فصل: كِتَابُ الْإِبَاقِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.كِتَابُ الْإِبَاقِ:

(الْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ) لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ، وَأَمَّا الضَّالُّ فَقَدْ قِيلَ كَذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ فَيَجِدُهُ الْمَالِكُ وَلَا كَذَلِكَ الْآبِقُ ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ، ثُمَّ إذَا رُفِعَ الْآبِقُ إلَيْهِ يَحْبِسُهُ، وَلَوْ رُفِعَ الضَّالُّ لَا يَحْبِسُهُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى الْآبِقِ الْإِبَاقُ ثَانِيًا، بِخِلَافِ الضَّالِّ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْإِبَاقِ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ الْكُتُبُ، أَعْنِي اللَّقِيطَ وَاللُّقَطَةَ وَالْإِبَاقَ وَالْمَفْقُودَ كُتُبٌ يُجَانِسُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي كُلٍّ مِنْهَا عُرْضَةُ الزَّوَالِ وَالْهَلَاكِ.
وَالْإِبَاقُ: هُوَ الْهَرَبُ، وَالْآبِقُ: هُوَ الْهَارِبُ مِنْ مَالِكِهِ قَصْدًا (وَالْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى) أَيْ يَقْدِرُ (عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ) إذْ الْآبِقُ هَالِكٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَكُونُ الرَّدُّ إحْيَاءً لَهُ (وَأَمَّا الضَّالُّ) هُوَ الَّذِي لَمْ يَهْتَدِ إلَى طَرِيقِ مَنْزِلِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَقِيلَ إنَّهُ كَذَلِكَ، وَقِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ فَيَجِدُهُ الْمَالِكُ، وَلَا كَذَلِكَ الْآبِقُ، ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ (لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ) وَهَذَا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ، وَأَمَّا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ فَهُوَ أَنَّ الرَّادَّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ حَفِظَهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ الضَّالُّ وَالضَّالَّةُ الْوَاجِدُ فِيهِمَا بِالْخِيَارِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ إذَا دُفِعَ الْآبِقُ إلَيْهِ يَحْبِسُهُ) ظَاهِرٌ. قَالَ (وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ جُعْلُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ إلَّا بِالشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِمَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الضَّالَّ.
وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْجُعْلِ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا، فَأَوْجَبْنَا الْأَرْبَعِينَ فِي مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا فِيمَا دُونَهُ تَوْفِيقًا وَتَلْفِيقًا بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ إيجَابَ الْجُعْلِ أَصْلُهُ حَامِلٌ عَلَى الرَّدِّ إذْ الْحِسْبَةُ نَادِرَةٌ فَتَحْصُلُ صِيَانَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّمْعِ وَلَا سَمْعَ فِي الضَّالِّ فَامْتَنَعَ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ الضَّالِّ دُونَهَا إلَى صِيَانَةِ الْآبِقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَارَى وَالْآبِقُ يَخْتَفِي، وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ السَّفَرِ بِاصْطِلَاحِهِمَا أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَقِيلَ تُقَسَّمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ إذْ هِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ السَّفَرِ.
قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يُقْضَى لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الزِّيَادَةِ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَلَى الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ حَطَّ مِنْهُ.
وَمُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى الرَّدِّ لِيَحْيَا مَالُ الْمَالِكِ فَيَنْقُصُ دِرْهَمٌ لِيَسْلَمَ لَهُ شَيْءٌ تَحْقِيقًا لِلْفَائِدَةِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ إذَا كَانَ الرَّدُّ فِي حَيَاةٍ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ؛ وَلَوْ رَدَّ بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا جُعْلَ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الْقِنِّ، وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا جُعْلَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَبَرَّعُونَ بِالرَّدِّ عَادَةً وَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ إطْلَاقُ الْكِتَابِ.
قَالَ (وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَكِنَّ هَذَا إذَا أَشْهَدَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي اللُّقَطَةِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْآبِقَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْجُعْلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ بِحَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ فِي يَدِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا.
قَالَ (وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى كَمَا لَقِيَهُ صَارَ قَابِضًا بِالْإِعْتَاقِ) كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى، وَكَانَ إذَا بَاعَهُ مِنْ الرَّادِّ لِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ، وَالرَّادُّ وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ.
لَكِنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَجَازَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْجُعْلِ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا) قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارٌ أَوْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا.
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارٌ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنْ رَدَّهُ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَإِنْ رَدَّهُ فِي خَارِجِ الْمِصْرِ اسْتَحَقَّ أَرْبَعِينَ (فَأَوْجَبْنَا الْأَرْبَعِينَ فِي مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا فِيمَا دُونَهُ تَوْفِيقًا وَتَلْفِيقًا) أَيْ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ بِأَقَلِّ الْمَقَادِيرِ لِتَيَقُّنِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِالْأَقَلِّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَقَلِّ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِمَّا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، وَقَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَكْثَرِ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ يُعْمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّمْعِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْآبِقِ عَلَى الضَّالِّ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْجُعْلِ.
وَفِي قَوْلِهِ (وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ) إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ الْإِلْحَاقِ دَلَالَةً لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّسَاوِيَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْمُلْحَقِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ.
وَقَوْلُهُ (وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ) تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ، فَإِنْ عَمِلُوا بِالْقِسْمَةِ كَانَ لِكُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ.
قِيلَ وَالْأَشْبَهُ التَّفْوِيضُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ.
قَوْلُهُ (وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ فِي هَذَا) أَيْ فِي وُجُوبِ الْجُعْلِ (بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ) لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَانِ لِلْمَوْلَى وَهُوَ يَسْتَكْسِبُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ، وَتَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ (لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ) أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِ غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ، لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا مَالِيَّةَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمَا يَعْتِقَانِ بِالْمَوْتِ) بِإِطْلَاقِهِ ظَاهِرًا فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَفِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ الَّذِي لَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ السِّعَايَةُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى مَالٌ سِوَاهُ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ عَلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَحُرٌّ مَدْيُونٌ عِنْدَهُمَا، وَلَا جُعْلَ لِرَادِّ الْمُكَاتَبِ أَوْ الْحُرِّ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عِيَالِهِ ظَاهِرًا، وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ مَا إذَا لَمْ يَكُونَا فِي عِيَالِهِ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَحِقَّ كُلٌّ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الْجُعْلَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ، لَكِنْ اُسْتُحْسِنَ فَقِيلَ إذَا وَجَدَ عَبْدَ أَبِيهِ وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّ رَدَّ الْآبِقِ عَلَى أَبِيهِ مِنْ جُمْلَةِ الْخِدْمَةِ، وَخِدْمَةُ الْأَبِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا وَجَدَ الْأَبُ عَبْدَ ابْنِهِ وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ لِأَنَّ خِدْمَةَ الِابْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ عَلَى الْأَبِ.
