فصل: (بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ):

الشَّرْحُ:
بَابُ: الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
تَأْخِيرُ غَيْرِ الصَّحِيحِ عَنْ الصَّحِيحِ لَعَلَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى تَنْبِيهٍ، وَلُقِّبَ الْبَابُ بِالْفَاسِدِ وَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَاطِلِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ بِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهِ.
وَالْبَاطِلُ هُوَ مَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا أَصْلًا وَوَصْفًا، وَالْفَاسِدُ هُوَ مَا لَا يَصِحُّ وَصْفًا، وَكُلُّ مَا أَوْرَثَ خَلَلًا فِي رُكْنِ الْمَبِيعِ فَهُوَ مُبْطِلٌ، وَمِمَّا أَوْرَثَهُ فِي غَيْرِهِ كَالتَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ الْوَاجِبَيْنِ بِهِ وَالِانْتِفَاعِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَعَدَمِ الْإِطْلَاقِ عَنْ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مُفْسِدٌ، وَعَلَى هَذَا تُفَصَّلُ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ فَيُقَالُ: الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ لُغَةٌ وَهُوَ الَّذِي مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَالدَّمُ وَالْحُرُّ بَاطِلٌ لِانْعِدَامِ الرُّكْنِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ دِينٌ سَمَاوِيٌّ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا لُغَةٌ لِتَخْرُجَ الْمَخْنُوقَةُ وَأَمْثَالُهَا كَالْمَجْرُوحَةِ بِالْمَذْبُوحَةِ فِي غَيْرِ الْمَذْبَحِ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الذَّبِيحَةِ عِنْدَنَا، وَلِهَذَا إذَا بَاعُوا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ جَازَ.
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً عِنْدَنَا، بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَإِنَّ بَيْعَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ عِنْدَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فَاللَّامُ الِاسْتِغْرَاقِ عَلَى عُمُومِهِ فِي بِيَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَالْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَإِنَّهُ أَيْ الْمَذْكُورَ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أَوَّلْنَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَالٌ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ تَقَوُّمَهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَتَمَوَّلُوهَا كَمَا أَبْطَلَ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ بِانْفِرَادِهَا فِي حَقِّ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَأْوِيلٍ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. (وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا مُحَرَّمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ كَالْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَالْحُرِّ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ فُصُولُ جَمْعِهَا، وَفِيهَا تَفْصِيلٌ نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَنَقُولُ: الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بَاطِلٌ، وَكَذَا بِالْحُرِّ لِانْعِدَامِ رُكْنِ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ وَالْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ مَالٌ عِنْدَ الْبَعْضِ وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ) كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ، وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ وَمَا لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ فَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ. وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَبَقِيَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَكُونُ مَضْمُونًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالثَّانِي قَوْلُهُمَا كَمَا فِي بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ وَيَكُونُ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ.
وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا.
وَكَذَا بَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْوَالًا فَلَا تَكُونُ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي الْبَاطِلِ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ) أَبِي أَحْمَدَ الطَّوَاوِيسِيِّ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، نَقَلَهُ أَبُو الْمُعِينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ (لِأَنَّ الْعَقْدَ) بَاطِلٌ وَالْبَاطِلَ (غَيْرُ مُعْتَبَرٍ) وَالْقَبْضَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَيَكُونُ أَمَانَةً (وَعِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ) شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ (يَكُونُ مَضْمُونًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ) لِوُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ هَاهُنَا دُونَ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَفِيهِ الْقِيمَةُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا؛ وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ هُوَ أَنْ يُسَمِّيَ الثَّمَنَ فَيَقُولَ اذْهَبْ بِهَذَا فَإِنْ رَضِيته اشْتَرَيْته بِعَشَرَةٍ.
أَمَّا إذَا لَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ فَذَهَبَ بِهِ فَهَلَكَ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ، نَصَّ عَلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْعُيُونِ.
قِيلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْبَلْخِيُّ (الْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِي قَوْلُهُمَا كَمَا فِي بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ) أَيْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، وَأَمَّا إذَا قَبَضَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ ذُكِرَ فِي الْمَأْذُونِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ.
قَالُوا: ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ شَيْئًا لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِالْقَبْضِ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ شَيْئًا يَمْلِكُهُ فَقَبْضُ الثَّمَنِ مِنْهُ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَفَادَ ذَلِكَ الْمِلْكَ لَجَازَ لِلْمُشْتَرِي وَطْءُ جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا شِرَاءً فَاسِدًا وَجَازَ أَخْذُ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ وَيَحِلُّ أَكْلُ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ لَهُ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا لَمْ يَحِلَّ وَطْؤُهَا وَأَكْلُهُ لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ فِيمَا ذُكِرَتْ لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْوَطْءِ وَالْأَكْلِ إعْرَاضًا عَنْ الرَّدِّ، وَفِي الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ تَقْرِيرَ الْفَسَادِ وَتَأْكِيدَهُ فَلَا يَجُوزُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا فِي مَبْنَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمُشْتَرَى بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ: فَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ إلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسْلِيطِ الْبَائِعِ عَلَى ذَلِكَ لَا عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ.
قَالُوا لَوْ مَلَكَ الْعَيْنَ لَمَلَكَ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ وَلَمْ يَمْلِكْهَا.
وَذَهَبَ مَشَايِخُ بَلْخِي إلَى أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ بِنَاءٌ عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا إذَا اشْتَرَى دَارًا بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ وَقَبَضَهَا فَبِيعَ بِجَنْبِهَا دَارٌ أُخْرَى فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ.
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ وَقَبَضَهَا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَلَوْ بَاعَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ عَبْدَ يَتِيمٍ بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ، وَلَوْ كَانَ عِتْقُهُ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيطِ لَمَا جَازَ لِأَنَّ عِتْقَهُمَا أَوْ تَسْلِيطَهُمَا عَلَى الْعِتْقِ لَا يَجُوزُ فَعُلِمَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَيْنَ.
وَأَجَابُوا عَنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَإِذَا كَانَ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ كَانَ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ: أَيْ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَابَ (قَوْلُهُ وَكَذَا بَيْعُ الْمَيْتَةِ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَاطِلٌ فَكَذَا بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْوَالًا فَلَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ بِالْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْخَمْرِ وَلَا مَا يُقَابِلُهَا.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْخَمْرِ وَيُفِيدُ مِلْكَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ الْبَدَلِ بِالْقَبْضِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ: أَيْ غَيْرُ مُعَزَّزٍ يُقَابِلُهُ قِيمَةٌ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ إعْزَازِهِ، وَمَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِتَرْكِ إعْزَازِهِ لَا يَكُونُ مَعْزُوزًا فَلَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا، وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ مَقْصُودًا: أَيْ يَجْعَلُهُ مَبِيعًا إعْزَازًا لَهُ وَهُوَ خِلَافُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالدَّرَاهِمُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِمَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَمْرُ، وَفِي جَعْلِهِ كَذَلِكَ خِلَافُ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَسْقُطُ التَّقَوُّمُ أَصْلًا لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى خِلَافِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِالْخَمْرِ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ الثَّوْبِ يَجْعَلُهُ مَبِيعًا إنَّمَا يَقْصِدُ تَمَلُّكَ الثَّوْبِ بِوَسِيلَةِ الْخَمْرِ، وَفِيهِ إعْزَازٌ لِلثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُهَا لِنَفْسِهَا بَلْ لِغَيْرِهَا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إعْزَازُهَا وَلَا خِلَافُ مَا أَمَرَ بِهِ فَلَا يَكُونُ بَاطِلًا وَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ يَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَإِنْ وَقَعَ الْخَمْرُ مَبِيعًا وَالثَّوْبُ ثَمَنًا بِدُخُولِ الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ مُقَايَضَةً وَفِيهَا كُلٌّ مِنْ الْعِوَضَيْنِ يَكُونُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْخَمْرِ جِهَةُ الثَّمَنِيَّةِ رُجِّحَ جَانِبُ الْفَسَادِ عَلَى جَانِبِ الْبُطْلَانِ صَوْنًا لِلتَّصَرُّفِ عَنْ الْبُطْلَانِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إنْ كَانَ قُوبِلَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ قُوبِلَ بِعَيْنٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ حَتَّى يَمْلِكَ مَا يُقَابِلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ عَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ مَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ لِمَا أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ إعْزَازِهِ، وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ مَقْصُودًا إعْزَازٌ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهُمَا بِالدَّرَاهِمِ فَالدَّرَاهِمُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ؛ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِمَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَمْرُ فَسَقَطَ التَّقَوُّمُ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِالْخَمْرِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّوْبِ إنَّمَا يَقْصِدُ تَمَلُّكَ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ.
وَفِيهِ إعْزَازٌ لِلثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ فَبَقِيَ ذِكْرُ الْخَمْرِ مُعْتَبَرًا فِي تَمَلُّكِ الثَّوْبِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِ الْخَمْرِ حَتَّى فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ شِرَاءُ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ لِكَوْنِهِ مُقَايَضَةً. قَالَ (وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَاسِدٌ) وَمَعْنَاهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ قَدْ ثَبَتَ لِأُمِّ الْوَلَدِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَسَبَبُ الْحُرِّيَّةِ انْعَقَدَ فِي الْمُدَبَّرِ فِي الْحَالِ لِبُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمُكَاتَبُ اسْتَحَقَّ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ لَازِمَةً فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِالْبَيْعِ لَبَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَلَا يَجُوزُ، وَلَوْ رَضِيَ الْمُكَاتَبُ بِالْبَيْعِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ، وَالْمُرَادُ الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ دُونَ الْمُقَيَّدِ، وَفِي الْمُطْلَقِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَتَاقِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَاسِدٌ) أَيْ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِاتِّصَالِ الْقَبْضِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ قَدْ ثَبَتَ إلَخْ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ مُنَافَاةً لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ عِبَارَةٌ عَنْ جِهَةِ حُرِّيَّةٍ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا الْإِبْطَالُ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ يُبْطِلُهُمَا، وَأَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» فَيَنْتَفِي الْآخَرُ.
لَا يُقَالُ: وَهُوَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ وَأَنْتُمْ تَحْمِلُونَهُ عَلَى حَقِّهِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِأَنَّ الْمَجَازَ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَكَذَلِكَ الْمُنَافَاةُ ثَابِتَةٌ بَيْنَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ لِتَنَافِي اللَّوَازِمِ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَعَ الْحُرِّيَّةِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَكَذَلِكَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ وَالْبَيْعِ وَأَحَدُ الْمُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْحَالِ لَكَانَ إمَّا غَيْرَ ثَابِتٍ مُطْلَقًا أَوْ ثَابِتًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إهْمَالَ لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ وَالْإِعْمَالُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الثَّانِي لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَالَ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ.
فَمَتَى قُلْنَا إنَّهُ يَنْعَقِدُ سَبَبًا بَعْدَ الْمَوْتِ احْتَجْنَا إلَى بَقَاءِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْمَوْتُ يُنَافِيهَا فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ التَّدْبِيرِ سَبَبًا فِي الْحَالِ وَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَكَذَلِكَ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْمُكَاتَبِ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ لَازِمَةً فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ مُنَافَاةٌ، لَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ اللَّازِمَةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ بِدُونِ رِضَا الْمُكَاتَبِ فَيَنْتَفِي الْآخَرُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى فَسْخِهَا بِتَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ بَطَلَ بَيْعُ هَؤُلَاءِ لَكَانَ كَبَيْعِ الْحُرِّ وَحِينَئِذٍ بَطَلَ بَيْعُ الْقِنِّ الْمَضْمُومِ إلَيْهِمْ فِي الْبَيْعِ كَالْمَضْمُومِ إلَى الْحُرِّ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ بَيْعَ الْحُرِّ بَاطِلٌ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً لِعَدَمِ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ أَصْلًا بِثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَبَيْعُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ بَقَاءً لِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ لَا ابْتِدَاءً لِعَدَمِ حَقِيقَتِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ نَفَذَ قَضَاؤُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَخَلُوا فِي الْبَيْعِ ابْتِدَاءً لِكَوْنِهِمْ مَحَلًّا لَهُ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ فَبَقِيَ الْقِنُّ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ بَقَاءٌ جَائِزٌ بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ لَزِمَ الْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً وَأَنَّهُ بَاطِلٌ عَلَى مَا يَجِيءُ.
قَالَ (وَلَوْ رَضِيَ الْمُكَاتَبُ بِالْبَيْعِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ إلَخْ) لِأَنَّ عَدَمَهُ كَانَ لِحَقِّهِ، فَلَمَّا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِرِضَاهُ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ وَجَازَ الْبَيْعُ.
وَرُوِيَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُدَبَّرِ هُوَ الْمُطْلَقُ دُونَ الْمُقَيَّدِ بِالتَّفْسِيرِ الْمَارِّ فِي التَّدْبِيرِ، وَفِي الْمُطْلَقِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ قَالَ (وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ أَوْ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ لَهُمَا أَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَبَّرُ وَأُمَّ الْوَلَدِ يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْبَيْعِ حَتَّى يَمْلِكَ مَا يُضَمُّ إلَيْهِمَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ الْقَبْضُ وَهَذَا الضَّمَانُ بِهِ وَلَهُ أَنَّ جِهَةَ الْبَيْعِ إنَّمَا تَلْحَقُ بِحَقِيقَةٍ فِي مَحِلٍّ يَقْبَلُ الْحَقِيقَةَ وَهُمَا لَا يَقْبَلَانِ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ فَصَارَا كَالْمُكَاتَبِ، وَلَيْسَ دُخُولُهُمَا فِي الْبَيْعِ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْبَيْعِ فِيمَا ضُمَّ إلَيْهِمَا فَصَارَ كَمَالِ الْمُشْتَرِي لَا يَدْخُلُ فِي حُكْمِ عَقْدِهِ بِانْفِرَادِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الدُّخُولِ فِيمَا ضَمَّهُ إلَيْهِ، كَذَا هَذَا.
الشَّرْحُ:
وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ أَوْ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَهَذَا لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ الرِّوَايَتَانِ عَنْهُ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ.
رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمُدَبَّرِ بِالْبَيْعِ كَمَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ أُمِّ الْوَلَدِ فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْبَيْعِ وَالْغَصْبِ لِأَنَّهَا لَا تَقَوُّمَ لِمَالِيَّتِهَا.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ ضَمَانِ الْغَصْبِ فِي الْمُدَبَّرِ وَضَمَانِ بَيْعِهِ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْمُعَلَّى أَنَّ ضَمَانَ الْبَيْعِ وَإِنْ أَشْبَهَ ضَمَانَ الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ الدُّخُولُ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ، لَكِنْ لابد مِنْ اعْتِبَارِ جِهَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ انْهَدَرَتْ هَذِهِ الْجِهَةُ فَبَقِيَ قَبْضًا بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ.
