فصل: (بَابُ الْإِقَالَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ الْإِقَالَةِ):

(الْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَلِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّهُمَا فَيَمْلِكَانِ رَفْعَهُ دَفْعًا لِحَاجَتِهِمَا (فَإِنْ شَرَطَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَيَرُدُّ مِثْلَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ).
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ جَعْلُهُ فَسْخًا فَتَبْطُلُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ بَيْعٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ جَعْلُهُ بَيْعًا فَيُجْعَلُ فَسْخًا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ فَتَبْطُلُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ فَسْخٌ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ فَسْخًا فَيُجْعَلُ بَيْعًا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ فَتَبْطُلُ.
لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اللَّفْظَ لِلْفَسْخِ وَالرَّفْعِ.
وَمِنْهُ يُقَالُ: أَقِلْنِي عَثَرَاتِي فَتُوَفِّرُ عَلَيْهِ قَضِيَّتَهُ.
وَإِذَا تَعَذَّرَ يُحْمَلُ عَلَى مُحْتَمَلِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَيْعٌ فِي حَقِّ الثَّالِثِ: وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي.
وَهَذَا هُوَ حَدُّ الْبَيْعِ وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِهَلَاكِ السِّلْعَةِ وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَتَثْبُتُ بِهِ الشُّفْعَةُ وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الرَّفْعِ وَالْفَسْخِ كَمَا قُلْنَا، وَالْأَصْلُ إعْمَالُ الْأَلْفَاظِ فِي مُقْتَضَيَاتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ، وَلَا يُحْتَمَلُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ لِيُحْمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَاللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُ ضِدَّهُ فَتَعَيَّنَ الْبُطْلَانُ، وَكَوْنُهُ بَيْعًا فِي حَقِّ الثَّالِثِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِثْلُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ لَا مُقْتَضَى الصِّيغَةِ، إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا، إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ: إذَا شَرَطَ الْأَكْثَرَ فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ، إذْ رَفْعُ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا فِي الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَوْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا فِي الرَّفْعِ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ لِمَا بَيَّنَّاهُ إلَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَحِينَئِذٍ جَازَتْ الْإِقَالَةُ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ بِالْعَيْبِ، وَعِنْدَهُمَا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ يَكُونُ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ جَعْلُهُ بَيْعًا مُمْكِنٌ فَإِذَا زَادَ كَانَ قَاصِدًا بِهَذَا ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ، وَكَذَا فِي شَرْطِ الْأَقَلِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَا سُكُوتٌ عَنْ بَعْضِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ الْكُلِّ وَأَقَالَ يَكُونُ فَسْخًا فَهَذَا أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ، وَإِذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَهُوَ فَسْخٌ بِالْأَقَلِّ لِمَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الْإِقَالَةِ.
(الْإِقَالَةُ) الْخَلَاصُ عَنْ خَبَثِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَكْرُوهِ.
لَمَّا كَانَ بِالْفَسْخِ كَانَ لِلْإِقَالَةِ تَعَلُّقٌ خَاصٌّ بِهِمَا فَأَعْقَبَ ذِكْرَهَا إيَّاهُمَا، وَهِيَ مِنْ الْقِيلِ لَا مِنْ الْقَوْلِ، وَالْهَمْزَةُ لِلسَّلْبِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ بِدَلِيلِ قُلْت الْبَيْعَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ جَائِزَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» نَدَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا بِمَا يُوجِبُ التَّحْرِيضَ عَلَّهَا مِنْ الثَّوَابِ إخْبَارًا أَوْ ادِّعَاءً، وَكِلَاهُمَا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَشْرُوعٍ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّهُمَا وَكُلُّ مَا هُوَ حَقُّهُمَا يَمْلِكَانِ رَفْعَهُ لِحَاجَتِهِمَا، وَشَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ (فَإِنْ شَرَطَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَيُرَدُّ مِثْلُ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ) وَلِهَذَا بَطَلَ مَا نَطَقَا بِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ.
وَلَوْ بَاعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ جَازَ وَلَوْ كَانَ بَيْعًا لَمَا جَازَ لِكَوْنِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا وَلِهَذَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ فِيمَا إذَا بَاعَ دَارًا فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَقَايَلَا وَعَادَ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَوْ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَرْطُ التَّقَابُضِ إذَا كَانَ الْبَيْعُ صَرْفًا فَكَانَتْ فِي حَقِّ الشَّرِيعَةِ بَيْعًا جَدِيدًا.
وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَهَا يُنْبِئُ عَنْ الْفَسْخِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَمَعْنَاهَا يُنْبِئُ عَنْ الْبَيْعِ لِكَوْنِهَا مُبَادَلَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي، وَجَعْلُهَا فَسْخًا أَوْ بَيْعًا فَقَطْ إهْمَالٌ لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَإِعْمَالُهُمَا وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى، فَجَعَلْنَاهَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِقِيَامِهِ بِهِمَا فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَجَعَلَهَا فَسْخًا بَطَلَتْ كَمَا إذَا وَلَدَتْ الْمَبِيعَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَدًا فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ تَمْنَعُ فَسْخَ الْعَقْدِ حَقًّا لِلشَّرْعِ.
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ بَيْعٌ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ جَعْلُهَا بَيْعًا، كَمَا إذَا تَقَايَلَا فِي الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُجْعَلُ فَسْخًا إلَّا إنْ تَعَذَّرَ جَعْلُهَا فَسْخًا فَتَبْطُلُ، كَمَا إذَا تَقَايَلَا فِي الْعُرُوضِ الْمَبِيعَةِ بِالدَّرَاهِمِ بَعْدَ هَلَاكِهَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ فَسْخٌ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ، كَمَا إذَا تَقَايَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيُجْعَلُ بَيْعًا إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَتَبْطُلُ كَمَا فِي صُورَةِ بَيْعِ الْعَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ بَعْدَ هَلَاكِهِ.
اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَقَالَ: إنَّ اللَّفْظَ لِلْفَسْخِ وَالدَّفْعِ: يَعْنِي أَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ أَقِلْنِي عَثْرَتِي، وَإِذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ فَيُعْمَلُ بِهَا، وَإِذَا تَعَذَّرَ يُحْمَلُ عَلَى مُحْتَمَلِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَعْنَاهُ فَإِنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي وَلَيْسَ الْبَيْعُ إلَّا ذَلِكَ، وَاعْتَضَدَ بِثُبُوتِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ مِنْ بُطْلَانِهَا بِهَلَاكِ السِّلْعَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَثُبُوتِ الشُّفْعَةِ.
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ بَيْعًا أَوْ مُحْتَمَلَةً لَهُ لَانْعَقَدَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأُجِيبَ بِمَنْعِ بُطْلَانِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَبِالْفَرْقِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِأَنَّهُ إذَا قَالَ ابْتِدَاءً أَقَلْتُك الْعَقْدَ فِي هَذَا الْعَبْدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ أَصْلًا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهَا بَيْعًا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ إنَّمَا أُضِيفَتْ إلَى مَا لَا وُجُودَ لَهُ فَتَبْطُلُ فِي مَخْرَجِهَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى مَا لَهُ وُجُودٌ: أَعْنِي بِهِ سَابِقَةَ الْعَقْدِ قَبْلَهَا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ إرَادَةِ الْمَجَازِ مِنْ اللَّفْظِ فِي مَوْضِعٍ لِوُجُودِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ الْمَجَازِ إرَادَةُ الْمَجَازِ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ عِنْدَ عَدَمِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَجَازِ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَجْعَلُ الْإِقَالَةَ بَيْعًا مَجَازًا وَذَلِكَ مَصِيرٌ إلَى الْمَجَازِ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ أَقَلْتُك الْعَقْدَ فِي هَذَا الْعَبْدِ مَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ سَابِقَةِ الْعَقْدِ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الْفَسْخِ وَالرَّفْعِ كَمَا قُلْنَا فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَالْأَصْلُ إعْمَالُ الْأَلْفَاظِ فِي حَقَائِقِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا بَطَلَا، وَهَاهُنَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ لِكَوْنِهَا ضِدَّهُ، وَاسْتِعَارَةُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ لِلْآخَرِ لَا تَجُوزُ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْإِقَالَةُ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الثَّالِثِ وَلَوْ لَمْ يُحْتَمَلْ الْبَيْعُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، إذْ الثَّابِتُ بِالْمَجَازِ ثَابِتٌ بِقَضِيَّةِ الصِّيغَةِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا لِيَكُونَ لَفْظُهُمَا عَامِلًا فِي حَقِّهِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ مِثْلُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ تَبَدَّلَ ظَاهِرُ مُوجَبِهِ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ دُونَهُمَا لِامْتِنَاعِ ثُبُوتِ الضِّدَّيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَتَقْرِيرُهُ بِوَجْهِ الْبَسْطِ أَنَّ الْبَيْعَ وُضِعَ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ قَصْدًا، وَزَوَالُ الْمِلْكِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، وَالْإِقَالَةُ وُضِعَتْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ وَإِبْطَالِهِ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا كَانَ لِصَاحِبِهِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْمُبَايَعَةِ، فَاعْتُبِرَ مُوجَبُ الصِّيغَةِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَتَعَيَّنَ اعْتِبَارُ الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِمَا.
وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الْمُدَّعَى أَنْ كَوْنَ الْإِقَالَةِ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ لَيْسَ مُقْتَضَى الصِّيغَةِ لِأَنَّ كَوْنَهَا فَسْخًا بِمُقْتَضَاهَا، فَلَوْ كَانَ كَوْنُهَا بَيْعًا كَذَلِكَ لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ مِنْ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ مَا قِيلَ: الشَّارِعُ يُبَدِّلُ الْأَحْكَامَ فَلَا يُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ عَنْ كَوْنِهِ حَدَثًا، وَفَسَادُ الْإِقَالَةِ عِنْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ وَثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَجَازَ أَنْ يُغَيَّرَ وَيَثْبُتَ فِي ضِمْنِ الْإِقَالَةِ، وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَمِنْ الْحَقَائِقِ فَلَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا الَّتِي هِيَ الْفَسْخُ، إذَا ثَبَتَ هَذَا: أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَصْلِ نَقُولُ: إذَا شُرِطَ الْأَكْثَرُ فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَالْفَسْخُ عَلَى الزِّيَادَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهُوَ مُحَالٌ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ لَا الْإِقَالَةُ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ يُشْبِهُ الرِّبَا لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ، وَالْإِقَالَةُ تُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَكَانَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِيهَا شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْإِقَالَةِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ إثْبَاتُ مَا لَمْ يَكُنْ بِالْعَقْدِ فَيَسْتَحِقُّ الرِّبَا، وَلِأَنَّ فِي الشَّرْطِ شُبْهَةَ الرِّبَا وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ، وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَرَفْعُهُ يَكُونُ مُحَالًا إلَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَجَازَتْ الْإِقَالَةُ بِالْأَقَلِّ لِأَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ بِالْعَيْبِ.
وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ: مَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَتَقَايَلَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ، وَإِنْ تَقَايَلَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ صَحَّتْ بِالْأَلْفِ وَلَغَا ذِكْرُ الْبَاقِي، وَإِنْ تَقَايَلَا بِأَلْفٍ إلَّا مِائَةً، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا عَيْبٌ صَحَّتْ بِأَلْفٍ وَلَغَا النَّقْصُ وَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الْأَلْفِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ دَخَلَهَا عَيْبٌ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ بِمَا شُرِطَ وَيَصِيرُ الْمَحْطُوطُ بِإِزَاءِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَبَسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي جُزْءٌ مِنْ الْمَبِيعِ جَازَ أَنْ يَحْتَبِسَ عِنْدَ الْبَائِعِ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَجَوَابُ الْكِتَابِ مُطْلَقٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْحَطُّ بِمِقْدَارِ حِصَّةِ الْعَيْبِ أَوْ أَكْثَرَ بِمِقْدَارِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَوْ لَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ ذَلِكَ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ يَكُونُ بَيْعًا لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا، لَكِنَّهُ فِي الزِّيَادَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَجَعْلُهَا بَيْعًا مُمْكِنٌ، فَإِذَا زَادَ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فَيُصَارُ إلَى الْمَجَازِ صَوْنًا لِكَلَامِ الْعُقَلَاءِ عَنْ الْإِلْغَاءِ.
وَلَا فَرْقَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ هُوَ الْبَيْعُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْفَسْخُ مُمْكِنٌ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ وَأَقَالَ كَانَ فَسْخًا فَهَذَا أَوْلَى، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كَوْنَهُ فَسْخًا إذَا سَكَتَ عَنْ كُلِّ الثَّمَنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ خَاصَّةً أَوْ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَالْأَوَّلُ رَدُّ الْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ، وَالثَّانِي غَيْرُ نَاهِضٍ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ إنَّمَا يَجْعَلُهُ فَسْخًا لِامْتِنَاعِ جَعْلِهِ بَيْعًا لِانْتِفَاءِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ صُورَةِ النُّقْصَانِ.
فَإِنَّ فِيهَا مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا.
فَإِذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَهُوَ فَسْخٌ بِالْأَقَلِّ: يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ بِالْعَيْبِ. وَلَوْ أَقَالَ بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجْعَلُ التَّسْمِيَةَ لَغْوًا عِنْدَهُمَا بَيْعٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ وَلَدَتْ الْمَبِيعَةُ وَلَدًا ثُمَّ تَقَايَلَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ، وَعِنْدَهُمَا تَكُونُ بَيْعًا وَالْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَنْقُولِ، وَغَيْرِهِ فَسْخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَنْقُولِ لِتَعَذُّرِ الْبَيْعِ، وَفِي الْعَقَارِ يَكُونُ بَيْعًا عِنْدَهُ لِإِمْكَانِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ عِنْدَهُ.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ أَقَالَ بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتُجْعَلُ التَّسْمِيَةُ لَغْوًا، وَعِنْدَهُمَا بَيْعٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ وَجْهِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فَصْلِ الزِّيَادَةِ.
وَلَوْ وُلِدَتْ الْمَبِيعَةُ ثُمَّ تَقَايَلَا بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ، هَذَا إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَمَّا إذَا وَلَدَتْ قَبْلَهُ فَالْإِقَالَةُ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ.
وَحَاصِلُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْجَارِيَةَ إذَا ازْدَادَتْ ثُمَّ تَقَايَلَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ أَوْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ مُنْفَصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُتَّصِلَةً، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ، إنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يُصَحِّحُهَا إلَّا فَسْخًا وَقَدْ تَعَذَّرَ حَقًّا لِلشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً فَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ بِرِضَا مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الزِّيَادَةِ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فِيهَا، وَالتَّقَايُلُ دَلِيلُ الرِّضَا فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهَا فَسْخًا، وَالْإِقَالَةُ فِي الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ بِالِاتِّفَاقِ لِامْتِنَاعِ الْبَيْعِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ كَالْعَقَارِ فَإِنَّهُ فَسْخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَبَيْعٌ لِجَوَازِ الْمَبِيعِ فِي الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ. (قَالَ وَهَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ مِنْهَا) لِأَنَّ رَفْعَ الْبَيْعِ يَسْتَدْعِي قِيَامَهُ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْبَيْعِ دُونَ الثَّمَنِ (فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَاقِي)؛ لِقِيَامِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَإِنْ تَقَايَضَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا وَلَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فَكَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَهَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ إلَخْ) هَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ.
وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ مِنْهَا لِأَنَّ رَفْعَ الْبَيْعِ يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْبَيْعِ، فَإِنَّ رَفْعَ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَقِيَامُ الْبَيْعِ بِالْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمَبِيعُ وَلِهَذَا شُرِطَ وُجُودُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ وَلِهَذَا جَازَ الْعَقْدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
وَلَوْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَاقِي لِقِيَامِ الْمَبِيعِ فِيهِ، وَلَوْ تَقَايَضَا جَازَتْ الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا: أَيْ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ ابْتِدَاءً بِأَنْ تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ فَهَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ بَائِعِ الْجَارِيَةِ ثُمَّ أَقَالَا الْبَيْعَ فِي الْجَارِيَةِ وَجَبَ رَدُّ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَلَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ وُجُودِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فَكَانَ الْبَيْعُ قَائِمًا، أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ وَالْآخَرُ قَائِمًا وَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ ثُمَّ هَلَكَ الْقَائِمُ قَبْلَ الرَّدِّ فَقَدْ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ، وَلَا يُشْكِلُ بِالْمُقَايَضَةِ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى إذَا هَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا هَالِكًا وَقْتَ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الْآخَرِ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَإِنْ كَانَ لَهَا حُكْمُ الْبَيْعِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَيْعٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَتَجُوزُ بَعْدَ هَلَاكِ الْعِوَضَيْنِ، بِخِلَافِ الْمُقَايَضَةِ فَإِنَّهَا بَيْعٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ جِهَةُ كَوْنِهِ مَبِيعًا فَأُلْحِقَ بِالْبَيْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهَلَاكِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ هَلَاكَهُمَا جَمِيعًا مُبْطِلٌ لِلْإِقَالَةِ، بِخِلَافِ التَّصَارُفِ فَإِنَّ هَلَاكَ الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا فِيهِ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ الْإِقَالَةِ، مَعَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ حُكْمَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ كَمَا فِي الْمُقَايَضَةِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنَا لَمْ تَتَعَلَّقْ الْإِقَالَةُ بِأَعْيَانِهِمَا لَوْ كَانَا قَائِمَيْنِ بَلْ رَدُّ الْمَقْبُوضِ وَرَدُّ مِثْلِهِ سِيَّانِ، فَصَارَ هَلَاكُهُمَا كَقِيَامِهِمَا، وَفِي الْمُقَايَضَةِ تَعَلَّقَتْ بِأَعْيَانِهِمَا قَائِمَيْنِ فَمَتَى هَلَكَ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُرَدُّ الْإِقَالَةُ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقَالَةَ تَصِحُّ بِلَفْظَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَقِلْنِي فَيَقُولُ الْآخَرُ أَقَلْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَصِحُّ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَقَلْت الْبَيْعَ فَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ أَقِلْنِي مُسَاوَمَةً بَلْ كَانَ تَحْقِيقًا لِلتَّصَرُّفِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ.

.(بَابُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ):

قَالَ (الْمُرَابَحَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ، وَالتَّوْلِيَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ) وَالْبَيْعَانِ جَائِزَانِ؛ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْغَبِيَّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي فِي التِّجَارَةِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْتَمِدَ فِعْلَ الذَّكِيِّ الْمُهْتَدِي وَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى وَبِزِيَادَةِ رِبْحٍ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِمَا، وَلِهَذَا كَانَ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْأَمَانَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَعَنْ شُبْهَتِهَا، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ ابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعِيرَيْنِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلِّنِي أَحَدَهُمَا، فَقَالَ: هُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَمَّا بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَلَا».
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ): لَمَّا فَرَغَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْمَبِيعُ مِنْ الْبُيُوعِ اللَّازِمَةِ وَغَيْرِ اللَّازِمَةِ وَمَا يَرْفَعُهُمَا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالثَّمَنِ مِنْ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ وَوَعَدْنَا تَفْصِيلَهَا وَهَذَا مَوْضِعُهُ.
وَعَرَّفَ الْمُرَابَحَةَ بِنَقْلِ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَنْ اشْتَرَى دَنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ مُرَابَحَةً لَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّنَانِيرِ مُرَابَحَةً مَعَ صِدْقِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَغْصُوبَ الْآبِقَ إذَا عَادَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ جَازَ بَيْعُهُ مِنْ الْغَاصِبِ مُرَابَحَةً، وَالتَّعْرِيفُ لَيْسَ بِصَادِقٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ فِيهِ، وَبِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى إبْهَامٍ يَجِبُ عَنْهُ خُلُوُّ التَّعْرِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ عَيْنُ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ مِثْلُهُ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ عَيْنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ صَارَ مِلْكًا لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ عَيْنُهُ مُرَادًا فِي الْبَيْعِ الثَّانِي، وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرَادَ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ أَوْ الْمِقْدَارُ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِمَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ وَالْمُحِيطِ أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنْ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ لَهُ مِثْلٌ جَازَ سَوَاءٌ جَعَلَ الرِّبْحَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ الدَّرَاهِمَ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ مِنْ الدَّنَانِيرِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ إذَا كَانَ مَعْلُومًا يَجُوزُ بِهِ الشِّرَاءُ لِأَنَّ الْكُلَّ ثَمَنٌ.
وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنْ لَا يُضَمَّ إلَى رَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالطَّرَّازِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِثَمَنٍ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمُرَابَحَةِ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَوْ مَلَكَ ثَوْبًا بِهِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَقَوَّمَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى تِلْكَ الْقِيمَةِ جَازَ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْمَبْسُوطِ.
قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ مِنْ السِّلَعِ بِمَا قَامَ عِنْدَهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ صِدْقَ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُجِزْ الْبَيْعَ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ النَّقْلُ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَقْدِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً أَوْ انْتِهَاءً، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ عَادَ ذَلِكَ عَقْدًا حَتَّى لَا يَقْدِرَ الْمَالِكُ عَلَى رَدِّ الْقِيمَةِ وَأَخْذِ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ هُوَ الْمِثْلُ فِي الْمِقْدَارِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ بِإِلْحَاقِ مَا يَزِيدُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ قِيمَتِهِ إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ عَادَةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ نَفْسُهُ مُرَادًا يُجْعَلُ مَجَازًا عَمَّا قَامَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ خِيَانَةٍ فَتَدْخُلُ فِيهِ مَسْأَلَةُ الْمَبْسُوطِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالثَّمَنِ لِكَوْنِهِ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ فِي الْمُرَابَحَاتِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْحَقِيقَةِ لِلْعَادَةِ (قَوْلُهُ وَالتَّوْلِيَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ) يَرِدُ عَلَيْهِ مَا كَانَ يَرِدُ عَلَى الْمُرَابَحَةِ مِنْ حَيْثُ لَفْظُ الْعَقْدِ وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ، وَالْجَوَابُ (وَالْبَيْعَانِ جَائِزَانِ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَلِتَعَامُلِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَلِمِسَاسِ الْحَاجَةِ، لِأَنَّ الْغَبِيَّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي فِي التِّجَارَةِ وَالصِّفَةُ كَاشِفَةٌ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى فِعْلِ الذَّكِيِّ الْمُهْتَدِي وَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ وَبِزِيَادَةِ رِبْحٍ، وَقَدْ صَحَّتْ التَّوْلِيَةُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِمَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ (وَلِهَذَا) أَيْ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى الِاعْتِمَادِ كَانَ مَبْنَى الْمَبِيعَيْنِ: أَيْ بِنَاؤُهُمَا عَلَى الْأَمَانَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَشَبَهِهَا، وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَأَصَابَ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ، وَعَنْ هَذَا لَمْ تَصِحَّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ لِأَنَّ الْمُعَادَلَةَ وَالْمُمَاثَلَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بِشُبْهَةِ الْخِيَانَةِ كَمَا لَمْ تَجُزْ الْمُجَازَفَةُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لِذَلِكَ، وَكُلُّ مَا حَرُمَ حَرُمَ مَا يُشْبِهُهُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهِ. قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ حَتَّى يَكُونَ الْعِوَضُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ)؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ لَوْ مَلَكَهُ مَلَكَهُ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ (وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْبَدَلَ وَقَدْ بَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ مَوْصُوفٍ جَازَ) لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ (وَإِنْ بَاعَهُ بِرِبْحٍ الإل يازده لَا يَجُوزُ) لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَبِبَعْضِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، (وَيَجُوزُ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةَ الْقَصَّارِ وَالطَّرَّازِ وَالصَّبْغِ وَالْقَتْلِ وَأُجْرَةَ حَمْلِ الطَّعَامِ) لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي قِيمَتِهِ يَلْحَقُ بِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَمَا عَدَدْنَاهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ وَأَخَوَاتِهِ يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْحَمْلَ يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ إذْ الْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ (وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا وَلَمْ يَقُلْ اشْتَرَيْته بِكَذَا) كَيْ لَا يَكُونَ كَاذِبًا وَسَوْقُ الْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ، بِخِلَافِ أُجْرَةِ الرَّاعِي وَكِرَاءِ بَيْتِ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْمَعْنَى، وَبِخِلَافِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الزِّيَادَةِ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ حَذَاقَتُهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ حَتَّى يَكُونَ الْعِوَضُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ إلَخْ) لَا تَصِحُّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَشَبَهِهَا وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْخِيَانَةِ فِي الْقِيَمِيَّاتِ إنْ أَمْكَنَ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُ عَنْ شَبَهِهَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَشْتَرِي الْمَبِيعَ إلَّا بِقِيمَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الثَّمَنِ، إذْ لَا يُمْكِنُ دَفْعُ عَيْنِهِ حَيْثُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَا دَفْعُ مِثْلِهِ إذْ الْفَرْضُ عَدَمُهُ فَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْخِيَانَةِ، إلَّا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ مَلَكَ ذَلِكَ الْبَدَلَ مِنْ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهُ يَشْتَرِيهِ مُرَابَحَةً بِرِبْحٍ مَعْلُومٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ لِاقْتِدَارِهِ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ.
وَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهُ بِرِبْحِ ده يازده مَثَلًا: أَيْ بِرِبْحِ مِقْدَارِ دِرْهَمٍ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا كَانَ الرِّبْحُ دِرْهَمَيْنِ وَإِنْ كَانَ ثَلَاثِينَ كَانَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَبِبَعْضِ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَصَارَ الْبَائِعُ بَائِعًا لِلْمَبِيعِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ الْقِيَمِيِّ كَالثَّوْبِ مَثَلًا أَوْ بِجُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الثَّوْبِ وَالْجُزْءُ الْحَادِيَ عَشَرَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْقِيمَةِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَلَا يَجُوزُ، ثُمَّ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ نَقْدَ الْبَلَدِ فَالرِّبْحُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُطْلَقَ الرِّبْحُ أَوْ يُنْسَبَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُك بِالْعَشَرَةِ وَرِبْحِ دِرْهَمٍ فَالرِّبْحُ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَقَوْلِهِ بِعْتُك بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ أَوْ ده يازده فَالرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ عَرَّفَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَكَانَ عَلَى صِفَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةَ الْقِصَارِ وَالصَّبْغِ وَالطِّرَازِ وَالْفَتْلِ وَأُجْرَةَ حَمْلِ الطَّعَامِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي قِيمَتِهِ يُلْحَقُ بِهِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَزِيدُ فِي ذَلِكَ، فَالصَّبْغُ وَأَخَوَاتُهُ يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْحَمْلُ يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَيُلْحَقُ بِهِ، وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا وَلَا يَقُولُ اشْتَرَيْته بِكَذَا كَيْ لَا يَكُونَ كَاذِبًا لِأَنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ الْحُصُولِ بِمَا غَرِمَ وَقَدْ غَرِمَ فِيهِ الْقَدْرَ الْمُسَمَّى.
وَإِذَا بَاعَ بِالرَّقْمِ يَقُولُ رَقْمُهُ كَذَا فَأَنَا أَبِيعُهُ مُرَابَحَةً وَسَوْقُ الْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ، بِخِلَافِ أُجْرَةِ الرَّاعِي وَكِرَاءِ بَيْتِ الْحِفْظِ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَلَا فِي الْقِيمَةِ، وَبِخِلَافِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ، فَإِذَا أَنْفَقَ عَلَى عَبْدِهِ فِي تَعَلُّمِ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ دَرَاهِمَ لَمْ يُلْحِقْهَا بِرَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَاصِلَةَ فِي الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّمِ وَهُوَ الْحِذْقُ وَالذَّكَاءُ لَا بِمَا أَنْفَقَ عَلَى الْمُعَلِّمِ، وَعَلَى هَذِهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَالرَّائِضِ وَالْبَيْطَارِ وَجُعْلُ الْآبِقِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ (فَإِنْ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى خِيَانَةٍ فِي الْمُرَابَحَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى خِيَانَةٍ فِي التَّوْلِيَةِ أَسْقَطَهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَحُطُّ فِيهِمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُخَيَّرُ فِيهِمَا) لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلتَّسْمِيَةِ؛ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَالتَّوْلِيَةُ وَالْمُرَابَحَةُ تَرْوِيجٌ وَتَرْغِيبٌ فَيَكُونُ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فَيَتَخَيَّرُ بِفَوَاتِهِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ كَوْنُهُ تَوْلِيَةً وَمُرَابَحَةً وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ وَلَّيْتُك بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِعْتُك مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَوَّلِ وَذَلِكَ بِالْحَطِّ، غَيْرَ أَنَّهُ يُحَطُّ فِي التَّوْلِيَةِ قَدْرُ الْخِيَانَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَفِي الْمُرَابَحَةِ مِنْهُ وَمِنْ الرِّبْحِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحُطُّ فِي التَّوْلِيَةِ لَا تَبْقَى تَوْلِيَةً؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيَتَغَيَّرُ التَّصَرُّفُ فَتَعَيَّنَ الْحَطُّ وَفِي الْمُرَابَحَةِ لَوْ لَمْ يُحَطَّ تَبْقَى مُرَابَحَةً وَإِنْ كَانَ يَتَفَاوَتُ الرِّبْحُ فَلَا يَتَغَيَّرُ التَّصَرُّفُ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ، فَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ حَدَثَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْفَائِتِ فَيَسْقُطُ مَا يُقَابِلُهُ عِنْدَ عَجْزِهِ.