وَقَوْلُهُ (فَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ إطْلَاقُ الْكِتَابِ) أَيْ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَالَ وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ أَيْ إذَا أَبَقَ الْآبِقُ مِنْ الَّذِي أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَيْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ (لَكِنْ هَذَا إذَا أَشْهَدَ) عِنْدَ الْأَخْذِ، وَقَدْ (ذَكَرْنَاهُ فِي اللُّقَطَةِ) أَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ) أَيْ نُسَخِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ (لَا شَيْءَ لَهُ) أَيْ لَا جُعْلَ لِلرَّادِّ إذَا أَبَقَ الْآبِقُ مِنْهُ (وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ) أَيْ الرَّادَّ (فِي مَعْنَى الْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ) لِأَنَّ عَامَّةَ مَنَافِعِ الْعَبْدِ زَالَتْ بِالْإِبَاقِ، وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُهَا الْمَوْلَى بِالرَّدِّ بِمَالٍ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَالْبَائِعُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ الْمَبِيعُ سَقَطَ الثَّمَنُ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَسْقُطُ الْجُعْلُ، وَاسْتُوْضِحَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ (وَكَذَا إذَا مَاتَ فِي يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا) إنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ (وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى) أَيْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ (وَقْتَ لِقَائِهِ صَارَ قَابِضًا بِالْإِعْتَاقِ) فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجُعْلُ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بِالْإِعْتَاقِ إلَى أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ مَكَانَ الْإِعْتَاقِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ لِلْمَالِيَّةِ فَيَصِيرُ بِهِ قَابِضًا كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَلَيْسَ بِإِتْلَافٍ لِلْمَالِيَّةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى قَابِضًا إلَّا أَنْ يَصِلَ إلَى يَدِهِ (وَكَذَا إذَا بَاعَهُ مِنْ الرَّادِّ لِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ) وَهَذَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَصِيرُ بِهَا قَابِضًا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى يَدِهِ لِأَنَّ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَصِلْ الْعَبْدُ إلَى يَدِ الْمَوْلَى وَلَا يَدَ لَهُ فَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْقَبْضِ.
وَقَوْلُهُ (وَالرَّدُّ) وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ قَدْ قُلْتُمْ مِنْ قَبْلُ إنَّ الرَّدَّ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْمَالِكِ ثُمَّ جَوَّزْتُمْ بَيْعَ الْمَالِكِ مِنْ الرَّادِّ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِدُخُولِهِ تَحْتَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَالرَّدُّ لَيْسَ بِبَيْعٍ كَامِلٍ بَلْ هُوَ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إعَادَةُ مِلْكِ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ فَقَطْ، لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لَا يَزُولُ عَنْ الْمَوْلَى بِالْإِبَاقِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ فَيَكُونُ جَائِزًا. قَالَ (وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ) فَالْإِشْهَادُ حَتْمٌ فِيهِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، حَتَّى لَوْ رَدَّهُ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ وَقْتَ الْأَخْذِ لَا جُعْلَ لَهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ أَمَارَةٌ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْآخِذِ أَوْ اتَّهَبَهُ أَوْ وَرِثَهُ فَرَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ، إلَّا إذَا أَشْهَدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِيَرُدَّهُ فَيَكُونُ لَهُ الْجُعْلُ وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ) ظَاهِرٌ. (وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ) لِأَنَّهُ أَحْيَا مَالِيَّتَهُ بِالرَّدِّ وَهِيَ حَقُّهُ، إذْ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهَا وَالْجُعْلُ بِمُقَابِلَةِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ، وَالرَّدُّ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ فَبِقَدْرِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ حَقَّهُ بِالْقَدْرِ الْمَضْمُونِ فَصَارَ كَثَمَنِ الدَّوَاءِ وَتَخْلِيصُهُ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ قَضَاءَ الدَّيْنِ، وَإِنْ بِيعَ بُدِئَ بِالْجُعْلِ وَالْبَاقِي لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ فِيهِ كَالْمَوْقُوفِ فَتَجِبُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ جَانِيًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ، وَعَلَى الْأَوْلِيَاءِ إنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ لِعَوْدِهَا إلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَوْهُوبًا فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِلْوَاهِبِ مَا حَصَلَتْ بِالرَّدِّ بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ، وَإِنْ كَانَ لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ، وَإِنْ رَدَّهُ وَصِيُّهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الرَّدَّ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا) سَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ فِي الرَّهْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ (وَالْجُعْلُ بِمُقَابَلَةِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ) فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إذَا رَدَّ أُمَّ الْوَلَدِ وَمَا ثَمَّةَ إحْيَاءُ الْمَالِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ، وَلَهَا مَالِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ كَسْبِهَا لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهَا وَقَدْ أَحْيَا الرَّادُّ ذَلِكَ بِرَدِّهِ.
قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا أَيْ الْعَبْدُ الْآبِقُ إذَا كَانَ مَدْيُونًا بِأَنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فَلَحِقَهُ الدَّيْنُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ اسْتَهْلَكَ مَالَ الْغَيْرِ وَأَقَرَّ بِهِ مَوْلَاهُ (قَوْلُهُ كَالْمَوْقُوفِ) يَعْنِي بَيْنَ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْمَوْلَى مَتَى اخْتَارَ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَصِيرَ لِلْغُرَمَاءِ مَتَى اخْتَارَ الْبَيْعَ، وَلَمَّا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ تَوَقَّفَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَهُوَ الْجُعْلُ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ) أَيْ الْآبِقُ مَوْهُوبًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِنْ (رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ) وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ الْوَاصِلَةَ هَذِهِ لِدَفْعِ شُبْهَةٍ تُرَدُّ عَلَى مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ فَتَجِبُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ لَهُ وَبِقَوْلِهِ فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْوَاهِبِ لِوُجُودِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي حَقِّهِ.
وَوَجْهُ الدَّفْعِ (أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِلْوَاهِبِ مَا حَصَلَتْ بِالرَّدِّ) أَيْ بِرَدِّ الْآبِقِ (بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ) مِنْ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ التَّصَرُّفِ الَّذِي يَمْنَعُ الْوَاهِبَ عَنْ الرُّجُوعِ فِي هِبَتِهِ فَلَا يَجِبُ الْجُعْلُ عَلَى الْوَاهِبِ لِذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَنْفَعَةُ حَصَلَتْ لِلْوَاهِبِ بِالْمَجْمُوعِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْفِعْلَ وَرَدُّ الرَّادِّ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، لَكِنَّ تَرْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْفِعْلَ آخِرُهُمَا وُجُودًا فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ كَمَا فِي الْقَرَابَةِ مَعَ الْمِلْكِ فَيُضَافُ الْعِتْقُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا، كَذَا هَذَا.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ لِصَبِيٍّ إلَى آخِرِهِ) ظَاهِرٌ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

.كِتَابُ الْمَفْقُودِ:

(إذَا غَابَ الرَّجُلُ فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَا يُعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ) لِأَنَّ الْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ عَاجِزٍ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْمَفْقُودُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَفِي نَصْبِ الْحَافِظِ لِمَالِهِ وَالْقَائِمِ عَلَيْهِ نَظَرٌ لَهُ.