لَهُمَا أَنَّهُ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْعَقْدِ حَتَّى يَمْلِكَ بِالضَّمِّ إلَيْهِمَا فِي الْبَيْعِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَضْمُونٌ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمَقْبُوضَةِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الدُّخُولُ تَحْتَ الْبَيْعِ وَتَمَلُّكُ مَا يُضَمُّ إلَيْهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لَكَانَ فِي الْمُكَاتَبِ كَذَلِكَ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ الْقَبْضُ وَهَذَا الضَّمَانُ بِالْقَبْضِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَدَارَ هُوَ الْقَبْضُ لَا الدُّخُولُ فِي الْعَقْدِ وَتَمَلُّكُ الْمَضْمُومِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جِهَةَ الْبَيْعِ إنَّمَا تُوجِبُ الضَّمَانَ فِي الْأَمْوَالِ إلْحَاقًا بِحَقِيقَتِهِ فِي مَحَلٍّ يَقْبَلُ الْحَقِيقَةَ، وَهُمَا: أَيْ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ لَا يَقْبَلَانِ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ فَلَا تُلْحَقُ الْجِهَةُ بِهَا فَصَارَا كَالْمُكَاتَبِ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْحَقِيقَةِ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ دُخُولُهُمَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْبَيْعِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ فَائِدَةَ الدُّخُولِ لَا تَنْحَصِرُ فِي نَفْسِ الدَّاخِلِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إلَى غَيْرِهِ كَثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فِيمَا ضُمَّ إلَيْهِمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَبْعَدٍ بَلْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مَعَ عَبْدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا فَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي عَبْدَ الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي حَقِّ عَبْدِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ هَذَا. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّمَكِ قَبْلَ أَنْ يُصْطَادَ) لِأَنَّهُ بَاعَ مَالًا يَمْلِكُهُ (وَلَا فِي حَظِيرَةٍ إذَا كَانَ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِصَيْدٍ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَخَذَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِيهَا لَوْ كَانَ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ حِيلَةٍ جَازَ، إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهَا بِأَنْفُسِهَا وَلَمْ يَسُدَّ عَلَيْهَا الْمَدْخَلَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَصْطَادَهُ) بَيْعُ السَّمَكِ قَبْلَ الِاصْطِيَادِ بَيْعُ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ فَلَا يَجُوزُ، وَإِذَا اصْطَادَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الْحَظِيرَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ مِنْهَا إلَّا بِتَكَلُّفٍ وَاحْتِيَالٍ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً جَازَ لِأَنَّهُ بَاعَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَإِذَا سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ رَآهَا فِي الْمَاءِ لِأَنَّ السَّمَكَ يَتَفَاوَتُ خَارِجَ الْمَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ (قَوْلُهُ إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ جَازَ: يَعْنِي الْحَظِيرَةَ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ حِيلَةٍ جَازَ إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهَا بِأَنْفُسِهَا وَلَمْ يُسَدَّ عَلَيْهَا الْمَدْخَلُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَأْخُوذِ الْمُلْقَى فِي الْحَظِيرَةِ وَالْمُجْتَمَعُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيهِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ سَدَّ صَاحِبُ الْحَظِيرَةِ عَلَيْهَا مَلَكَهَا، أَمَّا بِمُجَرَّدِ الِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِهِ فَلَا، كَمَا لَوْ بَاضَ الطَّيْرُ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ أَوْ فَرَّخَتْ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ.
لَا يُشْكِلُ بِمَا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْرِزَهُ أَوْ يُهَيِّئَ لَهُ مَوْضِعًا، لِأَنَّ الْعَسَلَ إذْ ذَاكَ قَائِمٌ بِأَرْضِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ فَصَارَ كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا، بِخِلَافِ بَيْضِ الطَّيْرِ وَفَرْخِهَا وَالسَّمَكُ الْمُجْتَمِعُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ. قَالَ (وَلَا بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ قَبْلَ الْأَخْذِ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا) يَجُوزُ (بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ) بَيْعُ الطَّيْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ بَيْعُهُ فِي الْهَوَاءِ قَبْلَ أَنْ يَصْطَادَهُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ.
وَالثَّانِي بَيْعُهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَهُ وَأَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ.
وَالثَّالِثُ بَيْعُ طَيْرٍ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ كَالْحَمَامِ وَهُوَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ فِي الظَّاهِرِ.
وَذُكِرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَإِنْ بَاعَ طَيْرًا لَهُ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ إنْ كَانَ دَاجِنًا يَعُودُ إلَى بَيْتِهِ وَيَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ جَازَ بَيْعُهُ وَإِلَّا فَلَا قَالَ (وَلَا بَيْعُ الْحَمْلِ وَلَا النِّتَاجِ) «لِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ» وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا.
الشَّرْحُ:
(وَلَا) يَجُوزُ (بَيْعُ الْحَمْلِ) أَيْ الْجَنِينِ (وَلَا نِتَاجِ الْحَمْلِ) وَهُوَ حَبَلُ الْحَبَلِ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ وَحَبَلِ الْحَبَلِ».
وَالنِّتَاجُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ نَتَجَتْ النَّاقَةُ بِالضَّمِّ وَلَكِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَنْتُوجُ هَاهُنَا.
وَالْحَبَلُ مَصْدَرُ حَبِلَتْ الْمَرْأَةُ حَبَلًا فَهِيَ حُبْلَى فَسُمِّيَ بِهِ الْمَحْمُولُ كَمَا سُمِّيَ بِالْحَمْلِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ التَّاءُ إشْعَارًا لِمَعْنَى الْأُنُوثَةِ فِيهِ.
قِيلَ مَعْنَاهُ: أَنْ يَبِيعَ مَا سَوْفَ يَحْمِلُهُ الْجَنِينُ إنْ كَانَ أُنْثَى، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَادُونَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا وَهُوَ مَا طُوِيَ عَنْك عِلْمُهُ.
قَالَ الْمُغْرِبُ فِي الْحَدِيثِ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»: وَهُوَ الْخَطَرُ الَّذِي لَا يَدْرِي أَيَكُونُ أَمْ لَا كَبَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ. (وَلَا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ لِلْغَرَرِ) فَعَسَاهُ انْتِفَاخٌ، وَلِأَنَّهُ يُنَازَعُ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلْبِ، وَرُبَّمَا يَزْدَادُ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ لِلْغَرَرِ إلَخْ) وَبَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ لَا يَجُوزُ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ لِلْغَرَرِ: لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الضَّرْعُ مُنْتَفِخًا يُظَنُّ لَبَنًا وَالْغَرَرُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلِلنِّزَاعِ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلْبِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَقْصِي فِي الْحَلْبِ وَالْبَائِعُ يُطَالِبُهُ بِأَنْ يَتْرُكَ دَاعِيَةَ اللَّبَنِ وَلِأَنَّهُ يَزْدَادُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَالْبَيْعُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الزِّيَادَةَ لِعَدَمِهَا عِنْدَهُ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ، وَاخْتِلَاطُ الْمَبِيعِ بِمَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ تَمْيِيزُهُ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ. قَالَ (وَلَا الصُّوفُ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ) لِأَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَلَ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْقَوَائِمِ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ مِنْ أَعْلَى، وَبِخِلَافِ الْقَصِيلِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَلْعُهُ، وَالْقَطْعُ فِي الصُّوفِ مُتَعَيِّنٌ فَيَقَعُ التَّنَازُعُ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَعَنْ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ، وَعَنْ سَمْنٍ فِي لَبَنٍ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الصُّوفِ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهُ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
وَبَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ لَا يَجُوزُ لِوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ لِأَنَّ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ فَهُوَ وَصْفٌ مَحْضٌ، بِخِلَافِ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالشَّجَرِ فَإِنَّهُ عَيْنُ مَالٍ مَقْصُودٍ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلِأَنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَلَ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ مُبْطِلٌ كَمَا مَرَّ.
فَإِنْ قِيلَ: الْقَوَائِمُ مُتَّصِلَةٌ بِالشَّجَرِ وَجَازَ بَيْعُهَا.
أَجَابَ بِأَنَّهَا تَزِيدُ مِنْ أَعْلَاهَا فَلَا يَلْزَمُ الِاخْتِلَاطُ، حَتَّى لَوْ رَبَطْت خَيْطًا فِي أَعْلَاهَا وَتُرِكَتْ أَيَّامًا يَبْقَى الْخَيْطُ أَسْفَلَ مِمَّا فِي رَأْسِهَا الْآنَ، وَالْأَعْلَى مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَمَا وَقَعَ مِنْ الزِّيَادَةِ وَقَعَ فِي مِلْكِهِ.
أَمَّا الصُّوفُ فَإِنَّ نُمُوَّهُ مِنْ أَسْفَلِهِ، فَإِنْ خَضَّبَ الصُّوفَ عَلَى ظَهْرِ الشَّاةِ ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى نَمَا فَالْمَخْضُوبُ يَبْقَى عَلَى رَأْسِهِ لَا فِي أَصْلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْقَصِيلُ كَالصُّوفِ وَجَازَ بَيْعُهُ.
أَجَابَ بِأَنَّ الْقَصِيلَ وَإِنْ أَمْكَنَ وُقُوعُ التَّنَازُعِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ فَيُقْلَعُ، وَأَمَّا الْقَطْعُ فِي الصُّوفِ فَمُتَعَيَّنٌ إذْ لَمْ يُعْهَدْ فِيهِ الْقَلْعُ: أَيْ النَّتْفُ فَبَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ التَّنَازُعُ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَعَنْ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ وَعَنْ سَمْنٍ فِي لَبَنٍ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ. قَالَ (وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ ذَكَرَا الْقَطْعَ أَوْ لَمْ يَذْكُرَاهُ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِضَرَرٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ نُقْرَةٍ فِضَّةً لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِلْجَهَالَةِ أَيْضًا، وَلَوْ قَطَعَ الْبَائِعُ الذِّرَاعَ أَوْ قَلَعَ الْجِذْعَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي يَعُودُ صَحِيحًا لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْرِ أَوْ الْبَذْرَ فِي الْبِطِّيخِ حَيْثُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا.
وَإِنْ شَقَّهُمَا وَأَخْرَجَ الْمَبِيعَ لِأَنَّ فِي وُجُودِهِمَا احْتِمَالًا، أَمَّا الْجِذْعُ فَعَيْنٌ مَوْجُودٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ) إذَا بَاعَ جِذْعًا فِي سَقْفٍ أَوْ ذِرَاعًا مِنْ ثَوْبٍ: يَعْنِي ثَوْبًا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ كَالْقَمِيصِ لَا الْكِرْبَاسِ فَالْبَيْعُ لَا يَجُوزُ ذَكَرَ الْقَطْعَ أَوْ لَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ، وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ لَازِمًا فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ وَتَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّبْعِيضِ مَضَرَّةٌ كَبَيْعِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ نُقْرَةِ فِضَّةٍ وَذِرَاعٍ مِنْ كِرْبَاسٍ فَإِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْجِذْعُ مُعَيَّنًا لَا يَجُوزُ لِلُزُومِ الضَّرَرِ وَلِلْجَهَالَةِ أَيْضًا.
وَلَوْ قَطَعَ الْبَائِعُ الذِّرَاعَ أَوْ قَلَعَ الْجِذْعَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي عَادَ الْبَيْعُ صَحِيحًا لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ) وَهُوَ الضَّرَرُ (وَلَوْ بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْرِ أَوْ الْبِزْرِ فِي الْبِطِّيخِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ شَقَّهُمَا وَأَخْرَجَ الْمَبِيعَ لِأَنَّ فِي وُجُودِهِمَا احْتِمَالًا) أَيْ هُوَ شَيْءٌ مُغَيَّبٌ وَهُوَ فِي غِلَافِهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا وَأَمْثَالِهَا بَيْعُ مَا فِي وُجُودِهِ احْتِمَالٌ فَإِنَّهُ شَيْءٌ مُغَيَّبٌ فِي غِلَافِهِ وَهُوَ جَائِزٌ.
أُجِيبَ بِأَنَّ جَوَازَهُ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ انْطِلَاقِ اسْمِ الْمَبِيعِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ، فَإِنَّ الْحِنْطَةَ إذَا بِيعَتْ فِي سُنْبُلِهَا إنَّمَا يُقَالُ بِعْت هَذِهِ الْحِنْطَةَ فَالْمَذْكُورُ صَرِيحًا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَصَحَّ الْعَقْدُ إعْمَالًا لِتَصْحِيحِ لَفْظِهِ، وَأَمَّا بِزْرُ الْبِطِّيخِ وَنَوَى التَّمْرِ وَحَبُّ الْقُطْنِ فَاسْمُ الْمَبِيعِ وَهُوَ الْبِزْرُ وَالنَّوَى وَالْحَبُّ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، إذْ لَا يُقَالُ هَذَا بِزْرٌ وَنَوًى وَحَبٌّ بَلْ يُقَالُ هَذَا بِطِّيخٌ وَتَمْرٌ وَقُطْنٌ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مَذْكُورًا، وَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فَلَيْسَ بِمَبِيعٍ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وَاضِحٌ وَطَرِيقُ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَقَوْلُهُ (أَمَّا الْجِذْعُ فَعَيْنٌ مَوْجُودَةٌ) إشَارَةٌ إلَى إتْمَامِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِزْرِ وَالنَّوَى وَالْجِذْعِ الْمُعَيَّنُ فِي السَّقْفِ بِأَنَّ الْجِذْعَ مُعَيَّنٌ مَوْجُودٌ إذْ الْفَرْضُ فِيهِ وَالْبِزْرُ وَالنَّوَى لَيْسَ كَذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا بَاعَ جِلْدَ الشَّاةِ الْمَعِيبَةِ قَبْلَ الذَّبْحِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ وَسَلَخَ جِلْدَهَا وَسَلَّمَهُ لَا يَنْقَلِبُ الْبَيْعُ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ الْجِلْدُ عَيْنًا مَوْجُودًا كَالْجِذْعِ فِي السَّقْفِ، وَكَذَا بَيْعُ كَرِشِهَا وَأَكَارِعِهَا.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ لَكِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِغَيْرِهِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَكَانَ تَابِعًا لَهُ، فَكَانَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ هُنَاكَ مَعْنًى أَصْلِيًّا لَا أَنَّهُ اُعْتُبِرَ عَاجِزًا حُكْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ شَيْءٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، وَأَمَّا الْجِذْعُ فَإِنَّهُ عَيْنُ مَالٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِعَارِضِ فِعْلِ الْعِبَادِ، وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ حُكْمِيٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ بِنَاءٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا قُلِعَ وَالْتَزَمَ الضَّرَرُ زَالَ الْمَانِعُ فَيَجُوزُ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ وَطَرِيقِ مَنْ لَا يَرَى بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ (وَضَرْبَةِ الْقَانِصِ) وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الصَّيْدِ بِضَرْبِ الشَّبَكَةِ مَرَّةً لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَضَرْبَةُ الْقَانِصِ) الْقَانِصُ الصَّائِدُ، يُقَالُ قَنَصَ إذَا صَادَ.
وَضَرْبَةُ الْقَانِصِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الصَّيْدِ بِضَرْبِ الشَّبَكَةِ.
يُقَالُ ضَرَبَ الشَّبَكَةَ عَلَى الطَّائِرِ أَلْقَاهَا، وَمِنْهُ نَهَى عَنْ ضَرْبِهِ.
وَفِي تَهْذِيبِ الْأَزْهَرِيِّ عَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ وَهُوَ الْغَوَّاصُ عَلَى اللَّآلِئِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلتَّاجِرِ أَغُوصُ لَك غَوْصَةً فَمَا أَخْرَجْت فَهُوَ لَك بِكَذَا، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَأَنَّ فِيهِ غَرَرًا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الشَّبَكَةِ شَيْءٌ مِنْ الصَّيْدِ وَأَنْ لَا يُخْرِجَ مِنْ الْغَوْصَةِ شَيْئًا. قَالَ (وَبَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى النَّخِيلِ بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ مِثْلِ كَيْلِهِ خَرْصًا) «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ» فَالْمُزَابَنَةُ مَا ذَكَرْنَا، وَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْلِ كَيْلِهَا خَرْصًا؛ وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا تَجُوزُ بِطَرِيقِ الْخَرْصِ كَمَا إذَا كَانَا مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ، وَكَذَا الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ عَلَى هَذَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا وَهُوَ أَنْ يُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ».
