَلَنَا أَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَعْدَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ بِالْقَبْضِ تَتِمُّ الصَّفْقَةُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ وَفِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ لَا تَتِمُّ بِهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلِهَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ.

الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ بِعْتُك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَ (وَقَبَضَ أَحَدَهُمَا) وَهُوَ سَلِيمٌ (فَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا) لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً (بَلْ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَدَعُهُمَا) جَمِيعًا (لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ بِقَبْضِهِمَا) لِمَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ تَمَامِ الصَّفْقَةِ حِينَئِذٍ، وَمَا تَتِمُّ بِقَبْضِهِ الصَّفْقَةُ لَا تَتِمُّ بِقَبْضِ بَعْضِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى قَبْضِ الْكُلِّ إذْ ذَاكَ، فَالتَّفْرِيقُ قَبْلَ قَبْضِهِمَا تَفْرِيقٌ (قَبْلَ التَّمَامِ) وَهُوَ لَا يَجُوزُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قُبَيْلَ بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتِمُّ قَبْلَهُ (وَهَذَا) أَيْ التَّفْرِيقُ فِي الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ (لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا بِالْعَقْدِ) مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَبْضَ يُثْبِتُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ وَمِلْكَ الْيَدِ، كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ يُثْبِتُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ وَمِلْكُ الْيَدِ (فَالتَّفْرِيقُ فِي الْقَبْضِ كَالتَّفْرِيقِ فِي الْعَقْدِ) وَلَوْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فَقَالَ قَبِلْت أَحَدَهُمَا لَمْ يَصِحَّ فَكَذَا هَذَا.
قَالَ (وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَقْبُوضِ عَيْبًا اخْتَلَفُوا فِيهِ) إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَقْبُوضِ عَيْبًا، قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُ قَالَ (وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرُدُّهُ خَاصَّةً).
وَوَجْهُهُ أَنَّ الصَّفْقَةَ تَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمَقْبُوضِ فَبِالنَّظَرِ إلَيْهِ لَا يَلْزَمُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ) لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ (لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَهُوَ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ) لِأَجْلِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَزُولُ بِقَبْضِ بَعْضِ الثَّمَنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الْبَدَلَيْنِ بِالْآخَرِ (وَلَوْ قَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ خَاصَّةً) وَقَالَ زُفَرُ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ (وَلَا يَعْرَى عَنْ ضَرَرٍ إذْ الْعَادَةُ جَرَتْ بِضَمِّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ) بِجَامِعِ دَفْعِ الضَّرَرِ (وَأَشْبَهَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ) وَلَنَا أَنَّهُ إذَا قَبَضَهُمَا جَمِيعًا فَقَدْ تَمَّتْ الصَّفْقَةُ وَالتَّفْرِيقُ بَعْدَهُ غَيْرُ ضَائِرٍ، بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ فَإِنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ بِالْقَبْضِ فِيهِمَا عَلَى مَا مَرَّ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِوُجُودِ تَمَامِ الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْقَبْضِ عَلَى صِفَةِ السَّلَامَةِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ.
وَالْأَصْلُ صِفَةُ السَّلَامَةِ فَكَانَتْ الصَّفْقَةُ تَامَّةً بِظَاهِرِ الْعَقْدِ، وَتَضَرُّرُ الْبَائِعِ إنَّمَا لَزِمَ مِنْ تَدْلِيسِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ.
لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ التَّمَكُّنُ مِنْ رَدِّ الْمَعِيبِ قَبْلَ قَبْضِهِمَا أَيْضًا لِوُجُودِ التَّدْلِيسِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّفْرِيقَ قَبْلَ التَّمَامِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
قِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي شَيْئَيْنِ يُمْكِنُ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا بِالِانْتِفَاعِ كَالْعَبْدَيْنِ.
وَأَمَّا إذَا لَا يُمْكِنُ كَزَوْجَيْ الْخُفِّ وَمِصْرَاعَيْ الْبَابِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُمَا أَوْ يُمْسِكُهُمَا، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْرَيْنِ قَدْ أَلِفَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ بِحَيْثُ لَا يَعْمَلُ بِدُونِهِ لَا يُمْكِنُ رَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً (قَوْلُهُ وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَا تَتِمُّ قَبْلَهُ (لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ) بَعْدَ قَبْضِهِمَا (لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ) بَلْ الْعَقْدُ قَدْ لَزِمَ فِيهِ لِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ بَعْدَ التَّمَامِ (قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَوَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا رَدَّهُ كُلَّهُ أَوْ أَخَذَهُ كُلَّهُ) وَمُرَادُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُسَمَّى بِاسْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكُرُّ وَنَحْوُهُ.
