فصل: (بَابُ الرِّبَا):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ الرِّبَا):

قَالَ الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فَالْعِلَّةُ عِنْدَنَا الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ وَالْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَيُقَالُ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ وَهُوَ أَشْمَلُ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا» وَعَدَّ الْأَشْيَاءَ السِّتَّةَ: الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ وَالتَّمْرَ وَالْمِلْحَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ.
وَيُرْوَى بِرِوَايَتَيْنِ بِالرَّفْعِ مِثْلٌ وَبِالنَّصْبِ مِثْلًا.
وَمَعْنَى الْأَوَّلِ بَيْعُ التَّمْرِ، وَمَعْنَى الثَّانِي بِيعُوا التَّمْرَ، وَالْحُكْمُ مَعْلُومٌ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الطَّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ، وَالْجِنْسِيَّةُ شَرْطٌ، وَالْمُسَاوَاةُ مُخَلِّصٌ.
وَالْأَصْلُ هُوَ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى شَرْطَيْنِ التَّقَابُضِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِالْعِزَّةِ وَالْخَطَرِ كَاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ، فَيُعَلَّلُ بِعِلَّةٍ تُنَاسِبُ إظْهَارَ الْخَطَرِ وَالْعِزَّةِ وَهُوَ الطَّعْمُ لِبَقَاءِ الْإِنْسَانِ بِهِ وَالثَّمَنِيَّةُ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْمَصَالِحِ بِهَا، وَلَا أَثَرَ لِلْجِنْسِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَجَعَلْنَاهُ شَرْطًا وَالْحُكْمُ قَدْ يَدُورُ مَعَ الشَّرْطِ.
وَلَنَا أَنَّهُ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِسَوْقِهِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْبَيْعِ، إذْ هُوَ يُنْبِئُ عَنْ التَّقَابُلِ وَذَلِكَ بِالتَّمَاثُلِ، أَوْ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى، أَوْ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ بِاتِّصَالِ التَّسْلِيمِ بِهِ، ثُمَّ يَلْزَمُ عِنْدَ فَوْتِهِ حُرْمَةُ الرِّبَا وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَالْمِعْيَارُ يَسْوَى الذَّاتَ، وَالْجِنْسِيَّةُ تَسْوَى الْمَعْنَى فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الْفَضْلُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْخَالِي عَنْ عِوَضِ شَرْطٍ فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عُرْفًا، أَوْ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ، أَوْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَالطَّعْمُ وَالثَّمَنِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، وَالسَّبِيلُ فِي مِثْلِهَا الْإِطْلَاقُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ لِشِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا دُونَ التَّضْيِيقِ فِيهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا ذَكَرَهُ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الرِّبَا.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَبْوَابِ الْبُيُوعِ الَّتِي أَمَرَ الشَّارِعُ بِمُبَاشَرَتِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ بُيُوعٍ نَهَى الشَّارِعُ عَنْ مُبَاشَرَتِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} فَإِنَّ النَّهْيَ يَعْقُبُ الْأَمْرَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ بَيَانُ الْحَلَالِ الَّذِي هُوَ بَيْعٌ شَرْعًا وَالْحَرَامُ الَّذِي هُوَ الرِّبَا، وَلِهَذَا لَمَّا قِيلَ لِمُحَمَّدٍ أَلَا تُصَنِّفُ شَيْئًا فِي الزُّهْدِ؟ قَالَ قَدْ صَنَّفْت كِتَابَ الْبُيُوعِ، وَمُرَادُهُ بَيَّنْت فِيهِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ، وَلَيْسَ الزُّهْدُ إلَّا الِاجْتِنَابَ مِنْ الْحَرَامِ وَالرَّغْبَةَ فِي الْحَلَالِ.
وَالرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ، مِنْ رَبَا الْمَالُ: أَيْ زَادَ، وَيُنْسَبُ فَيُقَالُ رِبَوِيٌّ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَمِنْهُ الْأَشْيَاءُ الرِّبَوِيَّةُ، وَفَتْحُ الرَّاءِ خَطَأٌ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ.
قَالَ (الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ) أَيْ حُكْمُ الرِّبَا وَهُوَ حُرْمَةُ الْفَضْلِ وَالنَّسِيئَةِ جَارٍ فِي كُلِّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إذَا بِيعَ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مِنْ جِنْسِهِ (فَالْعِلَّةُ) أَيْ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ هُوَ (الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ أَوْ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيُقَالُ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ وَهُوَ أَشْمَلُ) لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُمَا وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ يَتَنَاوَلُ الْآخَرَ.
(وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ) الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ (وَهُوَ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» وَعَدَّ الْأَشْيَاءَ السِّتَّةَ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ وَالتَّمْرَ وَالْمِلْحَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ) وَمَدَارُهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَرُوِيَ بِرِوَايَتَيْنِ بِالرَّفْعِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ, وَبِالنَّصْبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَمَعْنَى الْأَوَّلِ بَيْعُ الْحِنْطَةِ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ وَأُعْرِبَ بِإِعْرَابِهِ وَمِثْلٌ خَبَرُهُ، وَمَعْنَى الثَّانِي بِيعُوا التَّمْرَ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمُمَاثَلَةِ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ كَيْلًا بِكَيْلٍ وَكَذَلِكَ فِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا بِوَزْنٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَا مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحِنْطَةِ، فَإِنَّ بَيْعَ حَبَّةٍ مِنْ حِنْطَةٍ بِحَبَّةٍ مِنْهَا لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّقَوُّمِ مَعَ صِدْقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ»، وَكَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
فَإِنْ قِيلَ: تَقْدِيرُ بِيعُوا يُوجِبُ الْبَيْعَ وَهُوَ مُبَاحٌ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ مَصْرُوفٌ إلَى الصِّفَةِ كَقَوْلِك مُتْ وَأَنْتَ شَهِيدٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ بِالْكَوْنِ عَلَى صِفَةِ الشُّهَدَاءِ إذَا مَاتَ، وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ الْأَمْرُ بِكَوْنِ الْبَيْعِ عَلَى صِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ (قَوْلُهُ: يَدٌ بِيَدٍ) الْمُرَادُ بِهِ عِنْدَنَا عَيْنٌ بِعَيْنٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَبْضٌ بِقَبْضٍ (قَوْلُهُ: وَالْفَضْلُ رِبًا) الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ فَضْلُ ذَاتِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ حَرَامٌ (وَالْحُكْمُ مَعْلُولٌ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ دَاوُد مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ إنَّ الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَالنَّصُّ غَيْرُ مَعْلُولٍ (لَكِنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَا) مِنْ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الطَّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ وَالْجِنْسِيَّةُ شَرْطٌ) لِعَمَلِ الْعِلَّةِ عَمَلَهَا حَتَّى لَا تَعْمَلَ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ عِنْدَهُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَهَا أَثَرٌ فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ، فَلَوْ أَسْلَمَ هَرَوِيًّا فِي هَرَوِيٍّ جَازَ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَمْ يَجُزْ لِوُجُودِ أَحَدِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ، وَسَيَأْتِي (وَالْمُسَاوَاةُ مُخَلِّصٌ) يُتَخَلَّصُ بِهَا عَنْ الْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ: أَيْ الشَّارِعَ نَصَّ عَلَى شَرْطَيْنِ التَّقَابُضِ وَالْمُمَاثَلَةِ لِأَنَّهُ قَالَ «يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ» مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ، هَذَا فِي رِوَايَةِ النَّصْبِ، وَفِي رِوَايَةِ الرَّفْعِ يُقَالُ مَعْنَاهُ عَلَى النَّصْبِ إلَّا أَنَّهُ عَدَلَ إلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثُّبُوتِ.