قُلْنَا: الْعَرِيَّةُ: الْعَطِيَّةُ لُغَةً، وَتَأْوِيلُهُ أَنْ يَبِيعَ الْمُعْرَى لَهُ مَا عَلَى النَّخِيلِ مِنْ الْمُعْرِي بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ، وَهُوَ بَيْعٌ مَجَازًا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ فَيَكُونُ بُرًّا مُبْتَدَأً.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَبَيْعُ الْمُزَابَنَةِ) الرَّفْعُ فِيهِ وَالْجَرُّ وَالرَّفْعُ فِيمَا تَقَدَّمَ جَائِزٌ، وَالْمُزَابَنَةُ وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مَجْذُوذَةٍ مِثْلُ كَيْلِ مَا عَلَى النَّخْلِ مِنْ الثَّمَرِ حَرْزًا وَظَنًّا لَا حَقِيقِيًّا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِثْلُهُ كَيْلًا حَقِيقِيًّا لَمْ يَبْقَ مَا عَلَى الرَّأْسِ ثَمَرًا بَلْ تَمْرًا مَجْذُوذًا كَاَلَّذِي يُقَابِلُهُ مِنْ الْمَجْذُوذِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ» وَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْلِ كَيْلِهَا خَرْصًا، وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا يَجُوزُ خَرْصًا لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الرِّبَا الْمُلْحَقَةَ بِالْحَقِيقَةِ فِي التَّحْرِيمِ، كَمَا لَوْ كَانَا مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ وَبَاعَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ خَرْصًا، وَبَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ عَلَى هَذَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَلَهُ فِي مِقْدَارِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَوْلَانِ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا، وَفَسَّرَهَا بِأَنْ يُبَاعَ الثَّمَرُ الَّذِي عَلَى رَأْسِ النَّخْلِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ بِخَرْصِهَا عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ الثَّمَرَةِ.
قُلْنَا بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا فَإِنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةً لَا يُمْكِنُ مَنْعُهَا، لَكِنْ لَيْسَ حَقِيقَةُ مَعْنَاهَا مَا ذَكَرْتُمْ بَلْ مَعْنَاهَا الْعَطِيَّةُ لُغَةً.
وَتَأْوِيلُهَا أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ مِنْ بُسْتَانِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ يَشُقُّ عَلَى الْمُعْرِي دُخُولُ الْمُعْرَى لَهُ فِي بُسْتَانِهِ كُلَّ يَوْمٍ لِكَوْنِ أَهْلِهِ فِي الْبُسْتَانِ وَلَا يَرْضَى مِنْ نَفْسِهِ خُلْفَ الْوَعْدِ وَالرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فَيُعْطِيهِ مَكَانَ ذَلِكَ تَمْرًا مَجْذُوذًا بِالْخَرْصِ لِيَدْفَعَ ضَرَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ مُخْلِفًا لِوَعْدِهِ، وَبِهِ نَقُولُ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِمِلْكِ الْوَاهِبِ، فَمَا يُعْطِيهِ مِنْ التَّمْرِ لَا يَكُونُ عِوَضًا بَلْ هِبَةً مُبْتَدَأَةً، وَيُسَمَّى بَيْعًا مَجَازًا لِأَنَّهُ فِي الصُّورَةِ عِوَضٌ يُعْطِيهِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ خُلْفِ الْوَعْدِ، وَاتَّفَقَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ الرُّخْصَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى هَذَا فَنُقِلَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا» فَسِيَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَرَايَا بَيْعُ ثَمَرٍ بِتَمْرٍ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا الْعَرَايَا، وَالْأَصْلُ حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْبَيْعِ حَقِيقَةُ بَيْعٍ لِوُجُوبِ دُخُولِهِ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ.
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يُنَافِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَشْهُورَ: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَالْمَشْهُورُ قَاضٍ عَلَيْهِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَزَةِ).
وَهَذِهِ بُيُوعٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَرَاوَضَ الرَّجُلَانِ عَلَى سِلْعَةٍ: أَيْ يَتَسَاوَمَانِ، فَإِذَا لَمَسَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ نَبَذَهَا إلَيْهِ الْبَائِعُ أَوْ وَضَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا حَصَاةً لَزِمَ الْبَيْعُ؛ فَالْأَوَّلُ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالثَّانِي الْمُنَابَذَةُ، وَالثَّالِثُ إلْقَاءُ الْحَجَرِ، «وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ» وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْلِيقًا بِالْخَطَرِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ) سَامَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ: أَيْ عَرَضَهَا وَذَكَرَ ثَمَنَهَا، وَسَامَهَا الْمُشْتَرِي بِمَعْنَى اسْتَامَهَا.
بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ هُوَ أَنْ يَتَسَاوَمَ الرَّجُلَانِ فِي السِّلْعَةِ فَيَلْمِسُهَا الْمُشْتَرِي بِيَدِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ ابْتِيَاعًا لَهَا رَضِيَ مَالِكُهَا بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرْضَ.
وَبَيْعُ الْمُنَابَذَةِ هُوَ أَنْ يَتَرَاوَضَ الرَّجُلَانِ عَلَى السِّلْعَةِ فَيُحِبُّ مَالِكُهَا إلْزَامَ الْمُسَاوِمِ لَهُ عَلَيْهَا إيَّاهَا فَيَنْبِذُهَا إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ بِذَلِكَ وَلَا يَكُونُ لَهُ رَدُّهَا عَلَيْهِ.
وَبَيْعُ إلْقَاءِ الْحَجَرِ هُوَ أَنْ يَتَسَاوَمَ الرَّجُلَانِ عَلَى السِّلْعَةِ فَإِذَا وَضَعَ الطَّالِبُ لِشِرَائِهَا حَصَاةً عَلَيْهَا تَمَّ الْبَيْعُ فِيهَا عَلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا ارْتِجَاعٌ فِيهَا.
وَهَذِهِ كَانَتْ بُيُوعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ تُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَبَيْعُ إلْقَاءِ الْحَجَرِ مُلْحَقٌ بِهِمَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُمَا، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْلِيقًا بِالْخَطَرِ وَالتَّمْلِيكَاتُ لَا تَحْتَمِلُهُ لِأَدَائِهِ إلَى مَعْنَى الْقِمَارِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: أَيُّ ثَوْبٍ أَلْقَيْت عَلَيْهِ الْحَجَرَ فَقَدْ بِعْته، وَأَيُّ ثَوْبٍ لَمَسْته بِيَدِك فَقَدْ بِعْته، وَأَيُّ ثَوْبٍ نَبَذْته إلَيَّ فَقَدْ اشْتَرَيْته. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ) لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ؛ وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِفُرُوعِهِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ) لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهمَا شِئْت فَإِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَرَاعِي وَلَا إجَارَتُهَا) الْمُرَادُ الْكَلَأُ، أَمَّا الْبَيْعُ فَلِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُهُ لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهِ بِالْحَدِيثِ، وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُبَاحٍ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مَمْلُوكٍ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا لَا يَجُوزُ فَهَذَا أَوْلَى.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَرَاعِي وَلَا إجَارَتُهَا) وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَلَأُ وَهُوَ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ مِنْ الْحَشِيشِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ وَمَا لَهُ سَاقٌ فَهُوَ كَلَأٌ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمَرَاعِيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَرْعَى يَقَعُ عَلَى مَوْضِعِ الرَّعْيِ وَهُوَ الْأَرْضُ وَعَلَى الْكَلَأِ وَعَلَى مَصْدَرِ رَعَى، وَلَوْ لَمْ يُفَسَّرْ بِذَلِكَ لَتُوُهِّمَ أَنَّ بَيْعَ الْأَرْضِ وَإِجَارَتَهَا لَا يَجُوزُ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ بَيْعَ الْأَرَاضِي وَإِجَارَتَهَا صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا الْكَلَأُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، أَمَّا عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ الْكَلَأِ غَيْرِ الْمُحْرَزِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهِ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ، وَالْكَلَأِ، وَالنَّارِ» وَمَا هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَمَعْنَى شَرِكَتِهِمْ فِيهَا أَنَّ لَهُمْ الِانْتِفَاعَ بِضَوْئِهَا وَالِاصْطِلَاءَ بِهَا وَالشُّرْبَ وَسَقْيَ الدَّوَابِّ وَالِاسْتِقَاءَ مِنْ الْآبَارِ وَالْحِيَاضِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ مِنْ الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ وَالِاحْتِشَاشَ مِنْ الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ، فَإِنْ مَنَعَ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ إنَّ لِي فِي أَرْضِك حَقًّا، فَإِمَّا أَنْ تُوَصِّلَنِي إلَى حَقِّي أَوْ تَحْتَشَّهُ فَتَدْفَعَهُ إلَيَّ أَوْ تَدَعَنِي آخُذُهُ، كَثَوْبٍ لِرَجُلٍ وَقَعَ فِي دَارِ إنْسَانٍ هَذَا إذَا نَبَتَ ظَاهِرًا، وَأَمَّا إذَا أَنْبَتَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِالسَّقْيِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ.
وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالنَّوَازِلِ أَنَّ صَاحِبَهَا يَمْلِكُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْكَلَإِ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ، وَإِنَّمَا تَنْقَطِعُ بِالْحِيَازَةِ وَسَوْقُ الْمَاءِ إلَى أَرْضِهِ لَيْسَ بِحِيَازَةٍ لِلْكَلَأِ فَبَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الْإِجَارَةِ فَلِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا وُقُوعُ الْإِجَارَةِ فِي عَيْنٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ.
وَالثَّانِي انْعِقَادُهَا عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُبَاحٍ وَانْعِقَادُهَا عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا لَا يَصِحُّ، فَعَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُبَاحٍ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْآجِرِ الْمَنَافِعُ لَا الْأَعْيَانُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْأَعْيَانُ آلَةً لِإِقَامَةِ الْعَمَلِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْإِجَارَةِ كَالصَّبْغِ فِي اسْتِئْجَارِ الصَّبَّاغِ وَاللَّبَنِ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِكَوْنِهِ آلَةً لِلْحَضَانَةِ وَالظُّئُورَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ إجَارَةَ الْكَلَأِ وَقَعَتْ فَاسِدَةً أَوْ بَاطِلَةً، وَذُكِرَ فِي الشُّرْبِ أَنَّهَا فَاسِدَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ الْآجِرُ الْأُجْرَةَ بِالْقَبْضِ وَيَنْفُذَ عِتْقُهُ فِيهَا. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ إذَا كَانَ مُحْرَزًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْكَلُ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُمَا مِنْ الْهَوَامِّ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالزَّنَابِيرِ وَالِانْتِفَاعُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ لَا بِعَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ، حَتَّى لَوْ بَاعَ كُوَّارَةً فِيهَا عَسَلٌ بِمَا فِيهَا مِنْ النَّحْلِ يَجُوزُ تَبَعًا لَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إذَا كَانَ مُحَرَّزًا: أَيْ مَجْمُوعًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً بِاسْتِيفَاءِ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ، وَشَرْعًا لِعَدَمِ مَا يَمْنَعُ عَنْهُ شَرْعًا، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَكَوْنُهُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ لَا يُنَافِيهِ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ وَهِيَ الْمَخُوفَةُ مِنْ الْأَحْنَاشِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا.
قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَرَأَيْت إنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا بِكَمْ يَرُدُّهَا، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّحْلَ لَا قِيمَةَ لَهَا وَلَا رَغْبَةَ فِي عَيْنِهَا (قَوْلُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ: يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ بِعَيْنِهِ، بَلْ الِانْتِفَاعُ بِمَا سَيَحْدُثُ مِنْهُ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ.
قِيلَ قَوْلُهُ لَا بِعَيْنِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُهْرِ وَالْجَحْشِ فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِمَا فِي الْحَالِ لَكِنْ يُنْتَفَعُ بِهِمَا فِي الْمَآلِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَفِيهِ بُعْدٌ لِخُرُوجِهِمَا بِقَوْلِهِ يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَخْرُجُ فَقَبْلَ خُرُوجِهِ لَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِأَنْ بَاعَ كِوَارَةً بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ مَعْسَلُ النَّحْلِ إذَا سُوِّيَ مِنْ طِينٍ فِيهَا عَسَلٌ بِمَا فِيهَا مِنْ النَّحْلِ يَجُوزُ تَبَعًا لَهُ.
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ.
وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِهَذَا الْمُخْتَصَرِ: وَأَمَّا إذَا بَاعَ الْعَسَلَ مَعَ النَّحْلِ فَالْعَقْدُ يَقَعُ عَلَى الْعَسَلِ وَيَدْخُلُ النَّحْلُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ.
ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَيَقُولُ: إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَأَتْبَاعِهِ وَالنَّحْلُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْعَسَلِ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي جَامِعِهِ هَذَا التَّعْلِيلَ بِعَيْنِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْقَزُّ تَبَعًا لَهُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ) لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ.
وَقِيلَ أَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي دُودِ الْقَزِّ وَالْحَمَامِ إذَا عَلِمَ عَدَدَهَا وَأَمْكَنَ تَسْلِيمُهَا جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّهُ مَالٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ وَبَيْضِهِ) وَهُوَ الْبِزْرُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الدُّودُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ وَبَيْضُهُ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِعَيْنِهِ بَلْ بِمَا سَيَحْدُثُ مِنْهُ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ.
وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ وَلِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فِي بَيْعِهِ، قِيلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ بَيْعَ دُودِ الْقَزِّ إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْقَزُّ تَبَعًا لَهُ كَبَيْعِ النَّحْلِ مَعَ الْعَسَلِ وَبَيْعِ بَيْضِهِ مُطْلَقًا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي دُودِهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُشِيرُ إلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهُ بِانْفِرَادِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ تَبَعًا فَيَجُوزُ، وَالْحَمَامُ إذَا عُلِمَ عَدَدُهَا وَأَمْكَنَ تَسْلِيمُهَا جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَكَانَ مَوْضِعُ ذِكْرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا هُنَا تَبَعًا لِمَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ وَضَعَهُ ثَمَّةَ كَذَلِكَ. (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ) لِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ (إلَّا أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ رَجُلٍ زَعَمَ أَنَّهُ عِنْدَهُ) لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعُ آبِقٍ مُطْلَقٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ آبِقًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهَذَا غَيْرُ آبِقٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي انْتَفَى الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَهُوَ الْمَانِعُ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَكَانَ أَشْهَدَ عِنْدَهُ أَخَذَهُ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْبَيْعِ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يُشْهِدْ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا لِأَنَّهُ قَبْضُ غَصْبٍ، لَوْ قَالَ هُوَ عِنْدَ فُلَانٍ فَبِعْهُ مِنِّي فَبَاعَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ آبِقٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.
وَلَوْ بَاعَ الْآبِقَ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْإِبَاقِ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَتِمُّ الْعَقْدُ إذَا لَمْ يُفْسَخْ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَانِعَ قَدْ ارْتَفَعَ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ، كَمَا إذَا أَبَقَ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَهَكَذَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ) بَيْعُ الْآبِقِ الْمُطْلَقِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ: «بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ» وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، وَالْآبِقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مُطْلَقًا وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ آبِقًا فِي حَقِّ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَازَ بَيْعُهُ كَمَنْ بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعُ الْمُطْلَقِ مِنْهُ، وَهَذَا غَيْرُ آبِقٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَيَنْتَفِي الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ الْمَانِعِ مِنْ الْجَوَازِ ثُمَّ هَلْ يَصِيرُ قَابِضًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ أَوْ لَا، إنْ كَانَ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ يَصِيرُ قَابِضًا عَقِبَ الشِّرَاءِ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَإِنْ قَبَضَهُ لِلرَّدِّ، فَإِمَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْمَوْلَى هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى (وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْبَيْعِ) لِأَنَّ قَبْضَ الضَّمَانِ أَقْوَى لِتَأَكُّدِهِ بِاللُّزُومِ وَالْمِلْكِ، أَمَّا اللُّزُومُ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ قَبْضِ الْمَبِيعِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ فَسْخُهُ، بِخِلَافِ الْأَمَانَةِ.