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدَيْنِ حَتَّى يَرُدَّ الْوِعَاءَ الَّذِي وَجَدَ فِيهِ الْعَيْبَ دُونَ الْآخَرِ.
(وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِرِضَا الْعَاقِدِ لَا بِرِضَا الْمَالِكِ، وَهَذَا إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَمَّا لَوْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ.
قَالَ (وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا فَلَهُ الْخِيَارُ)؛ لِأَنَّ التَّشْقِيصَ فِيهِ عَيْبٌ وَقَدْ كَانَ وَقْتَ الْبَيْعِ حَيْثُ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ، بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ) تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ، وَبَعْدَهُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَأَمَّا فِيهِمَا فَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا سَوَاءٌ كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي وِعَاءَيْنِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَشَايِخِ.
وَقِيلَ إذَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدَيْنِ يَجُوزُ رَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ.
وَوَجْهُ الْأَظْهَرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ اسْمًا وَحُكْمًا.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ يُسَمَّى بِاسْمٍ وَاحِدٍ كَكُرٍّ وَقَفِيزٍ وَنَحْوِهِمَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ الِاجْتِمَاعِ، لِأَنَّ الْحَبَّةَ بِانْفِرَادِهَا لَيْسَتْ لَهَا صِفَةُ التَّقَوُّمِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَجَعْلُ رُؤْيَةِ بَعْضِهَا كَرُؤْيَةِ كُلِّهَا كَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَفِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ إذَا وَجَدَ بَعْضَهُ مَعِيبًا لَيْسَ لَهُ إلَّا رَدُّ الْكُلِّ أَوْ إمْسَاكُهُ، لِأَنَّ رَدَّ الْجُزْءِ الْمَعِيبِ فِيهِ يَسْتَلْزِمُ شَرِكَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهِيَ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ، فَرَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً رَدٌّ بِعَيْبٍ زَائِدٍ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ رَدُّ الْبَاقِي إذَا اُسْتُحِقَّ الْبَعْضُ بَعْدَ الْقَبْضِ كَمَا فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ سَاقِطٌ، وَعَلَى الْأُخْرَى إنَّمَا لَزِمَ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي وَلَمْ يَبْقَ لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ عَيْبًا فِي الْمُسْتَحَقِّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَالِيَّةِ سَوَاءٌ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْبَاقِي مُمْكِنٌ، وَمَا لَا يُوجِبُ عَيْبًا فِي الْمَالِيَّةِ وَالِانْتِفَاعِ لَا يُوجِبُ ضَرَرًا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَ بِالْبَعْضِ عَيْبًا وَمَيَّزَهُ لِيَرُدَّهُ لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْمَعِيبِ مِنْ غَيْرِ الْمَعِيبِ يُوجِبُ زِيَادَةَ عَيْبٍ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَإِنَّ التَّبْعِيضَ يَضُرُّهُ وَالشَّرِكَةُ عَيْبٌ فِيهِ زَائِدٌ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا رَدُّ الْكُلِّ أَوْ إمْسَاكُهُ (قَوْلُهُ وَالِاسْتِحْقَاقُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ سُؤَالٍ.
تَقْرِيرُهُ انْتِفَاءَ الْخِيَارِ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ يَسْتَلْزِمُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِالرِّضَا وَالْمُسْتَحِقُّ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِرِضَا الْعَاقِدِ لَا بِرِضَا الْمَالِكِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّ الْعَاقِدِ فَتَمَامُهُ يَسْتَدْعِي تَمَامَ رِضَاهُ وَبِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ إذَا أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَمَا افْتَرَقَ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، فَعُلِمَ أَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ يَسْتَدْعِي تَمَامَ رِضَا الْعَاقِدِ لَا الْمَالِكِ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ خِيَارَ الرَّدِّ إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَهَذَا يُرْشِدُك إلَى أَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْعَاقِدِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ، وَانْتِفَاءُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ عَدَمَ تَمَامِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا وَاحِدًا وَقَدْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الثَّوْبِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ، لِأَنَّ التَّشْقِيصَ فِي الثَّوْبِ عَيْبٌ لِأَنَّهُ يَضُرُّ فِي مَالِيَّتِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: حَدَثَ بِالِاسْتِحْقَاقِ عَيْبٌ جَدِيدٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَمِثْلُهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَقَدْ كَانَ وَقْتَ الْبَيْعِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحَادِثٍ فِي يَدِهِ بَلْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ حَيْثُ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فَلَا يَكُونُ مَانِعًا، بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّ التَّشْقِيصَ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِيهِمَا حَيْثُ لَا يَضُرُّ، وَتَنَبَّهْ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَجِدْ حُكْمَ الْعَيْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ سِيَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ: أَعْنِي فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ غَيْرِهِمَا.