وَقَوْلُهُ (يَسْتَوْفِي حَقَّهُ) لِإِخْفَاءِ أَنَّهُ يَقْبِضُ غَلَّاتِهِ وَالدَّيْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ، وَيُخَاصِمُ فِي دَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي حُقُوقِهِ، وَلَا يُخَاصِمُ فِي الَّذِي تَوَلَّاهُ الْمَفْقُودُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فِي الدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي وَقَضَى بِهِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، ثُمَّ مَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ صُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَيَنْظُرُ لَهُ بِحِفْظِ الْمَعْنَى (وَلَا يَبِيعُ مَا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي حِفْظِ مَالِهِ فَلَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُ حِفْظِ السُّورَةِ وَهُوَ مُمْكِنٌ.
قَالَ (وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ) وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْأَوْلَادِ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ قَرَابَةِ الْوِلَادِ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ إعَانَةً، وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فِي حَضْرَتِهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي غَيْبَتِهِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ تَجِبُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ مُمْتَنِعٌ، فَمِنْ الْأَوَّلِ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالْإِنَاثُ مِنْ الْكِبَارِ وَالزَّمِنِيُّ مِنْ الذُّكُورِ الْكِبَارِ، وَمِنْ الثَّانِي الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَالْخَالُ وَالْخَالَةُ.
وَقَوْلُهُ (مِنْ مَالِه)ِ مُرَادُهُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مَالِهِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ النَّقْدَانِ وَالتِّبْرُ بِمَنْزِلَتِهِمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ قِيمَةً كَالْمَضْرُوبِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمَا إذَا كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ مُقِرِّينَ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُونَا ظَاهِرَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَا ظَاهِرَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَاهِرَ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ أَوْ النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ بِمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
فَإِنْ دَفَعَ الْمُودِعُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يَضْمَنُ الْمُودِعُ وَلَا يُبَرَّأُ الْمَدْيُونُ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا إلَى نَائِبِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِأَمْرِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ جَاحِدَيْنِ أَصْلًا أَوْ كَانَا جَاحِدَيْنِ الزَّوْجِيَّةَ وَالنَّسَبَ لَمْ يَنْتَصِبْ أَحَدٌ مِنْ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ خَصْمًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيه لِلْغَائِبِ لَمْ يَتَعَيَّنْ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ وَهُوَ النَّفَقَةُ، لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْمَفْقُودِ: قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ هَذَا الْكِتَابِ هُنَا، وَالْمَفْقُودُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفَقْدِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ فَقَدْت الشَّيْءَ: أَيْ أَضْلَلْته، وَفَقَدْته: أَيْ طَلَبْته، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْمَفْقُودِ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ أَهْلِهِ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ.
وَذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَفْهُومِهِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ (إذَا غَابَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ) وَقَوْلُهُ (نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ) إشَارَةٌ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ فِي الشَّرْعِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ (قَوْلُهُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ) بِأَنْ كَانَ الشَّيْءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَفْقُودِ وَغَيْرِهِ (قَوْلُهُ وَأَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي (لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فِي الدَّيْنِ) فَإِنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُهَا (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) يَعْنِي أَنَّ وَكِيلَ الْقَاضِي لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ الْخُصُومَةَ كَانَ حُكْمُ الْقَاضِي بِتَنْفِيذِ الْخُصُومَةِ قَضَاءً بِالدَّيْنِ لِلْغَائِبِ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ وَلِلْغَائِبِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَالْخُصُومَةُ مِنْ الْغَائِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ (إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي) أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ رَأْيًا لَهُ وَحَكَمَ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ إذَا لَاقَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ نَفَّذَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُجْتَهَدُ فِيهِ نَفْسُ الْقَضَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ نَفَاذُهُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاضِي مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ سَبَبٌ لِلْقَضَاءِ وَهُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ هَلْ تَكُونُ حُجَّةً مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ أَوْ لَا، فَإِذَا رَآهَا الْقَاضِي حُجَّةً وَقَضَى بِهَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ (قَوْلُهُ ثُمَّ مَا كَانَ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ يَبِيعُهُ الْقَاضِي) ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ وَمِنْ الثَّانِي الْأَخُ وَالْأُخْتُ إنَّمَا كَانَ مِنْ الثَّانِي لِأَنَّهَا نَفَقَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ (وَهِيَ مُجْتَهَدٌ فِيهَا فَلَا تَجِبُ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا) وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْأَخْذُ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا.
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ) يَعْنِي الْمَلْبُوسَ وَالْمَطْعُومَ فِي مَالِهِ (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ إنْفَاقِ الْقَاضِي عَلَيْهِمْ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْقَاضِي) وَهَذَا أَيْ الِاحْتِيَاجُ إلَى الْإِقْرَارِ إنَّمَا هُوَ (إذَا لَمْ يَكُونَا) أَيْ الدَّيْنُ الْوَدِيعَةُ أَوْ النِّكَاحُ، وَالنَّسَبُ جَعْلُ الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُمَا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ (قَوْلُهُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ جَوَابِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ إنَّهُ لَا يُنْفِقُ مِنْهُمَا عَلَيْهِمْ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُودَعِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْغَائِبِ، وَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ وَلَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمُودَعُ مُقِرٌّ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْغَائِبِ، وَأَنَّ لِلزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ حَقَّ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ فَيَنْتَصِبُ هُوَ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى الْقَضَاءُ مِنْهُ إلَى الْمَفْقُودِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْهُ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ الْغَائِبِ فِي الْقَبْضِ لِلْحِفْظِ وَلَا حِفْظَ فِي الْقَبْضِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى هَؤُلَاءِ فَلَا يَكُونُ نَائِبًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي إيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ كَمَا هُوَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْحِفْظِ وَلِهَذَا جَازَ لَهُ أَنْ يُوفِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ إذَا عَلِمَ بِوُجُوبِهِ بِخِلَافِ الْمُودَعِ فَإِنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْحِفْظِ فَقَطْ.
