فصل: الباب السادس في شرف العقل والعقلاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبر المسبوك في نصيحة الملوك (نسخة منقحة)



.الباب السادس في شرف العقل والعقلاء:

إن الله سبحانه وتعالى خلق العقل على أحسن صورة وقال له أقبل فاقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت في خلقي شيًا أحسن منك بك آخذ وبك أعطي وبك أحاسب وبك أعاقب. والدليل على صحة هذا أن الله تعالى على العباد شيئين وكلاهما موقوفان على العقل وهما الأمر والنهي كما جاء في محكم التنزيل قوله جل ذكره: {فاتقوا الله يا أولي الألباب}. وهم ذوو العقول، واشتقاق العقل من العقال، والمعقل المنيع القلعة على رأس الجبل لا يصل إليها يد أحد لامتناعها وقوتها وإحكامها.
سئل حكيم الفرس لم سمي العاقل عاقلًا فقال: للعاقل أربع علامات يعرف بها. وهي أن يتجاوز عن ذنب من ظلمه، وأن يتواضع لمن دونه، وأن يسابق إلى فعل الخير لمن هو أعلى منه، وأن يذكر ربه دائمًا وأن يتكلم عن العلم ويعرف منفعة الكلام في موضعه وإذا وقع في شدة التجأ إلى الله تعالى. وكذلك الجاهل له علامات وهو أن يجور على الناس ويظلمهم ويعسف بمن دونه وأن يتكبر على الزعماء والمتقدمين وأن يتكلم بغير علم، وأن يسكت عن خطأ وإذا وقع في شدة أهلك نفسه وإذا رأى أعمال الخير لفت عنها وجهه. حكمة: قال سعيد بن جبر: ما رأيت للإنسان لباسًا أشرف من العقل إن انكسر صححه، وإن وقع أقامه وإن ذل أعزه وإن سقط في هوة جذبه بضبعه منها واستنقذه منها وإن افتقر أغناه وأول شيء يحتاج إليه البليغ العلم الممتزج بالعقل كما جاء في الحكاية.
حكاية: يقال إنه ما كان في خلفاء بني العباس أعلم من المأمون في جميع العلوم فكان له في كل أسبوع يومان يجلس فيهما لمناظرة الفقهاء وكان يجتمع عنده الفقهاء والمناظرون، والعلماء والمتكلمون، فدخل في بعض الأيام إلى مجلسه رجل غريب عليه ثياب بياض رثة فجلس في أواخر الناس وقعد من وراء الفقهاء في مكان مجهول فلما ابتدأوا في المسائل وكان رسمهم يديرون المسألة على جماعة أهل المجلس فكل من وجد زيادة لطيفة أو نكتة غريبة ذكرها فدارت المسألة إلى أن وصلت إلى ذلك الرجل الغريب فتكلم بكلام عجيب فاستحسنه المأمون فأمر أن يرفع إلى أعلى من تلك المرتبة. فلما وصلت الثالثة أجاب بجواب أحسن من أجوبة الفقهاء كلهم فأمر أن يرفع إلى أعلى من تلك المرتبة. فلما وصلت الثالثة أجاب بجواب أحسن وأصوب من الجوابيين الأولين فأمر المأمون أن يجلس قريبًا منه فلما انقضت المناظرة أحضر الماء وغسلوا أيديهم ثم أحضر الطعام فأكلوا ثم نهض الفقهاء وخرجوا وقرب المأمون ذلك الرجل وأدناه وطيب قلبه ووعده بالإحسان إليه والإنعام عليه. ثم عبى مجلس الشراب ونضد وحضر الندماء الملاح، ودارت الراح. فلما وصل الدور إلى الرجل نهض قائمًا وقال إن أذن أمير المؤمنين تكلمت بكلمة واحدة فقال قل ما تشاء فقال قد علم الرأي العالي زاده الله علوًّا أن العبد كان في مجلس الشريف من مجاهيل الناس ووضعاء الجلاس، وأن أمير المؤمنين بقدر يسير من العقل الذي أبداه جعله مرفوعًا على درجة غيره وبلغ به الغاية التي لم تسم إليها همته وأن العبد إذا شرب الشراب تباعد عنه العقل وقرب منه الجهل وسلب أدبه فعاد إلى تلك الدرجة ووقع في أعين الناس كما كان ذليلًا فإن رأى الرأي العالي أن لا يفرق بينه وبين ذلك القدر اليسير من العقل الذي أعزه بعد الذلة وكثرة بعد القلة بمنه وفضله وكرمه، وسيادته وحسن شيمه، فعل متطولًا، وأنعم متفضلًا. فلما سمع المأمون منه ذلك مدحه وشكره وأجلسه في رتبته ووفره وأمر له بمائة ألف درهم وحمله على فرس وأعطاه ثياب تجمل وكان كل مجلس يرفعه على جماعة الفقهاء حتى صار أرفع منهم درجة، وأعلى منزلة.