أَمَّا الْعَيْبُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ فَلِقَوْلِهِ أَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَتَجِدُ حُكْمَهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ كَذَلِكَ إلَّا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْعَبْدَيْنِ وَلِهَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ، وَقَالَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ رَدَّهُ كُلَّهُ أَوْ أَخَذَهُ، وَمُرَادُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ اُسْتُحِقَّ الْبَعْضُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ. (قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَ بِهَا قُرْحًا فَدَاوَاهُ أَوْ كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا فِي حَاجَةٍ فَهُوَ رِضًا)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ قَصْدِهِ الِاسْتِبْقَاءَ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ هُنَاكَ لِلِاخْتِبَارِ وَأَنَّهُ بِالِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَكُونُ الرُّكُوبُ مُسْقِطًا (وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا أَوْ لِيَسْقِيَهَا أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهَا عَلَفًا فَلَيْسَ بِرِضًا) أَمَّا الرُّكُوبُ لِلرَّدِّ؛ فَلِأَنَّهُ سَبَبُ الرَّدِّ وَالْجَوَابُ فِي السَّقْيِ وَاشْتِرَاءِ الْعَلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ، إمَّا لِصُعُوبَتِهَا أَوْ لِعَجْزِهِ أَوْ لِكَوْنِ الْعَلَفِ فِي عِدْلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ لِانْعِدَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ يَكُونُ رِضًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَ بِهَا قُرْحًا فَدَاوَاهُ الْمُشْتَرِي) جُرْحُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ وَرُكُوبُ الدَّابَّةِ فِي حَاجَتِهِ عُدَّ رِضًا بِالْعَيْبِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ قَصْدِ الِاسْتِبْقَاءِ لِأَنَّ الْمُدَاوَاةَ إزَالَةُ الْعَيْبِ وَهِيَ تَمْنَعُ الرَّدَّ.
لِأَنَّ نَقِيضَهُ وَهُوَ قِيَامُ الْعَيْبِ شَرْطُ التَّمَكُّنِ مِنْ الرَّدِّ فَكَانَتْ دَلِيلَ قَصْدِ الْإِمْسَاكِ، وَدَلِيلُ الشَّيْءِ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ بِذَلِكَ الْعَيْبِ، وَلَهُ ذَلِكَ بِعَيْبٍ آخَرَ لِأَنَّ الرِّضَا بِعَيْبٍ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ بِغَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ الرُّكُوبُ لِحَاجَتِهِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لِلِاخْتِبَارِ، وَالِاخْتِبَارُ بِالرُّكُوبِ فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا (وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا أَوْ لِيَسْقِيَهَا أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهَا عَلَفًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِرِضًا، أَمَّا الرُّكُوبُ لِلرَّدِّ فَلَا فَرْقَ) فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ أَوْ لَا، لِأَنَّ فِي الرُّكُوبِ ضَبْطَ الدَّابَّةِ وَهُوَ أَحْفَظُ لَهَا مِنْ حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ، وَأَمَّا لِلسَّقْيِ وَالْعَلَفِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا لِصُعُوبَةِ الدَّابَّةِ لِكَوْنِهَا شَمُوسًا، أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمَشْيِ لِضَعْفٍ أَوْ كِبَرٍ، أَوْ لِكَوْنِ الْعَلَفِ فِي عِدْلٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إذَا وُجِدَ مِنْهُ بُدٌّ لِانْعِدَامِ الْأَوَّلَيْنِ أَوْ لِكَوْنِ الْعَلَفِ فِي عِدْلَيْنِ وَرَكِبَ كَانَ الرُّكُوبُ رِضًا، لِأَنَّ حَمْلَهُ حِينَئِذٍ مُمْكِنٌ بِدُونِ الرُّكُوبِ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَقُطِعَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: يَرْجِعُ بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ سَارِقًا إلَى غَيْرِ سَارِقٍ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قُتِلَ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِ الْبَائِعِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُ وَبِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا.
لَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَبَبُ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ فَنَفَذَ الْعَقْدُ فِيهِ لَكِنَّهُ مُتَعَيِّبٌ فَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّهِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ بِالْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا إلَى غَيْرِ حَامِلٍ.
وَلَهُ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَالْوُجُوبُ يُفْضِي إلَى الْوُجُودِ فَيَكُونُ الْوُجُودُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ، وَصَارَ كَمَا إذَا قُتِلَ الْمَغْصُوبُ أَوْ قُطِعَ بَعْدَ الرَّدِّ بِجِنَايَةٍ وُجِدَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَمْنُوعٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَخْ) رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي لَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَا وَقْتَ الْقَبْضِ فَقُطِعَ عِنْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ كُلَّهُ، وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَرْجِعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إنَّهُ يُقَوَّمُ سَارِقًا وَغَيْرَ سَارِقٍ فَيَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الثَّمَنِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قُتِلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَوْ الرِّدَّةِ: لَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَبَبُ الْقَطْعِ أَوْ الْقَتْلِ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ تَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذٌ فَتَكُونُ الْمَالِيَّةُ بَاقِيَةً فَيَنْفُذُ الْعَقْدُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُهَا لَكِنَّهُ مُتَعَيِّبٌ لِأَنَّ مُبَاحَ الْيَدِ أَوْ الدَّمِ لَا يُشْتَرَى كَالسَّالِمِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ الْمَرَضِ الَّذِي هُوَ عَيْبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمَبِيعُ الْمُتَعَيَّبُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ يَرْجِعُ فِيهِ بِنُقْصَانِهِ، وَهَاهُنَا قَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ.
أَمَّا فِي صُورَةِ الْقَتْلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْقَطْعِ فَلِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرُ الْوُجُوبِ فَكَانَ كَعَيْبٍ حَدَثَ فِي يَدِهِ، وَمِثْلُهُ مَانِعٌ مِنْ الرَّدِّ بِعَيْبٍ سَابِقٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْحَمْلِ وَقْتَ الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِالْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا غَيْرَ حَامِلٍ.
وَلَهُ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَسَبَبُ الْوُجُوبِ يُفْضِي إلَى الْوُجُوبِ وَالْوُجُوبُ يُفْضِي إلَى الْوُجُودِ فَيَكُونُ الْوُجُودُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ فَصَارَ كَالْمُسْتَحَقِّ، وَالْمُسْتَحَقُّ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَيَنْتَقِضُ الْقَبْضُ مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ مُصَادَفَةِ الْعَقْدِ مَحَلَّهُ، أَوْ لِأَنَّهُ بَاعَ مَقْطُوعَ الْيَدِ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ رَدَّهُ، كَمَا لَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الْعَبْدِ فَرَدَّهُ وَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَقَتَلَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْغَاصِبِ رَجُلًا عَمْدًا فَرَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَاقْتُصَّ مِنْهُ فِي يَدِهِ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَمْلِ أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلُهَا.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِكُلِّ الثَّمَنِ إذَا مَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِيمَا إذَا اُقْتُصَّ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ: ثُمَّ سَبَبُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ الْمُتْلِفُ وَهُوَ حَصَلَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَعَنْ قَوْلِهِمَا سَبَبُ الْقَتْلِ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْسِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ وَالْقَتْلُ مُتْلِفٌ لِلْمَالِيَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ فَكَانَ بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ وَهِيَ تُقَامُ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَارَتْ الْمَالِيَّةُ كَأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا هَلَكَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا قُتِلَ فَقَدْ تَمَّ الِاسْتِحْقَاقُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَظْهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ دُونَ غَيْرِهِ كَمِلْكِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ، حَتَّى لَوْ قُتِلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ خَطَأً كَانَتْ الدِّيَةُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ. وَلَوْ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَقُطِعَ بِهِمَا عِنْدَهُمَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَعِنْدَهُ لَا يَرُدُّهُ بِدُونِ رِضَا الْبَائِعِ لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ وَيَرْجِعُ بِرُبْعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ قَبِلَهُ الْبَائِعُ فَبِثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ وَقَدْ تَلِفَتْ بِالْجِنَايَتَيْنِ وَفِي إحْدَاهُمَا رُجُوعٌ فَيَتَنَصَّفُ؛ وَلَوْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي ثُمَّ قُطِعَ فِي يَدِ الْأَخِيرِ رَجَعَ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَهُ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ الْأَخِيرُ عَلَى بَائِعِهِ وَلَا يَرْجِعُ بَائِعُهُ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْكِتَابِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي) يُفِيدُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ، وَلَا يُفِيدُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَوْ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي إلَخْ) إذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ سَرَقَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَقُطِعَ بِهِمَا عِنْدَهُمَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَرُدُّهُ إلَّا بِرِضَا الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ وَهُوَ الْقَطْعُ بِالسَّرِقَةِ الْحَادِثَةِ عِنْدَهُ؛ ثُمَّ الْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقْبَلَهُ الْبَائِعُ كَذَلِكَ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِرُبْعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهَا قُطِعَتْ بِالسَّبَبَيْنِ فَيَرْجِعُ بِمَا يُقَابِلُ نِصْفَ الْيَدِ، وَإِنْ قَبِلَ يَرْجِعُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْيَدَ نِصْفُ الْآدَمِيِّ وَتَلِفَتْ بِالْجِنَايَتَيْنِ، وَفِي إحْدَاهُمَا الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ فَيُقْسَمُ النِّصْفُ عَلَيْهِمَا بِنِصْفَيْنِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَرْجِعُ فِيهِ عَلَى الْبَائِعِ فَيَرُدُّهُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَقَبِلَهُ الْبَائِعُ كَذَلِكَ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلِمَ لَمْ يَكُنْ هُنَا كَذَلِكَ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ نَظَرًا إلَى جَرَيَانِهِ مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَا تَذْكُرُونَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ حُكْمَ الْعَيْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ يَسْتَوِيَانِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ هَاهُنَا بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: بَلَى لَكِنْ لَيْسَ كَلَامُنَا الْآنَ فِيهِمَا بَلْ فِيمَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمَعِيبِ، وَمَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَعَسَى يَكْفِي شَبَهًا بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ كَوْنُ الْعَقْدِ غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ لِيَنْتَقِضَ الْقَبْضُ مِنْ الْأَصْلِ لِمَا مَرَّ آنِفًا.
قَالَ: وَلَوْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي: يَعْنِي بَعْدَ وُجُودِ السَّرِقَةِ مِنْ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْبَائِعِ.
إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي بِالْبِيَاعَاتِ ثُمَّ قُطِعَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْأَخِيرِ تَرْجِعُ الْبَاعَةُ وَهُوَ جَمْعُ بَائِعٍ كَالْحَاكَةِ جَمْعُ حَائِكٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ الْأَخِيرُ عَلَى بَائِعِهِ وَلَا يَرْجِعُ بَائِعُهُ عَلَى بَائِعِهِ كَمَا فِي الْعَيْبِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَخِيرَ لَمْ يَصِرْ حَابِسًا حَيْثُ لَمْ يَبِعْهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْآخَرُونَ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ لِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ (فِي الْكِتَابِ) أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي يُفِيدُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا لِأَنَّ) هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا وَالْعِلْمُ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ، وَلَا يُفِيدُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْعِلْمُ بِهِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.
وَقَوْلُهُ (فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ حِلَّ الدَّمِ مِنْ وَجْهٍ كَالِاسْتِحْقَاقِ وَمِنْ وَجْهٍ كَالْعَيْبِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَلِشَبَهِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ قُلْنَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِهِ يَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلِشَبَهِهِ بِالْعَيْبِ قُلْنَا لَا يَرْجِعُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ هَذَا كَالِاسْتِحْقَاقِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَقَدْ انْدَفَعَ حِينَ عَلِمَ بِهِ وَاشْتَرَاهُ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: إذَا اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِحِلِّ دَمِهِ فَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ أَيْضًا إذَا قُتِلَ عِنْدَهُ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ.
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْجَهْلَ وَالْعِلْمَ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْعِلْمُ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَهَذَا عَيْبٌ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، وَلَكِنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ وَنُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ لَا حَقِيقَتَهُ، لِأَنَّ فِي حَقِيقَتِهِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ أَوْ جَاهِلًا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهُنَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَهَا أَصَحَّ أَوْ صَحِيحًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ النَّقْلِ وَشُهْرَتُهُ فَلَا يُرَدُّ السُّؤَالُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ.
وَقَوْلُهُ (فِي النَّظَرِ) وَهَذَا عَيْبٌ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ أَوْ أَنَّهُ عَيْبٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعَيْبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَأُجْرِيَ مَجْرَاهُ (قَالَ: وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَشَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْبٍ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْعُيُوبَ بِعَدَدِهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ لَا يَصِحُّ.