(وَكُلُّ ذَلِكَ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الشَّرْطَيْنِ (يُشْعِرُ بِالْعِزَّةِ وَالْخَطَرِ كَالشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ) فَإِذَا كَانَ عَزِيزًا خَطِيرًا (يُعَلَّلُ بِعِلَّةٍ تُنَاسِبُ إظْهَارَ الْخَطَرِ وَالْعِزَّةِ وَهُوَ الطَّعْمُ) فِي الْمَطْعُومَاتِ (لِبَقَاءِ الْإِنْسَانِ بِهِ، وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْمَصَالِحِ بِهَا وَلَا أَثَرَ لِلْجِنْسِيَّةِ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي إظْهَارِ الْخَطَرِ وَالْعِزَّةِ (فَجَعَلْنَاهُ شَرْطًا) وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّأْثِيرِ، وَلِلطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ أَثَرٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَيْسَ لِلْجِنْسِيَّةِ أَثَرٌ، لَكِنَّ الْعِلَّةَ لَا تَكْمُلُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِ فَكَانَ شَرْطًا لِأَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدَهُ وَلَا وُجُوبًا بِهِ (وَلَنَا أَنَّ الْحَدِيثَ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ) بِقَوْلِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ حَالٌ بِمَعْنَى مُمَاثِلًا، وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ (وَ) وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ (هُوَ الْمَقْصُودُ بِسَوْقِ الْحَدِيثِ) لِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ (لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّقَابُلِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ لِكَوْنِهِ مُبَادَلَةً وَالتَّقَابُلُ يَحْصُلُ بِالتَّمَاثُلِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَنْقَصَ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يَحْصُلْ التَّقَابُلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (أَوْ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى) لِأَنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ إذَا كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْآخَرِ كَانَ التَّبَادُلُ مُضَيِّعًا لِفَضْلِ مَا فِيهِ الْفَضْلُ (أَوْ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ بِاتِّصَالِ التَّسْلِيمِ بِهِ) أَيْ بِالْمُمَاثِلِ: يَعْنِي أَنَّ فِي النَّقْدَيْنِ لِكَوْنِهِمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ شُرِطَتْ الْمُمَاثَلَةُ قَبْضًا بَعْدَ مُمَاثَلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ لِتَتْمِيمِ فَائِدَةِ الْعَقْدِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْمَقْصُودِ، إذْ الْمَقْصُودُ بَيَانُ وُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ قَدْرًا لَا بَيَانُ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْقَبْضُ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ مُمَاثِلًا لِلْآخَرِ لَمْ تَتِمَّ الْفَائِدَةُ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَنْقَصَ يَكُونُ نَفْعًا فِي حَقِّ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَضَرَرًا فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَإِذَا كَانَ مِثْلًا لِلْآخَرِ يَكُونُ نَفْعًا فِي حَقِّهِمَا فَتَكُونُ الْفَائِدَةُ أَتَمَّ بَعْدَ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ نَفْعًا فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ لِاشْتِرَاطِ التَّمَاثُلِ مِمَّا يَجِبُ تَحَقُّقُهُ فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ التَّقَابُلِ وَصِيَانَةٍ لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى وَتَتْمِيمُ الْفَائِدَةِ مِمَّا يَجِبُ فَيَجِبُ التَّمَاثُلُ فِي الْجَمِيعِ لِئَلَّا تَتَخَلَّفَ الْعِلَّةُ عَنْ الْمَعْلُولِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مُوجِبَهَا فِي الرِّبَا هُوَ النَّصُّ، وَالْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ حِكْمَتُهُ لَا عِلَّتُهُ لِيُتَصَوَّرَ التَّخَلُّفُ، وَإِذَا ثَبَتَ اشْتِرَاطُ الْمُمَاثَلَةِ لَزِمَ عِنْدَ فَوَاتِهِ حُرْمَةُ الرِّبَا لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا تَلْزَمُ حُرْمَةُ الرِّبَا عِنْدَ فَوَاتِ شَرْطِ الْحِلِّ إنْ لَمْ تُوجَدْ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرْمَةِ مَا هُوَ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْكَرَاهَةِ، فَعِنْدَ انْتِفَاءِ الْحِلِّ يَثْبُتُ الْحَرَامُ لِغَيْرِهِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ (قَوْلُهُ: وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ) بَيَانُ عِلِّيَّةِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ (بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى) وَهُوَ وَاضِحٌ (وَالْمِعْيَارِ يَسْوَى الذَّاتَ) أَيْ الصُّورَةَ (وَالْجِنْسِيَّةُ تَسْوَى الْمَعْنَى) فَإِنَّ كَيْلًا مِنْ بُرٍّ يُسَاوِي كَيْلًا مِنْ دُرٍّ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ وَالصُّورَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ قَفِيزُ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ شَعِيرٍ يَتَسَاوَيَانِ صُورَةً لَا مَعْنَى.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ، وَعَلَّلْتُمُوهَا بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ فَكَانَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِإِثْبَاتِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّعْلِيلَ لِلشَّرْطِ لَا يَجُوزُ لِإِثْبَاتِهِ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا بِطَرِيقِ التَّعَدِّيَةِ مِنْ أَصْلٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبِ الْمِيزَانِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ شَرْطًا فَأَثْبَتْنَاهُ فِي غَيْرِهَا تَعَدِّيَةً فَكَانَ جَائِزًا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ شَرْطًا وَهِيَ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ (يَظْهَرُ الْفَضْلُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الْفَضْلُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْخَالِي عَنْ عِوَضٍ شُرِطَ فِيهِ) أَيْ فِي الْعَقْدِ قَالَ (وَلَا يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ كَمَا تَكُونُ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ تَكُونُ بِالْوَصْفِ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: وَلَا يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عُرْفًا، فَإِنْ اسْتَوَتْ الذَّاتَانِ صُورَةً وَمَعْنًى تَسَاوَيَا فِي الْمَالِيَّةِ، وَالْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ فِي الْمَكِيلَاتِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ إلَّا مِنْ بَابِ الْيَسِيرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَفَاضَلَا فِي الْقِيمَةِ فِي الْعُرْفِ (أَوْ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ) لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَا تَكُونُ مِثْلًا لِلْحِنْطَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْمُرَادُ الْبِيَاعَاتُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ لَا مُطْلَقُ الْبِيَاعَاتِ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ لَيْسَ سَدَّ بَابِ مُطْلَقِ الْبِيَاعَاتِ أَوْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» قَالَ (وَالطَّعْمُ وَالثَّمَنِيَّةُ) جَوَابٌ عَنْ جَعْلِهِ الطَّعْمَ وَالثَّمَنِيَّةَ عِلَّةً لِلْحُرْمَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ خِلَافَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ كَانَ السَّبِيلُ فِيهِ الْإِطْلَاقَ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ دُونَ التَّضْيِيقِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَاجَةَ إذَا اشْتَدَّتْ أَثَّرَتْ فِي إبَاحَةِ الْحَرَامِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ فَكَيْفَ تُؤَثِّرُ حُرْمَةُ الْمُبَاحِ، بَلْ سُنَّةُ اللَّهِ جَرَتْ فِي التَّوْسِيعِ فِيمَا كَثُرَ إلَيْهِ الِاحْتِيَاجُ كَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ جَوَازُ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْمُسَاوَاةِ وَالْفَسَادِ لِوُجُودِ الْمُفْسِدِ، فَلَا تَكُونُ الْمُسَاوَاةُ مُخَلِّصًا عَنْ الْحُرْمَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ إذًا: بَيْعُ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ جَازَ الْبَيْعُ فِيهِ لِوُجُوبِ شَرْطِ الْجَوَازِ، وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَا يُرْوَى مَكَانَ قَوْلِهِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ كَيْلًا بِكَيْلٍ، وَفِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ (وَإِنْ تَفَاضَلَا لَمْ يَجُزْ) لِتَحَقُّقِ الرِّبَا وَلَا يَجُوزُ (بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) لِإِهْدَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْوَصْفِ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَالتُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ) لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بِالْمِعْيَارِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَضْلُ، وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعِلَّةُ هِيَ الطَّعْمُ وَلَا مُخَلِّصَ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فَيَحْرُمُ، وَمَا دُونَ نِصْفِ الصَّاعِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَفْنَةِ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي الشَّرْعِ بِمَا دُونَهُ، وَلَوْ تَبَايَعَا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا غَيْرَ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْجِصِّ وَالْحَدِيدِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ.
وَعِنْدَهُ يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْرِيرِ الْأَصْلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ نَقُولُ: إذَا بِيعَ الْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ بِجِنْسِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ) أَيْ كَيْلًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنًا بِوَزْنٍ (جَازَ الْبَيْعُ) لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ الْمَعْهُودَةُ فِي الْعُقُودِ مَعَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ كَمَا وَرَدَ فِي الْمَرْوِيِّ، وَإِنْ تَفَاضَلَا لَمْ يَجُزْ لِتَحَقُّقِ الرِّبَا بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ، وَالْجَوْدَةُ سَاقِطَةٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ إلَّا مُتَمَاثِلًا.
قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ) أَيْ أَيْ وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ جَوَازُ بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَالتُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ؛؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ بِتَحَقُّقِ الْفَضْلِ وَتَحَقُّقُ الْفَضْلِ يَظْهَرُ بِعَدَمِ وُجُودِ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُسَاوَاةُ بِالْكَيْلِ، وَلَا كَيْلَ فِي الْحَفْنَةِ وَالْحَفْنَتَيْنِ فَتَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ فَيَنْتَفِي تَحَقُّقُ الْفَضْلِ، وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْحَفْنَةَ وَالْحَفْنَتَيْنِ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَلِهَذَا (كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ) لَا مِثْلِهَا، فَلَوْ بَقِيَتْ مَكِيلَةً أَوْ مَوْزُونَةً لَوَجَبَ مِثْلُهَا فَإِنَّ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ كُلَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ دُونَ الْقِيَمِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ وَهُوَ الطَّعْمُ وَقَدْ وُجِدَتْ وَالْمُخَلِّصُ الْمُسَاوَاةُ وَلَمْ تُوجَدْ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ حَفْنَةٍ بِحَفْنَةٍ وَتُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَةٍ لِوُجُودِ الطَّعْمِ وَعَدَمِ الْمُسَوِّي، وَمَا دُونَ نِصْفِ صَاعٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَفْنَةِ؛ فَلَوْ بَاعَ خَمْسَ حَفَنَاتٍ مِنْ الْحِنْطَةِ بِسِتِّ حَفَنَاتٍ مِنْهَا وَهُمَا لَمْ يَبْلُغَا حَدَّ نِصْفِ الصَّاعِ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي الشَّرْعِ بِمَا دُونَهُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ بَلَغَ حَدَّ نِصْفِ الصَّاعِ وَالْآخَرُ لَمْ يَبْلُغْهُ فَلَا يَجُوزُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا (إذَا تَبَايَعَا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا غَيْرَ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْجِصِّ وَالْحَدِيدِ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ. قَالَ (وَإِذَا عُدِمَ الْوَصْفَانِ الْجِنْسُ وَالْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَيْهِ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ) لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ.
وَإِذَا وُجِدَا.
حَرُمَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ.
وَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا وَعُدِمَ الْآخَرُ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ مِثْلَ أَنْ يُسَلِّمَ هَرَوِيًّا فِي هَرَوِيٍّ أَوْ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ، فَحُرْمَةُ رِبَا الْفَضْلِ بِالْوَصْفَيْنِ وَحُرْمَةُ النَّسَاءِ بِأَحَدِهِمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يُحَرِّمُ النَّسَاءَ لِأَنَّ بِالنَّقْدِيَّةِ وَعَدَمِهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا شُبْهَةُ الْفَضْلِ، وَحَقِيقَةُ الْفَضْلِ غَيْرُ مَانِعٍ فِيهِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ فَالشُّبْهَةُ أَوْلَى.
وَلَنَا أَنَّهُ مَالُ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى الْقَدْرِ أَوْ الْجِنْسِ وَالنَّقْدِيَّةُ أَوْجَبَتْ فَضْلًا فِي الْمَالِيَّةِ فَتَتَحَقَّقَ شُبْهَةُ الرِّبَا وَهِيَ مَانِعَةٌ كَالْحَقِيقَةِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ النُّقُودَ فِي الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ يَجُوزُ، وَإِنْ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَّفِقَانِ فِي صِفَةِ الْوَزْن، فَإِنَّ الزَّعْفَرَانَ يُوزَنُ بِالْأَمْنَاءِ وَهُوَ مُثَمَّنٌ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالنُّقُودُ تُوزَنُ بِالسَّنَجَاتِ وَهُوَ ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
وَلَوْ بَاعَ بِالنُّقُودِ مُوَازَنَةً وَقَبَضَهَا صَحَّ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْوَزْنِ، وَفِي الزَّعْفَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِيهِ صُورَةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا لَمْ يَجْمَعْهُمَا الْقَدْرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَنْزِلُ الشُّبْهَةُ فِيهِ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (فَإِذَا عَدِمَ الْوَصْفَانِ) إذَا ثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ شَيْئَانِ، فَإِمَّا أَنْ يُوجَدَا أَوْ يَعْدَمَا أَوْ يُوجَدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَالْأَوَّلُ مَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي يَظْهَرُ عِنْدَهُ حِلُّ التَّفَاضُلِ وَالنَّسَاءِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ، وَتَحْقِيقُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ) يَعْنِي إذَا كَانَتْ أَصْلًا وَقَدْ تُرِكَتْ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْقَدْرُ، وَالْجِنْسُ يَظْهَرُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا لَا أَنَّ الْعَدَمَ يُثْبِتُ شَيْئًا، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا وَعَدِمَ الْآخَرُ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ (مِثْلَ أَنْ يُسْلِمَ هَرَوِيًّا فِي هَرَوِيٍّ أَوْ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ، فَحُرْمَةُ الْفَضْلِ بِالْوَصْفَيْنِ وَحُرْمَةُ النَّسَاءِ بِأَحَدِهِمَا) حَتَّى لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِعَبْدٍ إلَى أَجَلٍ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ وَعِنْدَهُ يَجُوزُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يُحَرِّمُ النَّسَاءَ؛ لِأَنَّ بِالنَّقْدِيَّةِ وَعَدَمِهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا شُبْهَةُ الْفَضْلِ) بِالِاتِّفَاقِ (وَحَقِيقَةُ الْفَضْلِ غَيْرُ مَانِعٍ) مِنْ الْجَوَازِ فِي الْجِنْسِ حَتَّى جَازَ بَيْعُ الْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيَّيْنِ وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدَيْنِ (فَالشُّبْهَةُ أَوْلَى) قِيلَ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ الْجِنْسِ بِالذِّكْرِ فِي عَدَمِ تَحْرِيمِ النَّسَاءِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّ الْقَدْرَ عِنْدَهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إسْلَامُ الْمَوْزُونَاتِ فِي الْمَوْزُونَاتِ كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ حُرْمَةُ النَّسَاءِ إنَّمَا لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ فِي صُورَةِ الْجِنْسِ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ يُوجَدُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ نَسِيئَةً وَكَذَا بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَإِنْ كَانَ عِلَّةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ غَيْرَ الْقَدْرِ وَهُوَ أَنَّ التَّقَابُضَ شَرْطٌ فِي الصَّرْفِ وَبَيْعِ الطَّعَامِ عِنْدَهُ.