فَإِنْ قُلْت: إذَا دَفَعَ الْمُودَعُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي وَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى مَنْ فِي عِيَالِ الْمُودَعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِمْ لَا يُوجِبُهُ إذَا كَانَ لِلْحِفْظِ وَالدَّفْعُ لِلْإِنْفَاقِ دَفْعٌ لِلْإِتْلَافِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ لِلْغَائِبِ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ لَا تُسْمَعُ إلَّا مِنْ الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ وَالْمَالِكُ غَائِبٌ وَلَا نَائِبَ لَهُ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكَّلْ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا حُكْمًا لِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ لِلْغَائِبِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ (وَهُوَ النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ) وَلَا يَكُونُ الثَّابِتُ حُكْمًا إلَّا فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَسَيَجِيءُ تَمَامُهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ) وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا قَضَى فِي الَّذِي اسْتَهْوَاهُ الْجِنُّ بِالْمَدِينَةِ وَكَفَى بِهِ إمَامًا، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ، وَبَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَخَذَ الْمِقْدَارَ مِنْهُمَا الْأَرْبَعَ مِنْ الْإِيلَاءِ وَالسِّنِينَ مِنْ الْعُنَّةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ».
وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا: هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ خَرَجَ بَيَانًا لِلْبَيَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَرْفُوعِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُرِفَ ثُبُوتُهُ وَالْغَيْبَةُ لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَالْمَوْتُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ فَلَا يُزَالُ النِّكَاحُ بِالشَّكِّ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فَاعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ مُؤَجَّلًا فَكَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ، وَلَا بِالْعُنَّةِ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ تَعْقُبُ الْأَوَدَةَ، وَالْعُنَّةُ قَلَّمَا تَنْحَلُّ بَعْدَ اسْتِمْرَارِهَا سَنَةً.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَقِصَّةُ مَنْ اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ: أَيْ جَرَّتْهُ إلَى الْمَهَاوِي وَهِيَ الْمَهَالِكُ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَنَا لَقِيت الْمَفْقُودَ فَحَدَّثَنِي حَدِيثَهُ قَالَ: أَكَلْت خَزِيرًا فِي أَهْلِي فَخَرَجْت فَأَخَذَنِي نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَمَكَثْت فِيهِمْ، ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِي عِتْقِي فَأَعْتَقُونِي ثُمَّ أَتَوْا بِي قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا: أَتَعْرِفُ الْخَلِيلَ؟ فَقُلْت: نَعَمْ، فَخَلُّوا عَنِّي، فَجِئْت فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ أَبَانَ امْرَأَتِي بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ وَحَاضَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ، فَخَيَّرَنِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيَّ وَبَيْنَ الْمَهْرِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ اعْتِبَارٍ بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مَنْعُ الزَّوْجِ حَقَّ الْمَرْأَةِ وَرَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهَا، فَإِنَّ الْعِنِّينَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ لِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَبَيْنَ الْمَوْلَى وَامْرَأَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَلَكِنَّ عُذْرَ الْمَفْقُودِ أَظْهَرُ مِنْ عُذْرِ الْمَوْلَى وَالْعِنِّينِ، فَيَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ الْمُدَّتَانِ فِي التَّرَبُّصِ بِأَنْ تُجْعَلَ السُّنُونَ مَكَانَ الشُّهُورِ فَتَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ (عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ) (قَوْلُهُ وَلَنَا) ظَاهِرٌ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْبَيَانَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُجْمَلٌ، وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ بَيَانًا لِذَلِكَ الْمُبْهَمِ (قَوْلُهُ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) رَوَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى (قَوْلُهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مَالِكٍ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ عَلَى الْإِيلَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْإِيلَاءَ إذَا كَانَ طَلَاقًا كَانَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْمَفْقُودِ فَإِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ طَلَاقٌ لَا مُعَجَّلٌ وَلَا مُؤَجَّلٌ (قَوْلُهُ وَلَا بِالْعُنَّةِ) جَوَابٌ عَنْ الْقِيَاسِ بِالْعُنَّةِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعُنَّةَ بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّتْ سَنَةً كَانَتْ طَبِيعَةً وَالطَّبِيعَةُ لَا تَنْحَلُّ فَفَاتَ حَقُّهَا عَلَى التَّأْبِيدِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ سَنَةٍ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا، بِخِلَافِ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ فَإِنَّ حَقَّهَا مَرْجُوٌّ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعِ سِنِينَ وَبَعْدَهُ. قَالَ (وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ، وَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ.
وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ، وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ اعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ (وَيُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُعَايَنَةً إذْ الْحُكْمِيُّ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِيقِيِّ (وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَرِثْ مِنْهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِهِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مَعْلُومَةً (وَلَا يَرِثُ الْمَفْقُودُ أَحَدًا مَاتَ فِي حَالِ فَقْدِهِ) لِأَنَّ بَقَاءَهُ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً) اخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُ أَصْحَابِنَا فِي مُدَّةِ الْمَفْقُودِ؛ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ، فَإِذَا مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ.
قِيلَ: وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الطَّبَائِعِ وَالنُّجُومِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ حَيًّا حُكِمَ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ مَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَطَرِيقُهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إلَى أَمْثَالِهِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَمَهْرِ مِثْلِ النِّسَاءِ، وَبَقَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِ جَمِيعِ أَقْرَانِهِ نَادِرٌ وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ النَّادِرِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ بِأَقْرَانِهِ فِي جَمِيعِ الدُّنْيَا أَوْ فِي الْإِقْلِيمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ الْفَرَائِضِ السِّرَاجِيَّةِ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ لَا يَعِيشَ أَحَدٌ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ لِأَنَّهُ مُتَوَسِّطٌ لَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا نَادِرٍ، وَالْأَقْيَسُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمَقِيسُ عَلَى طَرِيقِ الشُّذُوذِ كَقَوْلِهِمْ: أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النَّحْيَيْنِ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ كَالْمِائَةِ وَالتِّسْعِينَ وَلَكِنَّهُ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ بِشَيْءٍ أَصْلًا لَتَعَطَّلَ حُكْمُ الْمَفْقُودِ، وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الْمَقَادِيرِ (قَوْلُهُ وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ) ظَاهِرٌ. (وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِلْمَفْقُودِ وَمَاتَ الْمُوصِي) ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الْمَفْقُودِ وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِهِ يُعْطَى أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ يُحْجَبُ بِهِ لَا يُعْطَى أَصْلًا.
بَيَانُهُ: رَجُلٌ مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ وَابْنِ مَفْقُودٍ وَابْنِ ابْنٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْأَجْنَبِيِّ وَتَصَادَقُوا عَلَى فَقْدِ الِابْنِ وَطَلَبَتْ الِابْنَتَانِ الْمِيرَاثَ تُعْطَيَانِ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ وَلَا يُعْطَى وَلَدَ الِابْنِ لِأَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالْمَفْقُودِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ بِالشَّكِّ (وَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ) وَنَظِيرُ هَذَا الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنِ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ إنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ يُعْطَى كُلٌّ نَصِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا يُعْطَى، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ بِهِ يُعْطِي الْأَقَلَّ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ كَمَا فِي الْمَفْقُودِ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الشَّرْحُ:
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِلْمَفْقُودِ وَمَاتَ الْمُوصِي أَيْ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بَلْ تُوقَفُ.
وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَإِذَا أَوْصَى رَجُلٌ لِلْمَفْقُودِ بِشَيْءٍ فَإِنِّي لَا أَقْضِي بِهَا وَلَا أُبْطِلُهَا حَتَّى يَظْهَرَ حَالُ الْمَفْقُودِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَفِي الْمِيرَاثِ تُحْبَسُ حِصَّةُ الْمَفْقُودِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَتَصَادَقُوا) أَيْ الْوَرَثَةُ الْمَذْكُورُونَ وَالْأَجْنَبِيُّ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالتَّصَادُقِ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ إذَا قَالَ قَدْ مَاتَ الْمَفْقُودُ قَبْلَ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الثُّلُثَيْنِ إلَى الْبِنْتَيْنِ، لِأَنَّ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهِ لَهُمَا فَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا.
وَقَوْلُ أَوْلَادِ الِابْنِ أَبُونَا مَفْقُودٌ لَا يَمْنَعُ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا بِهَذَا الْقَوْلِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي عَلَى يَدِ ذِي الْيَدِ حَتَّى يَظْهَرَ مُسْتَحِقُّهُ، هَذَا إذَا أَقَرَّ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ، أَمَّا لَوْ جَحَدَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي يَدِهِ لِلْمَيِّتِ فَأَقَامَتْ الْبِنْتَانِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُمَا مَاتَ وَتَرَكَ الْمَالَ مِيرَاثًا لَهُمَا وَلِأَخِيهِمَا الْمَفْقُودِ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَهُوَ الْوَارِثُ مَعَهُمَا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَوَلَدُهُ الْوَارِثُ مَعَهُمَا فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَى الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ لِأَنَّهُمَا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ تُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِأَبِيهِمَا فِي هَذَا الْمَالِ وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ يُدْفَعُ إلَيْهِمَا الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ النِّصْفُ، وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى يَدِ عَدْلٍ، لِأَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ جَحَدَ وَهُوَ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَالْمَالُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِ الِابْنَتَيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَوِّلَ الْمَالَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَلَا يَقِفَ مِنْهُ شَيْئًا لِلْمَفْقُودِ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ أَيْدِيهِمَا لِأَنَّ النِّصْفَ صَارَ بَيْنَهُمَا بِيَقِينٍ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لِلْمَفْقُودِ مِنْ وَجْهٍ.
وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ وَلَا يَقِفُ مِنْهُ شَيْئًا لِلْمَفْقُودِ أَنْ لَا يَجْعَلَ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ الِابْنَتَيْنِ مِلْكًا لِلْمَفْقُودِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ وَلَدَيْ الِابْنِ الْمَفْقُودِ فَطَلَبَتْ الْبِنْتَانِ مِيرَاثَهُمَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِابْنَ مَفْقُودٌ فَإِنَّهُ تُعْطَى الْبِنْتَانِ النِّصْفَ وَهُوَ أَدْنَى مَا يُصِيبُهُمَا وَتُرِكَ الْبَاقِي فِي يَدِ وَلَدَيْ الِابْنِ الْمَفْقُودِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى بِهِ لَهُمَا وَلَا لِأَبِيهِمَا، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا الِابْنَ الْمَفْقُودَ مَيِّتًا كَانَ نَصِيبُهُمَا الثُّلُثَيْنِ فَكَانَ النِّصْفُ مُتَيَقَّنًا بِهِ.
قَوْلُهُ (وَنَظِيرُ هَذَا) يَعْنِي الْمَفْقُودَ الْحَمْلُ فِي حَقِّ تَوَقُّفِ النِّصْفِ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الرِّسَالَةِ وَشَرْحِهَا وَشَرْحِ الْفَرَائِضِ السِّرَاجِيَّةِ فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ.
قَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْحَمْلِ (وَارِثٌ آخَرُ) إنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ يُعْطَى كُلٌّ نَصِيبَهُ، كَمَا إذَا تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا وَجَدَّةً فَإِنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِالْحَمْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً حَامِلًا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُعْطَى الثُّمُنَ لِأَنَّهُ لَا تَتَغَيَّرُ فَرِيضَتُهَا وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا تُعْطَى كَابْنِ الِابْنِ وَالْأَخِ أَوْ الْعَمِّ، فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا وَأَخًا أَوْ عَمًّا لَا يُعْطَى الْأَخُ وَالْعَمُّ شَيْئًا، لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ ابْنًا فَيَسْقُطَ مَعَهُ الْأَخُ وَالْعَمُّ، فَلَمَّا كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِحَالٍ كَانَ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ مَشْكُوكًا فَلَا يُعْطَى شَيْئًا لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ بِهِ يُعْطَى الْأَقَلَّ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ كَالزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْحَمْلُ حَيًّا تَرِثُ الزَّوْجَةُ الثُّمُنَ وَالْأُمُّ السُّدُسَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا فَهُمَا يَرِثَانِ الرُّبْعَ وَالثُّلُثَ فَتُعْطَيَانِ الثُّمُنَ وَالسُّدُسَ لِلتَّيَقُّنِ كَمَا فِي الْمَفْقُودِ: يَعْنِي أَنَّهُ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ جَدَّةً وَابْنًا مَفْقُودًا فَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ نَصِيبُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ أَخًا وَابْنًا مَفْقُودًا لَا يُعْطَى الْأَخُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ أُمًّا وَابْنًا مَفْقُودًا فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْمَفْقُودُ حَيًّا تَسْتَحِقُّ الْأُمُّ السُّدُسَ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ كَمَا فِي الْحَمْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الشِّرْكَةِ:

(الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ) «لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ»، الشَّرْحُ:
كِتَابُ الشَّرِكَةِ: مُنَاسَبَةُ تَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ الْمَارَّةِ انْسَاقَتْ إلَى هَاهُنَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ.
وَلَمَّا كَانَ لِلشَّرِكَةِ مُنَاسَبَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمَفْقُودِ مِنْ حَيْثُ إنَّ نَصِيبَ الْمَفْقُودِ مِنْ مَالِ مُوَرِّثِهِ مُخْتَلِطٌ بِنَصِيبِ غَيْرِهِ كَاخْتِلَاطِ الْمَالَيْنِ فِي الشَّرِكَةِ ذَكَرَهَا عَقِيبَهُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ اخْتِلَاطِ نَصِيبَيْنِ فَصَاعِدًا بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ سُمِّيَ الْعَقْدُ الْخَاصُّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ اخْتِلَاطُ النَّصِيبَيْنِ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ لَهُ، وَالشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ وَتَعَامَلَهَا النَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ. قَالَ (الشِّرْكَةُ ضَرْبَانِ: شِرْكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشِرْكَةُ عُقُودٍ.
