فصل: قصَّة حبس الشَّمس‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 القول فيما أوتي موسى - عليه السَّلام من الآيات‏:‏

وأعظمهنَّ تسع آيات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 101‏]‏‏.‏

وقد شرحناها في التَّفسير وحكينا قول السَّلف فيها واختلافهم فيها، وأنَّ الجمهور على أنها هي العصا في انقلابها حيَّة تسعى، واليد إذا أدخل يده في جيب درعه أخرجها تضيء كقطعة قمر يتلألأ إضاءة، ودعاؤه على قوم فرعون حين كذَّبوه فأرسل عليهم الطُّوفان، والجراد، والقمَّل، والضَّفادع، والدَّم آيات مفصلات كما بسطنا ذلك في التَّفسير، وكذلك أخذهم الله بالسِّنين وهي نقص الحبوب، وبالجدب وهو نقص الثِّمار، وبالموت الذَّريع وهو نقص الأنفس، وهو الطُّوفان في قول، ومنها فلق أبحر لإنجاء بني إسرائيل وإغراق آل فرعون، ومنها تضليل بني إسرائيل في التِّيه، وإنزال المنّ والسَّلوى عليهم، واستسقاؤه لهم فجعل الله ماءهم يخرج من حجر يحمل معهم على دابة له أربعة وجوه، إذا ضربه موسى بعصاه يخرج من كل وجه ثلاثة أعين لكلِّ سبط عين، ثمَّ يضربه فينقلع، إلى غير ذلك من الآيات الباهرات كما بسطنا ذلك في التَّفسير وفي قصَّة موسى عليه السلام من كتابنا هذا في قصص الأنبياء منه، ولله الحمد والمنَّة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/306‏)‏

وقيل‏:‏ كل من عبد العجل أماتهم ثمَّ أحياهم الله تعالى، وقصَّة البقرة‏.‏

أمَّا العصا فقال شيخنا العلامة ابن الزَّملكاني‏:‏ وأمَّا حياة عصا موسى فقد سبَّح الحصا في كفِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو جماد، والحديث في ذلك صحيح‏.‏

وهذا الحديث مشهور عن الزُّهريّ، عن رجل، عن أبي ذر، وقد قدَّمنا ذلك مبسوطاً في دلائل النُّبُّوة بما أغنى عن إعادته، وقيل‏:‏ إنهنَّ سبَّحن في كفِّ أبي بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، كما سبَّحن في كفِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه خلافة النُّبُّوة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى الحافظ بسنده إلى بكر ابن حبيش عن رجل سمَّاه قال‏:‏ كان بيد أبي مسلم الخولانيّ سبحة يسبح بها قال‏:‏ فنام والسُّبحة في يده، قال‏:‏ فاستدارت السُّبحة فالتفت على ذراعه وهي تقول‏:‏ سبحانك يا منبت النَّبات، ويا دائم الثَّبات‏.‏

فقال‏:‏ هلمَّ يا أمَّ مسلم وانظري إلى أعجب الأعاجيب، قال‏:‏ فجاءت أم مسلم والسُّبحة تدور وتسبِّح فلمَّا جلست سكتت‏.‏

وأصحَّ من هذا كلَّه وأصرح حديث البخاريّ عن ابن مسعود قال‏:‏ كنَّا نسمع تسبيح الطَّعام وهو يؤكل‏.‏

قال شيخنا‏:‏ وكذلك قد سلَّمت عليه الأحجار‏.‏

قلت‏:‏ وهذا قد رواه مسلم عن جابر بن سمرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنِّي لأعرف حجراً كان يسلِّم عليَّ بمكة قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن‏)‏‏)‏‏.‏

قال بعضهم‏:‏ هو الحجر الأسود‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حدَّثنا عبَّاد بن يعقوب الكوفيّ، حدَّثنا الوليد ابن أبي ثور عن السدي، عن عباد بن يزيد، عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ كنت مع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمكة في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال‏:‏ السَّلام عليك يا رسول الله‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ غريب‏.‏

ورواه أبو نعيم في ‏(‏الدَّلائل‏)‏ من حديث السديّ عن أبي عمارة الحيواني، عن علي قال‏:‏ خرجت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجعل لا يمرّ بحجر ولا شجر ولا مدر ولا شيء إلا قال‏:‏ السَّلام عليك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ وأقبلت الشَّجرة عليه بدعائه‏.‏

وذكر اجتماع تينك الشَّجرتين لقضاء حاجته من ورائهما، ثمَّ رجوعهما إلى منابتهما، وكلا الحديثين في الصَّحيح، ولكن لا يلزم من ذلك حلول حياة فيهما إذ يكونان ساقهما سائق، ولكن في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏انقادا عليَّ بإذن الله‏)‏‏)‏ ما يدل على حصول شعور منهما لمخاطبته ولا سيما مع امتثالهما ما أمرهما به‏.‏

قال‏:‏ وأمر عذقاً من نخلة أن ينزل فنزل يبقر في الأرض حتى وقف بين يديه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتشهد أني رسول الله‏؟‏‏)‏‏)‏ فشهد بذلك ثلاثاً ثمَّ عاد إلى مكانه، وهذا أليق وأظهر في المطابقة من الذي قبله، ولكن هذا السِّياق فيه غرابة‏.‏

والذي رواه الإمام أحمد وصحَّحه التّرمذيّ، ورواه البيهقيّ، والبخاري في ‏(‏التَّاريخ‏)‏ من رواية أبي ظبيان وحصين بن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ جاء أعرابي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ بم أعرف أنَّك رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النَّخلة أتشهد أني رسول الله‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فدعا العذق فجعل العذق ينزل من النَّخلة حتى سقط في الأرض فجعل ينقز حتى أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثمَّ قال له‏:‏ ‏(‏‏(‏إرجع‏)‏‏)‏ فرجع إلى مكانه‏.‏

فقال‏:‏ أشهد أنَّك رسول الله، وآمن به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/307‏)‏

هذا لفظ البيهقيّ وهو ظاهر في أنَّ الذي شهد بالرِّسالة هو الأعرابي، وكان رجلاً من بني عامر، ولكن في رواية البيهقيّ من طريق الأعمش عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ما هذا الذي يقول أصحابك ‏؟‏

قال‏:‏ وحول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم أعذاق وشجر -‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل لك أن أريك آية‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

فدعا غصناً منها فأقبل يخدُّ الأرض حتى وقف بين يديه وجعل يسجد ويرفع رأسه، ثمَّ أمره فرجع‏.‏

قال‏:‏ فرجع العامري وهو يقول‏:‏ يا آل عامر بن صعصعة‏:‏ والله لا أكذِّبه بشيء يقوله أبداً‏.‏

وتقدَّم فيما رواه الحاكم في مستدركه متفرِّداً به عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دعا رجلاً إلى الإسلام، فقال‏:‏ هل من شاهد على ما تقول ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه الشَّجرة‏)‏‏)‏ فدعاها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي على شاطئ الوادي، فأقبلت تخدُّ الأرض خداً، فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت أنَّه كما قال، ثمَّ إنها رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه وقال‏:‏ إن يتبعوني أتيتك بهم وإلا رجعت إليك وكنت معك‏.‏

قال‏:‏ وأمَّا حنين الجذع الذي كان يخطب إليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فعمل له المنبر، فلمَّا رقي عليه وخطب حنَّ الجذع إليه حنين العشار والنَّاس يسمعون بمشهد الخلق يوم الجمعة، ولم يزل يئن ويحن حتى نزل إليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فاعتنقه وسكَّنه وخيَّره بين أن يرجع غصناً طرياً، أو يغرس في الجنَّة يأكل منه أولياء الله، فاختار الغرس في الجنَّة وسكن عند ذلك، فهو حديث مشهور معروف قد رواه من الصَّحابة عدد كثير متواتر وكان بحضور الخلائق‏.‏

وهذا الذي ذكره من تواتر حنين الجذع كما قال فإنَّه قد روى هذا الحديث جماعة من الصَّحابة، وعنهم أعداد من التَّابعين، ثمَّ من بعدهم آخرون عنهم لا يمكن تواطؤهم على الكذب فهو مقطوع به في الجملة، وأمَّا تخيير الجذع كما ذكره شيخنا فليس بمتواتر بل ولا يصحّ إسناده، وقد أوردته في ‏(‏الدَّلائل‏)‏ عن أبيّ بن كعب‏.‏

وذكر في مسند أحمد، وسنن ابن ماجه، وعن أنس من خمس طرق إليه صحَّح التّرمذيّ إحداها، وروى ابن ماجه أخرى، وأحمد ثالثة، والبزَّار رابعة، وأبو نعيم خامسة‏.‏

وعن جابر بن عبد الله في صحيح البخاري من طريقين عنه، والبزَّار من ثالثة، ورابعة، وأحمد من خامسة، وسادسة، وهذه على شرط مسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/308‏)‏

وعن سهل بن سعد في مصنف ابن أبي شيبة على شرط الصَّحيحين، وعن ابن عبَّاس في مسند أحمد، وسنن ابن ماجه بإسناد على شرط مسلم، وعن ابن عمر في صحيح البخاري‏.‏

ورواه أحمد من وجه آخر عن ابن عمر، وعن أبي سعيد في مسند عبد بن حميد بإسناد على شرط مسلم‏.‏

وقد رواه يعلى الموصليّ من وجه آخر عنه‏.‏

وعن عائشة رواه الحافظ أبو نعيم من طريق علي بن أحمد الخوارزميّ، عن قبيصة بن حبان بن علي، عن صالح بن حبان، عن عبد الله ابن بريدة، عن عائشة فذكر الحديث بطوله وفيه أنَّه خيَّره بين الدُّنيا والآخرة فاختار الجذع الآخرة، وغار حتى ذهب فلم يعرف، وهذا غريب إسناداً ومتناً‏.‏