وإنما أوردنا هذه الحكاية لأجل نعت العقل لأن العقل يوصل صاحبه إلى درجة عالية، ومرتبة سامية، وأن الجهل يحط صاحبه عن درجته ويهبط به من علو مكانته.
حكاية: يقال أنه جاء في بعض الأيام رجل إلى باب الخليفة المنصور فقال أيها الحاجب أعلم أمير المؤمنين أن بالباب رجلًا من أهل العلم واسمه عاصم وهو يذكر أنه كان في الزمن الماضي بينه وبين أمير المؤمنين صحبة مدة سنة وأكثر بالشام في التعليم والدرس وقد وصل الآن للسلام، ولتجديد العهد بالإمام. فلما عرفه الحاجب أذن له فلما دخل وسلم عليه ثقل قدومه ووصوله على قلب أبي الوانيق لغاثة منطقه وسوء أدبه فأجلسه وسأله وقال له في أي حاجة قدمت فقال لرؤية أمير المؤمنين بوسيلة تلك الصحبة القديمة فأمر له بألف درهم فأخذها الرجل وانصرف ثم عاد بعد سنة أخرى وكان قد مات للمنصور ولد وهو جالس في العزاء فدخل الرجل وسلم عليه ودعا له فقال فيم قدمت قال أنا ذلك الرجل الذي كنت معك في الشام وقد قدمت معزيًا برزيتك، ومؤديًا حق تعزيتك، فأمر له بخمسمائة درهم فأخذها ثم عاد بعد سنة أخرى فلم يجد حجة يحتج بها في الدخول إلا أنه دخل في جملة الناس وسلم فقال له الخليفة لأي سبب وصلت فقال أنا ذلك الرجل الذي كنت معك في الشام في التعليم والدرس وكتابة الأخيار واستماع الأحاديث وكنت قد كتبت معك دعاء الحاجة وأن كل من دعا به في حاجة قضى الله حاجته وقد ضاع المنصور لا تتعب في طلب ذلك الدعاء فانه غير أخلص ولو كان مستحبًا لتخلصت منك فخجل ذلك الرجل لما سمع هذا الكلام. وإنما أوردنا هذه الحكاية لأن الإنسان إذا كان عالمًا ولم يكن له عقل سقط جاهه ومرتبته.