وَأَمَّا الْمِلْكُ فَلِأَنَّ الضَّمَانَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ.
بِخِلَافِ قَبْضِ الْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا لِأَنَّهُ قَبْضُ غَصْبٍ وَهُوَ قَبْضُ ضَمَانٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَبَا يُوسُفَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ قَابِضًا نَظَرًا إلَى الْقَاعِدَةِ.
وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي هُوَ عِنْدَ فُلَانٍ فَبِعْهُ مِنِّي فَبَاعَهُ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ آبِقًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَغَيْرَ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، إذْ الْبَائِعُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ، وَلَوْ بَاعَ الْآبِقُ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْإِبَاقِ هَلْ يَتِمُّ ذَلِكَ الْعَقْدُ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ؟ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ بَلْخِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ لَا يَتِمُّ وَيَحْتَاجُ إلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ لِوُقُوعِهِ بَاطِلًا، فَإِنَّ جُزْءَ الْمَحَلِّ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْعَقْدِ فَانْعَدَمَ الْمَحَلُّ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَخَذَهُ وَسَلَّمَهُ فِي الْمَجْلِسِ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَجُوزُ.
وَلَوْ فَاتَ الْمَحَلُّ لَمَا جَازَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إبْطَالُ الْمِلْكِ وَهُوَ يُلَائِمُ النَّوَى بِالْإِبَاقِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فِيهِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُهُ، وَالنَّوَى يُنَافِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَقْدَ يَتِمُّ إذَا لَمْ يُفْسَخْ، وَالْبَائِعُ إنْ امْتَنَعَ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَالْمُشْتَرِي عَنْ قَبْضِهِ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى لَا يَزُولُ بِالْإِبَاقِ وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ قَدْ ارْتَفَعَ فَتَحَقَّقَ الْمُقْتَضَى وَانْتَفَى الْمَانِعُ فَيَجُوزُ وَصَارَ كَمَا إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَهَكَذَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِنَا.
وَأَمَّا إذَا رَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَاضِي وَطَلَبَ مِنْهُ التَّسْلِيمَ وَعَجَزَ الْبَائِعُ عَنْهُ وَفَسَخَ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعٍ جَدِيدٍ. قَالَ (وَلَا بَيْعُ لَبَنِ امْرَأَةٍ فِي قَدَحٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ، وَلَنَا أَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ وَهُوَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ بِالْبَيْعِ، وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ لَبَنِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا فَكَذَا عَلَى جُزْئِهَا.
قُلْنَا: الرِّقُّ قَدْ حَلَّ نَفْسَهَا، فَأَمَّا اللَّبَنُ فَلَا رِقَّ فِيهِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَحِلٍّ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْقُوَّةُ الَّتِي هِيَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْحَيُّ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا لَبَنِ امْرَأَةٍ فِي قَدَحٍ) قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي قَدَحٍ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ بَيْعَهُ فِي الضَّرْعِ لَا يَجُوزُ كَسَائِرِ أَلْبَانِ الْحَيَوَانَاتِ، وَفِي الْقَدَحِ يَجُوزُ فَقَالَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَدَحٍ.
وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ بَيْعَهُ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ وَبَيْعُ مِثْلِهِ جَائِزٌ كَسَائِرِ الْأَلْبَانِ، وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ طَاهِرًا احْتِرَازًا عَنْ الْخَمْرِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِطَاهِرَةٍ.
وَلَنَا أَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ لِمَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَجُزْءُ الْآدَمِيِّ لَيْسَ بِمَالٍ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَمَوَّلُونَهُ وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جُزْءُ الْآدَمِيِّ لَكَانَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَبَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ.
أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَجْزَاءَ تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بَلْ الْمَضْمُونُ مَا انْتَقَصَ مِنْ الْأَصْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجُرْحَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْبُرْءُ يَسْقُطُ الضَّمَانُ وَكَذَا السِّنُّ إذَا نَبَتَتْ (قَوْلُهُ وَهُوَ) أَيْ الْآدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا آخَرَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْآدَمِيَّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَمَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ لَيْسَ بِمُكَرَّمٍ وَلَا مَصُونٍ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ لَبَنِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إيرَادُ الْبَيْعِ عَلَى نَفْسِهَا فَيَجُوزُ عَلَى جُزْئِهَا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ اعْتِبَارٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ فَلَا يَجُوزُ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الرِّقَّ حِلُّ نَفْسِهَا وَمَا حَلَّ فِيهِ الرِّقُّ جَازَ بَيْعُهُ، وَأَمَّا اللَّبَنُ فَلَا رِقَّ فِيهِ لِأَنَّ الرِّقَّ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْقُوَّةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّ الرِّقِّ: يَعْنِي الْعِتْقَ، وَهُوَ أَيْ الْمَحَلُّ هُوَ الْحَيُّ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَهُمَا ضِدَّانِ، وَإِذْ لَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الرِّقُّ وَلَا الْعِتْقُ لِانْتِفَاءِ الْمَوْضُوعِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَوْنُهُ مَشْرُوبًا مُطْلَقًا أَوْ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ.
فَإِنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ حَرُمَ شُرْبُهُ.
وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ لِأَنَّهُ غِذَاءٌ فِي تَرْبِيَةِ الصِّغَارِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَرَبُّونَ إلَّا بِلَبَنِ الْجِنْسِ عَادَةً، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مَالًا كَالْمَيْتَةِ تَكُونُ غِذَاءً عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ) لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إهَانَةً لَهُ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْخَرْزِ لِلضَّرُورَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ، وَيُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْبَيْعِ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَفْسَدَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُفْسِدُهُ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَلِيلُ طَهَارَتِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِطْلَاقَ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَحَالَةُ الْوُقُوعِ تُغَايِرُهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ) وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إهَانَةً لَهُ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْخَرْزِ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ يُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى بَيْعِهِ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: إذَا كَانَ لَا يُوجَدُ إلَّا بِالْبَيْعِ جَازَ بَيْعُهُ لَكِنَّ الثَّمَنَ لَا يَطِيبُ لِلْبَائِعِ.
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: إنْ كَانَتْ الْأَسَاكِفَةُ لَا يَجِدُونَ شَعْرَ الْخِنْزِيرِ إلَّا بِالشِّرَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُمْ الشِّرَاءُ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ أَفْسَدَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَّا فِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَحَالَةُ الْوُقُوعِ غَيْرُ حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُفْسِدُهُ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَلِيلُ طَهَارَتِهِ، وَوُقُوعُ الطَّاهِرِ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ، وَكَانَ الْمُصَنِّفُ اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ حَيْثُ أَخَّرَهُ، قِيلَ: هَذَا إذَا كَانَ مَنْتُوفًا، وَأَمَّا الْمَجْزُوزُ فَطَاهِرٌ كَذَا فِي التُّمُرْتَاشِيِّ وَقَاضِي خَانْ. (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شُعُورِ الْإِنْسَانِ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا) لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ لَا مُبْتَذَلٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُهَانًا وَمُبْتَذَلًا وَقَدْ قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة» الْحَدِيثُ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْ الْوَبَرِ فَيَزِيدُ فِي قُرُونِ النِّسَاءِ وَذَوَائِبِهِنَّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شُعُورِ الْإِنْسَانِ إلَخْ) بَيْعُ شُعُورِ الْآدَمِيِّينَ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا لَا يَجُوزُ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ قَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ» وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا فَعَلَهُ، إذْ النَّجِسُ لَا يُتَبَرَّكُ بِهِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ غَيْرُ مُبْتَذَلٍ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُبْتَذَلًا مُهَانًا وَفِي الْبَيْعِ وَالِانْتِفَاعِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة» وَالْوَاصِلَةُ مَنْ تَصِلُ الشَّعْرَ، وَالْمُسْتَوْصِلَة مَنْ يُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: جَعَلَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْعَ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ إعْزَازًا فِيمَا تَقَدَّمَ وَجَعَلَ شَعْرَ الْآدَمِيِّ إهَانَةً لَهُ وَالْبَيْعُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِأَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا حَقَّرَهُ الشَّرْعُ فَبَيْعُهُ وَمُبَادَلَتُهُ بِمَا لَمْ يُحَقِّرْهُ إعْزَازٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لِإِفْضَائِهِ إلَى إعْزَازِ مَا حَقَّرَهُ الشَّرْعُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا كَرَّمَهُ وَعَظَّمَهُ فَبَيْعُهُ وَمُبَادَلَتُهُ بِمَا لَيْسَ كَذَلِكَ إهَانَةٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لِإِفْضَائِهِ إلَى تَحْقِيرِ مَا عَظَّمَهُ الشَّرْعُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْبَيْعِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ وَصْفِ الْمَحَلِّ شَرْعًا، ثُمَّ إنَّ عَدَمَ جَوَازِهِمَا لَيْسَ لِلنَّجَاسَةِ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّ شَعْرَ غَيْرِ الْإِنْسَانِ لَا يَنْجُسُ بِالْمُزَايَلَةِ فَشَعْرُهُ وَهُوَ طَاهِرٌ أَوْلَى، وَلِأَنَّ فِي تَنَاثُرِ الشُّعُورِ ضَرُورَةً وَهِيَ تُنَافِي النَّجَاسَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: نَجِسٌ لِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالضَّرُورَةِ، وَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ الْقَرَامِيلِ وَهِيَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْوَبَرِ لِزَيْدٍ فِي قُرُونِ النِّسَاءِ: أَيْ فِي أُصُولِ شَعْرِهِنَّ بِالتَّكْثِيرِ وَفِي ذَوَائِبِهِنَّ بِالتَّطْوِيلِ. قَالَ (وَلَا بَيْعُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ» وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ) لِأَنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ بِالدِّبَاغِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَعَصَبِهَا وَصُوفِهَا وَقَرْنِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ كُلِّهِ)؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ لَا يَحِلُّهَا الْمَوْتُ؛ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَالْفِيلُ كَالْخِنْزِيرِ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ حَتَّى يُبَاعُ عَظْمُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ.
الشَّرْحُ:
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا لِنَجَاسَتِهَا.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ» وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ الْخَلِيلِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ: نَجَاسَتُهَا مُجَاوِرَةٌ بِاتِّصَالِ الرُّسُومَاتِ وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهَا خَلْفِيَّةٌ فَمَا لَمْ يُزَايَلْ بِالدِّبَاغِ فَهِيَ كَعَيْنِ الْجِلْدِ، بِخِلَافِ نَجَاسَةِ الثَّوْبِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَنْتَفِعُوا وَهُوَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ فَمِنْ أَيْنَ اللَّاجَوَازُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ وَهُوَ يُفِيدُهُ، طَالِعْ التَّقْرِيرَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ لِأَنَّهَا طَهُرَتْ بِهِ) لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ كَالذَّكَاةِ وَالْجِلْدِ يَطْهُرُ بِهَا فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ.
وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَعَصَبِهَا وَصُوفِهَا وَقَرْنِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ لَا يُحِلُّهَا الْمَوْتُ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ (وَالْفِيلُ كَالْخِنْزِيرِ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) اعْتِبَارًا بِهِ فِي حُرْمَةِ اللَّحْمِ وَغَيْرِهَا.
قَالَ لَا تَقَعُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِذَا دُبِغَ جِلْدُهُ لَمْ يَطْهُرْ.
وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ يُبَاعُ عَظْمُهُ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ نَجِسَ الْعَيْنِ بَلْ كَانَ كَالْكَلْبِ وَسَائِرِ السِّبَاعِ.
قَالُوا: بَيْعُ عَظْمِهِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ دُسُومَةٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فَهُوَ نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. قَالَ (وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ فَسَقَطَا أَوْ سَقَطَ الْعُلُوُّ وَحْدَهُ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ عُلُوَّهُ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي لَيْسَ بِمَالٍ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يُمْكِنُ إحْرَازُهُ وَالْمَالُ هُوَ الْمَحِلُّ لِلْبَيْعِ، بِخِلَافِ الشِّرْبِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَمُفْرَدًا فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَلَهُ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَعُلْوُهُ لِآخَرَ فَسَقَطَا أَوْ سَقَطَ الْعُلْوُ وَحْدَهُ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ عُلْوَهُ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي لَيْسَ بِمَالٍ لِعَدَمِ إمْكَانِ إحْرَازِهِ (وَالْمَالُ هُوَ الْمَحَلُّ لِلْبَيْعِ) فَإِنْ قِيلَ: الشِّرْبُ حَقُّ الْأَرْضِ وَلِهَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الشِّرْبِ: إذَا اشْتَرَى أَرْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ شِرْبٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الشِّرْبِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ.
وَمُفْرَدًا فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخِي لِأَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ، فَإِنَّ مَنْ سَقَى أَرْضَ نَفْسِهِ بِمَاءِ غَيْرِهِ يَضْمَنُ، وَلِأَنَّ لَهُ حَظًّا مِنْ الثَّمَنِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الشِّرْبِ.
قَالَ فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِشِرَاءِ أَرْضٍ بِشِرْبِهَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِشِرَائِهَا بِأَلْفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الشِّرْبَ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ الْأَرْضِ لِأَنَّ بَعْضَ الثَّمَنِ يُقَابِلُ الشِّرْبَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الشِّرْبِ وَحْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِلْجَهَالَةِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ مَعَهَا تَبَعًا لِزَوَالِهَا بِاعْتِبَارِ التَّبَعِيَّةِ. قَالَ (وَبَيْعُ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ جَائِزٌ وَبَيْعُ مَسِيلِ الْمَاءِ وَهِبَتُهُ بَاطِلٌ) وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ، وَبَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ وَالتَّسْيِيلِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الطَّرِيقَ مَعْلُومٌ لِأَنَّ لَهُ طُولًا وَعَرْضًا مَعْلُومًا، وَأَمَّا الْمَسِيلُ فَمَجْهُولٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى قَدْرُ مَا يَشْغَلُهُ مِنْ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَفِي بَيْعِ حَقِّ الْمُرُورِ رِوَايَتَانِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى إحْدَاهُمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّ التَّسْيِيلِ أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ مَعْلُومٌ لِتَعَلُّقِهِ بِمَحِلٍّ مَعْلُومٍ وَهُوَ الطَّرِيقُ، أَمَّا الْمَسِيلُ عَلَى السَّطْحِ فَهُوَ نَظِيرُ حَقِّ التَّعَلِّي وَعَلَى الْأَرْضِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحِلِّهِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ حَقِّ الْمُرُورِ وَحَقِّ التَّعَلِّي عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ لَا تَبْقَى وَهُوَ الْبِنَاءُ فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ، أَمَّا حَقُّ الْمُرُورِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ تَبْقَى وَهُوَ الْأَرْضُ فَأَشْبَهَ الْأَعْيَانَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَبَيْعُ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ جَائِزَةٌ) بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ جَائِزٌ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِطُولِهِ وَعَرْضِهِ إنْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِلَّا قُدِّرَ بِعَرْضِ بَابِ الدَّارِ الْعُظْمَى، وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ لَا يَقْبَلُ النِّزَاعَ.