الشَّرْحُ:

فَإِنْ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى خِيَانَةٍ فِي الْمُرَابَحَةِ إمَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ (فَهُوَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى خِيَانَةٍ فِي التَّوْلِيَةِ أَسْقَطَهَا مِنْ الثَّمَنِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحَطُّ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُخَيَّرُ فِيهِمَا) لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلتَّسْمِيَةِ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَلَا يُعْلَمُ لَا بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِذَا كَانَ الِاعْتِبَارُ لَهَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى (وَالتَّوْلِيَةُ وَالْمُرَابَحَةُ تَرْغِيبٌ وَتَرْوِيجٌ فَيَكُونُ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ) وَفَوَاتُهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَوْنُهُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً) لَا التَّسْمِيَةَ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ وَلَّيْتُك بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِعْتُك مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْحَالُ أَنَّهُ مَعْلُومٌ وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّسْمِيَةِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَالتَّسْمِيَةُ كَالتَّفْسِيرِ فَإِذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ بَطَلَتْ صَلَاحِيَّتُهَا لِذَلِكَ فَبَقِيَ ذِكْرُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بِنَاءِ الْعَقْدِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَيُحَطُّ الْخِيَانَةُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، غَيْرَ أَنَّهُ يُحَطُّ فِي التَّوْلِيَةِ قَدْرُ الْخِيَانَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَفِي الْمُرَابَحَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ جَمِيعًا، كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ عَلَى رِبْحِ خَمْسَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ ثَمَانِيَةً يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ مِنْ الْأَصْلِ وَهُوَ دِرْهَمَانِ، وَيَحُطُّ مِنْ الرِّبْحِ دِرْهَمًا فَيَأْخُذُ الثَّوْبَ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحَطَّ فِي التَّوْلِيَةِ لَا تَبْقَى تَوْلِيَةٌ) لِأَنَّهَا تَكُونُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا تَبْقَى تَوْلِيَةٌ لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ التَّصَرُّفُ فَيَتَعَيَّنُ الْحَطُّ، وَفِي الْمُرَابَحَةِ لَوْ لَمْ يُحَطَّ تَبْقَى مُرَابَحَةً كَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرِ الصَّرْفِ لَكِنْ يَتَفَاوَتُ الرِّبْحُ فَيَتَخَيَّرُ بِذَلِكَ لِفَوَاتِ الرِّضَا، فَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ حَدَثَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، فَمَنْ قَالَ بِالْحَطِّ كَانَ لَهُ الْحَطُّ (وَمَنْ قَالَ بِالْفَسْخِ لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ) وَقَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِالْهَلَاكِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ حَيْثُ لَا يَجِبُ كُلُّ الثَّمَنِ بَلْ يَنْقُصُ مِنْهُ مِقْدَارُ الْعَيْبِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلْمُشْتَرِي ثَمَّةَ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَسَقَطَ مَا يُقَابِلُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَقَيَّدَ بِالرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ احْتِرَازًا عَمَّا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى الْقِيمَةِ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَبَاعَهُ بِرِبْحٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، فَإِنْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً طَرَحَ عَنْهُ كُلَّ رِبْحٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ اسْتَغْرَقَ الثَّمَنَ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا: يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَخِيرِ).
صُورَتُهُ: إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِخَمْسَةٍ وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِخَمْسَةٍ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ بِعِشْرِينَ مُرَابَحَةً ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ، لَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ عَقْدٌ مُتَجَدِّدٌ مُنْقَطِعُ الْأَحْكَامِ عَنْ الْأَوَّلِ فَيَجُوزُ بِنَاءُ الْمُرَابَحَةِ عَلَيْهِ، كَمَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شُبْهَةَ حُصُولِ الرِّبْحِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِهِ بَعْدَمَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِالظُّهُورِ عَلَى عَيْبِ الشُّبْهَةِ كَالْحَقِيقَةِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ احْتِيَاطًا وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ الْمُرَابَحَةُ فِيمَا أُخِذَ بِالصُّلْحِ لِشُبْهَةِ الْحَطِيطَةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى خَمْسَةً وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ فَيُطْرَحُ عَنْهُ خَمْسَةٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ حَصَلَ بِغَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَبَاعَهُ بِرِبْحٍ) الْكَلَامُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَصُورَتِهَا ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي دَلِيلِهَا (قَالَا: الْعَقْدُ الثَّانِي عَقْدٌ مُتَجَدِّدٌ مُنْقَطِعُ الْأَحْكَامِ عَنْ الْأَوَّلِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْمُرَابَحَةِ عَلَيْهِ كَمَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ بِأَنْ اشْتَرَى مِنْ مُشْتَرِي مُشْتَرِيهِ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ شُبْهَةُ حُصُولِ الرِّبْحِ) الْحَاصِلِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ ثَابِتَةٌ (بِالْعَقْدِ الثَّانِي لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرْطِ السُّقُوطِ) بِأَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْمُشْتَرِي تَأَكَّدَ مَا كَانَ عَلَى شَرْطِ السُّقُوطِ، وَلِلتَّأْكِيدِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ حُكْمُ الْإِيجَابِ كَمَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنُوا نِصْفَ الْمَهْرِ لِتَأَكُّدِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، وَإِذَا كَانَتْ شُبْهَةُ الْحُصُولِ ثَابِتَةً صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْعَقْدِ الثَّانِي ثَوْبًا وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةٍ، فَالْخَمْسَةُ بِإِزَاءِ الْخَمْسَةِ وَالثَّوْبُ بِخَمْسَةٍ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةٍ احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا كَحَقِيقَتِهَا احْتِيَاطًا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى ثَوْبٍ لَا يَبِيعُ الثَّوْبَ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّجَوُّزِ وَالْحَطِيطَةِ، وَلَوْ وُجِدَ الْحَطُّ حَقِيقَةً مَا جَازَ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً، فَكَذَا إذَا تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ.
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا جَازَ الشِّرَاءُ بِعَشَرَةٍ فِيمَا إذَا بَاعَهُ بِعِشْرِينَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي الشِّرَاءِ الثَّانِي كَأَنَّهُ اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَشَرَةً بِعَشَرَةٍ فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا وَهُوَ حُصُولُ الثَّوْبِ بِلَا عِوَضٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَهُ شُبْهَةُ الْإِيجَابِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ احْتِرَازًا عَنْ الْخِيَانَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا فِي حَقِّ الشَّرْعِ، وَشَرْعِيَّتُهُ جَوَازُ الْمُرَابَحَةِ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْعِبَادِ فَيُؤَثِّرُ التَّأْكِيدُ فِي الْمُرَابَحَةِ.
وَأَمَّا جَوَازُ الْبَيْعِ وَعَدَمُهُ فِي شُبْهَةِ الرِّبَا فَحَقُّ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِيجَابِ، كَذَا نُقِلَ مِنْ فَوَائِدِ الْعَلَّامَةِ حُمَيْدِ الدِّينِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ حَصَلَ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يُسْتَفَدْ رِبْحُ الْأَوَّلِ بِالشِّرَاءِ الثَّانِي فَانْتَفَتْ الشُّبْهَةُ. قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ فَبَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى اشْتَرَاهُ فَبَاعَهُ مِنْ الْعَبْدِ) لِأَنَّ فِي هَذَا الْعَقْدِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ بِجَوَازِهِ مَعَ الْمُنَافِي فَاعْتُبِرَ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمُرَابَحَةِ وَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِلْأَوَّلِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْعَبْدَ اشْتَرَاهُ لِلْمَوْلَى بِعَشَرَةٍ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَكَأَنَّهُ يَبِيعُهُ لِلْمَوْلَى فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَيُعْتَبَرُ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ) وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ (لَهُ فِي التِّجَارَةِ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ) وَالْحَالُ أَنَّهُ مَدْيُونٌ بِدَيْنٍ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ فَبَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ (وَكَذَا إنْ كَانَ الْمَوْلَى اشْتَرَاهُ وَبَاعَهُ مِنْ الْعَبْدِ لِأَنَّ فِي هَذَا الْعَقْدِ) أَيْ بَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ الْمَوْلَى وَعَكْسِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِجَوَازِهِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْمَوْلَى بِمَالِ الْعَبْدِ، وَقَبْلَ كَوْنِ الْعَبْدِ مِلْكًا لِلْمَوْلَى وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ وَيَتَفَرَّدَ بِكَسْبِ عَبْدِهِ فَصَارَ كَالْبَائِعِ مِنْ نَفْسِهِ فَاعْتُبِرَ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمُرَابَحَةِ لِوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ فِيهَا عَنْ شُبْهَةِ الْحَيَاةِ، وَإِذَا عُدِمَ الْبَيْعُ الثَّانِي لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَإِنَّمَا يَبِيعُهُ عَلَى الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالدَّيْنِ الْمُحِيطِ بِرَقَبَتِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَبَاعَ مِنْ مَوْلَاهُ شَيْئًا لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ لِلْمَوْلَى شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ لَا مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَلَا مِلْكَ التَّصَرُّفِ، هَكَذَا قَيَّدَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ، وَكَذَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَقَاضِي خَانْ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْعَتَّابِيُّ، وَالْحَقُّ قَيَّدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ (وَإِذَا كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ) لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَإِنْ قُضِيَ بِجَوَازِهِ عِنْدَنَا عِنْدَ عَدَمِ الرِّبْحِ خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ أَنَّهُ اشْتَرَى مَالَهُ بِمَالِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِفَادَةِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ مَقْصُودٌ وَالِانْعِقَادُ يَتْبَعُ الْفَائِدَةَ فَفِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ فَاعْتُبِرَ الْبَيْعُ الثَّانِي عَدَمًا فِي حَقِّ نِصْفِ الرِّبْحِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِالنِّصْفِ) إذَا كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِالنِّصْفِ (فَاشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ) لِأَنَّ مَبْنَى هَذَا الْبَيْعِ عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَشَبَهِهَا وَفِي بَيْعِهِ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ شُبْهَةُ خِيَانَةٍ (لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ) أَيْ بَيْعَ الثَّوْبِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ حُكِمَ بِجَوَازِهِ عِنْدَنَا عِنْدَ عَدَمِ الرِّبْحِ خِلَافًا لِزُفَرَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَالِ غَيْرِهِ لَا بِمَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ الْبَيْعُ مَوْجُودًا وَوَجْهُ الْجَوَازِ عِنْدَنَا اشْتِمَالُهُ عَلَى الْفَائِدَةِ فَإِنَّ فِيهِ اسْتِفَادَةَ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لِأَنَّ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُضَارِبِ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ رَبِّ الْمَالِ عَنْ مَالِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَبِالشِّرَاءِ مِنْ الْمُضَارِبِ يَحْصُلُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ وَهُوَ مَقْصُودٌ، وَإِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْفَائِدَةِ يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الِانْعِقَادَ يَتْبَعُ الْفَائِدَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَاشْتَرَاهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً جَازَ الْبَيْعُ فِيهِمَا وَدَخَلَ عَبْدُهُ فِي عَقْدِهِ لِفَائِدَةِ انْقِسَامِ الثَّمَنِ، وَأَمَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعْلِيلِ زُفَرَ، وَقَدْ اسْتَوْضَحَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعْنِي الْمُضَارِبَ وَكِيلٌ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ، وَعَلَى هَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَوَكِيلِهِ فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ كَانَ الْبَيْعُ الثَّانِي كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ نِصْفِ الرِّبْحِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ رَبِّ الْمَالِ فَيُحَطُّ عَنْ الثَّمَنِ احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَصْلِ الثَّمَنِ وَهُوَ عَشَرَةٌ وَلَا فِي نَصِيبِ الْمُضَارِبِ فَيَبِيعُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَاعْوَرَّتْ أَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً وَلَا يُبَيِّنُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَبِسْ عِنْدَهُ شَيْئًا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ تَابِعَةٌ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ، وَلِهَذَا لَوْ فَاتَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا لَمْ يُنْقِصْهَا الْوَطْءُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَبِيعُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، كَمَا إذَا احْتَبَسَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (فَأَمَّا إذَا فَقَأَ عَيْنَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ فَقَأَهَا أَجْنَبِيٌّ فَأَخَذَ أَرْشَهَا لَمْ يَبِعْهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ) لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ فَيُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا وَطِئَهَا وَهِيَ بِكْرٌ لِأَنَّ الْعُذْرَةَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ وَقَدْ حَبَسَهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً سَلِيمَةً فَاعْوَرَّتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي) بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْجَارِيَةِ نَفْسِهَا (أَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ) وَلَمْ يَنْقُصْهَا الْوَطْءُ (جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مُرَابَحَةً وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ) لِعَدَمِ احْتِبَاسِ مَا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَبِسْ عِنْدَهُ شَيْءٌ يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ، وَلِهَذَا لَوْ فَاتَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ إذَا لَمْ يَنْقُصْهَا الْوَطْءُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا وَطِئَهَا ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا، وَمَا ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْوَطْءِ بِمَنْزِلَةِ احْتِبَاسِ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الرَّدِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إنْ رَدَّهَا.
فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهَا، مَعَ الْعُقْرِ أَوْ بِدُونِهِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْفَسْخَ يَرِدُ عَلَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَالْعَقْدُ لَمْ يَرِدْ عَلَى الزِّيَادَةِ فَالْفَسْخُ لَا يَرِدُ عَلَيْهَا، وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّهَا تَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَيُسَلَّمُ الْوَطْءُ لِلْمُشْتَرِي مَجَّانًا وَالْوَطْءُ يَسْتَلْزِمُ الْعُقْرَ عِنْدَ سُقُوطِ الْعُقْرِ لَا بِاعْتِبَارِ احْتِبَاسِ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَبِيعُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) أَيْ فِي صُورَةِ الِاعْوِرَارِ (مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ) كَمَا إذَا اُحْتُبِسَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ لِلْأَوْصَافِ حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا كَانَ التَّعَيُّبُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِصُنْعِ الْعِبَادِ (وَأَمَّا إذَا فَقَأَ عَيْنَهَا) رَاجِعٌ إلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قُلْنَا: فَيَكُونُ جَوَابًا لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَعْنِي إذَا فَقَأَ الْمُشْتَرِي عَيْنَهَا (بِنَفْسِهِ أَوْ فَقَأَهَا أَجْنَبِيٌّ) سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِغَيْرِهِ وَجَبَ الْبَيَانُ عِنْدَ الْبَيْعِ مُرَابَحَةً لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ، أَمَّا إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ كَفِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلِأَنَّهُ جِنَايَةٌ تُوجِبُ ضَمَانَ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي حَابِسًا بَدَلَ جُزْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَمْنَعُ الْمُرَابَحَةَ بِدُونِ الْبَيَانِ.
وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ تَدُلُّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى أَخْذِ أَرْشِهَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي لَفْظِ مُحَمَّدٍ فِي أَصْلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَأَنَّ ذِكْرَ الْأَرْشِ وَقَعَ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ لَمَّا فَقَأَ الْأَجْنَبِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْأَرْشِ وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْأَرْشِ سَبَبٌ لِأَخْذِ الْأَرْشِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا إطْلَاقُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِأَخْذِ الْأَرْشِ، وَذَكَرَ نَقْلَ الْمَبْسُوطِ كَذَلِكَ (وَكَذَا إنْ وَطِئَهَا وَهِيَ بِكْرٌ) لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً إلَّا بِالْبَيَانِ (لِأَنَّ الْعُذْرَةَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ وَقَدْ حَبَسَهَا) فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ. (وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَأَصَابَهُ قَرْضُ فَأْرٍ أَوْ حَرْقُ نَارٍ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَلَوْ تَكَسَّرَ بِنَشْرِهِ وَطَيِّهِ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ) وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَأَصَابَهُ قَرْضُ فَأْرٍ) بِالْقَافِ مِنْ قَرَضَ الثَّوْبَ بِالْمِقْرَاضِ: إذَا قَطَعَهُ، وَنَصَّ أَبُو الْيُسْرِ عَلَى أَنَّهُ بِالْفَاءِ (أَوْ حَرْقُ نَارٍ) جَازَ أَنْ (يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ) لِأَنَّ الْأَوْصَافَ تَابِعَةٌ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ (وَلَوْ تَكَسَّرَ) الثَّوْبُ (بِنَشْرِهِ وَطَيِّهِ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً) بِلَا بَيَانٍ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى غُلَامًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِرِبْحِ مِائَةٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَعَلِمَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ قَبِلَ)؛ لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُزَادُ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْأَجَلِ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ وَبَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً بِثَمَنِهِمَا، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمُرَابَحَةِ يُوجِبُ السَّلَامَةَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ يُخَيَّرُ كَمَا فِي الْعَيْبِ (وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ)؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، قَالَ: (فَإِنْ كَانَ وَلَّاهُ إيَّاهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَدَّهُ إنْ) شَاءَ؛ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ فِي التَّوْلِيَةِ مِثْلُهَا فِي الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ (وَإِنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ) لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَيَسْتَرِدُّ كُلَّ الثَّمَنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا اسْتَوْفَى الزُّيُوفَ مَكَانَ الْجِيَادِ وَعَلِمَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ، وَسَيَأْتِيك مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ يُقَوَّمُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَبِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَيَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ مُنَجَّمٌ مُعْتَادٌ قِيلَ لابد مِنْ بَيَانِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ، وَقِيلَ يَبِيعُهُ وَلَا يُبَيِّنُهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ حَالٌّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى غُلَامًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِرِبْحِ مِائَةٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ) ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي (فَعَلِمَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ قَبِلَ لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ) فَإِنَّهُ يُزَادُ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْأَجَلِ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ وَبَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً بِثَمَنِهِمَا.
وَالْمُرَابَحَةُ تُوجِبُ الِاحْتِرَازَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ.
وَنُوقِضَ بِأَنَّ الْغُلَامَ السَّلِيمَ الْأَعْضَاءِ يُزَادُ فِي ثَمَنِهِ لِأَجْلِ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ السَّلِيمِ، وَإِذَا فَاتَتْ سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَجِبْ الْبَيَانُ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ اعْوِرَارِ الْعَيْنِ.
وَأُجِيبَ أَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ السَّلَامَةِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ أَنْ يَقُولَ إنْ أَجَّلْتنِي مُدَّةَ كَذَا فَثَمَنُهُ يَكُونُ كَذَا بِزِيَادَةِ مِقْدَارٍ فَتَثْبُتُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ فِي الْأَجَلِ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ، وَسَيُشِيرُ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ: يَعْنِي فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ الْمُقَابَلَةِ، فَبِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، فَإِمَّا أَنْ يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بَعْدَ الْهَلَاكِ فَلَا، وَإِلَّا لَكَانَ مَا فَرَضْنَاهُ شُبْهَةً حَقِيقَةً وَذَلِكَ خُلْفٌ بَاطِلٌ.
قَالَ (وَإِنْ كَانَ وَلَّاهُ إيَّاهُ) يَعْنِي أَنَّ التَّوْلِيَةَ كَالْمُرَابَحَةِ فِيمَا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ بِأَجَلٍ وَبَاعَهُ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَكَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ فِي وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ كَالْمُرَابَحَةِ لِكَوْنِهِ بِنَاءً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ (وَإِنْ) كَانَ (اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ عَلِمَ) بِالْخِيَانَةِ (لَزِمَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ لِمَا ذَكَرْنَا) أَنَّ الْأَجَلَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ حَقِيقَةً (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَيَسْتَرِدُّ كُلَّ الثَّمَنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا اسْتَوْفَى الزُّيُوفَ مَكَانَ الْجِيَادِ وَعَلِمَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ وَسَيَأْتِيك مِنْ بَعْدُ فِي مَسَائِلَ) مَنْثُورَةٍ قُبَيْلَ كِتَابِ الصَّرْفِ.
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ قِيمَتَهُ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَهُ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ فِي التَّحَالُفِ مُسْتَقِيمٌ، فَإِنَّهُ أَقَامَ الْقِيمَةَ مَقَامَهُ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَلْخِيّ (يُقَوَّمُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَبِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، فَيَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ لَكِنَّهُ مُنَجَّمٌ) مُعْتَادٌ كَعَادَةِ بَعْضِ الْبِلَادِ يَشْتَرُونَ بِنَقْدٍ وَيُسَلِّمُونَ الثَّمَنَ بَعْدَ شَهْرٍ إمَّا جُمْلَةً أَوْ مُنَجَّمًا، قِيلَ لابد مِنْ بَيَانِهِ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ، وَقِيلَ لَا يَجِبُ بَيَانُهُ لِأَنَّ الثَّمَنَ حَالٌّ. قَالَ (وَمَنْ وَلَّى رَجُلًا شَيْئًا بِمَا قَامَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِكَمْ قَامَ عَلَيْهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ (فَإِنْ أَعْلَمَهُ الْبَائِعُ، يَعْنِي فِي الْمَجْلِسِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ) لِأَنَّ الْفَسَادَ لَمْ يَتَقَرَّرْ، فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ فِي الْمَجْلِسِ جُعِلَ كَابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَصَارَ كَتَأْخِيرِ الْقَبُولِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الِافْتِرَاقِ قَدْ تَقَرَّرَ فَلَا يُقْبَلُ الْإِصْلَاحُ، وَنَظِيرُهُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِرَقْمِهِ إذَا عَلِمَ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الرِّضَا لَمْ يَتِمَّ قَبْلَهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ فَيَتَخَيَّرُ كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ وَلَّى رَجُلًا شَيْئًا بِمَا قَامَ عَلَيْهِ إلَخْ) إذَا قَالَ وَلَّيْتُك هَذَا بِمَا قَامَ عَلَيَّ يُرِيدُ بِهِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ مَعَ مَا لَحِقَهُ مِنْ الْمُؤَنِ كَالصَّبْغِ وَالْفَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِكَمْ قَامَ عَلَيْهِ (فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، فَإِنْ أَعْلَمَهُ الْبَائِعُ فِي الْمَجْلِسِ) صَحَّ الْبَيْعُ وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي (إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ) أَمَّا الصِّحَّةُ فَلِأَنَّ الْفَسَادَ لَمْ يَتَقَرَّرْ بَعْدُ فَكَانَ فَسَادًا يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ، فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ فِي الْمَجْلِسِ جُعِلَ كَابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ كَتَأْخِيرِ الْقَبُولِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الِافْتِرَاقِ تَقَرَّرَ.