وَلَنَا مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّهُ مَالُ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ وَتَحْقِيقُهُ مَا ثَبَتَ أَنَّ فِي بَابِ الرِّبَا حَقِيقَةً وَشُبْهَةً لَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ، وَالشُّبْهَةُ إذَا انْفَرَدَتْ عَنْ الْحَقِيقَةِ تَحْتَاجُ إلَى مَحَلٍّ وَعِلَّةٍ كَالْحَقِيقَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهَا وَعِلَّتُهَا مَحَلَّ الْحَقِيقَةِ وَعِلَّتِهَا، وَإِلَّا لَكَانَتْ حَقِيقَةً أَوْ مُقَارِنَةً لَهَا وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ شُبْهَةِ مَحَلٍّ وَشُبْهَةِ عِلَّةٍ، وَمَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا النَّسِيئَةُ مَالُ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْقَدْرَ يَجْمَعُهُمَا كَمَا فِي الْحِنْطَةِ مَعَ الشَّعِيرِ أَوْ الْجِنْسِ كَالْهَرَوِيِّ مَعَ الْهَرَوِيِّ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَقْدًا وَالْآخَرُ نَسِيئَةً وَكُلُّ عِلَّةٍ ذَاتُ وَصْفَيْنِ مُؤَثِّرَيْنِ لَا يَتِمُّ نِصَابُ الْعِلَّةِ إلَّا بِهِمَا فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا شُبْهَةُ الْعِلِّيَّةِ وَشُبْهَةُ الْعِلَّةِ تَثْبُتُ بِهَا شُبْهَةُ الْحُكْمِ وَالنَّقْدِيَّةُ أَوْجَبَتْ فَضْلًا فِي الْمَالِيَّةِ، فَتَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الرِّبَا فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ بِعِلَّةٍ صَالِحَةٍ لَهَا وَشُبْهَةُ الرِّبَا مَانِعَةٌ كَالْحَقِيقَةِ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قِيلَ إنَّ كَوْنَهُ مِنْ مَالِ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ شُبْهَةٌ وَكَوْنُ النَّقْدِيَّةِ أَوْجَبَتْ فَضْلًا شُبْهَةٌ فَصَارَ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا.
وَالثَّانِي أَنَّ كَوْنَ شُبْهَةِ الرِّبَا كَالْحَقِيقَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهَا كَانَتْ جَائِزَةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الشُّبْهَةُ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأُولَى أَنَّ الشُّبْهَةَ الْأُولَى فِي الْمَحَلِّ وَالثَّانِيَةَ فِي الْحُكْمِ.
وَثَمَّةَ شُبْهَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الَّتِي فِي الْعِلَّةِ وَشُبْهَةُ الْعِلَّةِ وَالْمَحَلِّ تَثْبُتُ بِهَا شُبْهَةُ الْحُكْمِ لَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ.
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْقِسْمَةَ غَيْرُ حَاصِرَةٍ بَلْ الشُّبْهَةُ مَانِعَةٌ فِي مَحَلِّ الشُّبْهَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، كَمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مَانِعَةٌ فِي مَحَلِّهَا إذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ بِكَمَالِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَسْتَدِلَّ لِلْجَانِبَيْنِ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ الشَّارِحِينَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَّزَ جَيْشًا فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إلَى أَجَلٍ» لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً» لَنَا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ جَهَالَةَ التَّارِيخِ وَتَطَرُّقَ الِاحْتِمَالَاتِ لِلتَّأْوِيلِ مَنَعَاهُ عَنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى حُرْمَةِ النَّسَاءِ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ أَوْلَى مِنْ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَصْمَ إنْ سَلَّمَ الْإِجْمَاعَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ إنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى النَّسَاءِ فِي كَمَالِ الْعِلَّةِ لَا فِي شُبْهَتِهَا.
وَقَوْلُهُ: (إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا وَعَدِمَ الْآخَرُ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ إسْلَامِ النُّقُودِ فِي الزَّعْفَرَانِ لِوُجُودِ الْوَزْنِ كَإِسْلَامِ الْحَدِيدِ فِي الصُّفْرِ فَاسْتُثْنِيَ الزَّعْفَرَانُ وَنَحْوُهُ كَالْقُطْنِ وَالْحَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ لَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي صِفَةِ الْوَزْنِ وَمَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الزَّعْفَرَانَ يُوزَنُ بِالْأَمْنَاءِ وَالنُّقُودُ بِالصَّنَجَاتِ وَهِيَ مُعَرَّبَةُ سنك تَرَزُونِ.
وَنُقِلَ عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّ السِّينَ أَفْصَحُ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ السِّكِّيتِ الصَّنَجَاتُ وَلَا يُقَالُ بِالسِّينِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الزَّعْفَرَانَ مُثَمَّنٌ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالنُّقُودَ ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ بِالنُّقُودِ مُوَازَنَةً بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت هَذَا الزَّعْفَرَانَ بِهَذَا النَّقْدِ الْمُشَارِ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مَثَلًا فَقَبَضَهُ الْبَائِعُ صَحَّ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْوَزْنِ.
وَلَوْ بَاعَ الزَّعْفَرَانَ بِشَرْطِ أَنَّهُ مَنَوَانِ مَثَلًا وَقَبِلَهُ الْمُشْتَرِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ حَتَّى يُعِيدَ الْوَزْنَ (وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْوَزْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا لَمْ يَجْمَعْهُمَا الْقَدْرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَنْزِلُ الشُّبْهَةُ فِيهِ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ) فَإِنَّ الْمَوْزُونَيْنِ إذَا اتَّفَقَا فَالْمَنْعُ لِلشُّبْهَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا كَانَ ذَلِكَ لِشُبْهَةِ الْوَزْنِ وَالْوَزْنُ وَحْدَهُ شُبْهَةٌ فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ (وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ) لَا يُقَالُ: لَمْ يَخْرُجَا بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِمَا مَوْزُونَيْنِ فَقَدْ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ؛ لِأَنَّ انْطِلَاقَ الْوَزْنِ عَلَيْهِمَا حِينَئِذٍ لِلِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَيْسَ إلَّا، وَهُوَ لَا يُفِيدُ الِاتِّحَادَ بَيْنَهُمَا فَصَارَ كَأَنَّ الْوَزْنَ لَمْ يَجْمَعْهُمَا حَقِيقَةً.
وَفِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَسَامُحٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِذَا اخْتَلَفَا صُورَةً وَلَمْ يَخْتَلِفَا صُورَةً، وَلِهَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: بَلْ نَقُولُ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْوَزْنِ صُورَةً لَا مَعْنًى وَحُكْمًا، إلَّا إذَا حُمِلَ قَوْلُهُ: صُورَةً عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ صِفَةً كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ التَّعْلِيلِ فِي صِفَةِ الْوَزْنِ فَذَاكَ اعْتِبَارٌ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ فِي وَجْهِ ذَلِكَ: إنَّمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ فِي السَّلَمِ وَالْأَصْلُ فِي رَأْسِ الْمَالِ هُوَ النُّقُودُ، فَلَوْ لَمْ يُجَوَّزْ لِوُجُودِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لَا نَسُدُّ بَابَ السَّلَمِ فِي الْمَوْزُونَاتِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ، فَأَثَّرَ شَرْعُ الرُّخْصَةِ فِي التَّجْوِيزِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ الْفَرْقِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَلَكِنَّ هَذَا كَلَامُ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ. قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ كَيْلًا فَهُوَ مَكِيلٌ أَبَدًا، وَإِنَّ تَرَكَ النَّاسُ الْكَيْلَ فِيهِ مِثْلَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ وَكُلُّ مَا نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ وَزْنًا فَهُوَ مَوْزُونٌ أَبَدًا، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الْوَزْنَ فِيهِ مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ الْعُرْفِ وَالْأَقْوَى لَا يُتْرَكُ بِالْأَدْنَى (وَمَا لَمْ يَنُصُّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ) لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ عَلَى خِلَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ لِمَكَانِ الْعَادَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمَنْظُورُ إلَيْهَا وَقَدْ تَبَدَّلَتْ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ بِجِنْسِهَا مُتَسَاوِيًا وَزْنًا، أَوْ الذَّهَبَ بِجِنْسِهِ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ تَعَارَفُوا ذَلِكَ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ عَلَى مَا هُوَ الْمِعْيَارُ فِيهِ، كَمَا إذَا بَاعَ مُجَازَفَةً إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِي الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا وَزْنًا لِوُجُودِ الْإِسْلَامِ فِي مَعْلُومٍ.