حكاية: كان في ذلك العصر وصل رجل من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المنصور بحكم الصداقة التي كانت بينهما قديمًا فلما وصل خليفة الزمان قدم عليه، ووفد إليه، وكان الرجل عاقلًا لبيبًا ولم يكن عالمًا. فلما رآه المنصور قربه وأدناه، وأزلفه واستدعاه. فقال له الرجل يا أمير المؤمنين أنا محب لك شديد المحبة والولاء مخلص في الطاعة والدعاء غير أنني لا أصلح لخدمة الملوك فكيف ينبغي أن أزورك بحيث لا يظهر مني سوء أنني لا أصلح لخدمة الملوك فكيف ينبغي أن أزورك بحيث لا يظهر مني سوء أدب فقال المنصور أخر الزيارة وإذا زرتني فاجعل بين زيارتك وانقطاعك مدة إذا غبت فيها لم أنسك وإذا حضرت لم أملك وازدادت محبتك عندي عما كانت عليه أولًا. وإذا دخلت فاجلس بعيدًا مني حتى يقربك الحاجب بالتدريج ولا تطل جلوسك فتنسب إلى سوء الأدب ولا تسأل حاجتك لئلا تثقل على قلبي، وإذا أحسنت إليك فاشكرني في كل محلة تحلها ومنزلة تنزل بحيث إذا بلغني سررت بشكرك، وازددت في برك، ولا تذكر في المجالس ما جرى بيني وبينك في الزمان الماضي. فامتثل الرجل هذه الوصايا فكان في كل سنة يمضي إلى سلامه مرتين وكان المنصور يعطيه في كل مرة يسلم عليه ألف درهم. وإنما ذكرت هذه الحكاية ليعلم أن من كان له عقل وإن لم يكن عالمًا فإن عقله يكون له دليلًا، ومن كان ذا علم وليس له عقل عادت أموره كلها منعكسة منقلبة، ومن كان تام العقل والعلم كان في الدنيا نبيًا أو حكيمًا أو إماما فان جمال الإنسان وعزه ومرتبته وصلاح أحوال دنياه وآخرته بالعقل وتمامه، فتتكامل صفاته وأقسامه كما قال الشاعر:
بِالعَقلِ يَنَالُ المَرءُ أوَجَ البَدرِ ** والَعقلُ بِه الجَاه وسَامِي القَدرِ

والعَقَلُ بِه يُغسَلُ عَارَ الوِزرِ ** فِي العَقلِ التَاجُ مَع نَفاذِ الأمرِ

والعقل أول الإيمان ووسط الإيمان وآخر الإيمان. قال بعض القدماء ليس العقل أن الإنسان إذا وقع في أمر اجتهد في حسن خلاصه منه بل العقل أن لا يوقع نفسه في أمر يحتاج إلى الخلاص منه.
حكمة: قال أبرويز الملك لولده احفظ الرعية ليحفظك العقل واصرف آفتك عن الرعية ليصرف العقل آفته عنك. واعلم أنك حكم بين الناس والعقل حكم جليل فكما ينبغي أن يقبل الناس أمرك فكذلك ينبغي أن تقبل أمر العقل.
حكمة: كتب يونان الوزير كتابًا إلى الملك العادل كسرى أنوشروان وأدى رسائل في باب العقل وما يأمر به العقل فشكره أنوشروان وأمر الكاتب أن يكتب إليه جوابًا وقال أيها الحكيم لقد أحسنت في تأدية رسالة العقل لأننا ومن تقدمنا من الملوك إنما تحلينا بالعقل فكيف يمكننا مخالفته فان العاقل أقرب الناس إلى الله تعالى والعقل كالشمس في الدنيا وهو قلب الحسنات والعقل حسن في كل واحد وهو في الأكابر والزعماء أحسن كالرطوبة في الشجرة مادامت طرية رطبة كان الناس من رائحتها ونشر أزهارها وطيب ثمارها ونضارتها وطراوتها في سرور وغبطة ونزهة وفرحة فإذا جفت رطوبتها وقحلت نضارتها فلا تصلح حينئذ لسوى القلع وكذلك الإنسان مادام عقله قويمًا، وجسمه سليمًا، صحبته مباركة ومواصلته حسنة نافعة فإذا زال عقله، وغلب عليه جهله. فحينئذ لا يصلح للحياة، ولا يستره غير الوفاة.
وقال أنوشروان كيف يسعني أن أخالف العقل ولا أفعل ما يأمرني به العقل وأنه ليس لملك ولا رعية خير من العقل فان بضيائه يفرق بين المليح والقبيح والجيد والرديء والحق والباطل والصدق والكذب. قال بزرجمهر شيئان لا يمكن وجودهما في شخص كاملين العقل والشجاعة.
حكمة: قال لقمان الحكيم مهما كان الرجل عالمًا فانه لا ينتفع بعلمه ما لم يكن العقل لعلمه مصاحبًا.
حكمة: سأل أنوشروان بزرجمهر من تحب أن يكون أعقل الناس فقال العدو إذا عاداني فقال لم؟ قال لآمن إساءته وكل شيء إذا كثر هان إلا العقل فإنه كلما كان أكثر كان صاحبه أعز.
حكمة: قيل لبزرجمهر أي شيء لا بد للإنسان منه ولا مندوحة له عنه فقال العقل فقيل له ما قدر العقل فقال شيء لا يوجد في الإنسان كاملًا كيف يعرف قدره.
حكمة: قال بعض الحكماء جميع الأشياء مفتقرة إلى العقل والعقل مفتقر إلى التجربة ولا غنى أعم من العقل ولا فقر أشد من الجهل وكل من كان علمه أكثر كانت حاجته إلى العقل أوفر، والمرء في هذا كراع ضعيف معه قطيع كبير يضرب للعالم الذي لا عقل له.
حكمة: قالت العلماء العقل أمير وله جنود وجنوده التمييز والحفظ والفهم. وسرور الروح العقل لأن به ثبات الجسم والروح سراج نوره العقل ثم ينبسط في جميع الجسد والعاقل لا يغتم أبدًا لأنه لا يفعل ما يوجب الاغتنام ولا يشرع في أمر لا يجوز لمثله الاهتمام به.
حكمة: سئل ابن عباس العقل أم الأدب؟ فقال لأن العقل من الله تعالى والأدب تكليف من العبد. وسئل عبد الله بن المبارك العقل خير أخ الأدب فقال العقل فقيل له ما العقل فقال العقل تعلم العلم والعمل بالعلم أن تعلم أنه ينبغي أن تعمل والعقل أنك متى علمت عملت.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قسم الله لعباده خيرًا من العقل ونوم العاقل خير من عبادة الجاهل والعاقل المفطر خير من الجاهل الصائم، وضحك العاقل خير من بكاء الجاهل.
حكمة: قال رجل لإقليدس لا أستريح أو أتلف روحك فقال أنا لا أستريح أو أخرج الحقد من قلبك.
حكمة: قال الحكيم كما تفوح من الميتة الرائحة المكروهة يفوح من الجاهل نتونة الجهل فتضرّ به وبجيرانه وأهله وأقاربه.
حكمة: سئل الحكيم ما العقل فقال سداد وعقد بين ثلاثة وعشرين شيئًا فلولا هذه العقود لاختلط الجيد بالرديء. أولًا هو عقد بين التوحيد والشرك، وبين الإيمان والكفر، وبين الحقد والتهور، وبين الإسلام والغفلة، وبين اليقين والشك وبين العاقبة والبلاء، وبين الكرم والبخل، وبين حسن الخلق والقباحة وبين التواضع والتكبر، وبين الصداقة والعداوة، وبين العلم والجهل، وبين الحياء والوقاحة، وبين الحق والباطل، وبين الرزانة والخفة، وبين الظلمة والضياء، وبين الكرامة والزلة، وبين الطاعة والمعصية، وبين ذكر الله تعالى والغفلة، وبين النصيحة والحسد، وبين السنة والبدعة، وبين الرحمة والقساوة، وبين الحلم والحمق.
وقال صاحب الكتاب رحمه الله تعالى جميع محاسن الدنيا في العقل وسائر العلوم والأعمال مرجعها إلى العقل كما جاء في الحكاية.
حكاية: روي أن الريح حملت كرسي سليمان بن داود عليهما السلام وجعلت تسير به فلاح لسليمان بلد فأمر الريح أن تحطه فنزل على باب ذلك البلد فرأى على بابه مكتوبًا: أجرة اجتهاد يوم واحد درهم، والحسن والجمال أجرتهما في يوم مائتا مثقال وعلم ساعة واحدة لا تحصى قيمته وجميع الأشياء منوط بالعلم والعلم أسير والتدبير مع العقل توأمان ون آتاه الله العقل فقد آتاه خيرًا كثيرًا كما قال الشاعر:
إن كُنتَ مِن أصلِ جُوهَرٍ مَنسوُب ** أو يُوسف الحَسَن ولدُ يَعقُوب

ما أنَت مُجَالسُ بِعقِلكَ المحبُوبِ ** فِي النَاسِ سِوى مُحقرُ معيوبِ

لتعلم أيها الأخ كنه العقل ونفاسته وعلو قيمته فيجب عليك أيها العاقل الحمد والشكر لواهب الشكر الباري جلت قدرته.