فَشِرْكَةُ الْأَمْلَاكِ: الْعَيْنُ يَرِثُهَا رَجُلَانِ أَوْ يَشْتَرِيَانِهَا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ) وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ تَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَمَا إذَا اتَّهَبَ رَجُلَانِ عَيْنًا أَوْ مَلَكَاهَا بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ اخْتَلَطَ مَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدِهِمَا أَوْ بِخَلْطِهِمَا خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ رَأْسًا أَوْ إلَّا بِحَرَجٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَمِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا فِي صُورَةِ الْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
الشَّرْحُ:
وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشَرِكَةُ عُقُودٍ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ رَأْسًا) كَخَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، أَوْ إلَّا بِحَرَجٍ كَخَلْطِهَا بِالشَّعِيرِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ) يَعْنِي الْبَيْعَ (مِنْ الْأَجْنَبِيِّ) إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى) قِيلَ الْفَرْقُ أَنَّ خَلْطَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَدِّي سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَخْلُوطِ إلَى الْخَالِطِ، فَإِذَا حَصَلَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ كَانَ سَبَبُ الزَّوَالِ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَاعْتُبِرَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ غَيْرَ زَائِلٍ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الشَّرِيكِ كَأَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَ نَفْسِهِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ. (وَالضَّرْبُ الثَّانِي: شِرْكَةُ الْعُقُودِ، وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا شَارَكْتُك فِي كَذَا وَكَذَا وَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت) وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَقْدَ الشِّرْكَةِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ) احْتِرَازٌ عَنْ الشَّرِكَةِ فِي التَّكَدِّي وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ يَقَعُ لِمَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ خَاصًّا لَا عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ: أَيْ شَرِكَةُ الْعُقُودِ كُلُّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِعَقْدِ الْوَكَالَةِ، ثُمَّ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ مِنْ بَيْنِهَا مَخْصُوصَةٌ بِتَضَمُّنِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ.
ثُمَّ عُلِّلَ تَضَمُّنُ هَذِهِ الْعُقُودِ الْكَفَالَةَ بِقَوْلِهِ (لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَشَرْحُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إنَّمَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّرِكَةِ ثُبُوتَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُسْتَفَادِ بِالتِّجَارَةِ، وَلَا يَصِيرُ الْمُسْتَفَادُ بِالتِّجَارَةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ وَفِي النِّصْفِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ الْمُسْتَفَادُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ. (ثُمَّ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: مُفَاوَضَةٌ، وَعِنَانٌ، وَشِرْكَةُ الصَّنَائِعِ، وَشِرْكَةُ الْوُجُوهِ.
فَأَمَّا شِرْكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي مَالِهِمَا وَتَصَرُّفِهِمَا وَدَيْنِهِمَا) لِأَنَّهَا شِرْكَةٌ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ يُفَوِّضُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرَ الشِّرْكَةِ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ هِيَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ، قَالَ قَائِلُهُمْ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ وَلَا سُرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا أَيْ مُتَسَاوِيِينَ.
فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَذَلِكَ فِي الْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا لَا يَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ، وَكَذَا فِي التَّصَرُّفِ، لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا تَصَرُّفًا لَا يَمْلِكُ الْآخَرُ لَفَاتَ التَّسَاوِي، وَكَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْكَفَالَةُ بِمَجْهُولٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَاوِضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ» وَكَذَا النَّاسُ يُعَامِلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَبِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ تَبَعًا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةُ لِبُعْدِ شَرَائِطِهَا عَنْ عِلْمِ الْعَوَامّ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيه تَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى.
قَالَ (فَتَجُوزُ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْكَبِيرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا تَجُوزُ أَيْضًا) لِمَا قُلْنَا (وَلَا تَجُوزُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ) لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ، لِأَنَّ الْحُرَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَالْكَفَالَةَ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.
قَالَ (وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُهُ أَحَدُهُمَا كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الشَّفْعَوِيِّ وَالْحَنَفِيِّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ.
وَيَتَفَاوَتَانِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَهْتَدِي إلَى الْجَائِزِ مِنْ الْعُقُودِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ خُمُورًا أَوْ خَنَازِيرَ صَحَّ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُسْلِمٌ لَا يَصِحُّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ) ذُكِرَ فِي وَجْهِ الْحَصْرِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ إمَّا أَنْ يَذْكُرَا الْمَالَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَا.
فَإِنْ ذَكَرَا، فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ اشْتِرَاطُ الْمُسَاوَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فِي رَأْسِهِ وَرِبْحِهِ أَوْ لَا.
فَإِنْ لَزِمَ فَهِيَ الْمُفَاوَضَةُ وَإِلَّا فَالْعِنَانُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَاهُ فَإِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْعَمَلُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي مَالِ الْغَيْرِ أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ الصَّنَائِعُ وَالثَّانِي الْوُجُوهُ.
وَمَعْنَى الْبَيْتِ: لَا يَصْلُحُ أُمُورُ النَّاسِ حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَسَاوِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أُمَرَاءُ وَسَادَاتٌ، فَإِنَّهُمْ إذَا كَانُوا مُتَسَاوِينَ تَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ، وَالسُّرَاةُ جَمْعُ السَّرِيِّ وَهُوَ جَمْعٌ عَزِيزٌ لَا يُعْرَفُ غَيْرُهُ.
وَقِيلَ هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لِلسَّرِيِّ.
وَقَوْلُهُ (فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً) أَمَّا ابْتِدَاءً فَظَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَأْخَذِ اشْتِقَاقِهِ، وَأَمَّا انْتِهَاءً فَلِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةَ الِامْتِنَاعِ بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ فَكَانَ لِدَوَامِهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، وَفِي ابْتِدَاءِ الْمُفَاوَضَةِ تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فَكَذَا فِي الِانْتِهَاءِ وَقَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالْعُرُوضِ وَالدُّيُونِ وَالْعَقَارِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عُرُوضٌ أَوْ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ لَا تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ مَا لَمْ تُقْبَضْ الدُّيُونُ.
وَقَوْلُهُ (كُلُّ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ فِي الْمَجْهُولِ فَاسِدٌ، حَتَّى لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا وَقَالَ وَكَّلْتُك بِالشِّرَاءِ أَوْ بِشِرَاءِ الثَّوْبِ كَانَ فَاسِدًا، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَعْلُومِ بَاطِلٌ، فَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَجْهُولِ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ جَائِزَةٌ كَمَا إذَا قَالَ لِآخَرَ وَكَّلْتُك فِي مَالِي اصْنَعْ مَا شِئْت فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعُمُومَ لَيْسَ بِمُرَادٍ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ فِي حَقِّ شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِأَهْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامًّا كَانَ تَوْكِيلًا بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ فَلَا يَجُوزُ (قَوْلُهُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ تَبَعًا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ) يَعْنِي: الْوَكَالَةُ بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ مَوْجُودَةٌ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ جَائِزَةٌ هُنَاكَ تَبَعًا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، أَلَا تَرَى أَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ تَصِحُّ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُسَمًّى عِنْدَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ) يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ، وَالْحَوَالَةُ بِشَرْطِ ضَمَانِ الْأَصِيلِ كَفَالَةٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي: أَيْ فِي كَوْنِهِمَا ذِمِّيَّيْنِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا تَجُوزُ) أَيْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْحُرِّ وَبَيْنَ الْمَمْلُوكِ ظَاهِرٌ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِيَ فِي التَّصَرُّفِ بِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ مَعَ أَنَّهُمَا لَا يَتَسَاوَيَانِ فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَوْقُوذَةِ لِاعْتِقَادِهِ الْمَالِيَّةَ فِيهَا، وَالْكِتَابِيُّ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْكِتَابِيُّ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ دُونَ الْمَجُوسِيِّ لِأَنَّ ذَبِيحَتَهُ لَا تَحِلُّ، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ بَيْنَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ مَعَ وُجُودِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْمُسَاوَاةِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْمَوْقُوذَةِ لَمْ يُعْتَبَرْ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الْمَوْقُوذَةَ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَا يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ، وَأَمَّا مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ فِي ذَلِكَ مَعْنًى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَقَبَّلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَى أَنْ يُقِيمَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، وَإِجَارَةُ الْمَجُوسِيِّ لِلذَّبْحِ صَحِيحَةٌ يَسْتَوْجِبُ بِهَا الْأَجْرَ وَإِنْ كَانَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِلْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ جَمِيعًا لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ وَالتَّصَرُّفِ. (وَلَا يَجُوزُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ وَلَا بَيْنَ الْمُكَاتَبَيْنِ) لِانْعِدَامِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْعِنَانِ كَانَ عِنَانًا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْعِنَانِ، إذْ هُوَ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُون عَامًّا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ) يَعْنِي وَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا أَبُوهُمَا لِأَنَّ مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْكَفَالَةِ وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَانِ.
وَقَوْلُهُ (إذْ هُوَ) أَيْ الْعِنَانُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُونُ عَامًّا: يَعْنِي قَدْ يَكُونُ عَامًّا فِي أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَقَدْ يَكُونُ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْهَا، وَالْمُفَاوَضَةُ عَامَّةٌ فِيهَا فَجَازَ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْمُفَاوَضَةِ وَيُرَادَ مَعْنَى الْعِنَانِ، كَمَا يَجُوزُ إثْبَاتُ مَعْنَى الْخُصُوصِ بِلَفْظِ الْعُمُومِ. قَالَ (وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ) أَمَّا الْوَكَالَةُ فَلِتَحَقُّقِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الشِّرْكَةُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ: فَلِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوَاجِبِ التِّجَارَاتِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا جَمِيعًا.
قَالَ (وَمَا يَشْتَرِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عَلَى الشِّرْكَةِ إلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَكِسْوَتَهُمْ) وَكَذَا كِسْوَتُهُ، وَكَذَا الْإِدَامُ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُسَاوَاةُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَكَانَ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا كَشِرَائِهِمَا، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ الْمُفَاوَضَةِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ الرَّاتِبَةَ مَعْلُومَةُ الْوُقُوعِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا التَّصَرُّفُ مِنْ مَالِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الشِّرَاءِ فَيَخْتَصُّ بِهِ ضَرُورَةً.
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشِّرْكَةِ لِمَا بَيَّنَّا (وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهمَا شَاءَ) الْمُشْتَرِي بِالْأَصَالَةِ وَصَاحِبُهُ بِالْكَفَالَةِ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا.
قَالَ (وَمَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الدُّيُونِ بَدَلًا عَمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ فَالْآخَرُ ضَامِنٌ لَهُ) تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ، فَمِمَّا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ وَالِاسْتِئْجَارُ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْجِنَايَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَعَنْ النَّفَقَةِ.
قَالَ (وَلَوْ كُفِّلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ عَنْ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ صَاحِبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَلْزَمُهُ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ، وَلَوْ صَدَرَ مِنْ الْمَرِيضِ يَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ وَصَارَ كَالْإِقْرَاضِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةُ بَقَاءً لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ بِمَا يُؤَدِّي عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَمْ تَصِحَّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ وَتَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ الْمَرِيضِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً.
وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ، وَلَوْ سَلِمَ فَهُوَ إعَارَةٌ فَيَكُونُ لِمِثْلِهَا حُكْمُ عَيْنِهَا لَا حُكْمُ الْبَدَلِ حَتَّى لَا يَصِحَّ فِيهِ الْأَجَلُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مُعَاوَضَةً، وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ تَلْزَمْ صَاحِبَهُ فِي الصَّحِيحِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ.
وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً.
قَالَ (وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ أَوْ وَهَبَ لَهُ وَوَصَلَ إلَى يَدِهِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا) لِفَوَاتِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ إذْ هِيَ شَرْطٌ فِيهِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَهَذَا لِأَنَّ الْآخَرَ لَا يُشَارِكُهُ فِيمَا أَصَابَهُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ، إلَّا أَنَّهَا تَنْقَلِبُ عِنَانًا لِلْإِمْكَانِ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ، وَلِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ (وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا عَرَضًا فَهُوَ لَهُ وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ) وَكَذَا الْعَقَارُ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ) أَيْ تَنْعَقِدُ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ كَعَامَّةِ الشَّرِكَاتِ لِيَتَحَقَّقَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا: يَعْنِي قَوْلَهُ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا، وَعَلَى الْكَفَالَةِ هُوَ عَلَى مَعْنَى أَنْ يُطَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ بِمَا بَاشَرَهُ الْآخَرُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: لِتَتَحَقَّقَ الْمُسَاوَاةُ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوجَبَاتِ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا جَمِيعًا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ تَعْلِيلُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ) وَهُوَ قَوْلُهُ قَدْ يَكُونُ عَلَى الشَّرِكَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى هَذَا التَّعْلِيلِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِلْبَائِعِ) أَيْ لِبَائِعِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ (قَوْلُهُ فَمِمَّا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالِاسْتِئْجَارُ) أَمَّا صُورَةُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا صُورَةُ الِاسْتِئْجَارِ فَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَجِيرًا فِي تِجَارَتِهِمَا أَوْ دَابَّةً أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ لِلْمُؤَجَّرِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا إلَى مَكَّةَ يَحُجُّ عَلَيْهَا فَلِلْمُكَارِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ، إلَّا أَنَّ شَرِيكَهُ إذَا أَدَّى مِنْ خَالِصِ مَالِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنَصِيبٍ مِنْ الْمُؤَدَّى، وَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُلْتَزِمُ بِالْعَقْدِ وَصَاحِبُهُ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ.
وَمِنْ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْجِنَايَةُ عَلَى بَنِي آدَمَ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَعَنْ النَّفَقَةِ، فَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ جِرَاحَةً خَطَأً لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَاسْتَحْلَفَهُ فَحَلَفَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ شَرِيكَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا خُصُومَةَ لَهُ مَعَ شَرِيكِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، فَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ الْآخَرُ كَفِيلًا بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّرِيكِ مِنْ مُوجَبِهَا شَيْءٌ وَلَا خُصُومَةَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَهُ، وَكَذَا الْمَهْرُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ وَالنَّفَقَةِ إذَا ادَّعَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَحَلَّفَهُ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْآخَرَ لِمَا بَيَّنَّا وَصُورَةُ الْخُلْعِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَقَدَتْ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ ثُمَّ خَالَعَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَمَا لَزِمَ عَلَيْهَا مِنْ بَدَلِ الْخُلْعِ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهَا، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّتْ بِبَدَلِ الْخُلْعِ لَا يَلْزَمُ عَلَى شَرِيكِهَا، وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ صُورَةُ غَيْرِهِ قَوْلُهُ وَلَوْ كَفَلَ أَحَدُهُمَا ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَلَوْ صَدَرَ) يَعْنِي عَقْدُ الْكَفَالَةِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِحَالِ الْمَرَضِ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَوْ أَقَرَّ بِالْكَفَالَةِ السَّابِقَةِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا يُلَاقِي حَالَ بَقَائِهَا، وَفِي حَالِ الْبَقَاءِ الْكَفَالَةُ مُعَاوَضَةٌ.
(قَوْلُهُ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ) يَعْنِي وَحَاجَتُنَا هَاهُنَا إلَى الْبَقَاءِ إذْ الْمُطَالَبَةُ تَتَوَجَّهُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهَا حُكْمُهَا فَلَمَّا لَزِمَ الْمَالُ عَلَى الشَّرِيكِ الضَّامِنِ لَزِمَ عَلَى الْآخَرِ وَهَذَا هُوَ حَالَةُ الْبَقَاءِ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ كَلَامَنَا ثَمَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُهُ أَوْ لَا، فَاعْتَبَرْنَا جِهَةَ التَّبَرُّعِ فِيهِ وَلَمْ نَعْتَبِرْ هُنَا لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ ثَمَّةَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، وَلَا كَذَلِكَ هُنَا لِصِحَّةِ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِ الضَّامِنِ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ دُونَ الصَّبِيِّ (قَوْلُهُ لَمْ يَصِحَّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ يُرِيدُ بِهِ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ إلَخْ) وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَعْنِي أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: إنْ أَقْرَضَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ (قَوْلُهُ وَلَئِنْ سَلَّمَ فَهُوَ إعَارَةٌ) أَيْ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ إقْرَاضَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ فَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ لَا مُعَاوَضَةٌ بِدَلِيلِ جَوَازِهِ، إذْ لَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً لَكَانَ فِيهِ بَيْعُ النَّقْدِ بِالنَّسِيئَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْمُقْرِضُ بَعْدَ الْإِقْرَاضِ حُكْمُ عَيْنِ مَا أَقْرَضَهُ لَا حُكْمُ بَدَلِهِ كَمَا فِي الْإِعَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (قَوْلُهُ حَتَّى لَا يَصِحَّ فِيهِ الْأَجَلُ) أَيْ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الْإِقْرَاضِ وَالْعَارِيَّةِ جَائِزٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ الْمُضِيُّ عَلَى ذَلِكَ التَّأْجِيلِ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ (قَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ) إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِإِطْلَاقِ جَوَابِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمُصَنِّفُ تَابَعَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا.
وَأَجَابَ عَنْ إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ: أَيْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ مُعَاوَضَةَ انْتِهَاءٍ وَإِلَّا فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَلَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَعْنِي فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَيْضًا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ، وَتَلَمُّحُ تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُظْهِرُ لَك سُقُوطَ مَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي قَوْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي لُزُومِ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ الشَّرِيكَ فَلَا يَكُونُ لِتَخْصِيصِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا لِقَوْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَجْهٌ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ضَمَانٌ وَجَبَ بِسَبَبٍ لَيْسَ هُوَ بِتِجَارَةٍ فَلَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ.
وَلَهُمَا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ضَمَانُ تِجَارَةٍ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالٍ مُحْتَمَلٍ لِلشَّرِكَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَحَلِّ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَلِهَذَا مَلَكَ الْمَغْصُوبَ وَالْمُسْتَهْلَكَ بِالضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ وَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ إقْرَارُ الصَّبِيِّ وَالْمَأْذُونِ لَهُ وَالْمُكَاتَبِ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ضَمَانَ تِجَارَةٍ لَمَا صَحَّ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَالًا) بِالتَّنْوِينِ أَيْ الْمَالَ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ) أَيْ فِي الْعِنَانِ ابْتِدَاءً، وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ابْتِدَاءً لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ دَوَامًا، لِأَنَّ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ عَقْدًا غَيْرَ لَازِمٍ، فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْمُضِيِّ عَلَى مُوجَبِ الْعَقْدِ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ، وَتَأَمَّلْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَأَمُّلَ عَالِمٍ بِالتَّحْقِيقِ تُدْرِكْ سُقُوطَ مَا اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَمَعَ هَذَا فَلِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ حَتَّى أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَحِينَئِذٍ كَيْفَ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِعَدَمِ اللُّزُومِ لِإِثْبَاتِ مُدَّعَاهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا: كُلُّ مَا هُوَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَلِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَنَضُمُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ إلَى قَوْلِنَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِكَةِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَيَحْصُلُ لَنَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِكَةِ لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ أَيْضًا لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ بِدَلِيلٍ فَلَا يَضُرُّ فِي مَطْلُوبِنَا لِأَنَّ الْمُوجَبَةَ الْكُلِّيَّةَ لَا تَنْعَكِسُ كَنَفْسِهَا، وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا عَرْضًا فَهُوَ لَهُ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةَ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءً فَكَذَا لَا تَفْسُدُ بَقَاءً.