قَالَ (وَكُلُّ مَا يُنْسَبُ إلَى الرَّطْلِ فَهُوَ وَزْنِيٌّ) مَعْنَاهُ مَا يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ لِأَنَّهَا قُدِّرَتْ بِطَرِيقِ الْوَزْنِ حَتَّى يُحْتَسَبَ مَا يُبَاعُ بِهَا وَزْنًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكَايِيلِ، وَإِذَا كَانَ مَوْزُونًا فَلَوْ بِيعَ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ وَزْنُهُ بِمِكْيَالٍ مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ فِي الْوَزْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَازَفَةِ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ وَكُلُّ شَيْءٍ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ كَيْلًا) كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ فَهُوَ مَكِيلٌ أَبَدًا وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الْكَيْلَ فِيهِ وَكُلُّ مَا نَصَّ عَلَى التَّحْرِيمِ فِيهِ وَزْنًا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (فَهُوَ مَوْزُونٌ أَبَدًا)؛ لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ الْعُرْفِ لِكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى مَنْ تَعَارَفَ وَعَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَارَفْ، وَالْعُرْفُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَّا عَلَى مَنْ تَعَارَفَ بِهِ، وَالْأَقْوَى لَا يُتْرَكُ بِالْأَدْنَى (وَمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا) أَيْ عَادَاتِ النَّاسِ (دَلَالَةٌ) عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ فِيمَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ عَلَى خِلَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ عَلَى الْكَيْلِ فِي الْمَكِيلِ وَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إنَّمَا كَانَ لِلْعَادَةِ فِيهِ، فَكَانَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ هُوَ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَدْ تَبَدَّلَتْ فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ عَلَى وِفَاقِ ذَلِكَ (وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ بَاعَ حِنْطَةً بِجِنْسِهَا مُتَسَاوِيًا وَزْنًا أَوْ ذَهَبًا بِجِنْسِهِ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا) جَازَ عِنْدَهُ إذَا تَعَارَفُوا ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ تَعَارَفُوهُ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ عَلَى مَا هُوَ الْمِعْيَارُ فِيهِ كَمَا إذَا بَاعَ مُجَازَفَةً، لَكِنْ يَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِي الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا وَزْنًا عَلَى مَا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ لِوُجُودِ الْإِسْلَامِ فِي مَعْلُومٍ، فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ لَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ فِيهِ، إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْإِعْلَامُ عَلَى وَجْهٍ يَنْفِي الْمُنَازَعَةَ فِي التَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ كَمَا يَحْصُلُ بِالْكَيْلِ يَحْصُلُ بِذِكْرِ الْوَزْنِ، وَذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَكَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ لِمَكَانِ الْعَادَةِ وَكَانَتْ هِيَ الْمَنْظُورَ إلَيْهَا وَقَدْ تَبَدَّلَتْ) أَقُولُ: اسْتِقْرَاضُ الدَّرَاهِمِ عَدَدًا وَبَيْعُ الدَّقِيقِ وَزْنًا عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي زَمَانِنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
قَالَ (وَكُلُّ مَا يُنْسَبُ إلَى الرِّطْلِ فَهُوَ وَزْنِيٌّ) الرِّطْلُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ نِصْفٌ مَنٍّ، وَالْأَوَاقِي جَمْعُ أُوقِيَّةٍ كَأُثْفِيَّةٍ وَإِثَافٍ.
قِيلَ هِيَ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ: وَذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَكُلُّ مَا يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ فَهُوَ وَزْنِيٌّ؛ لِأَنَّهَا قُدِّرَتْ بِطَرِيقِ الْوَزْنِ، إذْ تَعْدِيلُهَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَزْنِ وَلِهَذَا يُحْتَسَبُ مَا يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ وَزْنًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكَايِيلِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهَا قُدِّرَتْ: يَعْنِي أَنَّ سَائِرَ الْمَكَايِيلِ لَوْ تُقَدَّرُ بِالْوَزْنِ فَلَا يَكُونُ لِلْوَزْنِ فِيهِ اعْتِبَارٌ، وَعَلَى هَذَا إذَا بِيعَ الْمَوْزُونُ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ وَزْنُهُ بِمِكْيَالٍ مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ فِي الْوَزْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَازَفَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا جَازَ.
وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ وَزْنُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا عُرِفَ وَزْنُهُ جَازَ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ كَيْلُ الرِّطْلِ فَهُوَ مَوْزُونٌ، ثُمَّ قَالَ: يُرِيدُ بِهِ الْأَدْهَانَ وَنَحْوَهَا؛ لِأَنَّ الرِّطْلَ إنَّمَا يُعْدَلُ بِالْوَزْنِ إلَّا أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَزْنُ الدُّهْنِ بِالْأَمْنَاءِ وَالسَّنَجَاتِ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمْسِكُ إلَّا فِي وِعَاءٍ وَفِي وَزْنِ كُلِّ وِعَاءٍ حَرَجٌ، فَاُتُّخِذَ الرِّطْلُ فِي ذَلِكَ تَيْسِيرًا، فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ الرِّطْلِ بَيْعٌ مَوْزُونٌ فَجَازَ بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِهِ، وَالْإِسْلَامُ فِيهِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ. قَالَ (وَعَقْدُ الصَّرْفِ مَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبْضُ عِوَضَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ هَاءَ وَهَاءَ» مَعْنَاهُ يَدًا بِيَدٍ، وَسَنُبَيِّنُ الْفِقْهَ فِي الصَّرْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ (وَمَا سِوَاهُ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّعْيِينُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّقَابُضُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ).
لَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «يَدًا بِيَدٍ» وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ فَيَتَعَاقَبُ الْقَبْضُ وَلِلنَّقْدِ مَزِيَّةٌ فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الرِّبَا.
وَلَنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ مُتَعَيَّنٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ كَالثَّوْبِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ إنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَيَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لِيَتَعَيَّنَ بِهِ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَدًا بِيَدٍ» عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَكَذَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَعَاقُبُ الْقَبْضِ لَا يُعْتَبَرُ تَفَاوُتًا فِي الْمَالِ عُرْفًا، بِخِلَافِ النَّقْدِ وَالْمُؤَجَّلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَعَقْدُ الصَّرْفِ مَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ إلَخْ) عَقْدُ الصَّرْفِ مَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَهِيَ النُّقُودُ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبْضُ عِوَضَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ.
قَوْلُهُ: (يُعْتَبَرُ فِيهِ) خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ عَقْدُ الصَّرْفِ؛ وَمَعْنَى يُعْتَبَرُ يَجِبُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ هَاءَ وَهَاءَ» مَعْنَاهُ يَدًا بِيَدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَهَاءَ مَمْدُودٌ عَلَى وَزْنِ هَاعَ وَمَعْنَاهُ خُذْ: أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ هَاءَ فَيَتَقَابَضَانِ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ يَدًا بِيَدٍ جَرًّا إلَى إفَادَةِ مَعْنَى التَّعْيِينِ كَمَا نُبَيِّنُ (وَمَا سِوَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ) مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ (يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّعْيِينُ دُونَ الْقَبْضِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ) أَيْ فِي كُلِّ مَطْعُومٍ سَوَاءٌ بِيعَ بِجِنْسِهِ كَبَيْعِ كَرِّ حِنْطَةٍ بِكَرِّ حِنْطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ كَكَرِّ حِنْطَةٍ بِشَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ، فَإِنَّهُ إذَا افْتَرَقَا لَا عَنْ قَبْضٍ فَسَدَ الْعَقْدُ عِنْدَهُ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «يَدًا بِيَدٍ» وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَسْتَلْزِمُهَا لِكَوْنِهَا آلَةً لَهُ فَهِيَ كِنَايَةٌ، وَبِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ يَتَعَاقَبُ الْقَبْضُ وَلِلنَّقْدِ مَزِيَّةٌ.
فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الرِّبَا كَالْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ (وَلَنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ مُتَعَيِّنٌ)؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُتَعَيِّنٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا أَيْ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ بِالْعَقْدِ إنَّمَا هِيَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّعْيِينِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبْضِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ الْقَبْضُ فِي الصَّرْفِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الصَّرْفِ، فَإِنَّ الْقَبْضَ فِيهِ يَتَعَيَّنُ بِهِ فَإِنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ.
قَوْلُهُ: (وَمَعْنَى قَوْلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مَعْنَاهُ عَيْنًا بِعَيْنٍ لَمْ يَبْقَ دَلِيلًا لَهُ عَلَى الْقَبْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «عَيْنًا بِعَيْنٍ».
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اشْتِرَاطَ التَّعْيِينِ وَالْقَبْضِ جَمِيعًا الْمَدْلُولَ عَلَيْهِمَا بِالرِّوَايَتَيْنِ مُنْتَفٍ بِالْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ التَّعْيِينُ دُونَ الْقَبْضِ وَأَمَّا عِنْدَهُ فَبِالْعَكْسِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَقَوْلُهُ: (يَدًا بِيَدٍ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ آلَتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنْ يَكُونَ التَّعْيِينَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ وَقَوْلُهُ (: عَيْنًا بِعَيْنٍ) مُحْكَمٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَلَا يُقَالُ لَزِمَكُمْ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّكُمْ جَعَلْتُمْ يَدًا بِيَدٍ بِمَعْنَى الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ وَبِمَعْنَى الْعَيْنِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ جَعَلْنَاهُ فِي الصَّرْفِ بِمَعْنَى الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْعَيْنِ فِي الْمَحَالِّ كُلِّهَا، لَكِنَّ تَعْيِينَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
وَنُوقِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَعْنَى التَّعْيِينِ لَمَا شُرِطَ الْقَبْضُ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ بِيعَ بِإِنَاءٍ مِثْلِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَعْيِينُ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ الْإِنَاءَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَكُمْ لَكِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَيَّنَ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ ثَمَنًا خِلْقَةً كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّعْيِينِ، وَالشُّبْهَةُ فِي الرِّبَا كَالْحَقِيقَةِ فَاشْتُرِطَ الْقَبْضُ دَفْعًا لَهَا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ إنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقَتِكُمْ فِي أَنَّ الْأَثْمَانَ لَا تَتَعَيَّنُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَيْسَ بِقَائِلٍ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ الْمُبَادِي هَاهُنَا لِثُبُوتِهِ بِالدَّلَائِلِ الْمُلْزِمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ (قَوْلُهُ: وَتَعَاقُبُ الْقَبْضِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ.
وَوَجَّهَهُ الْمَانِعُ تَعَاقُبٌ يُعَدُّ تَفَاوُتًا فِي الْمَالِيَّةِ عُرْفًا كَمَا فِي النَّقْدِ وَالْمُؤَجَّلِ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التُّجَّارَ لَا يَفْصِلُونَ فِي الْمَالِيَّةِ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا مُعَيَّنًا. قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَتَيْنِ وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَتَيْنِ وَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ) لِانْعِدَامِ الْمِعْيَارِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا.
وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِوُجُودِ الطَّعْمِ عَلَى مَا مَرَّ.
قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ فَلَا تَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، وَإِذَا بَقِيَتْ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا وَكَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِمَا فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا وَإِذَا بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا لِبَقَاءِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى الْعَدِّ إذْ فِي نَقْضِهِ فِي حَقِّ الْعَدِّ فَسَادُ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ بِخِلَافِ النُّقُودِ لِأَنَّهَا لِلثَّمَنِيَّةِ خِلْقَةٌ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا لِأَنَّهُ كَالِئٌ بِالْكَالِئِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لِأَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَتَيْنِ إلَخْ) بَيْعُ الْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا جَائِزٌ إنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ لِانْعِدَامِ الْمِعْيَارِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْجَوْزُ وَالْبَيْضُ وَالتَّمْرُ جُعِلَتْ أَمْثَالًا فِي ضَمَانِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ فَكَيْفَ يَجُوزُ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ التَّمَاثُلَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ التَّفَاوُتِ فَيُعْمَلُ بِذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ وَهُوَ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ.