وعن أم سلمة رواه أبو نعيم بإسناد جيد، وقدِّمت الأحاديث ببسط أسانيدها، وتحرير ألفاظها، وغررها بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا، ومن تدبَّرها حصل له القطع بذلك ولله الحمد والمنة‏.‏

قال القاضي عياض بن موسى السبتيّ المالكيّ في كتابه ‏(‏الشِّفا‏)‏ وهو حديث مشهور متواتر خرجه أهل الصَّحيح، ورواه من الصَّحابة بضعة عشر منهم أبي وأنس وبريدة، وسهل بن سعد، وابن عبَّاس، وابن عمر، والمطَّلب ابن أبي وداعة، وأبو سعيد، وأم سلمة - رضي الله عنهم أجمعين -‏.‏

قال شيخنا‏:‏ فهذه جمادات ونباتات وقد حنَّت وتكلَّمت وفي ذلك ما يقابل انقلاب العصا حيَّة‏.‏

قلت‏:‏ وسنشير إلى هذا عند ذكر معجزات عيسى عليه السلام في إحيائه الموتى بإذن الله تعالى، في ذلك كما رواه البيهقيّ عن الحاكم، عن أبي أحمد ابن أبي الحسن، عن عبد الرحمن ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عمرو بن سوار قال‏:‏ قال لي الشَّافعيّ‏:‏ ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقلت‏:‏ أعطى عيسى إحياء الموتى‏.‏

فقال‏:‏ أعطى محمَّد الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيء له المنبر، فلمَّا هيء له حنَّ الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك‏.‏

وهذا إسناد صحيح إلى الشافعي رحمه الله وهو ممَّا كنت أسمع شيخنا الحافظ أبا الحجَّاج المزِّي رحمه الله يذكره عن الشَّافعيّ رحمه الله وأكرم مثواه وإنَّما قال‏:‏ فهذا أكبر من ذلك، لأنَّ الجذع ليس محلاً للحياة ومع هذا حصل له شعور ووجد لمَّا تحوَّل عنه إلى المنبر، فأنَّ وحنَّ حنين العشار حتى نزل إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاحتضنه وسكَّنه حتى سكن‏.‏

قال الحسن البصريّ‏:‏ فهذا الجذع حنَّ إليه فإنَّهم أحق أن يحنوا إليه‏.‏

وأمَّا عود الحياة إلى جسد كانت فيه بإذن الله فعظيم، وهذا أعجب وأعظم من إيجاد حياة وشعور في محل ليس مألوفاً لذلك لم تكن فيه قبل بالكلِّية، فسبحان الله رب العالمين‏.‏

تنبيه‏:‏ وقد كان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لواء يحمل معه في الحرب يخفق في قلوب أعدائه مسيرة شهر بين يديه، وكانت له عنزة تحمل بين يديه، فإذا أراد الصَّلاة إلى غير جدار ولا حائل ركزت بين يديه، وكان له قضيب يتوكأ عليه إذا مشى وهو الذي عبر عنه سطيح في قوله لابن أخيه عبد المسيح بن نفيلة‏:‏ يا عبد المسيح إذا أكثرت التِّلاوة وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوه، فليست الشَّام لسطيح شاماً، ولهذا كان ذكر هذه الأشياء عند إحياء عصا موسى وجعلها حيَّة أليق إذ هي مساوية لذلك، وهذه متعددة في محال متفرقة بخلاف عصا موسى فإنها وإن تعدد جعلها حية فهي ذات واحدة، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/309‏)‏

ثمَّ ننبِّه على ذلك عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى لأنَّ هذه أعجب وأكبر، وأظهر وأعلم‏.‏

قال شيخنا‏:‏ وأمَّا أنَّ الله كلَّم موسى تكليما فقد تقدَّم حصول الكلام للنبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة الإسراء مع الرؤية وهو أبلغ، هذا أورده فيما يتعلق بمعجزات موسى عليه السلام ليلة الإسراء فيشهد له فنوديت‏:‏ يا محمَّد قد كلِّفت فريضتين، وخفَّفت عن عبادي، وسياق بقية القصَّة يرشد إلى ذلك‏.‏

وقد حكى بعض العلماء الإجماع على ذلك، لكن رأيت في كلام القاضي عياض نقل خلاف فيه والله أعلم‏.‏

وأمَّا الرُّؤية ففيها خلاف مشهور بين الخلف، والسَّلف، ونصرها من الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة المشهور بإمام الأئمة، واختار ذلك القاضي عياض، والشيخ محيي الدِّين النوويّ‏.‏

وجاء عن ابن عبَّاس تصديق الرُّؤية، وجاء عنه تفنيدها، وكلاهما في صحيح مسلم‏.‏

وفي الصَّحيحين عن عائشة إنكار ذلك، وقد ذكرنا في الإسراء‏:‏ عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي ذر، وعائشة - رضي الله عنهم - أنَّ المرئي في المرتين المذكورتين في أول سورة النَّجم إنَّما هو جبريل عليه السلام‏.‏

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله هل رأيت ربَّك ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏نوراً لي أراه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت نوراً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تقدَّم بسط ذلك في الإسراء في السِّيرة، وفي التَّفسير في أول سورة بني إسرائيل، وهذا الذي ذكره شيخنا فيما يتعلق بالمعجزات الموسوية - عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام -‏.‏

وأيضاً فإنَّ الله تعالى كلَّم موسى وهو بطور سينا وسأل الرُّؤية فمنعها، وكلَّم محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة الإسراء وهو بالملأ الأعلى حين رفع لمستوى سمع فيه صريف الأقلام، وحصلت له الرُّؤية في قول طائفة كبيرة من علماء السَّلف والخلف والله أعلم‏.‏

ثمَّ رأيت ابن حامد قد طرق هذا في كتابه وأجاد وأفاد، وقال ابن حامد‏:‏ قال الله تعالى لموسى‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وقال لمحمَّد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وأمَّا اليد التي جعلها الله برهاناً وحجةً لموسى على فرعون وقومه كما قال تعالى بعد ذكر صيرورة العصا حيَّة‏:‏ ‏{‏اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقال في سورة طه‏:‏ ‏{‏آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 23‏]‏‏.‏

فقد أعطى الله محمَّداً انشقاق القمر بإشارته إليه فرقتين فرقة من وراء جبل حراء، وأخرى أمامه كما تقدَّم بيان ذلك بالأحاديث المتواترة، مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1-2‏]‏‏.‏

ولا شكَّ أنَّ هذا أجلَّ وأعظم وأبهر في المعجزات وأعمَّ وأظهر وأبلغ من ذلك‏.‏

وقد قال كعب بن مالك في حديثه الطَّويل في قصَّة توبته‏:‏ وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سرَّ استنار وجهه كأنَّه فلقة قمر، وذلك في صحيح البخاري‏.‏

وقال ابن حامد‏:‏ قالوا‏:‏ فإنَّ موسى أعطي اليد البيضاء‏.‏

قلنا لهم‏:‏ فقد أعطي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ما هو أفضل من ذلك نوراً كان يضيء عن يمينه حيث ما جلس، وعن يساره حيث ما جلس، وقام يراه النَّاس كلَّهم وقد بقي ذلك النُّور إلى قيام السَّاعة، ألا ترى أنَّه يرى النُّور الساطع من قبره صلَّى الله عليه وسلَّم من مسيرة يوم وليلة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/310‏)‏

هذا لفظه وهذا الذي ذكره من هذا النُّور غريب جداً، وقد ذكرنا في السِّيرة عند إسلام الطّفيل بن عمرو الدُّوسيّ أنَّه طلب من النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم آية تكون له عوناً على إسلام قومه من بيته هناك فسطع نور بين عينيه كالمصباح‏.‏

فقال‏:‏ اللَّهم في غير هذا الموضع فإنَّهم يظنُّونه مثله، فتحوَّل النُّور إلى طرف سوطه، فجعلوا ينظرون إليه كالمصباح فهداهم الله على يديه ببركة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبدعائه لهم في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم إهد دوساً وآت بهم‏)‏‏)‏‏.‏

وكان يقال للطفيل‏:‏ ذو النُّور لذلك‏.‏

وذكر أيضاً حديث أسيد بن حضير، وعباد بن بشر في خروجهما من عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ليلة مظلمة فأضاء لهما طرف عصا أحدهما، فلمَّا افترقا أضاء لكل واحد منهما طرف عصاه وذلك في صحيح البخاريّ وغيره‏.‏

وقال أبو زرعة الرَّازيّ في كتاب ‏(‏دلائل النُّبُّوة‏)‏‏:‏ حدَّثنا سليمان بن حرب، حدَّثنا حماد بن سلمة عن ثابت بن أنس بن مالك أنَّ عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ليلة ظلماء حندس، فأضاءت عصا أحدهما مثل السِّراج وجعلا يمشيان بضوئها، فلمَّا تفرَّقا إلى منزلهما أضاءت عصا ذا، وعصا ذا‏.‏

ثمَّ روي عن إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزُّبير بن العوُّام، وعن يعقوب بن حميد المدني كلاهما، عن سفيان بن حمزة بن يزيد الأسلميّ، عن كثير بن زيد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه قال‏:‏ سرنا في سفر مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ليلة ظلماء دحمسة فأضاءت أصابعي حتَّى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم، وإنَّ أصابعي لتستنير‏.‏

وروى هشام بن عمَّار في البعث حدَّثنا عبد الأعلى بن محمد البكريّ، حدَّثنا جعفر بن سليمان البصريّ، حدَّثنا أبو التياح الضَّبعيّ قال‏:‏ كان مطرف بن عبد الله يبدر فيدخل كل جمعة فربَّما نوِّر له في سوطه، فأدلج ذات ليلة وهو على فرسه حتَّى إذا كان عند المقابر هدم به، قال‏:‏ فرأيت صاحب كل قبر جالساً على قبره فقال‏:‏ هذا مطرف يأتي الجمعة‏.‏

فقلت لهم‏:‏ وتعلمون عندكم يوم الجمعة ‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم، ونعلم ما يقول فيه الطَّير‏.‏

قلت‏:‏ وما يقول فيه الطَّير ‏؟‏

قالوا‏:‏ يقول‏:‏ ربِّ سلِّم سلِّم قوم صالح‏.‏

وأما دعاؤه عليه السلام بالطُّوفان وهو الموت الذَّريع في قول، وما بعده من الآيات، والقحط، والجدب، فإنَّما كان ذلك لعلَّهم يرجعون إلى متابعته، ويقلعون عن مخالفته فما زادهم إلا طغياناً كبيراً‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَاأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 48-49‏]‏‏.‏

{‏وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 132-136‏]‏‏.‏

وقد دعا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على قريش حين تمادوا على مخالفته بسبع كسبع يوسف، فقحطوا حتَّى أكلوا كلَّ شيء، وكان أحدهم يرى بينه وبين السَّماء مثل الدُّخان من الجوع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/311‏)‏

وقد فسَّر ابن مسعود قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الدُّخان‏:‏ 10‏]‏‏.‏

بذلك كما رواه البخاريّ عنه في غير ما موضع من صحيحه، ثمَّ توسَّلوا إليه - صلوات الله وسلامه عليه - بقرابتهم منه، مع أنَّه بعث بالرَّحمة والرَّأفة، فدعا لهم فأقلع عنهم، ورُفع عنهم العذاب، وأحيوا بعد ما كانوا أشرفوا على الهلكة‏.‏

وأمَّا فلق البحر لموسى عليه السلام حين أمره الله تعالى حين تراءى الجمعان أن يضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطَّود العظيم فإنَّه معجزة عظيمة باهرة، وحجَّة قاطعة قاهرة، وقد بسطنا ذلك في التَّفسير وفي قصص الأنبياء من كتابنا هذا‏.‏

وفي إشارته صلَّى الله عليه وسلَّم بيده الكريمة إلى قمر السَّماء فانشقَّ القمر فلقتين وفق ما سأله قريش وهم معه جلوس في ليلة البدر أعظم آية وأيمن دلالة، وأوضح حجة وأبهر برهان على نبوَّته وجاهه عند الله تعالى، ولم ينقل معجزة عن نبيٍّ من الأنبياء من الآيات الحسِّيات أعظم من هذا كما قررنا ذلك بأدلته من الكتاب والسُّنة في التَّفسير في أوَّل البعثة وهذا أعظم من حبس الشَّمس قليلاً ليوشع بن نون حتَّى تمكَّن من الفتح ليلة السَّبت، كما سيأتي في تقرير ذلك مع ما يناسب ذكره عنده‏.‏

وقد تقدَّم من سيرة العلاء بن الحضرميّ، وأبي عبيد الثقفيّ، وأبي مسلم الخولانيّ وسير الجيوش التي كانت معهم على تيار الماء ومنها دجلة وهي جارية عجاج تقذف الخشب من شدة جريها‏.‏

وتقدَّم تقرير أنَّ هذا أعجب من فلق البحر لموسى من عدة وجوه والله أعلم‏.‏

وقال ابن حامد‏:‏ فإن قالوا‏:‏ فإنَّ موسى عليه السلام ضرب بعصاه البحر فانفلق فكان ذلك آية لموسى عليه السلام‏.‏

قلنا‏:‏ فقد أوتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مثلها، قال علي رضي الله عنه‏:‏ لمَّا خرجنا إلى خيبر فإذا نحن بواد سحب وقدَّرناه فإذا هو أربع عشرة قامة‏.‏

فقالوا‏:‏ يا رسول الله العدوّ من ورائنا والوادي من أمامنا، كما قال أصحاب موسى‏:‏ إنَّا لمدركون، فنزل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فعبرت الخيل لا تبدي حوافرها، والإبل لا تبدي أخفافها، فكان ذلك فتحاً وهذا الذي ذكره بلا إسناد، ولا أعرفه في شيء من الكتب المعتمدة بإسناد صحيح ولا حسن بل ضعيف فالله أعلم‏.‏

وأمَّا تظليله بالغمام في التِّيه فقد تقدَّم ذكر حديث الغمامة التي رآها بحيرا تظلَّه من بين أصحابه وهو ابن اثنتي عشرة سنة، صحبة عمِّه أبي طالب وهو قادم إلى الشَّام في تجارة، وهذا أبهر من جهة أنَّه كان وهو قبل أن يوحى إليه وكانت الغمامة تظلّله وحده من بين أصحابه، فهذا أشدُّ في الاعتناء وأظهر من غمام بني إسرائيل وغيرهم‏.‏

وأيضاً فإنَّ المقصود من تظليل الغمام إنَّما كان لاحتياجهم إليه من شدَّة الحرِّ، وقد ذكرنا في ‏(‏الدَّلائل‏)‏ حين سئل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدعو لهم ليسقوا لما هم عليه من الجوع والجهد والقحط فرفع يديه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اسقنا، اللَّهم اسقنا‏)‏‏)‏‏.‏

قال أنس‏:‏ ولا والله ما نرى في السَّماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار فأنشأن من ورائه سحابة مثل التُّرس فلمَّا توسَّطت السَّماء انتشرت، ثمَّ أمطرت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/312‏)‏

قال أنس‏:‏ فلا والله ما رأينا الشَّمس سبتنا، ولمَّا سألوه أن يستصحي لهم رفع يده وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم حوالينا ولا علينا‏)‏‏)‏ فما جعل يشير بيديه إلى ناحية إلا انحاز السَّحاب إليها حتَّى صارت المدينة مثل الإكليل يمطر ما حولها ولا تمطر‏.‏

فهذا تظليل عام محتاج إليه آكد من الحاجة إلى ذلك، وهو أنفع منه والتَّصرف فيه، وهو يشير أبلغ في المعجز، وأظهر في الإعتناء والله أعلم‏.‏

وأمَّا إنزال المنِّ والسَّلوى عليهم فقد كثَّر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الطَّعام والشَّراب في غير ما موطن كما تقدَّم بيانه في دلائل النُّبُّوة من إطعام الجمِّ الغفير من الشَّيء اليسير كما أطعم يوم الخندق من شويهة جابر بن عبد الله وصاعه الشَّعير أزيد من ألف نفس جائعة - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً إلى يوم الدِّين، وأطعم من حفنة قوماً من النَّاس وكانت تمدُّ من السَّماء إلى غير ذلك من هذا القبيل مما يطول ذكره‏.‏

وقد ذكر أبو نعيم وابن حامد أيضاً هاهنا أن المراد بالمنِّ والسَّلوى إنَّما هو رزق رزقوه من غير كدٍّ منهم ولا تعب، ثمَّ أورد في مقابلته حديث تحليل المغنم ولا يحلّ لأحد قبلنا، وحديث جابر في سيره إلى عبيدة وجوعهم حتى أكلوا الخبط، فحسر البحر لهم عن دابَّة تسمَّى العنبر فأكلوا منها ثلاثين من يوم وليلة حتَّى سمنوا وتكسَّرت عكن بطونهم، والحديث في الصَّحيح كما تقدَّم وسيأتي عند ذكر المائدة في معجزات المسيح بن مريم‏.‏

قصَّة أبي موسى الخولانيّ‏:‏

أنَّه خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الحج وأمرهم أن لا يحملوا زاداً ولا مزاداً فكانوا إذا نزلوا منزلا صلَّى ركعتين فيؤتون بطعام وشراب وعلف يكفيهم ويكفي دوابَّهم غداءً وعشاءً مدَّة ذهابهم وإيابهم‏.‏

وأمَّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 60‏]‏‏.‏

فقد ذكرنا بسط ذلك في قصَّة موسى عليه السلام وفي التَّفسير‏.‏

وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في وضع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يده في ذلك الإناء الصَّغير الذي لم يسع بسطها فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه أمثال العيون، وكذلك كثر الماء في غير ما موطن كمزادتي تلك المرأة يوم الحديبية وغير ذلك، وقد استسقى الله لأصحابه في المدينة وغيرها فأجيب طبق السؤال وفق الحاجة، لا أزيد ولا أنقص، وهذا أبلغ في المعجز، ونبع الماء من بين أصابعه من نفس يده على قول طائفة من العلماء أعظم من نبع الماء من الحجر فإنَّه محل لذلك‏.‏

قال أبو نعيم الحافظ‏:‏ فإن قيل‏:‏ إنَّ موسى كان يضرب بعصاه الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً في التِّيه قد علم كل أناس مشربهم‏.‏

قيل‏:‏ كان لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم مثله أو أعجب فإنَّ نبع الماء من الحجر مشهور في العلوم والمعارف، وأعجب من ذلك نبع الماء من بين اللَّحم والدَّم والعظم فكان يفرِّج بين أصابعه في محصب فينبع من بين أصابعه الماء، فيشربون ويسقون ماء جارياً عذباً يروي العدد الكثير من النَّاس والخيل والإبل‏.‏

ثمَّ روى من طريق المطَّلب بن عبد الله بن أبي حنطب حدَّثني عبد الرَّحمن ابن أبي عمرة الأنصاري، حدَّثني أبي قال‏:‏ كنَّا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة غزاها فبات النَّاس في مخمصة فدعا بركوة فوضعت بين يديه، ثمَّ دعا بماء فصبَّه فيها، ثمَّ مجَّ فيها وتكلَّم ما شاء الله أن يتكلَّم ثمَّ أدخل إصبعه فيها، فأُقسم بالله لقد رأيت أصابع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تتفجَّر منها ينابيع الماء ثمَّ أمر النَّاس فسقوا وشربوا وملأوا قربهم وأداواتهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/313‏)‏

وأمَّا قصَّة إحياء الذين قتلوا بسبب عبادة العجل وقصَّة البقرة، فسيأتي ما يشابههما من إحياء حيوانات وأناس عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى ابن مريم والله أعلم‏.‏

وقد ذكر أبو نعيم هاهنا أشياء أخر تركناها اختصاراً واقتصاداً‏.‏

وقال هشام بن عمارة في كتابه ‏(‏المبعث‏)‏‏:‏

 باب ما أعطي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وما أعطي الأنبياء قبله‏:‏

حدَّثنا محمَّد بن شعيب، حدَّثنا روح بن مدرك، أخبرني عمر بن حسَّان التَّميميّ أنَّ موسى عليه السلام أعطي آية من كنوز العرش، ربِّ لا تولج الشَّيطان في قلبي وأعذني منه ومن كل سوء، فإنَّ لك اليد والسُّلطان والملك والملكوت دهر الدَّاهرين وأبد الأبدين آمين آمين‏.‏

قال‏:‏ وأعطي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم آيتان من كنوز العرش آخر سورة البقرة ‏(‏‏(‏آمن الرَّسول بما أنزل إليه من ربِّه‏)‏‏)‏ إلى آخرها‏.‏

 قصَّة حبس الشَّمس‏:‏

على يوشع بن نون بن أفرائم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرَّحمن - عليهم السَّلام - وقد كان نبيّ بنيّ إسرائيل بعد موسى عليه السلام وهو الذي خرج ببني إسرائيل من التِّيه ودخل بهم بيت المقدس بعد حصار ومقاتلة، وكان الفتح قد ينجز بعد العصر يوم الجمعة وكادت الشَّمس تغرب ويدخل عليهم السَّبت فلا يتمكَّنون معه من القتال، فنظر إلى الشَّمس فقال‏:‏ إنَّك مأمورة وأنا مأمور، ثمَّ قال‏:‏ اللَّهم احبسها عليَّ، فحبسها الله عليه حتى فتح البلد ثمَّ غربت‏.‏

وقد قدَّمنا في قصَّة من قصص الأنبياء الحديث الوارد في صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر ابن همام، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏غزا نبيّ من الأنبياء فدنا من القرية حين صلَّى العصر أو قريباً من ذلك فقال للشَّمس‏:‏ أنت مأمورة وأنا مأمور، اللَّهم امسكها عليَّ شيئاً، فحبست عليه حتى فتح الله عليه، الحديث بطوله، وهذا النَّبيّ هو‏:‏ يوشع بن نون‏.‏

بدليل ما رواه الإمام أحمد حدَّثنا أسود بن عامر، حدَّثنا أبو بكر ابن هشام عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الشَّمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه السلام ليالي سار إلى بيت المقدس‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به أحمد، وإسناده على شرط البخاري‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/314‏)‏

إذا علم هذا فانشقاق القمر فلقتين حتى صارت فلقة من وراء الجبل - أعني‏:‏ حراء - وأخرى من دونه أعظم في المعجزة من حبس الشَّمس قليلاً، وقد قدَّمنا في الدَّلائل حديث ردِّ الشَّمس بعد غروبها وذكرنا ما قيل فيه من المقالات، فالله أعلم‏.‏

قال شيخنا العلامة أبو المعالي بن الزَّملكانيّ‏:‏ وأمَّا حبس الشَّمس ليوشع في قتال الجبَّارين، فقد انشقَّ القمر لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم وانشقاق القمر فلقتين أبلغ من حبس الشَّمس عن مسيرها، وصحَّت الأحاديث وتواترت بانشقاق القمر، وأنَّه كان فرقة خلف الجبل، وفرقة أمامه، وأنَّ قريشاً قالوا‏:‏ هذا سحر أبصارنا، فوردت المسافرون وأخبروا أنَّهم رأوه مفترقاً‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ‏}‏‏.‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1-2‏]‏‏.‏

قال‏:‏ وقد حبست الشَّمس لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مرتين‏:‏ إحداهما ما رواه الطَّحاوي، وقال رواته ثقات وسمَّاهم وعدَّهم واحداً واحداً وهو أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي رضي الله عنه فلم يرفع رأسه حتى غربت الشَّمس ولم يكن علي صلَّى العصر، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم إنَّه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشَّمس‏)‏‏)‏ فردَّ الله عليه الشَّمس حتى رؤيت، فقام علي فصلَّى العصر ثمَّ غربت‏.‏

والثَّانية صبيحة الإسراء، فإنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أخبر قريشاً عن مسراه من مكة إلى بيت المقدس فسألوه عن أشياء من بيت المقدس فجلاه الله له حتى نظر إليه ووصفه لهم، وسألوه عن عير كانت لهم في الطَّريق، فقال‏:‏ إنَّها تصل إليكم مع شروق الشَّمس فتأخرت، فحبس الله الشَّمس عن الطُّلوع حتى كانت العصر، روى ذلك ابن بكير في زياداته على السُّنن‏.‏

أمَّا حديث ردِّ الشَّمس بسبب علي رضي الله عنه فقد تقدَّم ذكرنا له من طريق أسماء بنت عميس وهو أشهرها، وابن سعيد، وأبي هريرة، وعلي نفسه وهو مستنكر من جميع الوجوه، وقد مال إلى تقويته أحمد بن صالح المصري الحافظ، وأبو حفص الطحاوي، والقاضي عياض، وكذا صحَّحه جماعة من العلماء الرَّافضة‏:‏ كابن المطهر وذويه، ورده وحكم بضعفه آخرون من كبار حفَّاظ الحديث ونقَّادهم‏:‏ كعلي بن المدينيّ، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وحكاه عن شيخه محمَّد، ويعلى بن عبيد الطَّنافسيين، وكأبي بكر محمد بن حاتم البخاري المعروف بابن زنجويه أحد الحفَّاظ، والحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر‏.‏

وذكره الشَّيخ جمال الدِّين أبو الفرج بن الجَّوزيّ في كتاب ‏(‏الموضوعات‏)‏‏.‏

وكذلك صرَّح بوضعه شيخاي الحافظان الكبيران‏:‏ أبو الحجَّاج المزِّيّ، وأبو عبد الله الذَّهبيّ‏.‏

وأمَّا ما ذكره يونس ابن بكير في زياداته على السِّيرة من تأخر طلوع الشَّمس عن أبان طلوعها، فلم يُرَ لغيره من العلماء على أنَّ هذا ليس من الأمور المشاهدة، وأكثر ما في الباب أن الراوي روى تأخير طلوعها ولم نشاهد حبسها عن وقته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/315‏)‏

وأغرب من هذا ما ذكره ابن المطهر في كتابه ‏(‏المنهاج‏)‏ أنَّها ردَّت لعلي مرَّتين، فذكر الحديث المتقدِّم كما ذكر، ثمَّ قال‏:‏ وأمَّا الثَّانية فلمَّا أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بسبب دوابِّهم وصلَّى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفاتت كثيراً منهم فتكلموا في ذلك، فسأل الله ردَّ الشَّمس فردَّت‏.‏

قال‏:‏ وذكر أبو نعيم بعد موسى إدريس عليه السلام وهو عند كثير من المفسِّرين من أنبياء بني إسرائيل، وعند محمد بن إسحاق بن يسار وآخرين من علماء النَّسب قبل نوح عليه السلام في عمود نسبه إلى آدم عليه السلام كما تقدَّم التَّنبيه على ذلك، فقال‏:‏

 القول فيما أعطي إدريس - عليه السَّلام‏:‏

من الرِّفعة التي نوَّه الله بذكرها فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ورفعناه مكاناً عليَّا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ والقول فيه أنَّ نبيِّنا محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم أُعطي أفضل وأكمل من ذلك لأنَّ الله تعالى رفع ذكره في الدُّنيا والآخرة فقال‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشَّرح‏:‏ 4‏]‏‏.‏

فليس خطيب ولا شفيع ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، فقرن الله اسمه باسمه في مشارق الأرض ومغاربها، وذلك مفتاحاً للصَّلاة المفروضة‏.‏

ثمَّ أورد حديث ابن لهيعة عن دراج، عن أبي الهشيم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏‏.‏

قال‏:‏ قال جبريل‏:‏ قال الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه ابن جرير وابن أبي عاصم من طريق دراج، ثمَّ قال‏:‏ حدَّثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفيّ، حدَّثنا موسى بن سهل الجونيّ، حدَّثنا أحمد بن القاسم بن بهرام الهيتي، حدَّثنا نصر بن حماد عن عثمان بن عطاء، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لمَّا فرغت ممَّا أمرني الله تعالى به من أمر السَّموات والأرض قلت‏:‏ يا ربِّ إنَّه لم يكن نبيّ قبلي إلا قد كرَّمته، جعلت إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، وسخَّرت لداود الجبال، ولسليمان الرِّيح والشَّياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلت لي‏؟‏ قال‏:‏ أوليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله أن لا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت صدور أمَّتك أناجيل يقرؤون القرآن ظاهراً ولم أعطها أمَّة، وأنزلت عليك كلمة من كنوز عرشي لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد فيه غرابة ولكن أورد له شاهداً من طريق أبي القاسم ابن بنت منيع البغوي عن سليمان بن داود المهراني، عن حماد بن زيد، عن عطاء بن السَّائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس مرفوعاً بنحوه‏.‏

وقد رواه أبو زرعة الرَّازيّ في كتاب ‏(‏دلائل النُّبُّوة‏)‏ بسياق آخر وفيه انقطاع فقال‏:‏ حدَّثنا هشام بن عمَّار الدِّمشقيّ، حدَّثنا الوليد بن مسلم، حدَّثنا شعيب بن زريق أنَّه سمع عطاء الخراسانيّ يحدِّث عن أبي هريرة وأنس بن مالك، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من حديث ليلة أسري به قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لمَّا أراني الله من آياته فوجدت ريحاً طيبةً فقلت‏:‏ ما هذا يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ هذه الجنَّة، قلت‏:‏ يا ربِّي إئتني بأهلي، قال الله تعالى‏:‏ لك ما وعدتك كل مؤمن ومؤمنة لم يتَّخذ من دوني أنداداً ومن أقرضني قرَّبته، ومن توكَّل عليَّ كفيته ومن سألني أعطيته، ولا ينقص نفقته ولا ينقص ما يتمنى، لك ما وعدتك، فنعم دار المتَّقين أنت، قلت‏:‏ رضيت، فلمَّا انتهينا إلى سدرة المنتهى خررت ساجداً فرفعت رأسي فقلت‏:‏ يا رب اتَّخذت إبراهيم خليلاً، وكلَّمت موسى تكليماً، وآتيت داود زبوراً، وآتيت سليمان ملكاً عظيماً، قال‏:‏ فإنِّي قد رفعت لك ذكرك، ولا تجوز لأمَّتك خطبة حتى يشهدوا أنَّك رسولي، وجعلت قلوب أمَّتك أناجيل، وآتيتك خواتيم سورة البقرة من تحت عرشي‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/316‏)‏

ثمَّ روى من طريق الرَّبيع بن أنس عن أبي العالية، عن أبي هريرة حديث الإسراء بطوله كما سقناه من طريق ابن جرير في التَّفسير، وقال أبو زرعة في سياقه‏:‏ ثمَّ لقي أرواح الأنبياء - عليهم السَّلام - فأثنوا على ربِّهم عزَّ وجل فقال إبراهيم‏:‏ الحمد لله الذي اتَّخذني خليلاً وأعطاني ملكاً عظيماً وجعلني أمَّة قانتاً لله محياي ومماتي، وأنقذني من النَّار، وجعلها عليَّ برداً وسلاماً‏.‏

ثمَّ إنَّ موسى أثنى على ربِّه فقال‏:‏ الحمد لله الذي كلَّمني تكليماً واصطفاني برسالته وبكلامه وقرَّبني نجياً، وأنزل عليَّ التَّوراة، وجعل هلاك فرعون على يدي‏.‏

ثمَّ إنَّ داود أثنى على ربِّه فقال‏:‏ الحمد لله الذي جعلني ملكاً وأنزل عليَّ الزَّبور، وألان لي الحديد وسخَّر لي الجبال يسبِّحن معه والطَّير، وآتاني الحكمة وفصل الخطاب‏.‏

ثمَّ إنَّ سليمان أثنى على ربِّه فقال‏:‏ الحمد لله الذي سخر لي الرِّياح والجنّ والإنس، وسخَّر لي الشَّياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وعلَّمني منطق الطَّير، وأسال لي عين القطر، وأعطاني ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي‏.‏

ثمَّ إنَّ عيسى أثنى على الله عزَّ وجلَّ فقال‏:‏ الحمد لله الذي علمني التَّوراة والإنجيل، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، وطهَّرني ورفعني من الذين كفروا وأعاذني من الشَّيطان الرَّجيم فلم يكن للشَّيطان علينا سبيل‏.‏

ثمَّ إنَّ محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم أثنى على ربِّه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كلُّكم أثنى على ربِّه وأنا مثنٍ على ربِّي، الحمد لله الذي أرسلني رحمةً للعالمين، وكافةً للنَّاس بشيراً ونذيراً، وأنزل عليَّ الفرقان فيه تبيان كلَّ شيء، وجعل أمَّتي خير أمَّة أخرجت للنَّاس، وجعل أمَّتي وسطاً، وجعل أمَّتي هم الأوَّلون وهم الآخرون، وشرح لي صدري ووضع عنِّي وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحاً وخاتماً‏)‏‏)‏‏.‏

فقال إبراهيم‏:‏ بهذا فضلكم محمد صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ثمَّ أورد إبراهيم الحديث المتقدِّم فيما رواه الحاكم والبيهقيّ من طريق عبد الرَّحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه، عن عمر بن الخطَّاب مرفوعاً في قول آدم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا ربِّ أسألك بحقِّ محمَّد إلا غفرت لي‏.‏

فقال الله‏:‏ وما أدراك ولم أخلقه بعد‏.‏

فقال‏:‏ لأنِّي رأيت مكتوباً مع اسمك على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت أنَّك لم تضف إلى اسمك إلا أحبَّ الخلق إليك‏.‏

فقال الله‏:‏ صدقت يا آدم ولولا محمَّد ما خلقتك‏)‏‏)‏‏.‏

وقال بعض الأئمة‏:‏ رفع الله ذكره وقرنه باسمه في الأوَّلين والآخرين، وكذلك يرفع قدره ويقيمه مقاماً محموداً يوم القيامة يغبطه به الأوَّلون والآخرون، ويرغب إليه الخلق كلَّهم حتى إبراهيم الخليل‏.‏

كما ورد في صحيح مسلم فيما سلف وسيأتي أيضاً، فإنَّ التَّنويه بذكره في الأمم الخالية والقرون السَّابقة‏.‏

ففي صحيح البخاريّ عن ابن عبَّاس قال‏:‏ ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بُعث محمَّد وهو حيّ ليؤمننَّ به وليتَّبعنَّه ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذ على أمَّته العهد والميثاق لئن بعث محمَّد وهم أحياء ليؤمننَّ به وليتَّبعنَّه، وقد بشَّرت بوجوده الأنبياء حتَّى كان آخر من بشَّر به عيسى بن مريم خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكذلك بشَّرت به الأحبار والرُّهبان والكهَّان كما قدَّمنا ذلك مبسوطاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/317‏)‏

ولمَّا كانت ليلة الإسراء رفع من سماء إلى سماء حتَّى سلَّم على إدريس عليه السلام وهو في السَّماء الرَّابعة، ثمَّ جاوزه إلى الخامسة، ثمَّ إلى السَّادسة فسلَّم على موسى بها، ثمَّ جاوزه إلى السَّابعة فسلَّم على إبراهيم الخليل عند البيت المعمور، ثمَّ جاوز ذلك المقام فرفع لمستوى سمع فيه صريف الأقلام وجاء سدرة المنتهى ورأى الجنَّة والنَّار وغير ذلك من الآيات الكبرى، وصلَّى بالأنبياء، وشيَّعه من كل مقربوها، وسلَّم عليه رضوان خازن الجنان، ومالك خازن النَّار فهذا هو الشَّرف، وهذه هي الرِّفعة، وهذا هو التَّكريم والتَّنويه والإشهار والتَّقديم والعلو، والعظمة - صلوات الله وسلامه عليه - وعلى سائر أنبياء الله أجمعين‏.‏

وأمَّا رفع ذكره في الآخرين فإنَّ دينه باقٍ ناسخٍ لكلِّ دين، ولا يُنسخ هو أبد الآبدين، ودهر الدَّاهرين إلى يوم الدِّين، ولا تزال طائفة من أمَّته ظاهرين على الحقِّ لا يضرَّهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساَّعة، والنِّداء في كل يوم خمس مرات على كل مكان مرتفع من الأرض‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، وهكذا كلَّ خطيب يخطب لا بدَّ أن يذكره في خطبته وما أحسن قول حسَّان‏:‏

أغرَّ عَليهِ لِلنبُّوةِ خَاتمٌ * مِنَ الله مَشهودُ يلوحُ وَيشهدُ

وضَمَّ الإلهُ اسمَ النَّبيّ إلى اسمهِ * إِذا قالَ في الخَمسِ المُؤَذِّنُ أَشهدُ

وشقَّ لهُ من اسمِهِ ليجِلَّهُ * فَذُو العَرشِ محمودُ وهَذا محمَّدُ

وقال الصَّرصريّ رحمه الله‏:‏

ألمْ ترَ أنَّا لا يصحُّ أَذانُنَا * ولا فَرضُنَا إنْ لم نكرِّره فيهِمَا

 القول فيما أوتي داود عليه السلام‏:‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17-19‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10-11‏]‏‏.‏

وقد ذكرنا قصَّته عليه السلام في التَّفسير، وطيب صوته عليه السلام وأنَّ الله تعالى كان قد سخر له الطَّير تسبِّح معه، وكانت الجبال أيضاً تجيبه وتسبِّح معه، وكان سريع القراءة يأمر بدوابِّه فتسرح فيقرأ الزَّبور بمقدار ما يفرغ من شأنها ثمَّ يركب، وكان لا يأكل إلا من كسب يده - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏

وقد كان نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم حسن الصَّوت طيَّبه بتلاوة القرآن‏.‏

قال جبير بن مطعم‏:‏ قرأ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في المغرب بالتِّين والزَّيتون، فما سمعت صوتاً أطيب من صوته صلَّى الله عليه وسلَّم وكان يقرأ ترتيلاً كما أمره الله عزَّ وجلَّ بذلك‏.‏

وأمَّا تسبيح الطَّير مع داود فتسبيح الجبال الصُّم أعجب من ذلك وقد تقدَّم في الحديث أنَّ الحصا سبَّح في كفِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال ابن حامد‏:‏ وهذا حديث معروف مشهور، وكانت الأحجار والأشجار والمدر تسلِّم عليه صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/318‏)‏

وفي صحيح البخاريّ عن ابن مسعود قال‏:‏ لقد كنَّا نسمع تسبيح الطَّعام وهو يؤكل - يعني‏:‏ بين يدي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وكلَّمه ذراع الشَّاة المسمومة وأعلمه بما فيه من السُّم، وشهدت بنبوَّته الحيوانات الإنسية والوحشية، والجمادات أيضاً كما تقدَّم بسط ذلك كلَّه، ولا شكَّ أنَّ صدور التَّسبيح من الحصا الصِّغار الصُّم التي لا تجاويف فيها أعجب من صدور ذلك من الجبال لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنَّها وما شاكلها تردد صدى الأصوات العالية غالباً‏.‏

كما قال عبد الله بن الزُّبير‏:‏ كان إذا خطب وهو أمير المدينة بالحرم الشَّريف تجاوبه الجبال أبو قبيس وزرود، ولكن من غير تسبيح، فإنَّ ذلك من معجزات داود عليه السلام ومع هذا كان تسبيح الحصا في كفِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي بكر، وعمر، وعثمان أعجب‏.‏

وأما أكل داود من كسب يده فقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يأكل من كسبه أيضاً كما كان يرعى غنماً لأهل مكة على قراريط‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وما من نبيّ إلا وقد رعى الغنم‏)‏‏)‏ وخرج إلى الشَّام في تجارة لخديجة مضاربة‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7-9‏]‏‏.‏

إلى قوله ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏‏.‏

أي للتَّكسُّب والتِّجارة طلباً للرِّبح الحلال، ثمَّ لمَّا شرع الله الجهاد بالمدينة كان يأكل ممَّا أباح له من المغانم التي لم تبح قبله، وممَّا أفاء الله عليه من أموال الكفَّار التي أبيحت له دون غيره‏.‏

كما جاء في المسند والتّرمذيّ عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏بعثت بالسَّيف بين يدي السَّاعة حتَّى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذِّلة والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم‏)‏‏)‏‏.‏

وأمَّا إلانة الحديد بغير نار كما يلين العجين في يده، فكان يصنع هذه الدُّروع الدَّاوودية، وهي الزَّرديات السَّابغات وأمره الله تعالى بنفسه بعملها، ‏(‏‏(‏وقدَّر في السَّرد‏)‏‏)‏ أي ألا يدقَّ المسمار فيعلق ولا يعظله فيقصم، كما جاء في البخاري‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 80‏]‏‏.‏

وقد قال بعض الشُّعراء في معجزات النُّبُّوة‏:‏

نسيجُ داودَ مَا حمَى صاحِبَ الغَا * رِ وكانَ الفَخَارُ لِلْعنكبوتِ

والمقصود المعجز في إلانة الحديد، وقد تقدَّم في السِّيرة عند ذكر حفر الخندق عام الأحزاب في سنة أربع، وقيل‏:‏ خمس أنَّهم عرضت لهم كدية وهي الصَّخرة في الأرض فلم يقدروا على كسرها ولا شيء منها، فقام إليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد ربط حجراً على بطنه من شدَّة الجوع فضربها ثلاث ضربات‏:‏ لمعت الأولى حتى أضاءت له منها قصور الشَّام، وبالثَّانية قصور فارس، وثالثة ثمَّ انسالت الصَّخرة كأنَّها كثيب من الرَّمل، ولا شكَّ أنَّ انسيال الصَّخرة التي لا تنفعل ولا بالنَّار أعجب من لين الحديد الذي إن أحمى لانه، كما قال بعضهم‏:‏

فلو أنَّ ما عَالجتُ لينَ فُؤادِهَا * بنفسِي للانَ الجَندَلُ الصلدُ ‏(‏ج/ص‏:‏6/319‏)‏

والجندل‏:‏ الصَّخر، فلو أنَّ شيئاً أشدَّ قوةً من الصَّخر لذكره هذا الشَّاعر المبالغ‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏‏.‏

وأمَّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 50‏]‏‏.‏

فذلك لمعنى آخر في التَّفسير وحاصله أنَّ الحديد أشدَّ امتناعاً في السَّاعة الرَّاهنة من الحجر ما لم يعالج، فإذا عولج انفعل الحديد ولا ينفعل الحجر والله أعلم‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل‏:‏ فقد ليَّن الله لداود عليه السلام الحديد حتَّى سرد منه الدُّروع السَّوابغ‏.‏

قيل‏:‏ لُيِّنت لمحمَّد الحجارة وصمَّ الصُّخور فعادت له غاراً استتر به من المشركين يوم أحد، مال إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم فليِّن الجبل حتى أدخل رأسه فيه وهذا أعجب لأنَّ الحديد تليِّنه النَّار، ولم نر النَّار تلين الحجر‏.‏

قال‏:‏ وذلك بعد ظاهر باق يراه النَّاس‏.‏

قال‏:‏ وكذلك في بعض شعاب مكة حجر من جبل في صلايه إليه، فـَلانَ الحجرُ حتى إدَّرأ فيه بذراعيه وساعديه، وذلك مشهور يقصده الحجَّاج ويرونه، وعادت الصَّخرة ليلة أسري به كهيئة العجين فربط بها دابَّته - البراق - وموضعه يسمُّونه النَّاس إلى يومنا هذا، وهذا الذي أشار إليه من يوم أحد وبعض شعاب مكة غريب جداً، ولعلَّه قد أسنده هو فيما سلف وليس ذلك بمعروف في السِّيرة المشهورة‏.‏

وأمَّا ربط الدَّابة في الحجر فصحيح، والذي ربطها جبريل كما هو في صحيح مسلم رحمه الله‏.‏

وأمَّا قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وأوتيت الحكمة وفصل الخطاب‏)‏‏)‏ فقد كانت الحكمة التي أوتيها محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم والشِّرعة التي شرعت له أكمل من كل حكمة وشرعة كانت لمن قبله من الأنبياء - صلوات الله عليه وعليهم أجمعين - فإنَّ الله جمع له محاسن من كان قبله وفضَّله وأكمله، وآتاه ما لم يؤت أحداً قبله‏.‏

وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصاراً‏)‏‏)‏‏.‏

ولا شكَّ أنَّ العرب أفصح الأمم، وكان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أفصحهم نطقاً وأجمع لكلِّ خلق جميل مطلقاً‏.‏

 القول فيما أوتي سليمان بن داود عليه السلام‏:‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 36-40‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 81-82‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 12-13‏]‏‏.‏

وقد بسطنا ذلك في قصَّته وفي التَّفسير أيضاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/320‏)‏

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وصحَّحه التّرمذيّ وابن حبان والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أنَّ سليمان عليه السلام لمَّا فرغ من بناء بيت المقدس سأل الله خلالاً ثلاثاً‏:‏ سأل الله حكماً يوافق حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأنَّه لا يأتي هذا المسجد أحد إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏)‏‏)‏‏.‏

أمَّا تسخير الرِّيح لسليمان فقد قال الله تعالى في شأن الأحزاب‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وقد تقدَّم في الحديث الذي رواه مسلم من طريق شعبة عن الحاكم، عن مجاهد، عن ابن عبَّاس أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت بالصَّبا وأُهلكت عاد بالدَّبور‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من طريق الأعمش عن مسعود بن مالك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مثله‏.‏

وثبت في الصَّحيحين‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت بالرُّعب مسيرة شهر‏)‏‏)‏‏.‏

ومعنى ذلك‏:‏ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا قصد قتال قوم من الكفَّار ألقى الله الرُّعب في قلوبهم قبل وصوله إليهم بشهر، ولو كان مسيره شهراً، فهذا في مقابلة غدوِّها شهر ورواحها شهر، بل هذا أبلغ في التمكُّن والنَّصر والتَّأييد والظَّفر، وسخِّرت الرِّياح تسوق السَّحاب لإنزال المطر الذي امتنَّ الله به حين استسقى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غير ما موطن كما تقدَّم‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل‏:‏ فإنَّ سليمان سخِّرت له الرِّيح فسارت به في بلاد الله وكان غدوَّها شهراً ورواحها شهراً‏.‏

قيل‏:‏ ما أعطي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم أعظم وأكبر لأنَّه سار في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السَّموات مسيرة خمسين ألف سنة في أقل من ثلث ليلة، فدخل السَّموات سماء سماء ورأى عجائبها، ووقف على الجنَّة والنَّار، وعرض عليه أعمال أمَّته، وصلَّى بالأنبياء وبملائكة السَّموات، واخترق الحجب وهذا كله في ليلة قائماً أكبر وأعجب‏.‏

وأمَّا تسخير الشَّياطين بين يديه تعمل ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، فقد أنزل الله الملائكة المقرَّبين لنصرة عبده ورسوله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم في غير ما موطن يوم أحد، وبدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين كما تقدَّم ذكرناه ذلك مفصلاً في مواضعه، وذلك أعظم وأبهر وأجلّ وأعلا من تسخير الشَّياطين‏.‏

وقد ذكر ذلك ابن حامد في كتابه، وفي الصَّحيحين من حديث شعبة عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ عفريتاً من الجنِّ تفلَّت عليَّ البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع علي الصَّلاة، فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتَّى يصبحوا وينظروا إليه، فذكرت دعوة أخي سليمان رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي‏)‏‏)‏‏.‏

قال روح‏:‏ فردَّه الله خاسئاً، لفظ البخاري‏.‏

ولمسلم عن أبي الدَّرداء نحوه، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثمَّ أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح يلعب به ولدان أهل المدينة‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/321‏)‏

وقد روى الإمام أحمد بسند جيد عن أبي سعيد أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قام يصلِّي صلاة الصُّبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلمَّا فرغ من صلاته قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أختنقه حتَّى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان أهل المدينة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ثبت في الصِّحاح والحسان والمسانيد أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنَّة وغلِّقت أبواب النَّار، وصفِّدت الشَّياطين‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية ‏(‏‏(‏مردة الجنِّ‏)‏‏)‏ فهذا من بركة ما شرعه الله له من صيام شهر رمضان وقيامه، وسيأتي عند إبراء الأكمه والأبرص من معجزات المسيح عيسى بن مريم عليه السلام دعاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لغير ما واحد ممن أسلم من الجنِّ فشفي وفارقهم خوفاً منه ومهابة له، وامتثالاً لأمره - صلوات الله وسلامه عليهم -‏.‏

وقد بعث الله نفراً من الجنِّ يستمعون القرآن فآمنوا به وصدَّقوه ورجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى دين محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وحذَّروهم مخالفته لأنَّه كان مبعوثاً إلى الإنس والجنِّ فآمنت طوائف من الجنِّ كثيرة كما ذكرنا، ووفدت إليه منهم وفود كثيرة وقرأ عليهم سورة الرَّحمن، وخبَّرهم بما لمن آمن منهم من الجنان، وما لمن كفر من النِّيران، وشرع لهم ما يأكلون وما يطعمون دوابهم، فدلَّ على أنَّه بيَّن لهم ما هو أهم من ذلك وأكبر‏.‏

وقد ذكر أبو نعيم هاهنا حديث الغول التي كانت تسرق التَّمر من جماعة من أصحابه صلَّى الله عليه وسلَّم ويريدون إحضارها إليه فتمتنع كل الامتناع خوفاً من المثول بين يديه، ثمَّ افتدت منهم بتعليمهم قراءة آية الكرسي التي لا يقرب قارئها الشَّيطان‏.‏

وقد سقنا ذلك بطرقه وألفاظه عند تفسير آية الكرسي من كتابنا التَّفسير ولله الحمد‏.‏

والغول هي الجنّ المتبدِّي باللَّيل في صورة مرعبة‏.‏

وذكر أبو نعيم هاهنا حماية جبريل له عليه السلام غير ما مرَّة من أبي جهل كما ذكرنا في السِّيرة، وذكر مقاتلة جبريل وميكائيل عن يمينه وشماله يوم أحد‏.‏

وأمَّا ما جمع الله تعالى لسليمان من النُّبُّوة والملك كما كان أبوه من قبله فقد خيَّر الله عبده محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم بين أن يكون ملكاً نبياً، أو عبداً رسولاً، فاستشار جبريل في ذلك فأشار إليه وعليه أن يتواضع فاختار أن يكون عبداً رسولاً‏.‏

وقد روى ذلك من حديث عائشة وابن عبَّاس، ولا شكَّ أنَّ منصب الرِّسالة أعلى، وقد عرضت على نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم كنوز الأرض فأباها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ولو شئت لأجرى الله معي جبال الأرض ذهباً ولكن أجوع يوماً وأشبع يوماً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ذكرنا ذلك كلَّه بأدلَّته وأسانيده في التَّفسير وفي السِّيرة أيضاً ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا طرفاً منها من حديث عبد الرَّزاق عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏بينا أنا نائم جيء بمفاتيح خزائن الأرض فجعلت في يدي‏)‏‏)‏‏.‏

ومن حديث الحسين بن واقد عن الزُّبير عن جابر مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏أوتيت مفاتيح خزائن الدُّنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل عليه قطيفة من سندس‏)‏‏)‏‏.‏

ومن حديث القاسم عن أبي لبابة مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏عرض عليَّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت‏:‏ لا يا ربِّ ولكن أشبع يوماً، وأجوع يوماً فإذا جعت تضرَّعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/322‏)‏

قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل سليمان عليه السلام كان يفهم كلام الطَّير والنَّملة‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ‏}‏ ‏[‏النَّمل‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا‏}‏ ‏[‏النَّمل‏:‏ 18‏]‏‏.‏

قيل‏:‏ قد أعطي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم مثل ذلك وأكثر منه، فقد تقدَّم ذكرنا لكلام البهائم والسِّباع، وحنين الجذع ورغاء البعير، وكلام الشَّجر وتسبيح الحصا والحجر، ودعائه إيَّاه واستجابته لأمره، وإقرار الذِّئب بنبوَّته وتسبيح الطَّير لطاعته، وكلام الظَّبية وشكواها إليه، وكلام الضـَّب وإقراره بنبوَّته وما في معناه، كلُّ ذلك قد تقدَّم في الفصول بما يغني عن إعادته انتهى كلامه‏.‏

قلت‏:‏ وكذلك أخبره ذراع الشَّاة بما فيه من السُّم، وكان ذلك بإقرار من وضعه فيه من اليهود‏.‏

وقال‏:‏ إنَّ هذه السَّحابة لتبتهل بنصرك يا عمرو بن سالم - يعني‏:‏ الخزاعيّ - حين أنشده تلك القصيدة يستعديه فيها على بني بكر الذين نقضوا صلح الحديبية، وكان ذلك سبب فتح مكة كما تقدَّم‏.‏

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنِّي لأعرف حجراً كان يسلِّم عليَّ بمكة قبل أن أبعث إنِّي لأعرفه الآن‏)‏‏)‏ فهذا إن كان كلاماً مما يليق بحاله ففهم عنه الرَّسول ذلك، فهو من هذا القبيل وأبلغ لإقامة جماد بالنِّسبة إلى الطَّير والنَّمل لأنهما من الحيوانات ذوات الأرواح، وإن كان سلاماً نطقياً وهو الأظهر فهو أعجب من هذا الوجه أيضاً‏.‏

كما قال علي‏:‏ خرجت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بعض شعاب مكَّة فما مرَّ بحجر ولا شجر، ولا مدر، إلا قال‏:‏ السَّلام عليك يا رسول الله‏.‏

فهذا النُّطق سمعه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعلي رضي الله عنه‏.‏

ثمَّ قال أبو نعيم‏:‏ حدَّثنا أحمد بن محمد بن الحارث العنبريّ، حدَّثنا أحمد بن يوسف بن سفيان، حدَّثنا إبراهيم بن سويد النَّخعيّ، حدَّثنا عبد الله بن أذينة الطَّائيّ عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معلاة بن جبل قال‏:‏ أتى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو بخيبر حمار أسود فوقف بين يديه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنت‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ أنا عمرو بن فهران كنَّا سبعة إخوة، وكلَّنا ركبنا الأنبياء، وأنا أصغرهم وكنت لك، فملكني رجل من اليهود وكنت إذ أذكرك عثرت به فيوجعني ضرباً‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأنت يعفور‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث فيه نكارة شديدة ولا يحتاج إلى ذكره مع ما تقدَّم من الأحاديث الصَّحيحة التي فيها غنية عنه‏.‏

وقد روى على غير هذه الصِّفة وقد نص على نكارته ابن أبي حاتم عن أبيه والله أعلم‏.‏

 القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه السلام‏:‏

ويسمَّى المسيح فقيل‏:‏ لمسحه الأرض‏.‏

وقيل‏:‏ لمسح قدمه‏.‏

وقيل‏:‏ لخروجه من بطن أمه ممسوحاً بالدِّهان‏.‏

وقيل‏:‏ لمسح جبريل بالبركة‏.‏

وقيل‏:‏ لمسح الله الذُّنوب عنه‏.‏

وقيل‏:‏ لأنَّه كان لا يمسح أحداً إلا برأ‏.‏

حكاها كلَّها الحافظ أبو نعيم رحمه الله‏.‏

ومن خصائصه أنَّه عليه السلام مخلوق بالكلمة من أنثى بلا ذكر، كما خلقت حواء من ذكر بلا أنثى، وكما خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وإنَّما خلقه الله تعالى من تراب، ثمَّ قال له‏:‏ ‏(‏‏(‏كن فيكون‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/323‏)‏ وكذلك يكون عيسى بالكلمة وبنفخ جبريل مريم فخلق منها عيسى، ومن خصائصه وأمَّه أنَّ إبليس - لعنه الله - حين ولد ذهب يطعن فطعن في الحجاب كما جاء في الصَّحيح‏.‏ ومن خصائصه أنَّه حيٌّ لم يمت وهو الآن بجسده في السَّماء الدُّنيا، وسينزل قبل يوم القيامة على المنارة البيضاء الشَّرقية بدمشق، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويحكم بهذه الشَّريعة المحمَّدية، ثمَّ يموت ويدفن بالحجرة النَّبويَّة كما رواه التّرمذيّ، وقد بسطنا ذلك في قصَّته‏.‏ وقال شيخنا العلامة ابن الزَّملكانيّ رحمه الله‏:‏ وأمَّا معجزات عيسى عليه السلام فمنها إحياء الموتى، وللنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من ذلك كثير، وإحياء الجماد أبلغ من إحياء الميت‏.‏

وقد كلَّم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذِّراع المسمومة وهذا الإحياء أبلغ من إحياء الإنسان الميت من وجوه أحدها‏:‏ أنَّه إحياء جزء من الحيوان دون بقيته وهذا معجز لو كان متصلاً بالبدن‏.‏

الثَّاني‏:‏ أنَّه أحياه وحده منفصلاً عن بقية أجزاء ذلك الحيوان مع موت البقية‏.‏

الثَّالث‏:‏ أنَّه أعاد عليه الحياة مع الإدراك والعقل ولم يكن هذا الحيوان يعقل في حياته الذي هو جزؤه ممَّا يتكلم، وفي هذا ما هو أبلغ من حياة الطُّيور التي أحياها الله لإبراهيم صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قلت‏:‏ وفي حلول الحياة والإدراك والعقل في الحجر الذي كان يخاطب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالسَّلام عليه كما روي في صحيح مسلم من المعجز ما هو أبلغ من إحياء الحيوان في الجملة، لأنَّه كان محلاً للحياة في وقت بخلاف هذا حيث لا حياة له بالكليَّة قبل ذلك، وكذلك تسليم الأحجار والمدر عليه وكذلك الأشجار والأغصان وشهادتها بالرِّسالة، وحنين الجذع‏.‏

وقد جمع ابن أبي الدُّنيا كتاباً فيمن عاش بعد الموت وذكر منها كثيراً، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه أنَّه قال‏:‏ دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض يعقل فلم نبرح حتَّى قبض، فبسطنا عليه ثوبه وسجَّيناه وله أمٌّ عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضنا وقال‏:‏ يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله‏.‏

فقالت‏:‏ وما ذاك أمات ابني ‏؟‏

قلنا‏:‏ نعم‏.‏

قالت‏:‏ أحقٌّ ما تقولون ‏؟‏

قلنا‏:‏ نعم، فمدَّت يدها إلى الله تعالى فقالت‏:‏ اللَّهم إنَّك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعينني عند كلِّ شدَّة ورخاء، فلا تحمِّلني هذه المصيبة اليوم‏.‏

قال‏:‏ فكشف الرَّجل عن وجهه وقعد وما برحنا حتى أكلنا معه‏.‏

وهذه القصَّة قد تقدَّم التَّنبيه عليها في دلائل النُّبُّوة، وقد ذكر معجز الطُّوفان مع قصَّة العلاء بن الحضرميّ، وهذا السِّياق الذي أورده شيخنا ذكر بعضه بالمعنى، وقد رواه أبو بكر ابن أبي الدُّنيا، والحافظ أبو بكر البيهقيّ من غير وجه عن صالح بن بشير المري أحد زهَّاد البصرة وعبَّادها، وفي حديثه لين عن ثابت، عن أنس فذكره‏.‏

وفي رواية البيهقيّ أنَّ أمَّه كانت عجوزاً عمياء ثمَّ ساقه البيهقيّ من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله بن عون، عن أنس كما تقدَّم وسياقه أتم، وفيه أنَّ ذلك كان بحضرة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهذا إسناد رجاله ثقات ولكن فيه انقطاع بين عبد الله بن عون وأنس والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/324‏)‏

قصَّة أخرى‏:‏

قال الحسن بن عرفة‏:‏ حدَّثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي سبرة النَّخعيّ قال‏:‏ أقبل رجل من اليمن، فلمَّا كان في بعض الطَّريق نفق حماره، فقام فتوضَّأ ثمَّ صلَّى ركعتين ثمَّ قال‏:‏ اللَّهم إنِّي جئت من المدينة مجاهداً في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنَّك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد عليَّ اليوم منَّة أطلب إليك اليوم أن تبعث حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ هذا إسناد صحيح، ومثل هذا يكون كرامة لصاحب الشَّريعة‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وكذلك رواه محمد بن يحيى الذُّهليّ عن محمد بن عبيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشِّعبيّ وكأنَّه عند إسماعيل من الوجهين والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ كذلك رواه ابن أبي الدُّنيا من طريق إسماعيل عن الشِّعبيّ فذكره، قال الشِّعبيّ‏:‏ فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع في الكناسة - يعني‏:‏ بالكوفة -‏.‏

وقد أوردها ابن أبي الدُّنيا من وجه آخر، وأنَّ ذلك كان في زمن عمر بن الخطَّاب، وقد قال بعض قومه في ذلك‏:‏

ومِنَّا الذي أحيَ الإلهُ حمارَهُ * وقَدْ مَاتَ مِنْهُ كُلَّ عِضوٍ وَمفصَلِ

وأمَّا قصَّة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت وشهادته للنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولأبي بكر، وعمر، وعثمان بالصِّدق فمشهورة مرويَّة من وجوه كثيرة صحيحة‏.‏

قال البخاريّ في ‏(‏التَّاريخ الكبير‏)‏‏:‏ زيد بن خارجة الخزرجيّ الأنصاريّ شهد بدراً وتوفِّي في زمن عثمان وهو الذي تكلَّم بعد الموت‏.‏

وروى الحاكم في مستدركه والبيهقيّ في دلائله وصحَّحه كما تقدَّم من طريق العتبيّ عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن سعيد بن المسيّب أنَّ زيد بن خارجة الأنصاريّ ثمَّ من الحارث بن الخزرج، توفِّي زمن عثمان بن عفَّان فسجِّي بثوبه ثمَّ إنَّهم سمعوا جلجلة في صدره، ثمَّ تكلَّم فقال‏:‏ أحمد في الكتاب الأوَّل صدق صدق، أبو بكر الضَّعيف في نفسه القويّ في أمر الله، في الكتاب الأوَّل صدق صدق، عمر بن الخطَّاب القويُّ في الكتاب الأوَّل صدق صدق، عثمان بن عفَّان على منهاجهم مضت أربع وبقيت اثنتان، أتت الفتن وأكل الشَّديد الضَّعيف وقامت السَّاعة، وسيأتيكم عن جيشكم خير‏.‏

قال يحيى بن سعيد‏:‏ قال سعيد بن المسيّب‏:‏ ثمَّ هلك رجل من بني حطمة، فسجِّي بثوبه فسمع جلجلة في صدره، ثمَّ تكلَّم فقال‏:‏ إنَّ أخا بني حارث بن الخزرج صدق صدق‏.‏

ورواه ابن أبي الدُّنيا والبيهقيّ أيضاً من وجه آخر بأبسط من هذا وأطول‏.‏

وصحَّحه البيهقيّ قال‏:‏ وقد روى في التَّكلُّم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/325‏)‏

قلت‏:‏ قد ذكرت في قصَّة سخلة جابر يوم الخندق وأكل الألف منها ومن قليل شعير ما تقدَّم‏.‏

وقد أورد الحافظ محمد بن المنذر المعروف بيشكر في كتابه ‏(‏الغرائب والعجائب‏)‏ بسنده كما سبق أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جمع عظامها ثمَّ دعا الله تعالى فعادت كما كانت فتركها في منزله والله أعلم‏.‏

قال شيخنا‏:‏ ومن معجزات عيسى الإبراء من الجنون، وقد أبرأ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعني من ذلك هذا آخر ما وجدته فيما حكيناه عنه‏.‏

فأمَّا إبراء عيسى من الجنون فما أعرف فيه نقلاً خاصاً وإنَّما كان يبرئ الأكمه والأبرص، والظَّاهر ومن جميع العاهات والأمراض المزمنة‏.‏

وأمَّا إبراء النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الجنون فقد روى الإمام أحمد والحافظ البيهقيّ من غير وجه عن يعلى بن مرة أنَّ امرأة أتت بابن لها صغير به لمم ما رأيت لمما أشد منه فقالت‏:‏ يا رسول الله ابني هذا كما ترى أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء يوجد منه في اليوم ما يؤذي، ثمَّ قالت‏:‏ مرة‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ناولينيه‏)‏‏)‏ فجعلته بينه وبين واسطة الرَّحل، ثمَّ فغر فاه ونفث فيه ثلاثاً وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله أنا عبد الله إخسأ عدوَّ الله‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ ناولها إيَّاه فذكرت أنَّه برئ من ساعته، وما رابهم شيء بعد ذلك‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا يزيد، حدَّثنا حماد بن سلمة عن فرقد السبخيّ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس أنَّ امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ به لمماً وإنَّه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا‏.‏

قال‏:‏ فمسح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صدره ودعا له فسغ سغة فخرج منه مثل الجرو الأسود فشفي‏.‏

غريب من هذا الوجه وفرقد فيه كلام، وإن كان من زهاد البصرة، لكن ما تقدَّم له شاهد وإن كانت القصَّة واحدة والله أعلم‏.‏

وروى البزَّار من طريق فرقد أيضاً عن سعد بن عباس قال‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمكة فجاءته امرأة من الأنصار فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ هذا الخبيث قد غلبني‏.‏

فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏تصبَّري على ما أنت عليه وتجيئي يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ والذي بعثك بالحقِّ لأصبرنَّ حتى ألقى الله ثمَّ قالت‏:‏ إنِّي أخاف الخبيث أن يجرِّدني، فدعا لها، وكانت إذا أحست أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها وتقول له‏:‏ إخسأ فيذهب عنها‏.‏

وهذا دليل على أنَّ فرقد قد حفظ فإنَّ هذا له شاهد في صحيح البخاري ومسلم من حديث عطاء ابن أبي رباح قال‏:‏ قال لي ابن عبَّاس‏:‏ ألا أريك امرأة من أهل الجنَّة ‏؟‏

قلت‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ هذه السَّوداء أتت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ إنِّي أصرع وأنكشف فادع الله لي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت صبرت ولك الجنَّة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ لا بل أصبر فادع الله أن لا أنكشف‏.‏

قال‏:‏ فدعا لها، فكانت لا تنكشف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/326‏)‏

ثمَّ قال البخاري‏:‏ حدَّثنا محمَّد، حدَّثنا مخلد عن ابن جريج قال‏:‏ أخبرني عطاء أنَّه رأى أم زفر امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة‏.‏

وذكر الحافظ ابن الأثير في كتاب ‏(‏أُسُد الغابة في أسماء الصَّحابة‏)‏‏:‏ أنَّ أمَّ زفر هذه كانت ماشطة لخديجة بنت خويلد وأنَّها عمَّرت حتى رآها عطاء ابن أبي رباح - رحمهما الله تعالى -‏.‏

وأمَّا إبراء عيسى الأكمه وهو الذي يولد أعمى، وقيل‏:‏ هو الذي لا يبصر في النَّهار ويبصر في اللَّيل، وقيل غير ذلك كما بسطنا ذلك في التَّفسير‏.‏

والأبرص الذي به بهق، فقد ردَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم أحد عين قتادة بن النُّعمان إلى موضعها بعد ما سالت على خدِّه، فأخذها في كفِّه الكريم وأعادها إلى مقرِّها فاستمرت بحالها وبصرها وكانت أحسن عينيه رضي الله عنه‏.‏

كما ذكر محمَّد بن إسحاق بن يسار في السِّيرة وغيره، وكذلك بسطناه ثمَّ ولله الحمد والمنة وقد دخل بعض ولده وهو عاصم بن عمر بن قتادة على عمر بن عبد العزيز فسأل عنه، فأنشأ يقول‏:‏

أَنَا ابن الذي سَالَتْ على الخَدِّ عينُهُ * فردَّتْ بكفِّ المُصْطَفَى أَحسنَ الرَّدِ

فَعادَتْ كَما كانت لأوَّل أَمرِهَا * فيَا حُسْنَ ما عينٍ وَيَا حُسنَ ما خدٍ

فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏

تِلكَ المكارمَ لاقعبانَ مِنْ لَبنٍ * شَيباً بماءٍ فعادَا بعدُ أَبوالا

ثمَّ أجازه فأحسن جائزته‏.‏

وقد روى الدَّارقطني أنَّ عينيه أصيبتا معاً حتَّى سالتا على خديه فردَّهما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى مكانهما والمشهور الأوَّل كما ذكر ابن إسحاق‏.‏