وَالْفَسَادُ الْمُتَقَرِّرُ لَا يَقْبَلُ الْإِصْلَاحَ، وَنَظِيرُهُ الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ فِي صِحَّتِهِ بِالْبَيَانِ فِي الْمَجْلِسِ وَتَقَرَّرَ فَسَادُهُ بِعَدَمِهِ فِيهِ.
وَأَمَّا خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَلِلْخَلَلِ فِي الرِّضَا لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لِلْجَهْلِ بِالصِّفَاتِ فَكَانَ فِي مَعْنَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَأُلْحِقَ بِهِ
(فَصْلٌ): في قبض المتقول:
وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ: وَجْهُ إيرَادِ الْفَصْلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَسَائِلَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْمُرَابَحَةِ.
وَوَجْهُ ذِكْرِهَا فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ الِاسْتِطْرَادُ بِاعْتِبَارِ تَقَيُّدِهَا بِقَيْدٍ زَائِدٍ عَلَى الْبَيْعِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الْأَوْصَافِ كَالْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ.
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُنْقَلُ) نَقْلًا حِسِّيًّا (وَ) هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (يُحَوَّلُ) فَسَّرَهُ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُدَبَّرِ (لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ») وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالطَّعَامِ وَلَا تَمَسُّكَ لَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إنْ اشْتَرَى أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» فَإِنَّ تَخْصِيصَ الطَّعَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَحْسُبُ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَ الطَّعَامِ.
وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ مُسْنَدًا إلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: ابْتَعْت زَيْتًا فِي السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوْفَيْته لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي بِهِ رِبْحًا حَسَنًا، فَأَرَدْت أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِهِ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِرَاعِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ: لَا تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْته حَتَّى تَحُوزَهُ إلَى رَحْلِك، فَإِنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ابْتِيَاعِ السِّلَعِ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى تَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ» وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَقُلْ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ لِيَقَعَ عَلَى الِاتِّفَاقِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ جَائِزَةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ قَالَ كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ فَقَبَضَهُ، لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْمَانِعُ زَائِلٌ عِنْدَ ذَلِكَ.
بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبَيْعَ أَسْرَعُ نَفَاذًا مِنْ الْهِبَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشُّيُوعَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ، ثُمَّ الْبَيْعُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ مَا مَلَكَهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْغَرَرِ فِي مِلْكِهِ فَالْهِبَةُ أَوْلَى (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ) اسْتِدْلَالٌ بِالْمَعْقُولِ، وَتَقْرِيرُهُ: فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ عَلَى تَقْدِيرِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَالْغَرَرُ غَيْرُ جَائِزٍ «لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ».
وَالْغَرَرُ: مَا طُوِيَ عَنْك عِلْمُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ غَرَرَ الِانْفِسَاخِ بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا مُتَوَهَّمٌ عَلَى تَقْدِيرِ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَيْسَ بِمَانِعٍ.
وَلَا يُدْفَعُ بِأَنَّ عَدَمَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ أَصْلٌ لِأَنَّ عَدَمَ الْهَلَاكِ كَذَلِكَ فَاسْتَوَيَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وَلَيْسَ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ، وَفِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ غَرَرُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ خَاصَّةً فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ. (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ) رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَاعْتِبَارًا بِالْمَنْقُولِ وَصَارَ كَالْإِجَارَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَلَا غَرَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ فِي الْعَقَارِ نَادِرٌ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ، وَالْغَرَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، وَالْحَدِيثُ مَعْلُولٌ بِهِ عَمَلًا بِدَلَائِل الْجَوَازِ وَالْإِجَارَةِ، قِيلَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ؛ وَلَوْ سَلَّمَ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ الْمَنَافِعُ وَهَلَاكُهَا غَيْرُ نَادِرٍ.
الشَّرْحُ:
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَاعْتِبَارًا بِالْمَنْقُولِ بِجَامِعِ عَدَمِ الْقَبْضِ فِيهِمَا وَصَارَ كَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا فِي الْعَقَارِ لَا تَجُوزُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْجَامِعُ اشْتِمَالُهُمَا عَلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيْعِ الرِّبْحُ وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فَيَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهِ بَالِغًا عَاقِلًا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ (فِي مَحَلِّهِ) لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَوَازَ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ الْغَرَرُ مَعْدُومٌ فِيهِ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْهَلَاكِ وَهُوَ فِي الْعَقَارِ نَادِرٌ فِيهِ فَصَحَّ الْعَقْدُ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّ الْمَانِعَ فِيهِ مَوْجُودٌ، وَمَنْعُ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ فِي الْعَقَارِ فَإِنَّهُ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ، وَقَدْ يُوجَدُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْبَيْعُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ صَارَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي، وَحِينَئِذٍ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ الرَّدَّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَادَ لَهُ الرَّدُّ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كَلَامُنَا فِي غَرَرِ الِانْفِسَاخِ وَمَا ذَكَرْتُمْ غَرَرُ الْفَسْخِ، وَإِذَا كَانَ الْهَلَاكُ فِي الْعَقَارِ نَادِرًا كَانَ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُنْتَفِيًا.
وَالْحَدِيثُ مَعْلُولٌ بِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْعَقَارُ فَجَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَمَلًا بِدَلِيلِ الْجَوَازِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» وَهُوَ عَامٌّ.
وَالتَّعْلِيلُ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
وَأُجِيبَ أَنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ وَالصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَامِّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْمَنْقُولِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَبِيعٍ لَمْ يُقْبَضْ بِدَلِيلِ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «إذَا ابْتَعْت شَيْئًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَ» سَلَّمْنَا أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنْ مِلْكِهِ الَّذِي ثَبَتَ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصْلُحُ تَخْصِيصًا، سَلَّمْنَا صَلَاحِيَّتَهُ لِذَلِكَ، لَكِنَّ التَّخْصِيصَ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَامِّ بَعْدَ احْتِمَالِهِ تَنَاوُلَهُ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مَعْلُولًا بِغَرَرِ الِانْفِسَاخِ لَا يَحْتَمِلُ تَنَاوُلَ مَا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ، إذْ الشَّيْءُ لَا يَحْتَمِلُ تَنَاوُلَ مَا يُنَافِيهِ تَنَاوُلًا فَرْدِيًّا وَاعْلَمْ أَنِّي أَذْكُرُ لَك مَا سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ بِهِ جَمِيعُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ بَيْعُ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لَكِنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الرِّبَا بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ مُقَارِنٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ»، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِغَرَرِ الِانْفِسَاخِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَقَدْ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ حَيْثُ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَقَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ مُسْنَدًا إلَى الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَبَيَّنَهُ وَبَيَّنَ أَدِلَّةَ الْجَوَازِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّرْكَ، وَجَعْلُهُ مَعْلُولًا بِذَلِكَ إعْمَالٌ لِثُبُوتِ التَّوْفِيقِ حِينَئِذٍ، وَالْإِعْمَالُ مُتَعَيَّنٌ لَا مَحَالَةَ.
وَكَمَا لَمْ يَتَنَاوَلْ الْعَقَارَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الصَّدَاقَ وَبَدَلَ الْخُلْعِ، وَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمُعَوَّضِ قَبْلَ الْقَبْضِ، هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (قَوْلُهُ وَالْإِجَارَةُ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مُحَمَّدٍ صُورَةَ النِّزَاعِ عَلَى الْإِجَارَةِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ مَقِيسًا عَلَيْهَا لِأَنَّهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ.
قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ، لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، فَإِذَا مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الرَّقَبَةُ مَلَكَ فِي التَّابِعِ وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْقُولِ، وَالْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ فَيَمْتَنِعُ جَوَازُهَا كَبَيْعِ الْمَنْقُولِ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً فَاكْتَالَهُ أَوْ اتَّزَنَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرَى مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا أَنْ يَأْكُلَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ) «لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي»؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ وَالتَّصَرُّفُ فِي مَالِ الْغَيْرِ حَرَامٌ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مُجَازَفَةً؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الثَّوْبَ مُذَارَعَةً؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ إذْ الذَّرْعُ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ، بِخِلَافِ الْقَدْرِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ صَاعَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهُوَ الشَّرْطُ، وَلَا بِكَيْلِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا وَلَا تَسْلِيمَ إلَّا بِحَضْرَتِهِ، وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ الْبَيْعِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ قِيلَ لَا يُكْتَفَى بِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ اُعْتُبِرَ صَاعَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ مَعْلُومًا بِكَيْلٍ وَاحِدٍ وَتَحَقَّقَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ السَّلَمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَعْدُودَ عَدًّا فَهُوَ كَالْمَذْرُوعِ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، وَكَالْمَوْزُونِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا تَحِلُّ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَشْرُوطِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً إلَخْ) إذَا اشْتَرَى الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالسَّمْنِ وَالْحَدِيدِ وَأَرَادَ التَّصَرُّفَ فَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: اشْتَرَى مُكَايَلَةً وَبَاعَ مُكَايَلَةً، أَوْ اشْتَرَى مُجَازَفَةً وَبَاعَ كَذَلِكَ، أَوْ اشْتَرَى مُكَايَلَةً وَبَاعَ مُجَازَفَةً، أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ.
فَفِي الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ لِنَفْسِهِ كَمَا كَانَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ كَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ بِهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ.
وَالتَّصَرُّفُ فِي مَالِ الْغَيْرِ حَرَامٌ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَهُوَ بِتَرْكِ التَّصَرُّفِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَوْزُونِ فَكَانَ مِثْلَهُ.
وَفِي الثَّانِي لَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَيْلِ لِعَدَمِ الِافْتِقَارِ إلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ.
وَفِي الثَّالِثِ لَا يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي إلَى كَيْلٍ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً مَلَكَ جَمِيعَ مَا كَانَ مُشَارًا إلَيْهِ فَكَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تُتَصَوَّرُ فِي الْمُجَازَفَةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً فَاكْتَالَهُ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ مَثَلًا ثُمَّ بَاعَهُ مُجَازَفَةً فَإِذَا هُوَ اثْنَا عَشَرَ فِي الْوَاقِعِ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْمَكِيلِ الَّذِي اشْتَرَاهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَفِيهِ مِنْ التَّمَحُّلِ مَا تَرَى.