وَأَمَّا الرِّبَا فَهُوَ حَقُّ الشَّارِعِ فَلَا يُعْمَلُ فِيهِ بِاصْطِلَاحِهِمْ فَتُعْتَبَرُ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ فِيهَا مُتَفَاوِتَةٌ صِغَرًا وَكِبَرًا.
وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فِيهِ لِوُجُودِ الطَّعْمِ عَلَى مَا مَرَّ.
قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا إلَخْ) بَيْعُ الْفَلْسِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا عَلَى أَوْجُهٍ أَرْبَعَةٍ: بَيْعُ فَلْسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا.
وَبَيْعُ فَلْسٍ بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا.
وَبَيْعُ فَلْسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا.
وَبَيْعُ فَلْسٍ بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا.
وَالْكُلُّ فَاسِدٌ سِوَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ قَطْعًا لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا فَيَكُونُ أَحَدُ الْفَلْسَيْنِ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبَا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَمْسَكَ الْبَائِعُ الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ وَطَلَبَ الْآخَرَ وَهُوَ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ قَبْضُ الْبَائِعِ لِلْفَلْسَيْنِ وَرَدَّ إلَيْهِ أَحَدُهُمَا مَكَانَ مَا اسْتَوْجَبَهُ فِي ذِمَّتِهِ فَيَبْقَى الْآخَرُ لَهُ بِلَا عِوَضٍ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي الْفَلْسِ تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ، وَمَا يَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ لَا يَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا لِعَدَمِ وِلَايَتِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا فَبَقِيَتْ أَثْمَانًا وَهِيَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا وَصَارَ كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ مَا دَامَتْ رَائِجَةً لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ حَتَّى لَوْ قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِفُلُوسٍ مُعَيَّنَةٍ فَهَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِغَيْرِهِمَا عَلَيْهِمَا) وَمَا ثَبَتَ بِاصْطِلَاحِهِمَا فِي حَقِّهِمَا يَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا كَذَلِكَ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهَا إذَا كَسَدَتْ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ لَا تَكُونُ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ عُرُوضًا أَيْضًا بِاصْطِلَاحِهِمَا إذَا كَانَ الْكُلُّ مُتَّفِقًا عَلَى ثَمَنِيَّتِهَا سِوَاهُمَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفُلُوسِ أَنْ تَكُونَ عُرُوضًا، فَاصْطِلَاحُهُمَا عَلَى الثَّمَنِيَّةِ بَعْدَ الْكَسَادِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِهِمَا لِوُقُوعِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
وَأَمَّا إذَا اصْطَلَحَا عَلَى كَوْنِهِمَا عُرُوضًا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وِفَاقِ الْأَصْلِ فَكَانَ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ مَنْ سِوَاهُمَا مُتَّفِقِينَ عَلَى الثَّمَنِيَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي قَوْلَهُ إنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِمَا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ قَبْلَ الْكَسَادِ تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَنْ سِوَاهُمَا مُتَّفِقِينَ عَلَى الثَّمَنِيَّةِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةُ فَلِعَوْدِهَا عُرُوضًا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا عَادَتْ عَرْضًا عَادَتْ وَزْنِيَّةً فَكَانَ بَيْعَ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ وَمِنْ بَيْعِ قِطْعَةِ صُفْرٍ بِقِطْعَتَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا؛ لِأَنَّهُمَا بِالْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ وَمُقَابَلَةِ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ أَعْرَضَا عَنْ اعْتِبَارِ الثَّمَنِيَّةِ دُونَ الْعَدِّ حَيْثُ لَمْ يَرْجِعَا إلَى الْوَزْنِ وَلَمْ يَكُنْ الْعَدُّ مَلْزُومَ الثَّمَنِيَّةِ حَتَّى يَنْتَفِيَ بِانْتِفَائِهَا فَبَقِيَ مَعْدُودًا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى بَقَاءِ الِاصْطِلَاحِ فِي حَقِّ الْعَدِّ بِقَوْلِهِ إذْ فِي نَقْضِهِ: يَعْنِي الِاصْطِلَاحَ فِي حَقِّ الْعَدِّ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعَى الْخَصْمِ وَلَوْ ضُمَّ إلَى ذَلِكَ وَالْأَصْلُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ الْأَصْلُ حَمْلُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا مُطْلَقًا أَوْ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي لَا يُفِيدُ (قَوْلُهُ: فَصَارَ كَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ) بَيَانٌ لِانْفِكَاكِ الْعَدَدِيَّةِ عَنْ الثَّمَنِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: (بِخِلَافِ النُّقُودِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ؛ لِأَنَّهَا لِلثَّمَنِيَّةِ خِلْقَةً لَا اصْطِلَاحًا فَلَا تَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا.
وَقَوْلُهُ: (وَبِخِلَافِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَمَا إذْ كَانَ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِكَوْنِهِ كَالِئًا بِكَالِئٍ: أَيْ نَسِيئَةً بِنَسِيئَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ (قَوْلُهُ: وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ) جَوَابٌ عَنْ الْقِسْمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ ثَمَّةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ وَلَا بِالسَّوِيقِ) لِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَاقِيَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ وَالْمِعْيَارُ فِيهِمَا الْكَيْلُ، لَكِنَّ الْكَيْلَ غَيْرُ مُسَوٍّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحِنْطَةِ لِاكْتِنَازِهِمَا فِيهِ وَتَخَلْخُلِ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ كَيْلًا بِكَيْلٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ) بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ أَوْ بِالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ مُتَسَاوِيًا وَلَا مُتَفَاضِلًا لِشُبْهَةِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهَا مَكِيلَةٌ، وَالْمُجَانَسَةُ بَاقِيَةٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُمَا أَيْ الدَّقِيقَ وَالسَّوِيقَ مِنْ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ الطَّحْنَ لَمْ يُؤَثِّرْ إلَّا فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ، وَالْمُجْتَمِعُ لَا يَصِير بِالتَّفْرِيقِ شَيْئًا آخَرَ زَائِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ بِاخْتِلَافِ الِاسْمِ وَالصُّورَةِ وَالْمَعَانِي كَمَا بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَقَدْ زَالَ الِاسْمُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَبَدَّلَتْ الصُّورَةُ وَاخْتَلَفَتْ الْمَعَانِي، فَإِنَّ مَا يَبْتَغِي مِنْ الْحِنْطَةِ لَا يَبْتَغِي مِنْ الدَّقِيقِ، فَإِنَّهَا تَصْلُحُ لِاِتِّخَاذِ الْكِشْكِ وَالْهَرِيسَةِ وَغَيْرِهِمَا دُونَ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ.
وَرِبَا الْفَضْلِ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَالْحِنْطَةِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الطَّحْنِ وَبِصَيْرُورَتِهِ دَقِيقًا زَالَتْ الْمُجَانَسَةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّقِيقُ حِنْطَةً أَوْ لَا، وَالثَّانِي يُوجِبُ الْجَوَازَ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا لَا مَحَالَةَ، وَالْأَوَّلُ يُوجِبُ الْجَوَازَ إذَا كَانَ مُتَسَاوِيًا كَذَلِكَ.
أَجَابَ بِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالْكَيْلِ وَالْكَيْلُ غَيْرُ مُسَوٍّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحِنْطَةِ لِاكْتِنَازِهِمَا فِيهِ وَتَخَلْخُلِ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ فَصَارَ كَالْمُجَازَفَةِ فِي احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ (فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ كَيْلًا بِكَيْلٍ) قَبْلَ حُرْمَةِ الرِّبَا حُرْمَةٌ تَتَنَاهَى بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْأَصْلِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فِي هَذَا الْفَرْعِ تَثْبُتُ حُرْمَةٌ لَا تَتَنَاهَى فَصَارَ مِثْلَ ظِهَارِ الذِّمِّيِّ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا تَتَنَاهَى بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْحِنْطَةِ أَوْ فِي الشُّبْهَةِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّ حُرْمَةَ النَّسَاءِ لَا تَتَنَاهَى بِالْمُسَاوَاةِ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الثَّانِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْحُرْمَةُ تَتَنَاهَى بِالْمُسَاوَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَتَحَقَّقُ. (وَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ مُتَسَاوِيًا كَيْلًا) لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ.
الشَّرْحُ:
وَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ مُتَسَاوِيًا كَيْلًا بِكَيْلٍ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ وُجُودُ الْمُسَوِّي وَمُتَسَاوِيًا وَكَيْلًا بِكَيْلٍ، قِيلَ حَالَانِ مُتَدَاخِلَانِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْأَوَّلِ بَيْعُ وَفِي الثَّانِي مُتَسَاوِيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مُتَرَادِفَيْنِ.
وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الثَّانِيَةِ نَفْيُ تَوَهُّمِ جَوَازِ الْمُسَاوَاةِ وَزْنًا حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ إذَا تَسَاوَيَا كَيْلًا إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَا مَكْبُوسَيْنِ. (وَبَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُتَفَاضِلًا، وَلَا مُتَسَاوِيًا) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْمَقْلِيَّةِ وَلَا بَيْعُ السَّوِيقِ بِالْحِنْطَةِ، فَكَذَا بَيْعُ أَجْزَائِهِمَا لِقِيَامِ الْمُجَانَسَةِ مِنْ وَجْهٍ.
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ.
قُلْنَا: مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّغَذِّي يَشْمَلُهُمَا فَلَا يُبَالَى بِفَوَاتِ الْبَعْضِ كَالْمَقْلِيَّةِ مَعَ غَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَالْعِلْكَةِ بِالْمُسَوِّسَةِ.
الشَّرْحُ:
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُتَسَاوِيًا وَلَا مُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّ الدَّقِيقَ أَجْزَاءُ حِنْطَةٍ غَيْرُ مَقْلِيَّةٍ وَالسَّوِيقُ أَجْزَاؤُهَا مَقْلِيَّةٌ فَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَجْزَاءِ بَعْضٍ بِالْآخَرِ لِقِيَامِ الْمُجَانَسَةِ مِنْ وَجْهٍ فَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَجْزَاءِ بَعْضٍ بِأَجْزَاءِ بَعْضٍ آخَرَ.
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ إذْ هُوَ بِالدَّقِيقِ اتِّخَاذُ الْخُبْزِ وَالْعَصَائِدِ وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالسَّوِيقِ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يُلَتَّ بِالسَّمْنِ أَوْ الْعَسَلِ أَوْ يُشْرَبَ بِالْمَاءِ، وَكَذَلِكَ الِاسْمُ «وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ».
وَالْجَوَابُ أَنَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّغَذِّي يَشْمَلُهُمَا وَفَوَاتُ الْبَعْضِ لَا يَضُرُّ كَالْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ (وَالْعِلْكَةُ بِالْمُسَوِّسَةِ) الَّتِي أَكَلَهَا السُّوسُ وَالْمَقْلِيَّةُ هِيَ الْمَشْوِيَّةُ مِنْ قَلَى يَقْلِي إذَا شَوَى، وَيَجُوزُ مَقْلُوَّةٌ مِنْ قَلَا يَقْلُو، وَالْعِلْكَةُ هِيَ الْجَيِّدَةُ الَّتِي تَكُونُ كَالْعِلْكِ مِنْ صَلَابَتِهَا تَمْتَدُّ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، وَالسُّوسَةُ الْعُثَّةُ، وَهِيَ دُودَةٌ تَقَعُ فِي الصُّوفِ وَالثِّيَابِ وَالطَّعَامِ، وَمِنْهُ حِنْطَةٌ مُسَوِّسَةٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ. قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا بَاعَهُ بِلَحْمٍ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ لِيَكُونَ اللَّحْمُ بِمُقَابَلَةِ مَا فِيهِ مِنْ اللَّحْمِ وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ السَّقْطِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ السَّقْطِ أَوْ مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ اللَّحْمِ فَصَارَ كَالْخَلِّ بِالسِّمْسِمِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُوزَنُ عَادَةً وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ثِقَلِهِ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ يُخَفِّفُ نَفْسَهُ مَرَّةً بِصَلَابَتِهِ وَيَثْقُلُ أُخْرَى، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِي الْحَالِ يُعَرِّفُ قَدْرَ الدُّهْنِ إذَا مِيزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّجِيرِ، وَيُوزَنُ الثَّجِيرُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ) بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا مَا إذَا بَاعَهُ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَمَا إذَا بَاعَ لَحْمَ الْبَقَرِ بِالشَّاةِ مَثَلًا وَهُوَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ كَمَا فِي اللُّحْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ.
وَمِنْهَا مَا إذَا بَاعَهُ الْحَيَوَانَ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا إذَا بَاعَ لَحْمَ الشَّاةِ بِالشَّاةِ لَكِنَّهَا مَذْبُوحَةٌ مَفْصُولَةٌ عَنْ السَّقَطِ، وَهُوَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْوَزْنِ وَإِلَّا فَلَا.
وَمِنْهَا مَا إذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ مَذْبُوحًا غَيْرَ مَفْصُولٍ عَنْ السَّقَطِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمَفْصُولُ أَكْثَرَ وَهُوَ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ.
وَمِنْهَا مَا إذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ حَيًّا وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ (إلَّا إذَا كَانَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ لِيَكُونَ اللَّحْمُ بِمُقَابَلَةِ مَا فِيهِ مِنْ اللَّحْمِ وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ السَّقَطِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَتَحَقَّقَ الرِّبَا) إمَّا (مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ السَّقَطِ أَوْ مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ اللَّحْمِ) وَالْقِيَاسُ مَعَهُ لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ (فَصَارَ كَالْحَلِّ) أَيْ الشَّيْرَجِ (بِالسِّمْسِمِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ)؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَوْزُونٌ لَا مَحَالَةَ، وَالْحَيَوَانُ لَا يُوزَنُ عَادَةً وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ثِقَلِهِ وَخِفَّتِهِ بِالْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ يُخَفِّفُ نَفْسَهُ مَرَّةً وَيُثْقِلُ أُخْرَى يَضْرِبُ قُوَّةً فِيهِ فَلَا يُدْرَى أَنَّ الشَّاةَ خَفَّفَتْ نَفْسَهَا أَوْ ثَقَّلَتْ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَلِّ بِالسِّمْسِمِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِي الْحَلِّ يُعْرَفُ قَدْرُ الدُّهْنِ إذَا مُيِّزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّجِيرِ يُوزَنُ الثَّجِيرُ وَهُوَ ثِقَلُهُ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ السِّمْسِمَ لَا يُوزَنُ عَادَةً كَالْحَيَوَانِ فَقَالَ لَكِنْ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالْوَزْنِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَزْنَ يَشْمَلُ الْحَلَّ وَالسِّمْسِمَ عِنْدَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الدُّهْنِ وَالثَّجِيرِ وَلَا يَشْمَلُ اللَّحْمَ وَالْحَيَوَانَ بِحَالٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَلَّ وَالسِّمْسِمَ يُوزَنَانِ ثُمَّ يُمَيَّزُ الثَّجِيرُ وَيُوزَنُ فَيُعْرَفُ قَدْرُ الْحَلِّ مِنْ السِّمْسِمِ، وَالْحَيَوَانُ لَا يُوزَنُ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى إذَا ذُبِحَ وَوُزِنَ السَّقَطُ وَهُوَ مَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّحْمِ كَالْجِلْدِ وَالْكَرِشِ وَالْأَمْعَاءِ وَغَيْرِهَا يُعْرَفُ بِهِ قَدْرُ اللَّحْمِ، فَكَانَ بَيْعُ اللَّحْمِ بِهِ بَيْعَ مَوْزُونٍ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ.
وَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْجِنْسَيْنِ أَيْضًا، فَإِنَّ اللَّحْمَ غَيْرُ حَسَّاسٍ وَالْحَيَوَانُ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ وَالْبَيْعُ فِيهِ جَائِزٌ مُتَفَاضِلًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ وَلَمْ يَشْمَلْهُمَا الْوَزْنُ جَازَ الْبَيْعُ نَسِيئَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ النَّسِيئَةَ إنْ كَانَتْ فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ فَهُوَ سَلَمٌ فِي الْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ فَهُوَ سَلَمٌ فِي اللَّحْمِ وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ. قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَا: لَا يَجُوزُ «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ أَوْ يَنْقُصُ إذَا جَفَّ؟ فَقِيلَ نَعَمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا إذًا» وَلَهُ أَنَّ الرُّطَبَ تَمْرٌ «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أُهْدَى إلَيْهِ رُطَبٌ أَوَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا» سَمَّاهُ تَمْرًا.
وَبَيْعُ التَّمْرِ بِمِثْلِهِ جَائِزٌ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمْرًا جَازَ الْبَيْعُ بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَمْرٍ فَبِآخِرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ وَمَدَارُ مَا رَوَيَاهُ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقَلَةِ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ) بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِثْلًا بِمِثْلٍ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ خَاصَّةً, وَقَالَا: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ «سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَقَالَ أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ؟ فَقِيلَ نِعْمَ، قَالَ: لَا إذَا» أَيْ لَا يَجُوزُ عَلَى تَقْدِيرِ النُّقْصَانِ بِالْجَفَافِ.
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْجَفَافِ وَبِالْكَيْلِ فِي الْحَالِ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) هُوَ الدَّلِيلُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الرُّطَبَ تَمْرًا حِينَ أُهْدِيَ رُطَبًا فَقَالَ: أَوَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ وَبَيْعُ التَّمْرِ بِمِثْلِهِ جَائِزٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَانُوا أَشِدَّاءَ عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْخَبَرَ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الرُّطَبَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ تَمْرًا جَازَ الْعَقْدُ بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ: يَعْنِي قَوْلَهُ «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازَ بِقَوْلِهِ «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» فَأُورِدَ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ دَارَ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي النَّقْلَةِ.
وَاسْتَحْسَنَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْهُ هَذَا الطَّعْنَ.
سَلَّمْنَا قُوَّتَهُ فِي الْحَدِيثِ لَكِنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ لَا يُعَارَضُ بِهِ الْمَشْهُورُ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ التَّرْدِيدَ الْمَذْكُورَ يَقْتَضِي جَوَازَ بَيْعِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْلِيَّةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ حِنْطَةً فَتَجُوزُ بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ أَوْ لَا فَتَجُوزُ بِآخِرِهِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي الْمُنَاظَرَةِ لِدَفْعِ شَغَبِ الْخَصْمِ، وَالْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِهِ بَلْ بِمَا بَيَّنَّا مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ التَّمْرِ عَلَيْهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّمْرَ اسْمٌ لِثَمَرَةٍ خَارِجَةٍ مِنْ النَّخْلِ مِنْ حَيْثُ تَنْعَقِدُ صُورَتُهَا إلَى أَنْ تُدْرِكَ، وَالرُّطَبُ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنْهُ كَالْبَرْنِيِّ وَغَيْرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ حِنْطَةٌ (قَوْلُهُ: فَيَجُوزُ بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ) قُلْنَا: إنَّمَا جَازَ أَنْ لَوْ ثَبَتَتْ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا كَيْلًا، وَلَا تَثْبُتُ لِمَا قِيلَ إنَّ الْقَلْيَ صَنْعَةٌ يُغْرَمُ عَلَيْهَا الْأَعْوَاضُ، فَصَارَ كَمَنْ بَاعَ قَفِيزًا بِقَفِيزٍ وَدِرْهَمٍ.
لَا يُقَالُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى التَّفَاوُتِ فِي الصِّفَةِ وَهُوَ سَاقِطٌ كَالْجَوْدَةِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ الرَّاجِعَ إلَى صُنْعِ اللَّهِ سَاقِطٌ بِالْحَدِيثِ.
وَأَمَّا الرَّاجِعُ إلَى صُنْعِ الْعِبَادِ فَمُعْتَبَرٌ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِهِ بَيْنَ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، فَكُلُّ تَفَاوُتٍ يَنْبَنِي عَلَى صُنْعِ الْعِبَادِ فَهُوَ مُفْسِدٌ كَمَا فِي الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِهَا وَالْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ، وَكُلُّ تَفَاوُتٍ خِلْقِيٍّ فَهُوَ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ كَمَا فِي الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ. قَالَ (وَكَذَا الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ) يَعْنِي عَلَى الْخِلَافِ وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ.
وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ اعْتِبَارًا بِالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ، وَالرُّطَبُ بِالرُّطَبِ يَجُوزُ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا عِنْدَنَا لِأَنَّهُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَكَذَا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ أَوْ الْمَبْلُولَةِ بِمِثْلِهَا أَوْ بِالْيَابِسَةِ، أَوْ التَّمْرُ أَوْ الزَّبِيبُ الْمُنْقَعُ بِالْمُنْقَعِ مِنْهُمَا مُتَمَاثِلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ جَمِيعُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ الْمَالُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُهُ فِي الْحَالِ، وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْأَصْلَ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ لَهُمَا.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ وَبَيْنَ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِيمَا يَظْهَرُ مَعَ بَقَاءِ الْبَدَلَيْنِ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَفِي الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مَعَ بَقَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونَ تَفَاوُتًا فِي عَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ التَّفَاوُتُ بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ الِاسْمِ فَلَمْ يَكُنْ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ.
الشَّرْحُ:
وَالْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَلَعَلَّهُ عَبَّرَ بِالْخِلَافِ دُونَ الِاخْتِلَافِ إشَارَةً إلَى قُوَّةِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ اعْتِبَارًا بِالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِهَا) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ الْحُجَّةُ إنَّمَا تَتِمُّ بِإِطْلَاقِ اسْمِ التَّمْرِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ النَّصَّ لَمَّا وَرَدَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ التَّمْرِ عَلَى الرُّطَبِ جُعِلَا نَوْعًا وَاحِدًا فَجَازَ الْبَيْعُ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَمْ يَرِدْ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْعِنَبِ عَلَى الزَّبِيبِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ التَّفَاوُتُ الصَّنْعِيُّ الْمُفْسِدُ كَمَا فِي الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِهَا، وَالرُّطَبُ بِالرُّطَبِ يَجُوزُ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا: أَيْ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ رِبَوِيٌّ يَتَفَاوَتُ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ: أَعْنِي عِنْدَ الْجَفَافِ فَلَا يَجُوزُ كَالْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ.
وَلَنَا أَنَّهُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُتَسَاوِيًا فَكَانَ جَائِزًا وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ بِالْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ أَوْ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْمَبْلُولَةِ أَوْ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ بِالْمَبْلُولَةِ أَوْ الْيَابِسَةِ أَوْ التَّمْرِ الْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ أَوْ الزَّبِيبِ الْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ، مِنْ أُنْقِعَ إذَا أُلْقِيَ فِي الْخَابِيَةِ لِيَبْتَلَّ وَتُخْرَجَ مِنْهُ الْحَلَاوَةُ جَائِزٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، هُوَ يَعْتَبِرُ الْمُسَاوَاةَ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ حَالُ الْجَفَافِ، وَمُفَرَّعُهُ حَدِيثُ سَعْدٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُهَا فِي الْحَالِ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْأَصْلَ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِحَدِيثِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاحْتَاجَ مُحَمَّدٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ: يَعْنِي بَيْعَ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ وَالْمَبْلُولَةِ إلَى آخِرِهَا، وَبَيْنَ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ حَيْثُ اعْتَبَرَ الْمُسَاوَاةَ فِيهَا فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَفِيهِ فِي الْحَالِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّفَاوُتَ إذَا ظَهَرَ مَعَ بَقَاءِ الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَلَى الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فَهُوَ مُفْسِدٌ لِكَوْنِهِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ظَهَرَ بَعْدَ زَوَالِ الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ عَنْ الْبَدَلَيْنِ فَلَيْسَ بِمُفْسِدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى الْبَدَلَيْنِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الذَّاتُ الْمُشَارُ إلَيْهَا وَهِيَ لَا تَتَبَدَّلُ. وَلَوْ بَاعَ الْبُسْرَ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبُسْرَ تَمْرٌ، بِخِلَافِ الْكُفُرَّى حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِمَا شَاءَ مِنْ التَّمْرِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْرٍ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ لَهُ مِنْ أَوَّلِ مَا تَنْعَقِدُ صُورَتُهُ لَا قَبْلَهُ، وَالْكُفَرَّى عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ، حَتَّى لَوْ بَاعَ التَّمْرَ بِهِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَوْ بَاعَ الْبُسْرَ بِالتَّمْرِ إلَخْ) بَيْعُ الْبُسْرِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَمْرٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّمْرَ اسْمٌ لِثَمَرَةِ النَّخْلِ مِنْ أَوَّلِ مَا تَنْعَقِدُ صُورَتُهُ وَبَيْعُهُ بِهِ مُتَسَاوِيًا مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ يَدًا بِيَدٍ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَبَيْعُ الْكُفُرَّى بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَهُوَ كُمُّ النَّخْلِ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ مَا فِي جَوْفِهِ بِالثَّمَرِ جَائِزٌ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ؛ لِأَنَّ الْكُفُرَّى لَيْسَ بِتَمْرٍ لِكَوْنِهِ قَبْلَ انْعِقَادِ الصُّورَةِ (قَوْلُهُ: وَالْكُفُرَّى عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ) قِيلَ: هُوَ جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَمْرًا لَجَازَ إسْلَامُ التَّمْرِ فِي الْكُفُرَّى لَكِنَّهُ لَمْ يَجُزْ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَتَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِيهِ لِلْجَهَالَةِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَالسِّمْسِمُ بِالشَّيْرَجِ حَتَّى يَكُونَ الزَّيْتُ وَالشَّيْرَجُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ فَيَكُونَ الدُّهْنُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِالثَّجِيرِ) لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْرَى عَنْ الرِّبَا إذْ مَا فِيهِ مِنْ الدُّهْنِ مَوْزُونٌ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا فِيهِ لَوْ كَانَ أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، فَالثَّجِيرُ وَبَعْضُ الدُّهْنِ أَوْ الثَّجِيرُ وَحْدَهُ فَضْلٌ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ مَا فِيهِ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، وَالشُّبْهَةُ فِيهِ كَالْحَقِيقَةِ، وَالْجَوْزُ بِدُهْنِهِ وَاللَّبَنُ بِسَمْنِهِ وَالْعِنَبُ بِعَصِيرِهِ وَالتَّمْرُ بِدِبْسِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقُطْنِ بِغَزْلِهِ، وَالْكِرْبَاسُ بِالْقُطْنِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ إلَخْ) الزَّيْتُونُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الزَّيْتُ وَالشَّيْرَجُ الدُّهْنُ الْأَبْيَضُ، وَيُقَالُ لِلْعَصِيرِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ شَيْرَجٌ وَهُوَ تَعْرِيبُ شَيْرَهْ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا مَا يُتَّخَذُ مِنْ السِّمْسِمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَكُونُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ وَأُخْرَى بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ.
وَلَا يُعْتَبَرُ الثَّانِي مَعَ وُجُودِ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ قَفِيزِ حِنْطَةٍ عِلْكَةٍ بِقَفِيزِ مُسَوِّسَةٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْأَوَّلُ يُعْتَبَرُ الثَّانِي، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ وَالزَّيْتِ مَعَ الزَّيْتُونِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ.
فَإِذَا بِيعَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تُعْلَمَ كَمِّيَّةُ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الزَّيْتُونِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ كَالْمُحَقَّقِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُنْفَصِلُ أَكْثَرَ أَوْ لَا.
وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِتَحَقُّقِ الْفَضْلِ وَهُوَ بَعْضُ الزَّيْتِ وَالثَّجِيرِ إنْ نَقَصَ الْمُنْفَصِلُ عَنْ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الزَّيْتِ وَالثَّجِيرِ وَحْدَهُ: أَيْ سَاوَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الثَّجِيرُ ذَا قِيمَةٍ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَمَا فِي الزُّبْدِ بَعْدَ إخْرَاجِ السَّمْنِ إذَا كَانَ السَّمْنُ الْخَالِصُ مِثْلَ مَا فِي الزُّبْدِ مِنْ السَّمْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَوَّلُ جَائِزٌ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَالشَّيْرَجُ بِالسِّمْسِمِ وَالْجَوْزُ بِدُهْنِهِ وَاللَّبَنُ بِسَمْنِهِ وَالْعِنَبُ بِعَصِيرِهِ وَالتَّمْرُ بِدِبْسِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: السِّمْسِمُ يَشْتَمِلُ عَلَى الشَّيْرَجِ وَالثَّجِيرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ مَنْظُورًا إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ جَوَازُ بَيْعِ الشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الشَّيْرَجَ وَزْنِيٌّ وَالسِّمْسِمَ كَيْلِيٌّ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَازُ فَيَجُوزُ بَيْعُ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ مُتَفَاضِلًا صَرْفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّهْنِ وَالثَّجِيرِ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ كَمَا إذَا بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّ شَعِيرٍ بِثَلَاثَةِ أَكْرَارٍ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا إمَّا الدُّهْنُ أَوْ الثَّجِيرُ مَنْظُورًا إلَيْهِ فَقَطْ، وَالثَّانِي مُنْتَفٍ عَادَةً، وَالْأَوَّلُ يُوجِبُ أَنْ لَا يُقَابَلَ الثَّجِيرُ بِشَيْءٍ مِنْ الدُّهْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ هُوَ الْمَجْمُوعُ مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَادُ، وَلَا يَلْزَمُ جَوَازُ بَيْعِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ مُتَفَاضِلًا.
قَوْلُهُ: صَرْفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّهْنِ وَالثَّجِيرِ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ.
قُلْنَا: ذَاكَ إذَا كَانَا مُنْفَصِلَيْنِ خِلْقَةً كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ لِظُهُورِ كَمَالِ الْجِنْسِيَّةِ حِينَئِذٍ وَالدُّهْنُ وَالثَّجِيرُ لَيْسَا كَذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ بَيْعِ الْقُطْنِ بِغَزْلِهِ مُتَسَاوِيًا فَقِيلَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْقُصُ بِالْغَزْلِ فَهُوَ نَظِيرُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ، وَقِيلَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُمَا وَاحِدٌ فَكِلَاهُمَا مَوْزُونٌ، وَإِنْ خَرَجَا عَنْ الْوَزْنِ أَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْوَزْنِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ وَاحِدٍ بِاثْنَيْنِ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
وَبَيْعُ الْغَزْلِ بِالثَّوْبِ جَائِزٌ وَالْكِرْبَاسِ بِالْقُطْنِ جَائِزٌ كَيْفَمَا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ بَيْعَ الْقُطْنِ بِالثَّوْبِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا. قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا) وَمُرَادُهُ لَحْمُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؛ فَأَمَّا الْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا الْمَعْزُ مَعَ الضَّأْنِ وَكَذَا الْعِرَابُ مَعَ الْبَخَاتِيِّ.
قَالَ (وَكَذَلِكَ أَلْبَانُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ.
وَلَنَا أَنَّ الْأُصُولَ مُخْتَلِفَةٌ حَتَّى لَا يَكْمُلَ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ، فَكَذَا أَجْزَاؤُهَا إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ.
قَالَ (وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ بِخَلِّ الْعِنَبِ) لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْلَيْهِمَا، فَكَذَا بَيْنَ مَاءَيْهِمَا وَلِهَذَا كَانَ عَصِيرَاهُمَا جِنْسَيْنِ.
وَشَعْرُ الْمَعْزِ وَصُوفُ الْغَنَمِ جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ: وَيَجُوزُ بَيْعُ اللُّحْمَانِ إلَخْ) كُلُّ مَا يَكْمُلُ بِهِ نِصَابُ الْآخَرِ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي الزَّكَاةِ لَا يُوصَفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ كَالْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ مُتَفَاضِلًا.