هُوَ يَقُولُ: إنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ، وَتَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ.
وَلَنَا أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْإِسْقَاطِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ التَّمْلِيكُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى التَّسْلِيمِ فَلَا تَكُونُ مُفْسِدَةً، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْبَرَاءَةِ الْعَيْبُ الْمَوْجُودُ وَالْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَادِثُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَتَنَاوَلُ الثَّابِتَ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَرَضَ إلْزَامُ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ صِفَةِ السَّلَامَةِ وَذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَشَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ) الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ صَحِيحٍ سَمَّى الْعُيُوبَ وَعَدَدَهَا أَوْ لَا عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ وَقَفَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقِفْ أَشَارَ إلَيْهِ أَوْ لَا مَوْجُودًا كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَدْخُلُ الْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ.
وَقَالَ زُفَرُ: إذَا كَانَ مَجْهُولًا صَحَّ الْبَيْعُ وَفَسَدَ الشَّرْطُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ) مَا لَمْ يَقُلْ مِنْ عَيْبِ كَذَا وَمِنْ عَيْبِ كَذَا.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْعَيْبِ مَعَ التَّسْمِيَةِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي.
وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَجْلِسِ أَبِي جَعْفَرٍ الدَّوَانِيقِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: أَرَأَيْت لَوْ بَاعَ جَارِيَةً فِي الْمَأْتِيِّ مِنْهَا عَيْبٌ أَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُرِيَ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْهَا؟ أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ بَعْضَ حَرَمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَاعَ عَبْدًا بِرَأْسِ ذَكَرِهِ بَرَصٌ أَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُرِيَ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ؟ وَمَا زَالَ حَتَّى أَفْحَمَهُ وَضَحِكَ الْخَلِيفَةُ مِمَّا صَنَعَ بِهِ.
الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَدْيُونَ عَنْ دَيْنِهِ فَرَدَّ الْإِبْرَاءَ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ، وَتَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ.
وَلَنَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ لَا تَمْلِيكٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ بِأَسْقَطْت عَنْك دَيْنِي، وَلِأَنَّهُ يَتِمُّ بِلَا قَبُولٍ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ، وَالْإِسْقَاطُ لَا تُفْضِي الْجَهَالَةُ فِيهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا أَبْطَلَتْ التَّمْلِيكَاتِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لَهُ، وَلِهَذَا جَازَ طَلَاقُ نِسَائِهِ وَإِعْتَاقُ عَبِيدِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي عَدَدَهُمْ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ التَّمْلِيكُ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ضِمْنًا، وَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ مَا قُلْنَاهُ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَحْضَ التَّمْلِيكِ لَا يَبْطُلُ بِجَهَالَةٍ لَا تُفَوِّتُ التَّسْلِيمَ، كَمَا إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةِ فُلَانٍ لَا يَبْطُلُ الْإِسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالْمُسْقِطُ مُتَلَاشٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّسْلِيمِ أَوْلَى.
وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْبَرَاءَةَ تَتَنَاوَلُ الثَّابِتَ حَالَ الْبَرَاءَةِ لِأَنَّ مَا يُحْبَسُ مَجْهُولٌ لَا يُعْلَمُ أَيَحْدُثُ أَمْ لَا وَأَيُّ مِقْدَارٍ يَحْدُثُ وَالثَّابِتُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ.
وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْغَرَضُ مِنْ الْإِبْرَاءِ إلْزَامُ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْمُشْتَرِي عَنْ صِفَةِ السَّلَامَةِ لِيَقْدِرَ عَلَى التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ نَصَّ بِالْحَادِثِ فَقَالَ بِعْت بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ أَوْ مَا يَحْدُثُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْحُكْمُ الَّذِي يَفْسُدُ تَنْصِيصُهُ كَيْفَ يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْبَرَاءَةِ؟ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ الْإِجْمَاعَ فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ الْفَرْقَ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ هَاهُنَا يَتَنَاوَلُ الْعُيُوبَ الْمَوْجُودَةَ ثُمَّ يَدْخُلُ فِيهَا مَا يَحْدُثُ قَبْلَ الْقَبْضِ تَبَعًا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي التَّصَرُّفِ تَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا.
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّ مَا يَحْدُثُ مَجْهُولٌ أَنَّ مِثْلَهُ مِنْ الْجَهَالَةِ غَيْرُ مَانِعٍ فِي الْإِسْقَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْبَرَاءَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ قَالَ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الْحَادِثِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ بِهِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَوْجُودِ