فصل: الباب الرابع: في سمو همم الملوك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبر المسبوك في نصيحة الملوك (نسخة منقحة)



.الباب الثالث: في ذكر الكتاب وآدابهم:

قالت العلماء ليس شيء أفضل من القلم لأنه به يمكن إعادة السالف والماضي. ومن فضل القلم وشرفه أن الله تعالى أقسم به فقال عز من قائل: {ن والَقلَم وما يسطرَون}. وقال تعالى: {اِِقرَأ ورُبكَ الأكَرمُ الذِي عَلَمَ بِالَقلمِ عَلَمَ الِإنسانِ ما لم يعَلم}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو سائر إلى يوم القيامة الحديث». قال عبد الله بن عباس في تفسير هذه الآية حكاية عن يوسف عليه السلام: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}. قال معناه كاتب حاسب. وقال إن القلم صائغ الكلام.
حكمة: قال ابن المعتز القلم معدن والعقل جوهر والقلم صائغ والخط صناعة. قال جالينوس القلم طبيب الكلام. قال بليناس القلم طلسم كبير. قال إسكندر الدنيا تحت شيئين السيف والقلم والسيف تحت القلم والقلم أدب المتعملين وبضاعتهم وبه يعرف رأي كل إنسان من قريب وبعيد ومهما كان الرجل مجربًا للزمان فانه ما لم ينظر في الكتب لا يكون كامل العقل لأن مدة عمر الإنسان معلومة ومعلوم أيضًا أن في هذه المدة القريبة والعمر قصير كم يمكنه أن يدرك بتجربته ومعلوم أيضًا كم يمكنه أن يحفظ بقلبه. السيف والقلم حاكمان في جميع الأشياء، ولولا السيف والقلم ما قدمت الدنيا.
وأما الكتاب فلا يجوز لهم أن يعرفوا أكثر من حدود الكتابة ليصلحوا لخدمة الأكابر. وقالت الحكماء والملوك القدماء: ينبغي أن يكون الكاتب عالمًا بعشرة أشياء. الأول بعد الماء وقربه تحت الأرض، ومعرفة استخراج الإفتاء، ومعرفة زيادة الليل والنهار ونقصانهما في الصيف والشتاء وسير الشمس والقمر والنجوم، ومعرفة الاجتماع والاستقبال، والحساب بالأصابع وحساب الهندسة والتقويم واختيارات الأيام وما يصلح للمزارعين ومعرفة الطب والأدوية، ومعرفة ريح الجنوب ولشمال، وعلم الشعر والقوافي. ومع هذا كله ينبغي أن يكون الكاتب خفيف الروح طيب اللقاء عالمًا ببراية القلم وتدبيره وقطه ورفعه وخطه ومهما كان في قلبه أظهره بسنان قلمه وأن يحرس نفسه أن يكون مجتمعًا متصلًا. وأن يكون الخط مبنيًا ويعطي كل حرف حقه كما يحكى أنه كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عامل فكتب إلى عمرو بن العاص كتابًا لم يظهر سين سم الله الرحمن الرحيم فاستدعاه عمرو وقال له اظهر أولًا سين بسم الله ثم توجه بعد ذلك إلى عملك. وأول ما ينبغي للكاتب أن يعلم براية القلم فإن الإنسان إذا كان يحسن الخط ويعرف أن يبري قلمه فإن الخط على كل حال يجيء صالحًا.
حكاية: كان لشاهنشاه عشرة من الوزراء وكان في حملتهم لصاحب إسماعيل بن عباد فاجتمع الوزراء على تنكيسه واتفقوا على التضريب عليه وقالوا أن الصاحب لا يقدر أن يبري قلمه فلما علم بذلك شاهنشاه جمعهم وقالوا أن الصاحب أي أدب فيكم ليس لي مثله حتى تتجاسروا أن تتحدثوا عني بحضرة شاهنشاه وأن أبي علمني الوزارة ولم يعلمني التجارة أقل أدبي براية القلم وهل فيكم من يقدر أن يكتب كتابًا تامًا بقلم مكسور الرأس فجز الجماعة عن ذلك فقال له شاهنشاه اكتب أنت فأخذ الصاحب قلمًا وكسر رأسه وكتب به درجًا تامًا فأقر الجماعة بفضله، واعترفوا بسداده ونبله، وأجود الأقلام ما كان مستقيمًا أصفر اللون رقيق الوسط، والقلم المحرف من جانبه الأيمن يصلح للخط العربي والفارسي والعبري واللسان الدري يجب أن يكون قلمه محرفًا من الجانب الأيسر، وخير الأقلام ما وصفه يحيى بن جعفر البرمكي في كتاب كتبه إلى يحيى بن ليث قلم لا غليظ ولا رقيق وسطه دقيق، يجب أن تكون السكين التي يبرى بها الأقلام في غاية الحدة وأن تكون براية القلم على شكل منقار الكركي محرفًا من الجانب الأيمن، وينبغي أن يكون المقط الذي يقط عليه في غاية الصلابة، ويجب أن تكون الأنقاش فارسية خفيفة الوزن والكاغد صقيلًا متساويًا وأن يجوز مده لأنه يتوحش بذلك الخط وأن تكون صور الحروف يشبه بعضها بعضًا ولا يقدر ذلك إلا حكيم عاقل أو من تعودت بذلك أنامله.
وكان عبد الله بن رافع كاتبًا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال كنت أكتب يومًا فقال لي أمير المؤمنين ألق دواتك وأطل جلفة قلمك ووسع ما بين السطور واجمع ما بين الحروف وكان عبد الله بن جبلة كاتبًا محسنًا فقال لغلمانه لتكون أقلامكم بحرية فإن لم تكن بحرية فلتكن صفرًا واقطعوا عقد الأقلام لئلا تنعقد الأمور، ولا يجوز إنفاذ كتاب بغير ختم فإن كرم الكتاب ختمه.
وقال عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى: {أنِي ألقِي إِلي كِتَابٍ كَرِيمٍ}. أي مختوم.وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتابًا إلى العجم وقال إنهم لا يريدون كتابًا بغير ختم فختمه بخاتمه المبارك وكان عليه ثلاثة أسطر محمد رسول الله. خبر روى صخر بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب كتابًا إلى النجاشي رماه على التراب ثم أنفذه فلا جرم أنه أسلم. ولما كتب كتابًا إلى كسرى أنوشروان لم يلقه على التراب لا جرم أنه لم يسلم وقال صلى الله عليه وسلم: «تربوا كتبكم فإنه أنجح لحوائجكم». وقال: «تربوا الكتاب فإن التراب مبارك وإذا كتب الكتاب فليقرأ قبل طيه فإن رأى فيه خطأ تداركه وأصلحه». وينبغي أن يجتهد الكاتب أن يكون الكلام قصيرًا والمعنى طويلًا، وأن لا يكرر كلمة يكتبها، وأن يحترز من الألفاظ الثقيلة الغثة ليكون كاتبها محمودًا. وفي باب الكتابة كلام طويل كثير إن ذكرناه طال الكتاب ونقتنع منه بهذا القدر فقد قيل خير الكلام ما قل ودل وجل ولم يمل.

.الباب الرابع: في سمو همم الملوك:

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتهد أن لا تكون دنيء الهمة فاني ما رأيت أسقط لقدم الإنسان من تداني همته. وقال عمرو بن العاص المرء حيث وضع نفسه يريد إن أعز نفسه علا أمره، وإن أذله ذل وهان قدره. وتفسير معنى الهمة أن يرفع نفسه فإن أنفة القلب من همم الأكابر لأنهم يعرفون قدر أنفسهم فيعزونها ولا يرفع قدر أحد حتى يكون هو الرافع لقدر نفسه. واعزاز المرء نفسه أن لا يختلط بالأراذل ولا يشرع في عمل ما لا يجوز لمثله أن يعمله ولا ما يعاب به والهمة والآنفة للملوك لأن الله ركب فيهم الخصلة ليتعلمها منهم الوزراء والندماء كما جاء في الحكاية.
حكاية: أمر أبو الدوانيق لرجل بخمسمائة درهم فقال أحمد بن الخصيب لا يجوز للملك أن يهب ما دون الألف من الأعداد. وكان هارون الرشيد يومًا راكبًا في موكبه فسقط فرس رجل من عسكره فقال هارون ليعط خمسمائة درهم فأشار إليه يحيى بعينه وقال هذا خطأ فلما نزلوا قال الرشيد أي خطأ بدا مني حتى أشرت ألي بعينك فقال لا يجوز أن يجري على لسان أحد من الملوك أقل من الألف من الأعداد فقال الرشيد فإن اتفق أمر لا يجوز أن يعطى فيه أكثر من خمسمائة درهم مثل هذا فكيف يقال قل ليعطى فرسًا فيدفع إليه فرس على جاري العادة والرسم وتكون قد نزهت همتك عن ذكر الحقير. ولهذا خلع المأمون ولده من ولاية عهده وذلك أن المأمون اجتاز بحجرة العباس فسمعه يقول لغلامه يا غلام قد رأيت بباب الرصافة بقلًا حسنًا فخذ نصف درهم وصل إلى باب الرصافة وائتني بشيء منه فناداه المأمون من الآن علمت أن للدرهم نصفًا فأنت لا تصلح لولاية العهد وتدبير المملكة ولا يأتي منك صلاح ولا فلاح.
حكمة: في وصية نامة أزدشير لولده إذا أردت أن تهب لأحد من ولدك شيئًا فاجتهد أن لا يكون عطاؤك أقل من دخل ولاية أو قرية أو قيمة بلد أو رستاق يستغني به الشخص الذي تهبه تزول حاجته ويستغني أعقابه به وأولاده ما عاشوا فيحصل بذلك في حساب الأحياء لا في حساب الأموات واجتهد أنك لا ترغب في التجارة بوجه من الوجود فإن ذلك يدل على دناءة همة الملك.
حكمة: يقال أنه كان الملك هرمز بن سابور وزير فكتب إليه كتابًا يذكر فيه أنه وصل من جانب البحر تجار معهم اللؤلؤ والياقوت والجواهر النفيسة القيمة وإنني ابتعت منهم برسم الخزانة بمبلغ ألف دينار والآن قد حضر فلان التاجر وهو يطلب الجوهر بربح كثير فإن رغب مولانا فليرسم بما يرى. فكتب هرمز جوابه وقال مائة ألف ومائة ألف مثلها وأمثالها ليس لها في أعيننا خطر ولا نرغب فيها بوجه من الوجوه لنفسك ولا تعد لمثل هذا الكلام ولا تخلط في أموالنا درهمًا واحدًا ولا دانقًا فردًا من أرباح التجارة فإن ذلك يسقط قيمة الملك ويزري بحسن اسمه، ويعود بقبح قاعدته ورسمه، ويضر بصيته في حال حياته وبعد وفاته.
حكاية: حكى أن الأمير عمارة بن حمزة كان في بعض الأيام جالسًا في مجلس الخليفة المنصور وكان يوم نظره في المظالم فنهض رجل على قدميه وقال أنا مظلوم فقال من ظلمك فقال عمارة بن حمزة اغتصب ضياعي وابتز ملكي وعقاري فأمره المنصور أن يقوم من مقامه ويساوس خصمه للمحاكمة فقال عمارة يا أمير المؤمنين إن كانت الضياع له فما أنازعه فيها وإن كانت لي فقد وهبتها له ومالي حاجة في محاكمته وما أبيع مكاني الذي أكرمن به أمير بضياع ولا غيرها فتعجب الأكابر الحاضرون من علو همته، وشرف نفسه ومروءته، الهمة والنهمة على شكل واحد وكل إنسان له منهما نصيب فواحد بالسخاء وإطعام الطعام وآخر بالعلم وآخر بالعبادة والقناعة والزهادة، وترك الدنيا، وطلب العقبى وآخر بطلب الزيادة. وأما الهمة بالسخاء وبذل المال، وإسداء النوال فينبغي أن تكون كما جاء في الحكاية.
حكاية: يقال أن يحيى بن خالد خرج يومًا من دار الخلافة راكبًا إلى داره فرأى على باب الدار رجلًا فلما قرب نهض قائمًا وسلم عليه وقال يا أبا جعفر أنا محتاج إلى ما في يدك وقد جعلت الله وسيلتي إليك فأمر يحيى أن يفرد له موضع في داره وأن يحمل إليه في كل يوم ألف درهم وأن يكون طعامه من طعامه المختص به فبقي على ذلك شهرًا كاملًا فلما انقضى الشهر كان قد وصل إليه ثلاثون ألف درهم فأخذ الرجل الدراهم وانصرف فقيل ليحيى في ذلك فقال والله لو أقام مدة عمره، وطول دهره، ما منعته صلتي ولا قطعت عنه ضيافتي.
حكاية: كان لجعفر بن موسى الهادي جارية عوادة تعرف ببدر الكبرى ولم يكن في زمانها أحسن وجهًا منها ولا أحذق بصناعة الغناء وضرب الأوتار منها وكانت في غاية الكمال، ونهاية الجمال، فسمع بخبرها محمد ابن زبيدة الأمين فالتمس منه أن يبيعها له فقال له جعفر أنه لا يجيء من مثلي بيع الجواري، ولا المساومة في السراري، ولولا أنها مزينة داري، لأنفذتها إليك، ولم أبخل بها عليك. ثم بعد ذلك بأيام جاء محمد ابن زبيدة إلى داره فرتب مجلس الشراب وأمر بدرًا أن تغني له وتطربه فأخذ محمد في الشراب والطرب ومال على جعفر بكثرة الشرب حتى أسكره وأخذ الجارية معه إلى داره ولم يمد إليها يده من شرف نفسه وهمته ثم رسم من الغد باستدعاء جعفر فلما حضر قدم بين يديه الشراب وأمر الجارية أن تغني من وراء الستر فسمع جعفر غناءها فلم ينطق من شرف نفسه ولم يظهر تغيرًا في محاضرته ثم أمر محمد الأمين أن يملأ ذلك الزورق الذي ركب فيه جعفر إليه دراهم فكانت ألفي ألف بدرة وجملتها عشرون ألف ألف درهم حتى استغاث الملاحون وقالوا ما بقي الزورق يحمل شيئًا آخر وأمر بحمله إلى دار جعفر والجارية أيضًا. هكذا كانت همم الأكابر. وسئل بعض الحكماء من أعلا الناس حالًا فقال أعلاهم همة وأكثرهم علمًا، وأغزرهم فهمًا واصفاهم حالًا فقيل له فمن ينبغي أن يتوصل ليخلص من نحوسة حظه وضائقته فقال بالملوك والأكابر وذوي الهمم العالية، والنفوس الشريفة السامية، كما قيل جاور بحرًا أن ملكًا.
حكاية: قال سعد بن سالم الباهلي اشتدت بي الحال في زمن الرشيد واجتمع علي ديون يعجزني بعض قضائها، وعسر علي أداؤها، واحتشد ببابي أرباب الديون، وتزاحم الطالبون، ولازمني الغرماء فضاقت حيلتي، وازدادت فكرتي فقصدت عبد الله بن مالك الخزاعي التمست منه أن يمدني برأيه وإن يرشدني إلى باب الفرج فقال عبد الله لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمك، وضائقتك وغمكم، إلا البرامكة فقلت ومن يقدر على احتمال تكبرهم، والصبر على تيههم وتجبرهم. فقال تصبر على ذلك لمصلحة أحوالك فنهضت إلى الفضل وجعفر ابني يحيى بن خالد فقصصت عليهما قصتي وأبديت لهما غصتي. فقالا أعانك الله وأقام لك الكفاية فعدت إلى عبد الله ابن مالك ضيق الصدر، منقسم الفكر، منكسر القلب وأعدت عليه ما قالاه فقال يجب أن تكون عندنا اليوم لننظر ما يقدره الله تعالى فجلست عنده ساعة وإذا بغلامي قد أقبل فقال عبد الله أرجو أن يكون قد جاء الفرج فقم وانظر ما الشأن فنهضت وأسرعت عدوًا فرأيت ببابي رجلًا معه رقعة مكتوب فيها إنك لما عدت من عندنا مضيت إلى الخليفة وعرفته ما قد أفضت بك الحال إليه يصرفها إلى غرمائه فمن أين يقيم وجوه نفقاته فأمر بثمانمائة ألف درهم أخرى وقد حملت أنا من خاصتي ألف ألف درهم فصارت الجملة ألفي ألف درهم وثمانمائة ألف درهم أصلح بها أحوالك.
حكاية: يقال إنه كان لأنوشروان نديم وكان في مجلس الشراب جام من ذهب مرصع باللؤلؤ والجواهر النفيسة فسرقه النديم ونظر إليه أنوشروان فرآه وهو يخفيه فجاء الشرابي وطلب الجام فلم يجده فنادى يا أهل المجلس قد ضاع لنا جام مرصع بالجواهر فلا يخرجن أحد حتى يرد الجام فقال أنوشروان مكنهم من الخروج فإن الذي سرق الجام لا يرده والذي رآه لا يقر عليه فأين كان السخاء وعلو الهمة كانت الراحة والخير ولكن من ينكر الإحسان، ويجحد الامتنان لا أصل له ومن لا أصل له لا يقدر أن يستر فكره.
حكاية: يقال أن الرشيد استدعى صالحًا في التاريخ الذي تغير فيه على البرامكة وقال صالح صر إلى منصور بن زياد وقل له لنا عليك عشرة آلاف ألف درهم نريد أن تحصلها في هذه الساعة وإن لم يحصلها إلى المغرب فخذ رأسه عن جسده وائتني به وإياك ومراجعتي في شيء من أمره. قال صالح فصرت إلى منصور وعرفته ما ذكره الرشيد من سياسته فقال له هلكت وحلف أن جميع أسبابه وأملاكه لا يقوم بمائة ألف درهم فمن أين يقوم بتحصيل عشرة آلاف ألف درهم قال صالح فقلت له دبر حيلة في أمرك فإني لا أقدر أن أمهل أحابي فيما أمر به أمير المؤمنين فقال احملني إلى بيتي أودع أولادي وأهلي وصبيتي وأوصي أقاربي فجعل منصور يودع أهل بيته وارتفع في منزله البكاء والاستغاثة والصراخ. قال صالح فقلت له ربما يكون لك فرج على أيدي البرامكة فامض بنا إليهم فأخذ يبكي ويصرخ حتى أتينا يحيى بن خالد فقصصت عليه القصة وشرحت عليه ما ناله فاغتم لذلك وأطرق إلى الأرض ساكنًا زمانًا ثم رفع رأسه ثم استدعى خازنه وقال له كم في خزانتنا من الدراهم فقال مقدار ألف ألف درهم فأمر بإحضارها وأنفذ قاصدًا إلى الفضل ولده فقال للرسول قل له إنه عرض بيع ضياع جليلة فأنفذ ما عندك من الدراهم فأنفذ ألفي ألف درهم وأنفذ بآخر إلى جعفر وقال للرسول قل له اتفق لنا شغل ونحتاج فيه إلى شيء من الدراهم فأنفذ جعفر ألفي ألف درهم فقال منصور يا مولاي قد تمسكت بك وما أعرف خلاصي إلا منك وإتمام بقية ديني فأطرق يحيى إلى الأرض وبكى وقال يا غلام إن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان وهب جاريتنا العوادة دنانير وجوهرة عظيمة القيمة فامض إليها وقل لها تنفذ تلك الجوهرة فمضى الغلام وأتى بها إليه فقال يحيى يا صالح أنا ابتعت هذه لأمير المؤمنين من التجار بمائتي ألف درهم ووهبها أمير المؤمنين لدنانير العوادة وإذا رآها عرفها وقد تم الآن مال مصادرة منصور يا صالح قل لأمير المؤمنين ليهب لنا منصورًا. قال صالح: فحملت المال والجوهرة إلى الخليفة فبينما نحن في الطريق أنا ومنصور إذ سمعته يتمثل ببيت من الشعر فتعجبت من رداءته وفساده. وخبث أصله وميلاده، وهو هذا البيت.
فما استوهبَتَنِي مُتمَسكًا بِي ** ولكن خفت مِن ألمِ النِبالِ

قال صالح فحردت عليه وقلت ما على الأرض خير من البرامكة ولا شر منك اشتروك وأنقذوك من الهلاك، ومنوا عليك بالفكاك ولم تشكرهم وتحمدهم ولم تفعل فعل الأحرار وقلت ما قلت ثم مضيت إلى الرشيد وقصصت عليه القصة وعرفته ما جرى وكتمت عنه ما جرى من منصور من خبث الطوية مخافة على نفسه من الرشيد فعند ذلك تعجب وأمر برد تلك الجوهرة وقال شيء وهبناه لا يجوز أن نعود فيه فأعدتها إلى يحيى وقصصت عليه القصة وما جرى من منصور من سوء فعله. قال يحيى إذا كان الإنسان مقلًّا وجعل يطلب العذر لمنصور. قال صالح فبكيت وقلت لا يعود الفلك الدائر يخرج رجلًا مثلك في الوجود، فوا أسفًا كيف يتوارى رجل مثلك له خلق مثل أخلاقك تحت التراب.
حكاية: يقال أنه كان بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها وكان سبب تلك العداوة التي بينهما أن هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك إلى ابعد غاية بحيث أن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين حتى مضى على ذلك زمان والحقد في صدورهما وقلوبهما فولى الرشيد ولاية أرمينية لعبد الله وسيره إليها. ثم أن رجلًا من أهل العراق كان له أدب وذكاء وفطنة فضاق ما بيده وفني ماله، واختل عليه حاله، فزور كتابًا عن يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافر به إلى أرمينية فحين وصل إليها قصد باب عبد الله وسلم الكتاب إلى بعض حجابه فأخذ الحاجب الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن مالك ففضه وقرأه وتدبره وعلم أنه مزور فأذن للرجل فدخل عليه فقال له حملت بعض المشقة وجئني بكتاب مزور ولكن طب نفسًا فإنا لا نخيب سعيك فقال الرجل أطال الله بقاء الأمير إن كان قد ثقل عليك وصولي إليك فلا تحتج في منعي لحجة فأرض الله واسعة والرازق حي متين والكتاب الذي وصل صحيح غير مزور. فقال عن حال هذا الكتاب الذي أتيت به فأن ألف درهم مع الفرس والجنيب والحلة والتشريف. وإن كان الكتاب مزورًا أمرت أن تضرب مائتي خشبة وأن تحلق محاسنك. ثم أمر عبد الله أن يحمل إلى حجرة الحبس وأن يحمل إليه ما يحتاج إليه وكتب كتابًا إلى وكيله ببغداد أنه قد وصل إلينا رجل معه كتاب يذكر أنه من يحيى بن خالد وأن سيء الظن في هذا الكتاب فيجب أن تتحقق الحال في هذا الكتاب لتعلم صحته من سقمه وعرفني الجواب فلما وصل كتاب عبد الله إلى وكيله ركب ومضى إلى باب دار يحيى بن خالد فوجده مع ندمائه وخواصه جالسًا فسلم الكتاب إليه فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل عد إلينا من الغد لأكتب لك الجواب ثم التفت إلى ندمائه وقال لهم ما جزاء من حمل عني كتابًا مزورًا إلى عدوي فقال كل واحد منهم شيئًا يصف نوعًا من العذاب، ويذكر جنسًا من العقاب، فقال يحيى كلكم أخطأتم وهذا الذي ذكرتم من خسة الأصل ودناءته وكلكم تعرفون قرب عبد الله من أمير المؤمنين وتعرفون ما بيني وبينه من البغض والآن قد سبب الله هذا الرجل وجعله متوسطًا في الصلح بيننا ووفقه لذلك وقيضه ليمحو حقد عشرين سنة من قلوبنا، وتنصلح بواسطته شؤوننا وقد وجب علي أن أفي لهذا الرجل بتأميله وأصدق ظنونه واكتب له كتابًا إلى عبد الله ليتوفر على إكرامه، وإعزازه واحترامه وسمو همته. ثم إنه طلب الكاغد والدواة وكتب إلى عبد الله بخط يده. بسم الله الرحمن الرحيم وصل كتابك أطال الله بقائك وقرأته وفهمته وسررت بسلامتك،وابتهجت باستقامتك، وكان ظنك أن ذلك الحر زور عني كتابًا، ولفق عني خطابًا، وليس كذلك فإن الكتاب أنا الذي كتبته وعلى يديه أنفذته، وليس بمزور عني، وتوقعي من كرمك، وحسن شيمك أن تفي لذلك الحر الكريم بأمله، وتعرف له حرمة قصده، وأن تخصه منك بغامر الإحسان، ووافر الامتنان، فمهما فعلته في حقه فأنا المعتد به والشاكر عليه. ثم عنون الكتاب وختمه وسلمه إلى الوكيل فأنفذه الوكيل إلى عبد الله فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر الرجل وقال أي الأمرين اللذين ذكرتهما تختار أن أفعل معك فقال الرجل العطاء أحب إلي فأمر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية منها خمسة بالمراكب المحلاة وخمسة بالحلال وعشرين تختًا من الثياب وعشرة مماليك ركاب الخيول وما يليق بذلك من الجواهر المثمنة من الثياب وسيره بصحبة مأمونة إلى بغداد فلما وصل إلى أهله قصد باب دار يحيى بن خالد وطلب الإذن فدخل الحاجب وقال يا مولانا ببابنا رجل ظاهر الحشمة جميل الهيئة حسن الجمال كثير الغلمان، فأذن له في الدخول فدخل إليه، وقبل الأرض بين يديه. فقال له يحيى ما أعرفك فقال أنا الرجل الذي كنت ميتًا من جور الزمان، وغدر الحدثان، فنشرتني وأحييتني، أنا الذي فعل معك، وأي شيء أعطاك ووهب لك. فقال من بركاتك وظلك، وكرمك وهمتك وفضلك أعطاني، ونولني وأغناني، وقد حملت جميع عطيته وها هي ببابك والأمر إليك، والحكم في يديك، فقال له يحيى صنيعك معي أكثر من صنيعي معك ولك على المنة العظيمة، واليد الجسيمة، إذ بدلت تلك العداوة التي كانت بين وبينك وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة وأنت كنت في ذلك السبب وأنا أهب من المال مثل ما وهب لك. ثم أمر له من المال بمثل ما أعطاه عبد الله ابن مالك. وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم من يقرؤها أن الإنسان إذا كانت همته عالية لا يضيع أبدًا كما لم يضع ذلك الرجل ولو كان خسيس الطبع لالتجأ إلى عمل دنيء وتعلق بلئام الناس ولكنه لما كانت له همة سامية تهور وأقدم، وخاطر مع رجل محتشم، كريم الأخلاق، طاهر الأعراق، فوصل بذلك التهور إلى مراده. انظر إلى الرجلين الكريمين المحتشمين الزعيمين السيدين، وإلى سمو همتهما بماذا عاملاه، وبماذا قابلاه، ولم يريا في مروءتهما عقوبته وعذابه ونال من بركتهما طلابه وتخلص من شدة زمانه وضائقته، وأفلت من شر محنته وعاد ذا نعمة سنية، ورتبة علية وحصل بجميل الذكر على جزيل الأجر.
حكاية: يقال أنه تفاخر عبدان: عبد لبني هاشم وعبد لبني أمية فكل واحد منهما قال موالي أكرم من مواليك فقالا نمضي ونجرب فمضى مولى بني أمية إلى واحد من مواليه وشكا حالته وضائقته وتألم من فاقته فأعطاه عشرة آلاف درهم حتى طاف على عشرة من مواليه فاجتمع له مائة ألف درهم فأخذها وأحضرها بين يدي مولى بني هاشم وقال امض أنت إلى بني هاشم وجربهم وانظر كرمهم فأتى مولى بني هاشم إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما وشكا حاله وذكر فقره وما أفضى به الحال إليه فأمر له بمائة ألف درهم ثم مضى إلى عبد الله بن جعفر وشكا إليه فأعطاه مائة ألف درهم ثم مضى إلى عبد الله بن ربيعة فأعطاه مائة ألف درهم فمضى بالمال إلى مولى بني أمية وقال له: إن مواليك تعلموا الكرم من موالي، ولكن عد بنا إليهم لنجربهم ثانيًا ونعيد المال إليهم فمضى مولى بني أمية إلى مواليه وقال لهم قد استغنيت عن هذا المال وقد سهل الله تعالى لي من مكان ما أسدّ به فقري ولم يبق لي في هذه الدراهم حاجة وقد أعدتها فأخذ كل واحد منهم دراهمه، وحمل مولى هاشم الدراهم إلى مواليه قال لهم قد تيسر لي من مكان ما زالت به حاجتي وانقضت وقد أعدت المال الذي أخذت منكم فاستعيدوه فقالوا نحن لا نأخذ شيئًا قد وهبناه ولا تعود هباتنا تختلط بأموالنا.
حكمة: قال بعض الحكماء إجلال الأكابر من الكرم وحسن الخلال، واحتقار الناس من لؤم الأصل وقبح الخلال، والهمة بغير آلة خفة وإنما الهمة مع الجد تجمل وتلطف، وتحسن وتظرف، لأن الرجل إذا كان ذا همة وجدة غير مساعد لم يكن له من همته سوى الانحطاط لأنه يجب أن تكون الهمة علوية والجد عاليًا، وقد قيل أيضًا الكلام بالدرجة والعمل بالقدرة. وينبغي أن تكون الهمة إلى بغداد والزاد إلى فرسخين وكذا الجلال.
حكاية: كان عبد العزيز بن مروان أميرًا بمصر فركب ذات يوم واجتاز بموضع وإذا برجل ينادي ولده يا عبد العزيز فسمع الأمير نداءه فأمر له بعشرة آلاف درهم لينفقها على ذلك الولد الذي هو سميه ففشا الخبر بمدينة مصر فكل من ولد في تلك السنة ولد سماه عبد العزيز.وبضد ذلك كان الحاجب تاش الأمير الكبير بخراسان فإنه اجتاز يومًا بصيارف بخارى ورجل ينادي غلامه وكان اسم الغلام تاس فأمر بإزالة الصيارف ومصادرتهم وقال إنما أردتم الاستخفاف باسمي. فانظر الآن بين الحر القرشي وبين المتشرف بالدراهم. وفي هذا الباب كلام طويل ونكتفي بهذا لئلا يطول الكتاب.وينبغي أن تعلم أن الهمة وإن تأخرت فإنها توصل صاحبها إلى مراده يومًا من الزمان قال الشاعر:
سَعيي لِمجدِ ولولاَ صِدقُ معَرفتي ** أنِي سأَدرك ما قد كُنتُ أطلُبه

لو كُنتُ فِي خِدمةِ السُلطانِ ذا طلبِ ** للِزَادِ ما كُنت مِن حَامِيهِ أخَطُبه

وإنما المحمود في الرجال أن لا يتجاوز بهمته، فوق قدره وقدرته، لئلا يعيش مغتمًا طول زمانه ومدته، كما قال الشاعر:
لو كُنتَ تَقَنعُ بِالكِفَايةِ لَم يكُن ** بِالدَهرِ أرفَه مِنكَ عَيشًا فِيه

أو كُنتَ يُوَمًا َفوقَ ذَلِكَ طَامعًَا ** لم تكفِك الدُنيَا بِما تَحوِيه

ماذا يَفيد عُلو هِمَتكَ الذِي ** لا يسَتجيب لِنيلِ ما تَبغِيِه