وَبَيْعُ رَقَبَةِ الْمَسِيلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَسِيلٌ وَهِبَتُهُ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الطُّولَ وَالْعَرْضَ لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ حَيْثُ لَا يَدْرِي قَدْرَ مَا يَشْغَلُهُ الْمَاءُ، وَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ لِإِخْرَاجِ بَيْعِ رَقَبَتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَهْرٌ فَإِنَّهُ أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ جَازَ بَيْعُهَا.
ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ.
وَالثَّانِي لِإِخْرَاجِ بَيْعِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَسِيلٌ إذَا بَيَّنَ حُدُودَهُ وَمَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا.
ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ.
وَهَذَا أَحَدُ مُحْتَمَلَيْ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ وَهُوَ حَقُّ التَّطَرُّقِ دُونَ رَقَبَةِ الْأَرْضِ جَائِزٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ، وَجُعِلَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ لِحَقِّ الْمُرُورِ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ حَيْثُ قَالَ: دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِيهَا طَرِيقٌ لِرَجُلٍ آخَرَ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُمَا مِنْ الْقِسْمَةِ وَيَتْرُكُ لِلطَّرِيقِ مِقْدَارَ بَابِ الدَّارِ الْعُظْمَى لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ بَاعُوا الدَّارَ وَالطَّرِيقَ بِرِضَاهُمْ يَضْرِبُ صَاحِبُ الْأَصْلِ بِثُلُثَيْ ثَمَنِ الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الْمَمَرِّ بِثُلُثِ الثَّمَنِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ اثْنَانِ وَصَاحِبُ الْمَمَرِّ وَاحِدٌ، وَقِسْمَةُ الطَّرِيقِ تَكُونُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ يُسَاوِي صَاحِبَ الْكَثِيرِ فِي الِانْتِفَاعِ، فَقَدْ جَعَلَ لِحَقِّ الْمُرُورِ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ، وَفِي رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ: لَا يَجُوزُ، وَصَحَّحَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ وَبَيْعُ الْحُقُوقِ بِالِانْفِرَادِ لَا يَجُوزُ.
وَبَيْعُ التَّسْيِيلِ وَهُوَ حَقُّ الْمَسِيلِ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا مُحْتَمَلُهُمَا الْآخَرُ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُحْتَمَلَ الْأَوَّلَ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَإِنْ كَانَ الْمُحْتَمَلَ الثَّانِيَ فَعَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ لِشُمُولِ عَدَمِ الْجَوَازِ.
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ مَعْلُومٌ لِتَعَلُّقِهِ بِمَحَلٍّ مَعْلُومٍ إمَّا بِالْبَيَانِ أَوْ التَّقْدِيرِ كَمَا مَرَّ وَهُوَ الطَّرِيقُ، وَأَمَّا الْمَسِيلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّطْحِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْأَوَّلُ حَقُّ التَّعَلِّي وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مُتَعَلِّقًا بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَجْهُولًا لِاخْتِلَافِ التَّسْيِيلِ بِقِلَّةِ الْمَاءِ وَكَثْرَتِهِ، وَالثَّانِي مَجْهُولٌ فَعَادَ إلَى الْفَرْقِ فِي الْمُحْتَمَلِ الْأَوَّلِ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ: أَعْنِي رِوَايَةَ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي جَوَازِ بَيْعِ حَقِّ الْمُرُورِ تُلْجِئُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّعَلِّي، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ حَقَّ التَّعَلِّي تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ لَا تَبْقَى وَهُوَ الْبِنَاءُ فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ وَعَقْدَ الْبَيْعِ لَا يَرِدُ عَلَيْهَا، أَمَّا حَقُّ الْمُرُورِ فَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ تَبْقَى وَهُوَ الْأَرْضُ فَأَشْبَهَ الْأَعْيَانَ وَالْبَيْعُ يَرِدُ عَلَيْهَا، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ إمَّا الْأَعْيَانُ الَّتِي هِيَ أَمْوَالٌ أَوْ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهَا.
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ الدَّارِ مَثَلًا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ تَبْقَى هُوَ مَالٌ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. قَالَ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً فَإِذَا هُوَ غُلَامٌ) فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ كَبْشًا فَإِذَا هُوَ نَعْجَةٌ حَيْثُ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَيَتَخَيَّرُ.
وَالْفَرْقُ يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَنَّ الْإِشَارَةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَتَا فَفِي مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى وَيَبْطُلُ لِانْعِدَامِهِ، وَفِي مُتَّحِدِي الْجِنْسِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَيَنْعَقِدُ لِوُجُودِهِ وَيَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ فَإِذَا هُوَ كَاتِبٌ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ، وَفِي الْحَيَوَانَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِلتَّقَارُبِ فِيهَا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا دُونَ الْأَصْلِ كَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ جِنْسَانِ.
وَالْوَذَارِيُّ والزندنيجي عَلَى مَا قَالُوا جِنْسَانِ مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِهِمَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً فَإِذَا هُوَ غُلَامٌ) اعْلَمْ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى قَدْ يَكُونَانِ جِنْسَيْنِ لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ يَكُونَانِ جِنْسًا وَاحِدًا لِقِلَّتِهِ، فَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ جِنْسَانِ لِأَنَّ الْغُلَامَ يَصْلُحُ لِخِدْمَةِ خَارِجِ الْبَيْتِ كَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا وَالْجَارِيَةُ لِخِدْمَةِ دَاخِلِ الْبَيْتِ كَالِاسْتِفْرَاشِ وَالِاسْتِيلَادِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَصْلُحْ لَهُمَا الْغُلَامُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْكَبْشُ وَالنَّعْجَةُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْكُلِّيَّ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْأَكْلُ وَالرُّكُوبُ وَالْحَمْلُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاتِّحَادِهِ تَفَاوُتُ الْأَغْرَاضِ دُونَ الْأَصْلِ كَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ فَإِنَّهُمَا جِنْسَانِ مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِهِمَا لِعِظَمِ التَّفَاوُتِ.
وَالْوَذَارِيُّ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا: ثَوْبٌ مَنْسُوبٌ إلَى وَذَارَ قَرْيَةٌ بِسَمَرْقَنْدَ، والزندنيجي ثَوْبٌ مَنْسُوبٌ إلَى زَنْدَنَةَ: قَرْيَةٌ بِبُخَارَى جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ عَلَى مَا قَالَ الْمَشَايِخُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَإِذَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ عَلَى مَبِيعٍ ذُكِرَ بِتَسْمِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ جِنْسَيْنِ كَبَنِي آدَمَ فَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى وَيَبْطُلُ بِانْعِدَامِهِ.
وَإِذَا قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَإِذَا هِيَ غُلَامٌ بَطَلَ الْبَيْعُ لِفَوَاتِ التَّسْمِيَةِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْإِشَارَةِ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ لِبَيَانِ الْمَاهِيَّةِ يَعْنِي مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ، وَالْإِشَارَةُ لِتَعْرِيفِ الذَّاتِ يَعْنِي مُجَرَّدًا عَنْ بَيَانِ صِفَةٍ، وَالْأَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ أَقْوَى، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونَانِ جِنْسًا وَاحِدًا فَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَيَنْعَقِدُ لِوُجُودِهِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ إذْ ذَاكَ لِلْإِشَارَةِ لَا لِلتَّسْمِيَةِ، لِأَنَّ مَا سُمِّيَ وُجِدَ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ فَصَارَ حَقُّ التَّسْمِيَةِ مَقْضِيًّا بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَمَامَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي تَعْلِيمِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا بَاعَ كَبْشًا فَإِذَا هُوَ نَعْجَةٌ صَحَّ الْبَيْعُ لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ، فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُعَرِّفًا جُعِلَ لِلتَّرْغِيبِ حَذَرًا عَنْ الْإِلْغَاءِ فَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ فَإِذَا هُوَ كَاتِبٌ فَهُوَ بِالْخِيَارِ.
وَقَدْ يُشِيرُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ إلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ فَوَاتِ الْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ أَنْقَصَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صِفَةَ الْخَبْزِ لَا تَرْبُو عَلَى الْكِتَابَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ وَالْعَتَّابِيُّ كَذَلِكَ.
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَأَخُوهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ: إنَّ الْمَوْجُودَ إنْ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْمَشْرُوطِ الْفَائِتِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي.
وَنَصَّ الْكَرْخِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى خَبَّازٍ فَبِإِلْزَامِ الْكَاتِبِ يَتَضَرَّرُ فَلَا يَتِمُّ مِنْهُ الرِّضَا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا وَجَدَ الثَّوْبَ الْمُسَمَّى عَشَرَةً تِسْعَةً خُيِّرَ، وَإِنْ وَجَدَ أَحَدَ عَشَرَ فَهُوَ لَهُ بِلَا خِيَارٍ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةً أَوْ نَسِيئَةً فَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ الْبَائِعِ بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ الثَّانِي) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَمَّ فِيهَا بِالْقَبْضِ فَصَارَ الْبَيْعُ مِنْ الْبَائِعِ وَمِنْ غَيْرِهِ سَوَاءً وَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالزِّيَادَةِ أَوْ بِالْعَرْضِ.
وَلَنَا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ وَقَدْ بَاعَتْ بِسِتِّمِائَةٍ بَعْدَمَا اشْتَرَتْ بِثَمَانِمِائَةٍ: بِئْسَمَا شَرَيْت وَاشْتَرَيْت، أَبْلَغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ حَجَّهُ وَجِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ لَمْ يَتُبْ؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَبِيعُ وَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ بَقِيَ لَهُ فَضْلُ خَمْسِمِائَةِ وَذَلِكَ بِلَا عِوَضٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِالْعَرْضِ لِأَنَّ الْفَضْلَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ.

الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ) مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ (حَالَّةٍ أَوْ نَسِيئَةٍ فَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْبَائِعِ بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ) فَالْبَيْعُ الثَّانِي فَاسِدٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
هُوَ يَقُولُ: الْمِلْكُ قَدْ تَمَّ فِيهِ بِالْقَبْضِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ جَائِزٌ مَعَ غَيْرِ الْبَائِعِ فَكَذَا مَعَهُ، وَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالْعَرْضِ وَقِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ الْأَلْفِ.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ شِرَاءَ مَا بَاعَ لَا يَخْلُو مِنْ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ.
وَالثَّانِي جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ مُطْلَقًا: أَعْنِي سَوَاءٌ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِأَنْقَصَ أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ بِالْعَرْضِ.
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَقَلَّ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَالثَّانِي بِأَقْسَامِهِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ.
فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَّزَهُ قِيَاسًا عَلَى الْأَقْسَامِ الْبَاقِيَةِ، وَبِمَا إذَا بَاعَ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ، وَنَحْنُ لَمْ نُجَوِّزْهُ بِالْأَثَرِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْأَثَرُ فَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ يَرْفَعُهُ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهَا فَقَالَتْ: إنِّي اشْتَرَيْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ ثُمَّ بِعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: بِئْسَمَا شَرَيْت وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت، أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ أَبْطَلَ حَجَّهُ وَجِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ لَمْ يَتُبْ، فَأَتَاهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مُعْتَذِرًا، فَتَلَتْ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا جَعَلَتْ جَزَاءَ مُبَاشَرَةِ هَذَا الْعَقْدِ بُطْلَانَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ لَا تُعْلَمُ بِالرَّأْيِ فَكَانَ مَسْمُوعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَقْدُ الصَّحِيحُ لَا يُجَازَى بِذَلِكَ فَكَانَ فَاسِدًا، وَأَنَّ زَيْدًا اعْتَذَرَ إلَيْهَا وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مَسْمُوعًا لِأَنَّ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ كَانَ بَعْضُهُمْ يُخَالِفُ بَعْضًا وَمَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْتَذِرُ إلَى صَاحِبِهِ.
وَفِيهِ بَحْثٌ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ: إلْحَاقُ الْوَعِيدِ لِكَوْنِ الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ وَهُوَ أَجَلٌ مَجْهُولٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِهَا جَوَازُ الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا كَرِهَتْ الْعَقْدَ الثَّانِيَ حَيْثُ قَالَتْ: بِئْسَ مَا شَرَيْت مَعَ عَرَائِهِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَلَا يَكُونُ لِذَلِكَ بَلْ لِأَنَّهُمَا تَطَرَّقَا بِهِ إلَى الثَّانِي.
فَإِنْ قِيلَ: الْقَبْضُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْحَدِيثِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوَعِيدُ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ تِلَاوَتَهَا آيَةَ الرِّبَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لِلرِّبَا لَا لِعَدَمِ الْقَبْضِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْوَعِيدُ قَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَسَادَ كَمَا فِي تَفْرِيقِ الْوَلَدِ عَنْ الْوَالِدِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ وُجُودِ الْوَعِيدِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَعِيدَ لَيْسَ لِلْبَيْعِ ثَمَّةَ بَلْ لِنَفْسِ التَّفْرِيقِ، حَتَّى لَوْ فُرِّقَ بِدُونِ الْبَيْعِ كَانَ الْوَعِيدُ لَاحِقًا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مَا قَالَ إنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ لِعَدَمِ الْقَبْضِ، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَبِيعُ وَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ بَقِيَ لَهُ فَضْلُ خَمْسِمِائَةٍ بِلَا عِوَضٍ وَهُوَ رِبًا فَلَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَحْصُلُ لِلْبَائِعِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِوَاسِطَةِ مُشْتَرٍ آخَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ الرِّبَا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ فَإِنَّ الرِّبْحَ هُنَاكَ يَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعُ قَدْ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِالْعُرُوضِ لِأَنَّ الْفَضْلَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ يُجْعَلُ فِي مُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ الَّذِي احْتَبَسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِدَنَانِيرَ قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قِيَاسًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَيَثْبُتُ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبْحِ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهَا وَأُخْرَى مَعَهَا مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْ الْبَائِعِ وَيَبْطُلُ فِي الْأُخْرَى) لِأَنَّهُ لابد أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْأُخْرَى بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ وَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَنَا، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي صَاحِبَتِهَا وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادُ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِيهَا لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الرِّبَا، أَوْ؛ لِأَنَّهُ طَارِئٌ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِانْقِسَامِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُقَاصَّةِ فَلَا يَسْرِي إلَى غَيْرِهَا.

الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِخَمْسِمِائَةٍ) هَذِهِ مِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فِي الَّتِي اشْتَرَاهَا مِنْ الْبَائِعِ، وَبَيَانُهُ مَا قَالَ لِأَنَّهُ لابد أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِأُخْرَى بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَسَادُهُ.
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ.
ذَكَرَهَا فِي جَامِعِهِمَا الْعَلَمَانِ فِي الْإِتْقَانِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ كَانَ الْفَسَادُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْكِتَابِ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا فَسَدَ الْبَيْعُ لِأَنَّ عِنْدَ الْقِسْمَةِ يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَسَادَ لِتَعَذُّرِ جِهَاتِ الْجَوَازِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ بِإِزَاءِ مَا بَاعَهَا أَلْفًا جَازَ، وَإِنْ جَعَلْنَا أَلْفًا وَجُبَّةً جَازَ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَلَيْسَ الْبَعْضُ بِالْحَمْلِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ بَعْضِ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ إضَافَةَ الْفَسَادِ إلَى تَعَدُّدِ جِهَاتِ الْجَوَازِ يُشْبِهُ الْفَسَادَ فِي الْوَضْعِ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً، عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنْ تُجْعَلَ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فِي مُقَابَلَةِ مِائَةٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَتَتَعَدَّدُ جِهَاتُ الْجَوَازِ.
وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى، وَبِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِلْجَوَازِ.
فَاعْتِبَارُ الْجِهَاتِ فِي مُقَابَلَةِ جِهَةِ الْجَوَازِ مُرْبِحَةٌ عَلَيْهَا تَرْجِيحًا بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: جِهَاتُ الْجَوَازِ تَقْتَضِيهِ وَجِهَاتُ الْفَسَادِ تَقْتَضِيهِ، وَالتَّرْجِيحُ هُنَا لِلْمُفْسِدِ تَرْجِيحٌ لِلْمُحْرِمِ، وَلَا يَسْرِي الْفَسَادُ مِنْهَا إلَى غَيْرِ الْمُشْتَرَاةِ لِأَنَّ الْفَسَادَ ضَعِيفٌ فِيهَا لِأُمُورٍ: إمَّا لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَهُ مُجْتَهَدًا فِيهِ إنْ كَانَ لِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَكَادُ يَصِحُّ لِأَنَّ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ كَانَ بَعْدَ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَكَيْفَ تُوضَعُ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَبْطَلَ إسْلَامَ الْقُوهِيَّةِ فِي الْقُوهِيَّةِ وَالْمَرْوِيَّةِ مَعَ أَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ بِسَبَبِ الْجِنْسِيَّةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ قُوهِيًّا فِي قُوهِيٍّ جَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَمَعَ ذَلِكَ تَعَدَّى فَسَادُ ذَلِكَ إلَى الْمَقْرُونِ بِهِ وَهُوَ إسْلَامُ الْقُوهِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْمُشْتَرَاةِ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الرِّبَا، فَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا فِي الَّتِي ضُمَّتْ إلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَبَيَانُهُ أَنَّ فِي الْمُشْتَرَاةِ شُبْهَةَ الرِّبَا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ شِرَاءُ مَا بَاع بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لِشُبْهَةِ الرِّبَا، لِأَنَّ الْأَلْفَ وَإِنْ وَجَبَ لِلْبَائِعِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَكِنَّهَا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَجِدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا فَيَرُدَّهَا فَيَسْقُطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَبِالْبَيْعِ الثَّانِي يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْهُ فَيَصِيرُ الْبَائِعُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي مُشْتَرِيًا أَلْفًا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالشُّبْهَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الرِّبَا، وَإِمَّا لِأَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَابَلَ الثَّمَنَ بِالْجَارِيَتَيْنِ وَهِيَ مُقَابَلَةٌ صَحِيحَةٌ، إذْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ مَا بَاعَهُ أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا فَصَارَ الْبَعْضُ بِإِزَاءِ مَا بَاعَ وَالْبَعْضُ بِإِزَاءِ مَا لَمْ يُبَعْ فَفَسَدَ الْبَيْعُ فِيمَا بَاعَ.
وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ طَارِئًا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأُخْرَى.
وَلَا يُشْكِلُ بِمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ الْمُفْسِدَ مُقَارِنٌ لِأَنَّ قَبُولَ كُلٍّ مِنْهُمَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ، وَالْعَقْدُ جَائِزٌ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ قَدْ قَالَ الْبَيْعُ فِي الْمُدَبَّرِ غَيْرُ فَاسِدٍ، وَلِهَذَا لَوْ أَجَازَ الْقَاضِي بَيْعَهُ جَازَ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ نَافِذٍ لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِيهِ لَا فِي الْعَقْدِ فَلِهَذَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ.
وَالثَّانِي الْمُقَاصَّةُ فَإِنَّهُ لَمَّا بَاعَهَا بِأَلْفٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَتَقَاصَّا خَمْسَمِائَةٍ بِخَمْسِمِائَةٍ مِثْلِهَا بَقِيَ لِلْبَائِعِ خَمْسُمِائَةٍ أُخْرَى مَعَ الْجَارِيَةِ، وَالْمُقَاصَّةُ تَقَعُ عَقِيبَ وُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي فَيَفْسُدُ عِنْدَهَا وَذَلِكَ لَا شَكَّ فِي طَرْدِهِ فَلَا يَسْرِي إلَى غَيْرِهَا. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى زَيْتًا عَلَى أَنْ يَزِنَهُ بِظَرْفِهِ فَيَطْرَحَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ ظَرْفٍ خَمْسِينَ رَطْلًا فَهُوَ فَاسِدٌ، وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يَطْرَحَ عَنْهُ بِوَزْنِ الظَّرْفِ جَازَ)؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَالثَّانِي يَقْتَضِيهِ.
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى سَمْنًا فِي زِقٍّ فَرَدَّ الظَّرْفَ وَهُوَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ) فَقَالَ الْبَائِعُ الزِّقُّ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ اخْتِلَافًا فِي تَعْيِينِ الزِّقِّ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ اخْتِلَافًا فِي السَّمْنِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اخْتِلَافٌ فِي الثَّمَنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى زَيْتًا عَلَى أَنْ يَزِنَهُ بِظَرْفِهِ إلَخْ) اشْتَرَى زَيْتًا عَلَى أَنْ يَزِنَهُ وَيَطْرَحَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ ظَرْفٍ خَمْسِينَ رِطْلًا فَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ مَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يُطْرَحَ عَنْهُ دُونَ الظَّرْفِ مَا يُوجَدُ وَعَسَى يَكُونُ وَزْنُهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ فَشَرْطُ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَاهُ، وَإِنْ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يَزِنَ وَيُطْرَحَ عَنْهُ بِوَزْنِ الظَّرْفِ جَازَ لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمُقْتَضَاهُ.
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى سَمْنًا فِي زِقٍّ إلَخْ) وَمَنْ اشْتَرَى سَمْنًا فِي زِقٍّ وَرُدَّ الظَّرْفُ فَوُزِنَ فَجَاءَ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ فَقَالَ الْبَائِعُ الزِّقُّ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِي تَعْيِينِ الزِّقِّ الْمَقْبُوضِ أَوْ فِي مِقْدَارِ السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْمُشْتَرِي قَابِضٌ (وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا) كَانَ كَالْغَاصِبِ (أَوْ أَمِينًا) كَالْمُودَعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اخْتِلَافٌ فِي الثَّمَنِ (فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ) وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَمَا وَجْهُ الْعُدُولِ إلَى الْحَلِفِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُوجِبُهُ إذَا كَانَ قَصْدًا وَهَذَا ضِمْنِيٌّ لِوُقُوعِهِ فِي ضِمْنِ الِاخْتِلَافِ فِي الزِّقِّ.
وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الِابْتِدَائِيَّ فِي الثَّمَنِ إنَّمَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ ضَرُورَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَقْدًا آخَرَ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي الزِّقِّ فَلَا يُوجِبُ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْعَقْدِ فَلَا يُوجِبُهُ. قَالَ: (وَإِذَا أَمَرَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ أَوْ شِرَائِهَا فَفَعَلَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا لَا يَجُوزُ: عَلَى الْمُسْلِمِ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْخِنْزِيرُ، وَعَلَى هَذَا تَوْكِيلُ الْمُحْرِمِ غَيْرَهُ بِبَيْعِ صَيْدِهِ.
لَهُمَا أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَلِيهِ فَلَا يُوَلِّيهِ غَيْرَهُ؛ وَلِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَاقِدَ هُوَ الْوَكِيلُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَوِلَايَتِهِ، وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْآمِرِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ كَمَا إذَا وَرِثَهُمَا، ثُمَّ إنْ كَانَ خَمْرًا يُخَلِّلُهَا وَإِنْ كَانَ خِنْزِيرًا يُسَيِّبُهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا أَمَرَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ أَوْ شِرَائِهَا فَفَعَلَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا) وَحُكْمُ التَّوْكِيلِ فِي الْخِنْزِيرِ وَتَوْكِيلِ الْمُحْرِمِ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدِهِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ قَالَا: الْمُوَكِّلُ لَا يَلِي هَذَا التَّصَرُّفَ فَلَا يُوَلِّي غَيْرَهُ كَتَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ مَجُوسِيًّا بِتَزْوِيجِ مَجُوسِيَّةٍ.
وَلِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ فَكَذَا التَّوْكِيلُ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَهْلِيَّتَانِ: أَهْلِيَّةُ الْوَكِيلِ وَأَهْلِيَّةُ الْمُوَكِّلِ، فَالْأُولَى أَهْلِيَّةُ الْعَاقِدِ وَهِيَ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَلِلنَّصْرَانِيِّ ذَلِكَ، وَالثَّانِيَةُ أَهْلِيَّةُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَهُ وَلِلْمُوَكِّلِ ذَلِكَ حُكْمًا لِلْعَقْدِ لِئَلَّا يَلْزَمَ انْفِكَاكُ الْمَلْزُومِ عَنْ اللَّازِمِ، أَلَا تَرَى إلَى صِحَّةِ ثُبُوتِ مِلْكِ الْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ إرْثًا إذَا أَسْلَمَ مُوَرِّثُهُ النَّصْرَانِيُّ وَمَاتَ عَنْ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ.
لَا يُقَالُ: الْوَارِثَةُ أَمْرٌ جَبْرِيٌّ وَالتَّوْكِيلُ اخْتِيَارِيٌّ فَأَنَّى يَتَشَابَهَانِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ: أَعْنِي الْمِلْكَ لِلْمُوَكِّلِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ: أَعْنِي مُبَاشَرَةَ الْوَكِيلِ جَبْرِيٌّ كَذَلِكَ تَثْبُتُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ كَمَا فِي الْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ النَّصْرَانِيَّ إذَا اشْتَرَى خَمْرًا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا لِمَوْلَاهُ الْمُسْلِمِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْأَهْلِيَّتَانِ لَمْ يَمْتَنِعْ الْعَقْدُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ جَالِبٌ لَا سَالِبٌ، ثُمَّ الْمُوَكَّلُ بِهِ إنْ كَانَ خَمْرًا خَلَّلَهَا، وَإِنْ كَانَ خِنْزِيرًا سَيَّبَهُ، لَكِنْ قَالُوا: هَذِهِ الْوَكَالَةُ مَكْرُوهَةٌ أَشَدَّ كَرَاهَةٍ، وَقَوْلُهُمَا الْمُوَكِّلُ لَا يَلِيهِ فَلَا يُوَلِّيهِ غَيْرَهُ مَنْقُوضٌ بِالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ إذَا وَكَّلَ آخَرَ بِشِرَائِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ بِنَفْسِهِ لَا يَلِي الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَبِالْقَاضِي إذَا أَمَرَ ذِمِّيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ خَلَّفَهُ ذِمِّيٌّ آخَرُ وَهُوَ لَا يَلِي التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ، وَبِالذِّمِّيِّ إذَا أَوْصَى لِمُسْلِمٍ وَقَدْ تَرَكَهُمَا فَإِنَّ الْوَصِيَّ يُوَكِّلُ ذِمِّيًّا بِالْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَهُوَ لَا يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.
وَالْقِيَاسُ عَلَى تَزْوِيجِ الْمَجُوسِيِّ مَدْفُوعٌ، فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلُ سَفِيرٌ لَا غَيْرُ. قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ يُدَبِّرَهُ أَوْ يُكَاتِبَهُ أَوْ أَمَةً عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ وَشَرْطٌ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ.
ثُمَّ جُمْلَةُ الْمَذْهَبِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ شَرْطٍ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ كَشَرْطِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ لِثُبُوتِهِ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ يُفْسِدُهُ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَارِيَّةً عَنْ الْعِوَضِ فَيُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، أَوْ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِهِ الْمُنَازَعَةُ فَيَعْرَى الْعَقْدُ عَنْ مَقْصُودِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَارَفًا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ قَاضٍ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدِ لَا يُفْسِدُهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ لِأَنَّهُ انْعَدَمَتْ الْمُطَالَبَةُ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَلَا إلَى الْمُنَازَعَةِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الْإِطْلَاقُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّخْيِيرُ لَا الْإِلْزَامُ حَتْمًا، وَالشَّرْطُ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُنَا فِي الْعِتْقِ وَيَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ نَسَمَةً فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَفْسِيرُ الْمَبِيعِ نَسَمَةً أَنْ يُبَاعَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُعْتِقُهُ لَا أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ، فَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ صَحَّ الْبَيْعُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا: يَبْقَى فَاسِدًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَمَا إذَا تَلِفَ بِوَجْهٍ آخَرَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ حُكْمِهِ يُلَائِمُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ لِلْمِلْكِ وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الْعِتْقُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، فَإِذَا تَلِفَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُلَاءَمَةُ فَيَتَقَرَّرُ الْفَسَادُ، وَإِذَا وُجِدَ الْعِتْقُ تَحَقَّقَتْ الْمُلَاءَمَةُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْجَوَازِ فَكَانَ الْحَالُ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا.
قَالَ (وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْبَائِعُ شَهْرًا أَوْ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي دِرْهَمًا أَوْ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةً)؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِدْمَةُ وَالسُّكْنَى يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ يَكُونُ إجَارَةً فِي بَيْعٍ، وَلَوْ كَانَ لَا يُقَابِلُهُمَا يَكُونُ إعَارَةً فِي بَيْعٍ.
«وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ»
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي) شَرَعَ فِي بَيَانِ الْفَسَادِ الْوَاقِعِ فِي الْعَقْدِ بِسَبَبِ الشَّرْطِ وَذَكَرَ أَصْلًا جَامِعًا لِفُرُوعِ أَصْحَابِنَا.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ يَنْقَسِمُ أَوَّلًا إلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ الَّذِي يُفِيدُ مَا يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كَشَرْطِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي وَشَرْطِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوْ الْمَبِيعِ، وَإِلَى مَا لَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ مَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا كَانَ مُتَعَارَفًا وَإِلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَإِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِلَى مَا هُوَ بِخِلَافِهِ، فَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ جَازَ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ يَزِيدُهُ وَكَادَةً.
لَا يُقَالُ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِهِ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَيْثُ أَفَادَ مَا أَفَادَهُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ.
وَفِي الْأَوَّلِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ مَا كَانَ مُتَعَارَفًا كَبَيْعِ النَّعْلِ مَعَ شَرْطِ التَّشْرِيكِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ قَاضٍ عَلَى الْقِيَاسِ.
لَا يُقَالُ: فَسَادُ الْبَيْعِ شَرْطٌ ثَابِتٌ بِالْحَدِيثِ وَالْعُرْفُ لَيْسَ بِقَاضٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ بِوُقُوعِ النِّزَاعِ الْمُخْرِجِ لِلْعَقْدِ عَنْ الْمَقْصُودِ بِهِ وَهُوَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَالْعُرْفُ يَنْفِي النِّزَاعَ فَكَانَ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْمَوَانِعِ إلَّا الْقِيَاسُ عَلَى مَا لَا عُرْفَ فِيهِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ شَرْطًا، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَيْهِ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَبَيْعِ عَبْدٍ بِشَرْطِ اسْتِخْدَامِ الْبَائِعِ مُدَّةً يَكُونُ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِوَجْهَيْنِ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَارِيَّةً عَنْ الْعِوَضِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا قَصَدَا الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ خَلَا الشَّرْطُ عَنْ الْعِوَضِ وَهُوَ الرِّبَا.