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْعِرَابُ وَالْبَخَاتِيُّ وَالْمَعْزُ وَالضَّأْنُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَكُلُّ مَا لَا يَكْمُلُ بِهِ نِصَابُ الْآخَرِ فَهُوَ يُوصَفُ بِالِاخْتِلَافِ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَيَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا وَكَذَلِكَ الْأَلْبَانُ.
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اللَّحْمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّغَذِّي وَالتَّقَوِّي فَكَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا.
وَلَنَا أَنَّهَا فُرُوعُ أُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاخْتِلَافُ الْأَصْلِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْفَرْعِ ضَرُورَةً كَالْأَدْهَانِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاتِّحَادِ فِي التَّغَذِّي فَذَلِكَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى الْعَامِّ كَالطَّعْمِ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالتَّفَكُّهِ فِي الْفَوَاكِهِ، وَالْمُعْتَبَرُ الِاتِّحَادُ فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَلَا يُشْكِلُ بِالطُّيُورِ فَإِنَّ بَيْعَ لَحْمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا يَجُوزُ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ ذَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يُوزَنُ عَادَةً فَلَيْسَ بِوَزْنِيٍّ وَلَا كَيْلِيٍّ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْقَدْرُ الشَّرْعِيُّ، وَفِي مِثْلِهِ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا (قَوْلُهُ: إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ) قِيلَ مُرَادُهُ أَنَّ اتِّحَادَ الْأُصُولِ يُوجِبُ اتِّحَادَ الْفُرُوعِ وَالْأَجْزَاءِ إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ، فَإِذَا تَبَدَّلَتْ الْأَجْزَاءُ بِالصَّنْعَةِ تَكُونُ مُخْتَلِفَةً، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ مُتَّحِدًا كَالْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي اخْتِلَافِ الْأُصُولِ لَا فِي اتِّحَادِهَا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: اخْتِلَافُ الْأُصُولِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأَجْزَاءِ إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ، وَأَمَّا إذَا تَبَدَّلَتْ فَلَا تُوجِبُهُ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ الِاتِّحَادَ، فَإِنَّ الصَّنْعَةَ كَمَا تُؤَثِّرُ فِي تَغَيُّرِ الْأَجْنَاسِ مَعَ اتِّحَادِ الْأَصْلِ كَالْهَرَوِيِّ مَعَ الْمَرْوِيِّ مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْقُطْنُ كَذَلِكَ تُؤَثِّرُ فِي اتِّحَادِهَا مَعَ اخْتِلَافِ الْأَصْلِ كَالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْغِشِّ مِثْلِ الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ غَالِبَةً فَإِنَّهَا مُتَّحِدَةٌ فِي الْحُكْمِ بِالصَّنْعَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الْأُصُولِ.
قَالَ (وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ بِخَلِّ الْعِنَبِ إلَخْ) الدَّقَلُ هُوَ أَرْدَأُ التَّمْرِ، وَبَيْعُ خَلِّهِ بِخَلِّ الْعِنَبِ مُتَفَاضِلًا جَائِزٌ يَدًا بِيَدٍ وَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ التُّمُورِ.
وَلَمَّا كَانُوا يَجْعَلُونَ الْخَلَّ مِنْ الدَّقَلِ غَالِبًا أَخْرَجَ الْكَلَامَ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا جَازَ التَّفَاضُلُ لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْلَيْهِمَا وَلِهَذَا كَانَ عَصِيرَاهُمَا: يَعْنِي الدَّقَلَ وَالْعِنَبَ جِنْسَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ (وَشَعْرُ الْمَعْزِ وَصُوفُ الْغَنَمِ جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ) فَجَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَقْصُودِ كَالتَّبَدُّلِ بِالصَّنْعَةِ فِي تَغْيِيرِ الْأَجْزَاءِ مَعَ اتِّحَادِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَاخْتِلَافُهُ يُوجِبُ التَّغْيِيرَ وَاخْتِلَافُ الْمَقْصُودِ فِيهِمَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الشَّعْرَ يُتَّخَذُ مِنْهُ الْحِبَالُ الصُّلْبَةُ وَالْمُسُوحُ، وَالصُّوفُ يُتَّخَذُ مِنْهُ اللُّبُودُ وَاللِّفَافَةُ.
لَا يُقَالُ: لَوْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ بِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ لَمَا جَازَ بَيْعُ لَبَنِ الْبَقَرِ بِلَبَنِ الْغَنَمِ مُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا مُتَّحِدٌ فَكَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَبَنَ الْبَقَرِ قَدْ يَضُرُّ حِينَ لَا يَضُرُّ لَبَنُ الْغَنَمِ فَلَا يَتَّحِدُ الْقَصْدُ إلَيْهِمَا.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: قُلْنَا إنَّ اخْتِلَافَ الْمَقْصُودِ قَدْ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْأُصُولِ، وَلَمْ نَقُلْ اتِّحَادُ الْمَقْصُودِ يُوجِبُ الِاتِّحَادَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأُصُولِ، فَالْأَصْلُ أَنْ يُوجِبَ اخْتِلَافُ الْأُصُولِ اخْتِلَافَ الْأَجْزَاءِ وَالْفُرُوعِ إلَّا عِنْدَ التَّبَدُّلِ بِالصَّنْعَةِ، وَأَنْ يُوجِبَ اتِّحَادُ الْأُصُولِ اتِّحَادَ الْفُرُوعِ إلَّا عِنْدَ التَّبَدُّلِ بِالصَّنْعَةِ أَوْ اخْتِلَافُ الْمَقْصُودِ بِالْفُرُوعِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ نَقْضٌ، وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مَانِعٌ رَاجِحٌ فَلَا يُعَارِضُهُ اتِّحَادُ الْأَصْلِ، وَيَسْقُطُ مَا قِيلَ شَعْرُ الْمَعْزِ وَصُوفُ الْغَنَمِ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَبِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ جِنْسَانِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَاجِحٌ قَالَ (وَكَذَا شَحْمُ الْبَطْنِ بِالْأَلْيَةِ أَوْ بِاللَّحْمِ) لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَكَذَا شَحْمُ الْبَطْنِ بِالْأَلْيَةِ أَوْ بِاللَّحْمِ) جَائِزٌ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا، أَمَّا اخْتِلَافُ الصُّوَرِ فَلِأَنَّ الصُّورَةَ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ تَصَوُّرِهِ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ عِنْدَ تَصَوُّرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْمَعَانِي فَلِأَنَّهُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ لَا مَحَالَةَ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْمَنَافِعِ فَكَافِلَةُ الطِّبِّ. قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ مُتَفَاضِلًا) لِأَنَّ الْخُبْزَ صَارَ عَدَدِيًّا أَوْ مَوْزُونًا فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَكِيلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْحِنْطَةُ مَكِيلَةٌ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَهَذَا إذَا كَانَا نَقْدَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ نَسِيئَةً جَازَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ نَسِيئَةً يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَكَذَا السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ جَائِزٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا خَيْرَ فِي اسْتِقْرَاضِهِ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْخُبْزِ وَالْخَبَّازِ وَالتَّنُّورِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بِهِمَا لِلتَّعَامُلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَزْنًا وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْحِنْطَةِ) بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ كَوْنِهِمَا نَقْدَيْنِ أَوْ حَالَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا نَقْدًا وَالْآخَرِ نَسِيئَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عَدَدِيًّا أَوْ مَوْزُونًا فَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَكِيلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْحِنْطَةُ مَكِيلَةٌ فَاخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ وَجَازَ التَّفَاضُلُ (وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ: أَيْ لَا يَجُوزُ، وَالتَّرْكِيبُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ نَفْيَ جَمِيعِ جِهَاتِ الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْحِنْطَةُ وَالدَّقِيقُ نَسِيئَةً أَوْ الْخُبْزُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ مَوْزُونًا فِي مَكِيلٍ يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَوْزُونٍ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِمَا نَذْكُرُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ) وَهَذَا يُغْنِي عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَا السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ جَائِزٌ فِي الصَّحِيحِ: يَعْنِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفَتْوَى عَلَى ذَلِكَ لِحَاجَةِ النَّاسِ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُحْتَاطَ وَقْتُ الْقَبْضِ حَتَّى يَقْبِضَ مِنْ الْجِنْسِ الَّذِي سَمَّى لِئَلَّا يَصِيرَ اسْتِبْدَالًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا خَيْرَ فِي اسْتِقْرَاضِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا؛ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْخُبْزِ مِنْ حَيْثُ الطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالْغِلَظُ وَالرِّقَّةُ، وَبِالْخَبَّازِ بِاعْتِبَارِ حِذْقِهِ وَعَدَمِهِ، وَبِالتَّنُّورِ فِي كَوْنِهِ جَدِيدًا فَيَجِيءُ خُبْزُهُ جَيِّدًا أَوْ عَتِيقًا فَيَكُونُ بِخِلَافِهِ، وَبِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فَإِنَّهُ فِي أَوَّلِ التَّنُّورِ لَا يَجِيءُ مِثْلَ مَا فِي آخِرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَانِعُ عَنْ جَوَازِ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا وَوَزْنًا، تُرِكَ قِيَاسُ السَّلَمِ فِيهِ لِلتَّعَامُلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ وَزْنًا وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ. قَالَ (وَلَا رِبَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ) لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَهَذَا إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ لَيْسَ مِلْكَ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَتَحَقَّقَ الرِّبَا كَمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُكَاتَبِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا رِبَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ) لَا رِبَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ وَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، فَعَدَمُ تَحَقُّقِ الرِّبَا بَعْدَ وُجُودِ الْبَيْعِ بِحَقِيقَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُشْتَمِلًا عَلَى شَرَائِطِ الرِّبَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ (فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ لَيْسَ مِلْكًا لِمَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا) وَإِنْ كَانَ مِلْكَهُ، لَكِنْ لَمَّا (تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ) صَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا كَمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَمَوْلَاهُ. قَالَ (وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
لَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمُسْتَأْمَنِ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالًا مُبَاحًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمِنِ مِنْهُمْ لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مَحْظُورًا بِعَقْدِ الْأَمَانِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ) لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
لَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمُسْتَأْمَنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِنَا، فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَبَاعَ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فَكَذَا إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ وَفَعَلَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِجَامِعِ تَحَقُّقِ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ الْبَيْعِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ» ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ وَلِأَنَّ مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِهِمْ مُبَاحٌ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ إنَّمَا مُنِعَ مِنْ أَخْذِهِ لِعَقْدِ الْأَمَانِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْغَدْرُ، فَإِذَا بَذَلَ الْحَرْبِيُّ مَالَهُ بِرِضَاهُ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي حُظِرَ لِأَجْلِهِ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسٍ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَخْذُ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَحْظُورًا بِعَقْدِ الْأَمَانِ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.