وَقِيلَ الْمُرَادُ الزِّيَادَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي ذِهْنِ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ بَاعَ مُجَازَفَةً وَفِي ذِهْنِهِ أَنَّهُ مِائَةُ قَفِيزٍ فَإِذَا هُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا ظَنَّهُ فَالزَّائِدُ لِلْمُشْتَرِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ بَابِ الْغَرَضِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ هُوَ احْتِمَالُ الزِّيَادَةِ، وَلَوْ فُرِضَ فِي الْمُجَازَفَةِ زِيَادَةٌ كَانَتْ لِلْمُشْتَرِي حَيْثُ لَمْ يَقَعْ الْعَقْدُ مُكَايَلَةً فَهَذَا الْمَانِعُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ لَمْ يَمْنَعْ التَّصَرُّفَ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِ أَوْلَى، وَيَجُوزُ فَرْضُ الْمُحَالِ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى «إنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ» وَفِي الرَّابِعِ يَحْتَاجُ إلَى كَيْلٍ وَاحِدٍ، إمَّا كَيْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ كَيْلِ الْبَائِعِ بِحَضْرَتِهِ لِأَنَّ الْكَيْلَ شَرْطٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيمَا بِيعَ مُكَايَلَةً لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ الْوَاقِعِ مَبِيعًا، وَأَمَّا الْمُجَازَفَةُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ يَتَنَاوَلُ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِهِ بِمَا فِي الْكِتَابِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَذَلِكَ بِمَا يُتَصَوَّرُ إذَا بِيعَ مُكَايَلَةً فَلَمْ يَتَنَاوَلْ مَا عَدَاهُ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّقَصِّيَ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} يَقْتَضِي جَوَازَهُ مُطْلَقًا وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِآيَةِ الرِّبَا فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَفِيهِ ذِكْرُ جَرَيَانِ الصَّاعَيْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِتَعْيِينِ الْمِقْدَارِ وَتَعْيِينُ الْمِقْدَارِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ تَوَهُّمِ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَكَانَ فِي النَّصِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِذَلِكَ وَهُوَ فِي الْمُجَازَفَةِ مَعْدُومٌ فَكَانَ جَائِزًا بِلَا كَيْلٍ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ اشْتَرَى مَكِيلًا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ بِهِبَةٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ ثَمَنًا كَمَا سَيَأْتِي وَحُكْمُ بَيْعِ الثَّوْبِ مُذَارَعَةً حُكْمُ الْمُجَازَفَةِ فِي الْمَكِيلِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ، إذْ الذَّرْعُ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ احْتِمَالُ الزِّيَادَةِ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ لِتَلْحَقَ بِهِ، بِخِلَافِ الْقَدْرِ فَإِنَّهُ مَبِيعٌ لَا وَصْفٌ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ وَهُوَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لِأَنَّ الشَّرْطَ صَاعُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا بِكَيْلِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْكَيْلَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ إذْ الْمَبِيعُ يَصِيرُ بِهِ مَعْلُومًا وَلَا تَسْلِيمَ إلَّا بِحَضْرَتِهِ.
وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ الْبَيْعِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ قِيلَ لَا يُكْتَفَى بِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ صَاعَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ مَعْلُومًا بِكَيْلٍ وَاحِدٍ وَتَحَقَّقَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ وَانْتَفَى احْتِمَالُ الزِّيَادَةِ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِ السَّلَمِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا أَوْ أَمَرَ رَبُّ الْمَالِ بِقَبْضِهِ لَمْ يَكُنْ قَبْضًا، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ إيهَامَ التَّنَاقُضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ أَوَّلًا فِيمَا إذَا كَانَ الْعَقْدَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ جَرَيَانِ الصَّاعَيْنِ بِالْحَدِيثِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنْ يُكْتَفَى بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا يَكُونُ عَقْدًا وَاحِدًا بِشَرْطِ الْكَيْلِ، لِمَا أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ.
وَأَمَّا إذَا وُجِدَ الْعَقْدُ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَالِاكْتِفَاءُ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِيهِمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ مِنْ الرِّوَايَةِ، بَلْ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ وُجُوبُ الْكَيْلَيْنِ.
وَدَفَعَهُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَائِعِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ وَبِالْمُشْتَرِي هُوَ الثَّانِي وَبِالْبَيْعِ هُوَ الْبَيْعُ الثَّانِي، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا بَاعَ مُكَايَلَةً وَكَالَهُ بِحَضْرَةِ مُشْتَرِيهِ يُكْتَفَى بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اجْتِمَاعَ الصَّفْقَتَيْنِ غَيْرُ مَنْظُورٍ إلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّاعَيْنِ فِيمَا إذَا اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ كَمَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ السَّلَمِ.
وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا.
هَذَا وَإِذَا نَظَرْنَا إلَى التَّعْلِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ يَقْتَضِي أَنْ يُكْتَفَى بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَيْلَيْنِ عَزِيمَةٌ وَالِاكْتِفَاءَ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ رُخْصَةٌ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ اسْتِحْسَانٌ لَكَانَ ذَلِكَ مَدْفَعًا جَارِيًا عَلَى الْقَوَانِينِ لَكِنْ لَمْ أَظْفَرْ بِذَلِكَ.
وَلَوْ اشْتَرَى الْمَعْدُودَ عَدًّا فَهُوَ كَالْمَذْرُوعِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ فَكَانَ كَالْمَذْرُوعِ.
وَحُكْمُهُ قَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الذَّرْعِ إذَا بَاعَ مُزَارَعَةً.
وَكَالْمَوْزُونِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّهُ لَا تَحِلُّ الزِّيَادَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى جَوْزًا عَلَى أَنَّهَا أَلْفٌ فَوَجَدَهَا أَكْثَرَ لَمْ تَسْلَمْ لَهُ الزِّيَادَةُ، وَلَوْ وَجَدَهَا أَقَلَّ يَسْتَرِدُّ حِصَّةَ النُّقْصَانِ كَالْمَوْزُونِ فَلَا بُدَّ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ مِنْ الْعَدِّ كَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ. قَالَ (وَالتَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ) لِقِيَامِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَيْسَ فِيهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا بِالتَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَزِيدَ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَزِيدَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحُطَّ مِنْ الثَّمَنِ وَيَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ) فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحَّانِ عَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ، بَلْ عَلَى اعْتِبَارِ ابْتِدَاءِ الصِّلَةِ، لَهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا؛ لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ مِلْكَهُ عِوَضَ مِلْكِهِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَكَذَا الْحَطُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَنِ صَارَ مُقَابَلًا بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ فَصَارَ بِرًّا مُبْتَدَأً، وَلَنَا أَنَّهُمَا بِالْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ يُغَيِّرَانِ الْعَقْدَ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ رَابِحًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ عَدْلًا، وَلَهُمَا وِلَايَةُ الرَّفْعِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّغَيُّرِ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْقَطَا الْخِيَارَ أَوْ شَرَطَاهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ إذَا صَحَّ يَلْتَحِق بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ يَقُومُ بِهِ لَا بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ حَطِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لِأَصْلِهِ لَا تَغْيِيرٌ لِوَصْفِهِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ لَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ، وَيَظْهَرُ حُكْمُ الِالْتِحَاقِ فِي التَّوْلِيَةِ وَالْمُرَابَحَةِ حَتَّى يَجُوزَ عَلَى الْكُلِّ فِي الزِّيَادَةِ وَيُبَاشِرَ عَلَى الْبَاقِي فِي الْحَطِّ وَفِي الشُّفْعَةِ حَتَّى يَأْخُذَ بِمَا بَقِيَ فِي الْحَطِّ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ الثَّابِتِ فَلَا يَمْلِكَانِهِ، ثُمَّ الزِّيَادَةُ لَا تَصِحُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَبْقَ عَلَى حَالَةٍ يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَالشَّيْءُ يَثْبُتُ ثُمَّ يُسْتَنَدُ، بِخِلَافِ الْحَطِّ لِأَنَّهُ بِحَالٍ يُمْكِنُ إخْرَاجُ الْبَدَلِ عَمَّا يُقَابِلُهُ فَيُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ اسْتِنَادًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَالتَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ) سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ كَالنُّقُودِ أَوْ مِمَّا يَتَعَيَّنُ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، حَتَّى لَوْ بَاعَ إبِلًا بِدَرَاهِمَ أَوْ بِكُرٍّ مِنْ الْحِنْطَةِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَهُ شَيْئًا آخَرَ.
قَالَ «ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ فِي الْبَقِيعِ فَنَأْخُذُ مَكَانَ الدَّرَاهِمِ الدَّنَانِيرَ وَمَكَانَ الدَّنَانِيرِ الدَّرَاهِمَ، وَكَانَ يُجَوِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَلِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلتَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ قَائِمٌ وَالْمَانِعَ وَهُوَ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ مُنْتَفٍ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا بِالتَّعْيِينِ أَيْ فِي النُّقُودِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ.
قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَزِيدَ الْبَائِعَ فِي الثَّمَنِ) إذَا اشْتَرَى عَيْنًا بِمِائَةٍ ثُمَّ زَادَ عَشَرَةً مَثَلًا أَوْ بَاعَ عَيْنًا بِمِائَةٍ ثُمَّ زَادَ عَلَى الْمَبِيعِ شَيْئًا أَوْ حَطَّ بَعْضَ الثَّمَنِ جَازَ، وَالِاسْتِحْقَاقُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ ذَلِكَ فَيَمْلِكُ الْبَائِعُ حَبْسَ الْمَبِيعِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي مُطَالَبَةَ الْمَبِيعِ مِنْ الْبَائِعِ حَتَّى يَدْفَعَهُمَا إلَيْهِ.
وَيَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي مُطَالَبَةَ الْمَبِيعِ كُلِّهِ بِتَسْلِيمِ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ وَيَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ يَعْنِي الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ.
فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِهِمَا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِحَّانِ عَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ، بَلْ عَلَى اعْتِبَارِ ابْتِدَاءِ الصِّلَةِ أَيْ الْهِبَةِ ابْتِدَاءً لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ.
لَهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا لِأَنَّ هَذَا التَّصْحِيحَ يُصَيِّرُ مِلْكَهُ عِوَضَ مِلْكِهِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ الْمَبِيعَ بِالْعَقْدِ الْمُسَمَّى ثَمَنًا.
فَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ نَفْسِهِ وَهُوَ الْمَبِيعُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَفِي الْحَطِّ الثَّمَنُ كُلُّهُ مُقَابَلٌ بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ عَنْ ذَلِكَ فَصَارَ بُرًّا مُبْتَدَأً.
وَلَنَا أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ بِالْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ غَيْرُ الْعَقْدِ بِتَرَاضِيهِمَا مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ، لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمَشْرُوعَ خَاسِرٌ وَرَابِحٌ وَعَدْلٌ، وَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ تَجْعَلُ الْخَاسِرَ عَدْلًا وَالْعَدْلَ رَابِحًا، وَالْحَطُّ يَجْعَلُ الرَّابِحَ عَدْلًا وَالْعَدْلَ خَاسِرًا وَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ، وَلَهُمَا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ بِرَفْعِ أَصْلِ الْعَقْدِ بِالْإِقَالَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّغْيِيرِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي صِفَةِ الشَّيْءِ أَهْوَنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي أَصْلِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ لَهُمَا خِيَارُ الشَّرْطِ فَأَسْقَطَا أَوْ شَرَطَاهُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَصَحَّ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، وَإِذَا صَحَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ كَالْوَصْفِ لَهُ، وَوَصْفُ الشَّيْءِ يَقُومُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَا بِنَفْسِهِ، فَالزِّيَادَةُ تَقُومُ بِالثَّمَنِ لَا بِنَفْسِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ حَطُّ الْبَعْضِ صَحِيحًا لَكَانَ حَطُّ الْكُلِّ كَذَلِكَ اعْتِبَارًا لِلْكُلِّ بِالْبَعْضِ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِالْفَرْقِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ حَطِّ الْكُلِّ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ بِأَصْلِهِ لَا تَغْيِيرٌ بِوَصْفِهِ، لِأَنَّ عَمَلَ الْحَطِّ فِي إخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمَحْطُوطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فَالشَّرْطُ فِيهِ قِيَامُ الثَّمَنِ وَذَلِكَ فِي حَطِّ الْبَعْضِ لِوُجُودِ مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا.
وَأَمَّا حَطُّ الْجَمِيعِ فَتَبْدِيلٌ لِلْعَقْدِ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَبْقَى بَيْعًا بَاطِلًا لِعَدَمِ الثَّمَنِ حِينَئِذٍ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا ذَلِكَ أَوْ يَصِيرَ هِبَةً وَقَدْ كَانَ قَصْدُهُمَا التِّجَارَةَ فِي الْمَبِيعِ دُونَ الْهِبَةِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِالْتِحَاقِ لِمَانِعٍ عَدَمُهُ لَا لِمَانِعٍ فَيَلْتَحِقُ حَطُّ الْبَعْضِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ لَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ.
وَيَظْهَرُ حُكْمُ الِالْتِحَاقِ فِي التَّوْلِيَةِ وَالْمُرَابَحَةِ حَتَّى تَجُوزَ عَلَى الْكُلِّ فِي الزِّيَادَةِ، وَعَلَى الْبَاقِي فِي الْحَطِّ فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا حَطَّ بَعْضَ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي قَالَ لِآخَرَ وَلَّيْتُك هَذَا الشَّيْءَ وَقَعَ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ بَعْدَ الْحَطِّ فَكَانَ الْحَطُّ بَعْدَ الْعَقْدِ مُلْتَحِقًا بِأَصْلِ الْعَقْدِ كَانَ الثَّمَنُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ هُوَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ وَكَذَلِكَ فِي الزِّيَادَةِ، وَيَظْهَرُ حُكْمُهُ أَيْضًا فِي الشُّفْعَةِ حَتَّى يَأْخُذَ الشَّفِيعُ بِمَا بَقِيَ فِي الْحَطِّ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا كَانَ لِلشَّفِيعِ) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُلْتَحِقَةً بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَأَخَذَ الشَّفِيعُ بِالزِّيَادَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: إنَّمَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَفِي الزِّيَادَةِ إبْطَالٌ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ بِتَرَاضِيهِمَا وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا.
وَأَمَّا بَعْدَ هَلَاكِهِ فَلَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَبْقَ عَلَى حَالَةٍ يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ.
إذْ الِاعْتِيَاضُ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَوْجُودٍ وَالشَّيْءُ يَثْبُتُ ثُمَّ يَسْتَنِدُ وَلَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ لِعَدَمِ مَا يُقَابِلُهُ فَلَا تَسْتَنِدُ، بِخِلَافِ الْحَطِّ لِأَنَّهُ بِحَالٍ يُمْكِنُ إخْرَاجُ الْبَدَلِ عَمَّا يُقَابِلُهُ لِكَوْنِهِ إسْقَاطًا وَالْإِسْقَاطُ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ مَا يُقَابِلُهُ فَيَثْبُتُ الْحَطُّ فِي الْحَالِ وَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ اسْتِنَادًا.
رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَصِحُّ زِيَادَةُ الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ.
وَوَجْهُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَائِمًا تَقْدِيرًا وَتُجْعَلَ الزِّيَادَةُ تَغْيِيرًا كَمَا جُعِلَ قَائِمًا إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ كَانَ قَبْلَ الْهَلَاكِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَهَذَا لِأَنَّ قِيَامَ الْعَقْدِ بِالْعَاقِدَيْنِ لَا بِالْمَحَلِّ، وَاشْتِرَاطُ الْمَحَلِّ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ أَوْ إبْقَائِهِ بِطَرِيقِ التَّجَدُّدِ فَلَمْ يَكُنْ لِإِيفَاءِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ فَائِدَةٌ، فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَفِيهِ فَائِدَةٌ فَتَبْقَى وَالزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي مُقَابَلَةِ الثَّمَنِ وَهُوَ قَائِمٌ وَيَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ سَقَطَ بِحِصَّتِهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ. قَالَ (وَمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ أَجَلًا مَعْلُومًا صَارَ مُؤَجَّلًا)؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ تَيْسِيرًا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ إبْرَاءَهُ مُطْلَقًا فَكَذَا مُؤَقَّتًا، وَلَوْ أَجَّلَهُ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ إنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً كَهُبُوبِ الرِّيحِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ (وَكُلُّ دَيْنٍ حَالٍّ إذَا أَجَّلَهُ صَاحِبُهُ صَارَ مُؤَجَّلًا)؛ لِمَا ذَكَرْنَا (إلَّا الْقَرْضَ) فَإِنَّ تَأْجِيلَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إعَارَةٌ وَصِلَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى يَصِحَّ بِلَفْظَةِ الْإِعَارَةِ، وَلَا يَمْلِكُهُ مِنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ كَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ وَمُعَاوَضَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِيهِ كَمَا فِي الْإِعَارَةِ، إذْ لَا جَبْرَ فِي التَّبَرُّعِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فُلَانًا إلَى سَنَةٍ حَيْثُ يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ مِنْ ثُلُثِهِ أَنْ يُقْرِضُوهُ وَلَا يُطَالِبُوهُ قَبْلَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالتَّبَرُّعِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى فَيَلْزَمُ حَقًّا لِلْمُوصِي، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ) ثُمَّ أَجَّلَهُ أَجَلٌ مَعْلُومٌ إذَا بَاعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صَحَّ وَصَارَ مُؤَجَّلًا.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَلْحَقُ الْأَجَلُ بِالْعَقْدِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فَلَا يَتَأَجَّلُ كَالْقَرْضِ.
وَلَنَا أَنَّ الثَّمَنَ حَقُّهُ فَجَازَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالتَّأْجِيلِ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ إثْبَاتُ بَرَاءَةٍ مُؤَقَّتَةٍ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْبَرَاءَةَ الْمُطْلَقَةَ بِالْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الْبَرَاءَةَ الْمُؤَقَّتَةَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْجَهَالَةُ فَاحِشَةً أَوْ يَسِيرَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَمَا إذَا أَجَّلَهُ إلَى هُبُوبِ الرِّيحِ وَنُزُولِ الْمَطَرِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ جَازَ كَالْكَفَالَةِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَصَحَّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي أَوَاخِرِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ قَالَ (وَكُلُّ دَيْنٍ حَالٍّ إذَا أَجَّلَهُ صَاحِبُهُ صَارَ مُؤَجَّلًا) كُلُّ دَيْنٍ حَالٍّ بِتَأْجِيلِ صَاحِبِهِ يَصِيرُ مُؤَجَّلًا (لِمَا ذَكَرْنَا) أَنَّهُ حَقُّهُ، لَكِنَّ الْقَرْضَ لَا يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْقَرْضَ فِي الِابْتِدَاءِ صِلَةٌ وَإِعَارَةٌ فَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ (وَلَا يَمْلِكُهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ كَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ، وَمُعَاوَضَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْقَرْضِ رَدُّ الْمِثْلِ لَا رَدُّ الْعَيْنِ (فَعَلَى اعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ لَا يَصِحُّ) أَيْ لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِيهِ (كَمَا فِي الْإِعَارَةِ إذْ لَا جَبْرَ وَعَلَى اعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا) وَهَذَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْقَرْضِ لَكِنْ نَدَبَ الشَّرْعُ إلَيْهِ، وَأَجْمَعَ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِهِ فَاعْتَمَدْنَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَقُلْنَا بِجَوَازِهِ بِلَا لُزُومٍ (وَنُوقِضَ بِمَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فُلَانًا إلَى سَنَةٍ) فَإِنَّهُ قَرْضٌ مُؤَجَّلٌ وَأَجَلُهُ لَازِمٌ (حَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ ثُلُثِهِ أَنْ يُقْرِضُوهُ وَلَا يُطَالِبُوهُ) إلَى سَنَةٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّبَرُّعِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى فِي كَوْنِهِمَا وَصِيَّةً بِالتَّبَرُّعِ بِالْمَنَافِعِ وَيَلْزَمُ فِي الْوَصِيَّةِ مَا لَا يَلْزَمُ فِي غَيْرِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ لِفُلَانٍ صَحَّ وَلَزِمَ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً وَقْتَ الْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِي الْقَرْضِ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِلْوَرَثَةِ مُطَالَبَةُ الْمُوصَى لَهُ بِالِاسْتِرْدَادِ قَبْلَ السَّنَةِ حَقًّا لِلْمُوصِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (حَدِيثٌ شَرِيفٌ)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