لَا يُقَالُ: لَا تُطْلَقُ الزِّيَادَةُ إلَّا عَلَى الْمُجَانِسِ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالْمَشْرُوطُ مَنْفَعَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ رِبًا لِأَنَّهُ مَالٌ جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَوَّضْ عَنْهُ بِشَيْءٍ فَكَانَ رِبًا، وَلِأَنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِهِ الْمُنَازَعَةُ فِي مَقْصُودِهِ فَيَعْرَى الْعَقْدُ عَنْ مَقْصُودِهِ مِنْ قَطْعِ النِّزَاعِ لِمَا عُرِفَ فِي بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ وَفِيمَا إذَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُعْجِبُهُ أَنْ لَا تَتَدَاوَلَهُ الْأَيْدِي وَتَمَامُ الْعَقْدِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ زَعَمَ أَنَّهُ حُرٌّ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا فَاشْتِرَاطُ مَنْفَعَتِهِ كَاشْتِرَاطِ مَنْفَعَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهُوَ فَاسِدٌ بِالْوَجْهَيْنِ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدٍ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَلَا إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَكَانَ الشَّرْطُ لَغْوًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْمُزَارَعَةِ لِتَضَرُّرِ الْمُشْتَرِي بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ، وَالشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ ضَرَرٌ كَالشَّرْطِ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمُطَالَبَةُ وَهِيَ تَتَوَجَّهُ بِالْمَنْفَعَةِ فِي الشَّرْطِ دُونَ الضَّرَرِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ بِشَرْطِ أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ يُدَبِّرَهُ أَوْ يُكَاتِبَهُ أَوْ أَمَةً عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا الْمُشْتَرِي فَاسِدٌ لِأَنَّهَا شُرُوطٌ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَفِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الْإِطْلَاقُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّخَيُّرُ لَا الْإِلْزَامُ، وَالشَّرْطُ يَقْتَضِي الْإِلْزَامَ حَتْمًا، وَالْمُنَافَاةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ أَوْلَى بِالْعَمَلِ مِنْ الْآخَرِ فَعَمَلُنَا بِهِمَا، وَقُلْنَا إنَّهُ فَاسِدٌ وَالْفَاسِدُ مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ فَبِالنَّظَرِ إلَى وُجُودِ رُكْنِ الْعَقْدِ كَانَ مَشْرُوعًا، وَبِالنَّظَرِ إلَى عُرُوضِ الشَّرْطِ كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَكَانَ فَاسِدًا.
وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ إلَّا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فِي قَوْلٍ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُهُ وَيَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ نَسَمَةً، وَفَسَّرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنْ يُبَاعَ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُعْتِقُهُ لَا أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ صَحَّ قَوْلُهُ يَقِيسُهُ لِأَنَّهُمَا غَيْرَانِ فَيَصِحُّ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إنْ ظَهَرَ جَامِعٌ، وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَقِيسُهُ بِيَلْحَقُهُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ قِيَاسُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَبَيَانُ إلْحَاقِهِ بِالدَّلَالَةِ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ نَسَمَةً عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ ثَبَتَ بِحَدِيثِ «بَرِيرَةَ، إذْ جَاءَتْ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَسْتَعِينُهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ فَقَالَتْ: إنْ شِئْت عَدَدْتهَا لِأَهْلِك وَأَعْتَقْتُك، فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ فَاشْتَرَاهَا وَأَعْتَقَهَا, وَإِنَّمَا اشْتَرَتْهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وَغَيْرُهَا فِي مَعْنَاهَا فِي هَذَا الشَّرْطِ فَأُلْحِقَ بِهِ دَلَالَةً وَإِنَّمَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الدَّلَالَةِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قِيَاسٌ جَلِيٌّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْقُولِ.
فَالْحَدِيثُ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ».
رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَعْقُولُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْمُنَازَعَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّ تَفْسِيرَ النَّسَمَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَيْسَ فِيهِ اشْتِرَاطُ الْعِتْقِ فِي الْعَقْدِ.
وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ مُطْلَقًا وَوَعَدَتْ لَهَا أَنْ تُعْتِقَهَا لِتَرْضَى بِذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْعَ الْمُكَاتَبَةِ لَا يَجُوزُ بِدُونِ رِضَاهَا.
النَّسَمَةُ مِنْ نَسِيمِ الرِّيحِ، وَسُمِّيَتْ بِهَا النَّفْسُ، وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ نَسَمَةً عَلَى الْحَالِ عَلَى مَعْنَى مُعَرَّضًا لِلْعِتْقِ.
وَإِنَّمَا صَحَّ هَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ ذِكْرُهَا فِي بَابِ الْعِتْقِ خُصُوصًا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَكَّ رَقَبَةً وَأَعْتَقَ نَسَمَةً» صَارَتْ كَأَنَّهَا اسْمٌ لِمَا هُوَ بِعَرْضِ الْعِتْقِ فَعُومِلَتْ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعْنَى الْأَفْعَالِ.
كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.
فَإِنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ وَأَعْتَقَ بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَيَجِبُ الثَّمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: يَبْقَى فَاسِدًا كَمَا كَانَ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا.
كَمَا إذَا تَلِفَ بِوَجْهٍ آخَرَ كَالْقَتْلِ وَالْمَوْتِ وَالْبَيْعِ، وَكَمَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ وَقَدْ وَفَّى الْمُشْتَرِي بِمَا شَرَطَ أَوْ لَمْ يَفِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ اعْتِبَارًا لِحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ تَقْيِيدِ التَّصَرُّفِ بِهِ الْمُغَايِرِ لِلْإِطْلَاقِ (وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ حُكْمُهُ يُلَائِمُهُ لِأَنَّهُ مِنْهُ لِلْمِلْكِ وَالْمَنْهِيُّ لِلشَّيْءِ مُقَرِّرٌ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ) فَبِالنَّظَرِ إلَى الْجِهَتَيْنِ تَوَقَّفَتْ الْحَالُ بَيْنَ بَقَائِهِ فَاسِدًا كَمَا كَانَ وَبَيْنَ أَنْ يَنْقَلِبَ جَائِزًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ (فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْمُلَاءَمَةُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْجَوَازِ) عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ.
وَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ تَخْلُصُ مِنْ وَرْطَةِ شُبْهَةٍ لَا تَكَادُ تَنْحَلُّ، وَهِيَ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ فِي نَفْسِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَتَحْقِيقُهُ يُقَرِّرُ الْفَسَادَ لِئَلَّا يَلْزَمَ فَسَادُ الْوَضْعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ الْعَقْدُ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ جَائِزًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالصُّورَةُ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ جَائِزٌ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ، فَقُلْنَا بِالْفَسَادِ فِي الِابْتِدَاءِ عَمَلًا بِالذَّاتِ وَالصُّورَةِ.
وَبِالْجَوَازِ عِنْدَ الْوَفَاءِ عَمَلًا بِالْحُكْمِ وَالْمَعْنَى، وَلَمْ نَعْكِسْ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ جَائِزًا يَنْقَلِبُ فَاسِدًا وَوَجَدْنَا فَاسِدًا يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَالْبَيْعِ بِالرَّقْمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقَلِبْ جَائِزًا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ.
وَبِخِلَافِ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ.
فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَهِي بِهَا بِيَقِينٍ لِاحْتِمَالِ الْقَضَاءِ الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبُ مُخَيَّرٌ فِي الْإِجَازَةِ، وَالْإِنْهَاءُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا وَقَعَ الْأَمْنُ عَنْ الزَّوَالِ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ وَالْمَوْتِ.
قَالَ (وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْبَائِعُ شَهْرًا إلَخْ) الْبَيْعُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فَاسِدٌ، لِأَنَّهَا شُرُوطٌ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلَمْ يُسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَذَا الْمَذْكُورُ.
وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي دِرْهَمًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَنِي فُلَانٌ الْأَجْنَبِيُّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَبِلَهُ الْمُشْتَرِي صَحَّ الْبَيْعُ لِأَنَّهَا لَمْ تَلْزَمْ الْأَجْنَبِيَّ لَا ضَمَانًا عَنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي ذِمَّتِهِ فَيَتَحَمَّلُهَا الْكَفِيلُ، وَلَا زِيَادَةَ فِي الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ الْإِقْرَاضِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ» وَأَيْضًا اشْتِرَاطُ الْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى يَسْتَلْزِمُ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَتْنِ. قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الْمَبِيعِ الْعَيْنِ بَاطِلٌ فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ شُرِعَ تَرْفِيهًا فَيَلِيقُ بِالدُّيُونِ دُونَ الْأَعْيَانِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَهَا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ إلَخْ) الْأَجَلُ فِي الْمَبِيعِ الْعَيْنِ بَاطِلٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَإِنَّهُ شُرِعَ تَرْفِيهًا فِي تَحْصِيلِهِ بِاتِّسَاعِ الْمُدَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَوْ الثَّمَنُ حَاصِلًا كَانَ الْأَجَلُ لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْعَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ السَّلَمِ فَإِنَّ تَرْكَ أَجَلٍ فِيهِ مُفْسِدٌ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْصِيلِ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ، وَالْحَمْلُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ خِلْقَةً وَبَيْعُ الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُهُمَا فَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُوجِبِ فَلَا يَصِحُّ فَيَصِيرُ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِهِ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهَا تُبْطِلُ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ، غَيْرَ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الْكِتَابَةِ مَا يَتَمَكَّنُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْهَا، وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لَا تَبْطُلُ بِاسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ، بَلْ يَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا تُبْطِلُ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ لَا تَبْطُلُ بِهِ، لَكِنْ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى يَكُونَ الْحَمْلُ مِيرَاثًا وَالْجَارِيَةُ وَصِيَّةً؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْمِيرَاثَ يَجْرِي فِيمَا فِي الْبَطْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَجْرِي فِيهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا إلَخْ).
ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْعَقْدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأُولَى مَا فَسَدَ فِيهِ الْعَقْدُ وَالِاسْتِثْنَاءُ وَالثَّانِي مَا صَحَّ فِيهِ الْعَقْدُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ.
وَالثَّالِثُ مَا صَحَّ فِيهِ كِلَاهُمَا.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّهْنِ، فَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا أَوْ آجَرَ دَارِهِ عَلَى جَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا أَوْ رَهَنَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا أَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى جَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا فَسَدَ الْعَقْدُ لِأَنَّهَا عُقُودٌ تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْبَيْعِ فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُعَاوَضَةٌ وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لِمَا تَقَدَّمَ، فَكَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَصِيرُ شَرْطًا فَاسِدًا فِيهَا فَيُفْسِدُهَا، وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَصْلِ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ، وَالْحَمْلُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَمْلَ بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهِ وَيُقَرُّ بِقَرَارِهِ وَبَيْعُ الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُهُ.
فَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُوجِبِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَقْصُودٌ وَدَلَالَةُ الْعَقْدِ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ تَابِعٌ فَيَصِيرُ ذِكْرُهُ شَرْطًا فَاسِدًا (قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الْكِتَابَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي الْكِتَابَةِ إنَّمَا يَكُونُ مُفْسِدًا لَهَا إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْهَا كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ أَوْ عَلَى قِيمَتِهِ حَيْثُ دَخَلَ فِي الْبَدَلِ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي صُلْبِهِ كَمَا إذَا شَرَطَ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْبَيْعَ انْتِهَاءً لِأَنَّهُ مَالٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ وَتَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ابْتِدَاءً وَتُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِ الْمَقْصُودِ فَأَلْحَقْنَاهُ بِالْبَيْعِ فِي شَرْطٍ تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَبِالنِّكَاحِ فِيمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فِيهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ إفْضَائِهِ إلَى الرِّبَا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُعَاوَضَاتِ، وَهَذِهِ تَبَرُّعَاتٌ وَإِسْقَاطَاتٌ وَالْهِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيكَاتِ لَكِنَّا عَرَفْنَا بِالنَّصِّ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يُفْسِدُهَا، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ شَرْطَهُ لِلْمُعَمِّرِ حَتَّى يَصِيرَ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَا لِوَرَثَةِ الْمُعْمِرِ إذَا شُرِطَ عَوْدُهُ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكَالْوَصِيَّةِ إذَا أَوْصَى بِجَارِيَتِهِ لِرَجُلٍ وَاسْتَثْنَى حَمْلَهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَالْجَارِيَةُ وَصِيَّةٌ وَالْحَمْلُ مِيرَاثٌ.
أَمَّا عَدَمُ بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ حَتَّى تَبْطُلَ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ.
وَأَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ فَلِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْمِيرَاثُ يَجْرِي فِيمَا فِي الْبَطْنِ لِأَنَّهُ عَيْنٌ.
بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَجْرِي فِيهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَيْنٍ، وَذَكَّرَ ضَمِيرَ الْخِدْمَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ.
وَالْخِدْمَةُ فِي الْوَصِيَّةِ مِمَّا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ بِأَنْ قَالَ أَوْصَيْت بِخِدْمَةِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ لِفُلَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْعَكْسَ غَيْرُ لَازِمٍ؛ وَلَئِنْ سُلِّمَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ قَبُولُ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَيَدْخُلُ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ وَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ بِدُونِ الْقَبُولِ بِأَنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْعَقْدِ مُطْلَقًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اعْتَبَرْتُمْ الْوَصِيَّةَ عَقْدًا وَعَكَسْتُمْ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِيَةِ وَاسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ حَيْثُ جَعَلْتُمْ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَمْلِ صَحِيحًا لِصِحَّةِ إفْرَادِهِ بِالْعَقْدِ وَلَمْ تَعْتَبِرُوا ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِيَةِ، وَاسْتِثْنَاءُ الْخِدْمَةِ مَعَ صِحَّةِ إفْرَادِهِ بِالْعَقْدِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ وَالْجَوَابُ أَنَّا مَا مَنَعْنَا الْعَكْسَ وُجُوبًا، وَإِنَّمَا مَنَعْنَا لُزُومَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَصْحِيحَ الِاسْتِثْنَاءِ يَقْتَضِي بَقَاءَ الْمُسْتَثْنَى لِوَارِثِ الْمُوصِي.
فَمَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا كَالْحَمْلِ صَحَّحْنَاهُ وَمَا لَمْ يَصْلُحْ كَالْخِدْمَةِ مَنَعْنَاهُ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَقْطَعَهُ الْبَائِعُ وَيَخِيطَهُ قَمِيصًا أَوْ قَبَاءً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ عَلَى مَا مَرَّ (وَمَنْ اشْتَرَى نَعْلًا عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا الْبَائِعُ قَالَ أَوْ يُشَرِّكَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا ذَكَرَهُ جَوَابُ الْقِيَاسِ، وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ لِلتَّعَامُلِ فِيهِ فَصَارَ كَصَبْغِ الثَّوْبِ، وَلِلتَّعَامُلِ جَوَّزْنَا الِاسْتِصْنَاعَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَقْطَعَهُ الْبَائِعُ إلَخْ) قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ فَلَا نُعِيدُهُ، قَالَ هَاهُنَا صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ وَفِيمَا تَقَدَّمَ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَكَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ، يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ وَقِيلَ قَالَ هُنَاكَ صَفْقَتَيْنِ لِأَنَّ فِيهِ احْتِمَالَ الْإِجَارَةِ، وَالْعَارِيَّةُ هَاهُنَا صَفْقَةٌ إذْ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالُ الْعَارِيَّةِ.
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى نَعْلًا) حَذَا النَّعْلَ بِالْمِثَالِ قَطَعَهَا بِهِ فَهِيَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ إذْ الصِّرْمُ هُوَ الَّذِي يُقْطَعُ بِالْمِثَالِ، وَشَرَّكَ النَّعْلَ وَضَعَ عَلَيْهَا الشِّرَاكَ وَهُوَ سَيْرُهَا الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ، فَمَنْ اشْتَرَى صِرْمًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَحْذُوَهُ أَوْ نَعْلًا عَلَى أَنْ يُشَرِّكَهَا الْبَائِعُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ.
وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّاهُ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ لِلتَّعَامُلِ، وَالتَّعَامُلُ قَاضٍ عَلَى الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ إجْمَاعًا فِعْلِيًّا كَصَبْغِ الثَّوْبِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الصَّبَّاغِ لِصَبْغِ الثَّوْبِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ لَا الْأَعْيَانِ وَفِيهِ عَقْدٌ عَلَى الْعَيْنِ وَهُوَ الصَّبْغُ لَا الصَّبْغُ وَحْدَهُ لَكِنْ جُوِّزَ لِلتَّعَامُلِ جَوَازُ الِاسْتِصْنَاعِ. قَالَ (وَالْبَيْعُ إلَى النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَصَوْمِ النَّصَارَى وَفِطْرِ الْيَهُودِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَبَايِعَانِ ذَلِكَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ) وَهِيَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الْبَيْعِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى الْمُمَاكَسَةِ إلَّا إذَا كَانَا يَعْرِفَانِهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا، أَوْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى فِطْرِ النَّصَارَى بَعْدَمَا شَرَعُوا فِي صَوْمِهِمْ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ صَوْمِهِمْ مَعْلُومَةٌ بِالْأَيَّامِ فَلَا جَهَالَةَ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
(وَالْبَيْعُ إلَى النَّيْرُوزِ) مُعَرَّبُ نَوْرُوزَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ الرَّبِيعِ (وَالْمِهْرَجَانِ) مُعَرَّبُ مهركان يَوْمٌ فِي طَرَفِ الْخَرِيفِ (وَصَوْمُ النَّصَارَى وَفِطْرُ الْيَهُودِ) وَمَعْنَاهُ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ إلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ فَاسِدٌ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَبَايِعَانِ مِقْدَارَ ذَلِكَ الزَّمَانِ (لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ) الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ لِابْتِنَاءِ الْمُبَايَعَةِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ أَيْ الْمُجَادَلَةِ فِي النُّقْصَانِ.
وَالْمُمَاكَسَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمُبَايَعَةِ إلَى هَذَا الْأَجَلِ فَتَكُونُ الْجَهَالَةُ فِيهِ مُفْضِيَةً إلَى النِّزَاعِ وَمِثْلُهَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ (وَإِنْ كَانَا يَعْرِفَانِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا أَوْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى فِطْرِ النَّصَارَى بَعْدَمَا شَرَعُوا فِي صَوْمِهِمْ) جَازَ (لِأَنَّ مُدَّةَ صَوْمِهِمْ بِالْأَيَّامِ مَعْلُومَةٌ) وَهِيَ خَمْسُونَ يَوْمًا فَلَا جَهَالَةَ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ)، وَكَذَلِكَ إلَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالْقِطَافِ وَالْجِزَازِ؛ لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ، وَلَوْ كَفَلَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْكَفَالَةِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِيهَا وَلِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْأَصْلِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ بِأَنْ تُكْفَلُ بِمَا ذَابَ عَلَى فُلَانٍ فَفِي الْوَصْفِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهَا فِي أَصْلِ الثَّمَنِ، فَكَذَا فِي وَصْفِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَجَّلَ الثَّمَنَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ حَيْثُ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْجِيلٌ فِي الدَّيْنِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ فِيهِ مُتَحَمَّلَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ، وَلَا كَذَلِكَ اشْتِرَاطُهُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ إلَخْ) الْحَصَادُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا قَطْعُ الزُّرُوعِ، وَالدِّيَاسُ أَنْ يُوطَأَ الْمَحْصُودُ بِقَوَائِمِ الدَّوَابِّ مِنْ الدَّوْسِ وَهُوَ شِدَّةُ وَطْءِ الشَّيْءِ بِالْقَدَمِ، وَالْقِطَافُ بِكَسْرِ الْقَافِ قَطْعُ الْعِنَبِ مِنْ الْكَرْمِ وَالْفَتْحُ فِيهِ لُغَةٌ، وَالْجِزَازُ قَطْعُ الصُّوفِ وَالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَالشَّعْرِ وَالْبَيْعِ إلَى وَقْتِ قُدُومِ الْحَاجِّ وَإِلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ بِتَقَدُّمِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَتَأَخُّرِهَا، وَالْكَفَالَةُ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَائِزَةٌ (لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْكَفَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ بِأَنْ يَكْفُلَ بِمَا ذَابَ عَلَى فُلَانٍ فَفِي وَصْفِهِ أَوْلَى) لِكَوْنِ الْأَصْلِ أَقْوَى مِنْ الْوَصْفِ (وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيهَا) فَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تُجِيزُ الْبَيْعَ إلَى الْعَطَاءِ وَإِنْ احْتَمَلَ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ لِكَوْنِهَا يَسِيرَةً، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَنَعَهُ وَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ، وَهَذَا قَدْ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مَا كَانَتْ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَالْفَاحِشَةُ مَا كَانَ فِي الْوُجُودِ كَهُبُوبِ الرِّيحِ مَثَلًا، وَالْبَيْعُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْجَهَالَةِ فِي أَصْلِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لَهَا فِي وَصْفِهِ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَحَمُّلِ أَصْلِ الثَّمَنِ عَدَمُ تَحَمُّلِ وَصْفِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَقْوَى إذْ هُوَ يُوجَدُ بِدُونِ الْوَصْفِ الْخَاصِّ دُونَ عَكْسِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَحَمُّلِ أَصْلِ الثَّمَنِ الْجَهَالَةَ هُوَ إفْضَاؤُهَا إلَى النِّزَاعِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي جَهَالَةِ الْوَصْفِ فَيَمْنَعُهُ.
وَإِذَا بَاعَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَجَّلَ الثَّمَنَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ صَحَّ لِكَوْنِهِ تَأْجِيلَ الدَّيْنِ (وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ) لِعَدَمِ ابْتِنَائِهِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ، وَلَا كَذَلِكَ اشْتِرَاطُهُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ (لِأَنَّهُ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ) (وَلَوْ بَاعَ إلَى هَذِهِ الْآجَالِ ثُمَّ تَرَاضَيَا بِإِسْقَاطِ الْأَجَلِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ فِي الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَقَبْلَ قُدُومِ الْحَاجِّ جَازَ الْبَيْعُ أَيْضًا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا وَصَارَ كَإِسْقَاطِ الْأَجَلِ فِي النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ) وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ لِلْمُنَازَعَةِ وَقَدْ ارْتَفَعَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ فِي شَرْطٍ زَائِدٍ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَيُمْكِنُ إسْقَاطُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ثُمَّ أَسْقَطَا الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّهُ مُتْعَةٌ وَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَقَوْلُهُ (فِي الْكِتَابِ ثُمَّ تَرَاضَيَا خَرَجَ وِفَاقًا), لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ يَسْتَبِدُّ بِإِسْقَاطِهِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ بَاعَ إلَى هَذِهِ الْآجَالِ) أَعْنِي النَّيْرُوزَ وَالْمِهْرَجَانَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقِطَافِ وَالْجِزَازِ ثُمَّ تَرَاضَيَا بِإِسْقَاطِ الْأَجَلِ قَبْلَ تَحَقُّقِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ انْقَلَبَ الْبَيْعُ جَائِزًا، خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَهُوَ يَقُولُ: انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَإِسْقَاطِ الْأَجَلِ فِي النِّكَاحِ: يَعْنِي عَلَى أَصْلِكُمْ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ فَالنِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ زُفَرَ بِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ وَقُلْنَا الْفَسَادُ لِلْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ ارْتَفَعَ الْمُفْسِدُ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَيَعُودُ جَائِزًا.
فَإِنْ قِيلَ: الْجَهَالَةُ تَقَرَّرَتْ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَلَا يُفِيدُ سُقُوطَهَا كَمَا إذَا بَاعَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ثُمَّ أَسْقَطَا الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ.
أَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ فِي شَرْطٍ زَائِدٍ وَهُوَ الْأَجَلُ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَيُمْكِنُ إسْقَاطُهُ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْت فَإِنَّ الْفَسَادَ فِيهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ إذَا نَكَحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا وَلَيْسَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ.
فَإِذَا بَاعَ إلَى أَنْ يَهَبَ الرِّيحَ ثُمَّ أَسْقَطَ الْأَجَلَ لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ فَهُوَ قَوِيٌّ كَمَا لَوْ كَانَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ثُمَّ تَطَهَّرَ لَمْ تَنْقَلِبْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ هُبُوبَ الرِّيحِ لَيْسَ بِأَجَلٍ لِأَنَّ الْأَجَلَ مَا يَكُونُ مُنْتَظَرًا وَالْهُبُوبُ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ عَلَى النِّكَاحِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا قَدْ قُلْنَا إنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ قَدْ يَنْقَلِبُ جَائِزًا قَبْلَ تَقْرِيرِ الْمُفْسِدِ، وَلَمْ نَقُلْ إنَّ عَقْدًا يَنْقَلِبُ عَقْدًا آخَرَ، وَالنِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ مُتْعَةٌ وَهِيَ عَقْدٌ غَيْرُ عَقْدِ النِّكَاحِ فَلَا يَنْقَلِبُ نِكَاحًا (قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ) أَيْ الْقُدُورِيِّ ثُمَّ تَرَاضَيَا خَرَجَ وِفَاقًا لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ يَسْتَبِدُّ بِإِسْقَاطِهِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ. قَالَ (وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَمَيِّتَةٍ بَطَل الْبَيْعُ فِيهِمَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا جَازَ فِي الْعَبْدِ وَالشَّاةِ الذَّكِيَّةِ (وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ أَوْ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ) عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَسَدَ فِيهِمَا، وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا كَالْمَيْتَةِ، وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْمُدَبَّرِ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ، إذْ مَحَلِّيَّةُ الْبَيْعِ مُنْتَفِيَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْكُلِّ وَلَهُمَا أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْقِنِّ، كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ فِي النِّكَاحِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْبَيْعُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ الْقَبُولُ فِي الْحُرِّ شَرْطًا لِلْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ فِي هَؤُلَاءِ مَوْقُوفٌ وَقَدْ دَخَلُوا تَحْتَ الْعَقْدِ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ فِي عَبْدِ الْغَيْرِ بِإِجَازَتِهِ، وَفِي الْمُكَاتَبِ بِرِضَاهُ فِي الْأَصَحِّ، وَفِي الْمُدَبَّرِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَكَذَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، إلَّا أَنَّ الْمَالِكَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْمَبِيعَ وَهَؤُلَاءِ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ رَدُّوا الْبَيْعَ فَكَانَ هَذَا إشَارَةً إلَى الْبَقَاءِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ شَرْطَ الْقَبُولِ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ وَلَا بَيْعًا بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَمَيْتَةٍ إلَخْ) إذَا جَمَعَ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَمَيْتَةٍ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِمَا مُطْلَقًا أَعْنِي سَوَاءً فَصَّلَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يُفَصِّلْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَنًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْتهمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ جَازَ الْعَقْدُ فِي الْعَبْدِ وَالذَّكِيَّةِ (وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ أَوْ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ صَحَّ الْعَقْدُ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ.
أَوْ فِي الْجَمْعَيْنِ جَمِيعًا (وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا كَالْمَيْتَةِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ كَالْمُدَبَّرِ)، فَإِنْ قِيلَ: مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَصَارَ كَالْمُدَبَّرَةِ فَيَجِبُ جَوَازُ بَيْعِهِ مَعَ الْمُذَكَّى كَبَيْعِ الْقِنِّ مَعَ الْمُدَبَّرِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْتَهَدٍ فِيهِ بَلْ خَطَأٌ بَيِّنٌ لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} حَتَّى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِحِلِّهِ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الْبَيْعِ (لِزُفَرَ الِاعْتِبَارُ بِالْفَصْلِ) الْأَوَّلِ: يَعْنِي بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ بِجَامِعِ انْتِفَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: إذَا سَمَّى لِكُلٍّ ثَمَنًا أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ وَالْمُفْسِدُ فِي الْحُرِّ كَوْنُهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ دُونَ الْقِنِّ فَلَا يَتَعَدَّاهُ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ لِأَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ مَجْهُولٌ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ فَصْلِ الْحُرِّ وَالْمُدَبَّرِ مَعَ الْقِنِّ أَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْبَيْعُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ قَوْلَ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِيمَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَقْدُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا، وَفِيهِ نَظَرٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَتْ الصَّفْقَةُ مُتَقَرِّرَةً وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَوْلُ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ شَرْطًا لِلْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ هُوَ مَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ فِي مَعْنَى الرِّبَا، وَلَيْسَ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِهِمَا وَلَا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ إنَّمَا يَكُونُ شَرْطًا لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْعَبْدِ إذَا صَحَّ الْإِيجَابُ فِيهِمَا لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ الْبَائِعُ بِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَصَارَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَحَدِّدَةٌ فِي مِثْلِهِ إذَا لَمْ يُكَرَّرْ الْبَيْعُ أَوْ الشِّرَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ مَنْفَعَةً لِلْبَائِعِ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَهُمَا بِأَلْفٍ وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ يُقَابِلُهُ بَدَلٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنْ يُسَلَّمَ إلَيَّ خَمْسُمِائَةٍ أُخْرَى فَيُنْتَفَعُ بِفَضْلٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الرِّبَا.
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْإِيجَابَ إذَا صَحَّ فِيهَا صَحَّ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ جَمِيعًا فَلَا يَكُونُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَثَمَّ جَوَابُ زُفَرَ عَنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا (قَوْلُهُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا عَلَى النِّكَاحِ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
وَقَوْلُهُ (أَمَّا الْبَيْعُ فِي هَؤُلَاءِ مُتَّصِلٌ) بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ، وَأَرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمُدَبَّرَ وَالْمُكَاتَبَ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَعَبْدَ الْغَيْرِ فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا تَحْتَ الْعَقْدِ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ فَإِنَّهَا بِاعْتِبَارِ الرِّقِّ وَالتَّقَوُّمِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَنْفُذُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ مَوْقُوفٌ، فَإِنَّ الْبَيْعَ فِي عَبْدٍ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى إجَازَتِهِ، وَفِي الْمُكَاتَبِ عَلَى رِضَاهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْمُدَبَّرِ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَكَذَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ اللَّاحِقَ يَرْفَعُ الِاخْتِلَافَ السَّابِقَ عِنْدَهُ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَنْفُذُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُرْفَعُ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ فَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ مَوْقُوفٌ وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ بَاطِلٌ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ بَاطِلٌ إذَا لَمْ يُجِزْ الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَمَامُ كَلَامِهِ هُنَاكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِجَازَةَ وَقَضَاءَ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَإِذَا نَفَذَ هَاهُنَا عَرَفْنَا الْمَحَلِّيَّةَ فِيهَا وَلَا مَحَلَّ لِلْبَيْعِ إلَّا بِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْعَقْدِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْدُ فِيهِمْ فَاسِدًا، إلَّا أَنَّ الْمَالِكَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْمَبِيعَ وَهَؤُلَاءِ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ رَدُّوا الْبَيْعَ. وَهَذَا أَيْ الرَّدُّ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَقَاءِ، فَكَانَ كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ بَقَاءً فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الصِّحَّةِ، وَهَذَا أَيْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِنِّ وَأَحَدِ الْمَذْكُورِينَ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْقَبُولِ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ وَلَا بَيْعًا بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً بَعْدَمَا ثَبَتَ دُخُولُهُمْ فِي الْمَبِيعِ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَالَةَ الْعَقْدِ بَيَانُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ فِيهِ: أَيْ فِيمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ.