فصل: فصل خداع المختار ومكره بابن الزبير‏.‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 مقتل خولي بن يزيد الأصبحي الذي احتز رأس الحسين

بعث إليه المختار أبا عمرة صاحب حرسه، فكبس بيته فخرجت إليهم امرأته فسألوها عنه فقالت‏:‏ لا أدري أين هو، وأشارت بيدها إلى المكان الذي هو مختف فيه - وكانت تبغضه من ليلة قدم برأس الحسين معه إليها، وكانت تلومه على ذلك - واسمها العبوق بنت مالك بن نهار بن عقرب الحضرمي‏.‏

فدخلوا عليه فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرة فحملوه إلى المختار فأمر بقتله قريباً من داره، وأن يحرق بعد ذلك‏.‏

وبعث المختار إلى حكيم بن فضيل السنبسي - وكان قد سلب العباس بن علي بن أبي طالب يوم قتل الحسين - فأخذ فذهب أهله إلى عدي بن حاتم، فركب ليشفع فيه عند المختار، فخشي أولئك الذين أخذوه أن يسبقهم عدي إلى المختار فيشفعه فيه‏.‏

فقتلوا حكيماً قبل أن يصل إلى المختار، فدخل عدي فشفع فيه فشفعه فيه، فلما رجعوا وقد قتلوه شتمهم عدي وقام متغضباً عليهم وقد تقلد منّة المختار‏.‏

وبعث المختار إلى يزيد بن ورقاء وكان قد قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، فلما أحاط الطلب بداره خرج فقاتلهم فرموه بالنبل والحجارة حتى سقط، ثم حرقوه وبه رمق الحياة‏.‏

وطلب المختار سنان بن أنس، الذي كان يدعي أنه قتل الحسين، فوجدوه قد هرب إلى البصرة أو الجزيرة فهدمت داره، وكان محمد بن الأشعث بن قيس ممن هرب إلى مصعب فأمر المختار بهدم داره، وأن يبنى بها دار حجر بن عدي التي كان زياد هدمها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/301‏)‏

 مقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الذين قتلوا الحسين

قال الواقدي‏:‏ كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه جالساً ذات يوم، إذ جاء غلام له ودمه يسيل على عقبيه، فقال له سعد‏:‏ من فعل بك هذا‏؟‏

فقال‏:‏ ابنك عمر‏.‏

فقال سعد‏:‏ اللهم اقتله وأسل دمه‏.‏

وكان سعد مستجاب الدعوة‏.‏

فلما خرج المختار على الكوفة استجار عمر بن سعد بعبد الله بن جعدة بن هبيرة، وكان صديقاً للمختار من قرابته من علي، فأتى المختار فأخذ منه لعمر بن سعد أماناً مضمونه أنه آمن على نفسه، وأهله، وماله ما أطاع ولزم رحله ومصره، ما لم يحدث حدثاً‏.‏

وأراد المختار ما لم يأت الخلاء فيبول أو يغوط‏.‏

ولما بلغ عمر بن سعد أن المختار يريد قتله، خرج من منزله ليلاً يريد السفر نحو مصعب أو عبيد الله بن زياد، فنمى للمختار بعض مواليه ذلك‏.‏

فقال المختار‏:‏ وأي حدث أعظم من هذا‏؟‏

وقيل‏:‏ إن مولاه قال له ذلك، وقال له‏:‏ تخرج من منزلك ورحلك‏؟‏ ارجع، فرجع‏.‏

ولما أصبح بعث إلى المختار يقول له‏:‏ هل أنت مقيم على أمانك‏؟‏

وقيل‏:‏ إنه أتى المختار يتعرف منه ذلك فقال له المختار‏:‏ اجلس‏.‏

وقيل‏:‏ إنه أرسل عبد الله بن جعدة إلى المختار يقول له‏:‏ هل أنت مقيم على أمانك له‏؟‏

فقال له المختار‏:‏ اجلس، فلما جلس قال المختار لصاحب حرسه‏:‏ اذهب فأتني برأسه فذهب إليه فقتله وأتاه برأسه‏.‏

وفى رواية‏:‏ أن المختار قال ليلة‏:‏ لأقتلن غداً رجلاً عظيم القدمين، غائر العينين، مشرف الحاجبين، يسر بقتله المؤمنون والملائكة المقربون، وكان الهيثم بن الأسود حاضراً فوقع في نفسه أنه أراد عمر بن سعد فبعث إليه ابنه الغرثان فأنذره، فقال‏:‏ كيف يكون هذا بعد ما أعطاني من العهود والمواثيق‏؟‏

وكان المختار حين قدم الكوفة أحسن السيرة إلى أهلها أولاً، وكتب لعمر بن سعد كتاب أمان إلا أن يحدث حدثاً‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ وكان أبو جعفر الباقر يقول‏:‏ إنما أراد المختار إلا أن يدخل الكنيف فيحدث فيه، ثم أن عمر بن سعد قلق أيضاً، ثم جعل يتنقل من محلة إلى محلة، ثم صار أمره أنه رجع إلى داره، وقد بلغ المختار انتقاله من موضع إلى موضع، فقال‏:‏ كلا والله إن في عنقه سلسلة ترده لوجهه، إن يطير لأدركه دم الحسين فأخذ برجله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8 /302‏)‏

ثم أرسل إليه أبا عمرة فأراد الفرار منه فعثر في جبته فضربه أبو عمرة بالسيف حتى قتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار‏.‏

فقال المختار لابنه حفص وكان جالساً عند المختار فقال‏:‏ أتعرف هذا الرأس‏؟‏

فاسترجع وقال‏:‏ نعم ولا خير في العيش بعده‏.‏

فقال‏:‏ صدقت، ثم أمر فضربت عنقه ووضع رأسه مع رأس أبيه‏.‏

ثم قال المختار‏:‏ هذا بالحسين وهذا بعلي بن الحسين الأكبر، ولا سواء، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنمله من أنامله‏.‏

ثم بعث المختار برأسيهما إلى محمد بن الحنفية، وكتب إليه كتاباً في ذلك‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد بن علي من المختار بن أبي عبيد، سلام عليك أيها المهدي، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد‏:‏

فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم فهم بين قتيل وأسير، وطريد وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتلكم، ونصر مؤازركم، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا ممن اشترك في دم الحسين وأهل بيته كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي، ولست بمنحجم عنهم حتى يبلغني أنه لم يبق وجه على الأرض منهم أحد، فاكتب إلي أيها المهدي برأيك أتبعه وأكون عليه، والسلام عليك أيها المهدي ورحمه الله وبركاته‏.‏

ولم يذكر ابن جرير أن محمد بن الحنفية رد جوابه، مع أن ابن جرير قد تقصى هذا الفصل، وأطال شرحه، ويظهر من غبون كلامه قوة وجده وغرامه، ولهذا توسع في إيراده بروايات أبي مخنف لوط بن يحيى، وهو متهم فيما يرويه، ولا سيما في باب التشيع‏.‏

وهذا المقام للشيعة فيه غرام وأي غرام، إذ فيه الأخذ بثأر الحسين وأهله من قتلتهم، والانتقام منهم، ولا شك أن قتل قتلته كان متحتماً، والمبادرة إليه كان مغنماً، ولكن إنما قدرة الله على يد المختار الكذاب الذي صار بدعواه إتيان الوحي إليه كافراً‏.‏

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال تعالى في كتابه الذي هو أفضل ما يكتبه الكاتبون‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 129‏]‏‏.‏

وقال بعض الشعراء‏:‏

وما من يد إلا يد الله فوقها * ولا ظالم إلا سيبلى بظالم

وسيأتي في ترجمة المختار ما يدل على كذبه وافترائه، وادعائه نصرة أهل البيت، وهو في نفس الأمر متستر بذلك ليجمع عليه رعاعاً من الشيعة الذين بالكوفة، ليقيم لهم دولة ويصول بهم ويجول على مخالفيه صولة‏.‏

ثم إن الله تعالى سلط عليه من انتقم منه، وهذا هو الكذاب الذي قال فيه الرسول في حديث أسماء بنت الصديق‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه سيكون في ثقيف كذاب ومبير‏)‏‏)‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/303‏)‏

فهذا هو الكذاب وهو يظهر التشيع، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد ولي الكوفة من جهة عبد الملك بن مروان كما سيأتي، وكان الحجاج عكس هذا، كان ناصبياً جلداً ظالماً غاشماً، ولكن لم يكن في طبقة هذا، متهم على دين الإسلام ودعوة النبوة، وأنه يأتيه الوحي من العليَّ العلام‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة بعث المختار المثنى بن مخرمة العبدي إلى البصرة يدعو إليه من استطاع من أهلها، فدخلها وابتنى بها مسجداً يجتمع فيه إليه قومه، فجعل يدعو إلى المختار، ثم أتى مدينة الورق فعسكر عندها فبعث إليه الحارث بن عبد الله بن ربيعة القباع - وهو أمير البصرة قبل أن يعزل بمصعب -جيشاً مع عباد بن الحصين أمير الشرطة، وقيس بن الهيثم‏.‏

فقاتلوه وأخذوا منه المدينة وانهزم أصحابه، وكان قد قام بنصرتهم بنو عبد القيس، فبعث إليهم الجيش فبعثوا إليه فأرسل الأحنف بن قيس وعمرو بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا بين الناس، وساعدهما مالك بن مسمع، فانحجز الناس بعضهم عن بعض، ورجع إلى المختار في نفر يسير مغلولاً مغلوباً مسلوباً‏.‏

وأخبر المختار بما وقع من الصلح على يدي الأحنف وغيره من أولئك الأمراء، وطمع المختار فيهم وكاتبهم في أن يدخلوا معه فيما هو فيه من الأمر‏.‏

وكان كتابه إلى الأحنف بن قيس من المختار إلى الأحنف بن قيس ومن قبله من الأمراء‏:‏ أفسلم أنتم أما بعد‏:‏

فويل لبني ربيعة من مضر، وأن الأحنف يورد قومه سقر، حيث لا يستطيع لهم صدر، وإني لا أملك لكم ما قد خط في القدر، وقد بلغني أنكم سميتموني الكذاب، وقد كُذِّب الأنبياء من قبلي ولست بخير منهم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، ثنا الحسن بن حماد، عن حماد بن علي، عن مجالد، عن الشعبي‏.‏

قال‏:‏ دخلت البصرة فقعدت إلى حلقة فيها الأحنف بن قيس، فقال بعض القوم‏:‏ ممن أنت‏؟‏

فقلت‏:‏ رجل من أهل الكوفة‏.‏

فقال‏:‏ أنتم موالٍ لنا‏.‏

قلت‏:‏ وكيف‏؟‏

قال‏:‏ أنقذناكم من أيدي عبيدكم من أصحاب المختار‏.‏

قلت‏:‏ أتدري ما قال شيخ من همدان فينا وفيكم‏؟‏

فقال الأحنف‏:‏ وما قال‏؟‏

قلت‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/304‏)‏

أفخرتم أن قتلتم أعبداً * وهزمتم مرةً آل عدل

فإذا فاخرتمونا فاذكروا * ما فعلنا بكم يوم الجمل

بين شيخٍ خاضبٍ عثبونه * وفتى البيضاء وضاحاً دقل

جاء يهدج في سابغةٍ * فذبحناه ضحىً ذبح الجمل

وعفونا فنسيتم عفونا * وكفرتم نعمة الله الأجل

وقتلتم بحسينٍ منهم * بدلاً من قومكم شر بدل

قال‏:‏ فغضب الأحنف وقال‏:‏ يا غلام هات الصحيفة، فأتى بصحيفة فيها‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم من المختار بن أبي عبيد إلى الأحنف بن قيس، أما بعد‏.‏

فويل لبني ربيعة من مضر، فإن الأحنف يورد قومه سقر حيث لا يقدرون على الصدر، وقد بلغني أنكم تكذبوني، فإن كُذِّبتُ فقد كُذِّبتْ رسل من قبلي، ولست بخير منهم، ثم قال الأحنف‏:‏ هذا منا أو منكم‏.‏

 فصل خداع المختار ومكره بابن الزبير‏.‏

ولما علم المختار أن ابن الزبير لا ينام عنهم، وأن جيش الشام من قبل عبد الملك مع ابن زياد يقصدونه في جمع كثير لا يرام، شرع يصانع ابن الزبير ويعمل على خداعه والمكر به، فكتب إليه‏:‏

إني كنت بايعتك على السمع والطاعة والنصح لك، فلما رأيتك قد أعرضت عني تباعدت عنك، فإن كنت على ما أعهد منك فأنا على السمع والطاعة لك، والمختار يخفي هذا كل الإخفاء عن الشيعة، فإذا ذكر له أحد شيئاً من ذلك أظهر لهم أنه أبعد الناس من ذلك‏.‏

فلما وصل كتابه إلى ابن الزبير أراد أن يعلم أصادق أم كاذب، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، فقال له‏:‏ تجهز إلى الكوفة فقد وليتكها‏.‏

فقال‏:‏ وكيف وبها المختار‏؟‏

فقال‏:‏ يزعم أنه سامع لنا مطيع، وأعطاه قريباً من أربعين ألفاً يتجهز بها، فسار فلما كان ببعض الطريق لقيه زائدة بن قدامة من جهة المختار في خمسمائة فارس ملبسة، ومعه سبعون ألفاً من المال، وقد تقدم إليه المختار فقال‏:‏ أعطه المال، فإن هو انصرف وإلا فأره الرجال فقاتله حتى ينصرف‏.‏

فلما رأى عمر بن عبد الرحمن الجد، قبض المال وسار إلى البصرة فاجتمع هو وابن مطيع بها عند أميرها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخرمة كما تقدم، وقبل وصول مصعب بن الزبير إليها‏.‏

وبعث عبد الملك بن مروان ابن عمه عبد الملك بن الحارث بن الحكم في جيش إلى وادي القرى ليأخذوا المدينة من نواب ابن الزبير‏.‏

وكتب المختار إلى ابن الزبير‏:‏ إن أحببت أن أمدك بمدد، وإنما يريد خديعته ومكايدته‏.‏

فكتب إليه ابن الزبير‏:‏ إن كنت على طاعتي فلست أكره ذلك، فابعث بجند إلى وادي القرى ليكونوا مدداً لنا على قتال الشاميين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/305‏)‏

فجهز المختار ثلاثة آلاف عليهم شرحبيل بن ورس الهمداني، ليس فيهم من العرب إلا سبعمائة، وقال له‏:‏ سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلت فاكتب إلي حتى يأتيك أمري، وإنما يريد أخذ المدينة من ابن الزبير، ثم يركب بعد ذلك إلى مكة ليحاصر ابن الزبير بها، وخشي ابن الزبير أن يكون المختار بعث ذلك الجيش مكراً‏.‏

فبعث العباس بن سهل بن سعد الساعدي في ألفين، وأمره أن يستعين بالأعراب وقال لهم‏:‏ إن رأيتموهم في طاعتي وإلا فكايدوهم حتى يهلكهم الله‏.‏

فأقبل العباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم، وقد بقي ابن ورس في جيشه، فاجتمعا على ماء هنالك، فقال له العباس‏:‏ ألستم في طاعة ابن الزبير‏؟‏

فقال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فإنه قد أمرني أن نذهب إلى وادي القرى فنقاتل من به من الشاميين‏.‏

فقال له ابن ورس‏:‏ فإني لم أومر بطاعتك، وإنما أمرني أن أدخل المدينة ثم أكتب إلى صاحبي فإنه يأمرني بأمره، ففهم عباس مغزاه، ولم يظهر له أنه فطن لذلك‏.‏

فقال له‏:‏ رأيك أفضل، فاعمل ما بدا لك‏.‏

ثم نهض العباس من عنده وبعث إليهم الجزر والغنم والدقيق، وقد كان عندهم حاجة شديدة إلى ذلك وجوع كثير، فجعلوا يذبحون ويطبخون ويختبزون ويأكلون على ذلك الماء، فلما كان الليل بيتهم عباس بن سهل فقتل أميرهم وطائفة منهم نحواً من سبعين، وأسر منهم خلقاً كثيراً فقتل أكثرهم، ورجع القليل منهم إلى المختار، وإلى بلادهم خائبين‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ فحدثني أبو يوسف أن عباس بن سهل انتهى إليهم وهو يقول‏:‏

أنا ابن سهلٍ فارسٍ غير وكل * أروع مقدامٌ إذا الكبش نكل

وأعتلي رأس الطرماح البطل * بالسيف يوم الروع حتى ينجدل

فلما بلغ خبرهم المختار قام في أصحابه خطيباً فقال‏:‏ إن الفجار الأشرار قتلوا الأبرار الأخيار، إلا إنه كان أمراً مأتياً، وقضاء مقضياً‏.‏

ثم كتب إلى محمد بن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثعمي‏:‏ كتاباً يذكر فيه أنه بعث إلى المدينة جيشاً لنصرته، فغدر بهم جيش ابن الزبير، فإن رأيت أن أبعث جيشاً آخر إلى المدينة وتبعث من قبلك رسلاً إليهم فافعل‏.‏

فكتب إليه ابن الحنفية‏:‏ أما بعد، فإن أحب الأمور كلها إليّ ما أطيع الله فيه، فأطع الله فيما أسررت وأعلنت، واعلم أني لو أردت القتال لوجدت الناس إليّ سراعاً، والأعوان لي كثيرة، ولكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين‏.‏

وقال لصالح بن مسعود‏:‏ قل للمختار فليتق الله وليكف عن الدماء‏.‏

فلما انتهى إليه كتاب محمد بن الحنفية قال‏:‏ إني قد أمرت بجمع البر واليسر، وبطرح الكفر والغدر‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/306‏)‏

وذكر ابن جرير من طريق المدائني وأبي مخنف‏:‏ أن ابن الزبير عمد إلى ابن الحنفية وسبعة عشر رجلاً من أشراف أهل الكوفة فحبسهم حتى يبايعوه، فكرهوا أن يبايعوا إلا من اجتمعت عليه الأمة، فتهددهم وتوعدهم واعتقلهم بزمزم، فكتبوا إلى المختار بن أبي عبيد يستصرخونه ويستنصرونه، ويقولون له‏:‏

إن ابن الزبير قد توعدنا بالقتل والحريق، فلا تخذلونا كما خذلتم الحسين وأهل بيته‏.‏

فجمع المختار الشيعة وقرأ عليهم الكتاب وقال‏:‏ هذا صريخ أهل البيت يستصرخكم ويستنصركم‏.‏

فقام في الناس بذلك وقال‏:‏ لست أنا بأبي إسحاق إن لم أنصركم نصراً مؤزراً، وإن لم أرسل إليهم الخيل كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل‏.‏

ثم وجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكباً من أهل القوة، وظبيان بن عمر التيمي في أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، وكتب إلى محمد بن الحنفية مع الطفيل بن عامر بتوجيه الجنود إليه‏.‏

فنزل أبو عبد الله الجدلي بذات عرق حتى تلاحق به نحو من مائة وخمسين فارساً، ثم سار بهم حتى دخل المسجد الحرام نهاراً جهاراً وهم يقولون‏:‏ يا ثارات الحسين‏.‏

وقد أعد ابن الزبير الحطب لابن الحنفية وأصحابه ليحرقهم به إن لم يبايعوه، وقد بقي من الأجل يومان، فعمدوا - يعني أصحاب المختار - إلى محمد بن الحنفية فأطلقوه من سجن ابن الزبير، وقالوا‏:‏ إن أذنت لنا قاتلنا ابن الزبير‏.‏

فقال‏:‏ إني لا أرى القتال في المسجد الحرام‏.‏

فقال لهم ابن الزبير‏:‏ ليس نبرح وتبرحون حتى يبايع وتبايعوا معه، فامتنعوا عليه ثم لحقهم بقية أصحابهم فجعلوا يقولون وهم داخلون الحرم‏:‏ يا ثارات الحسين‏.‏

فلما رأى ابن الزبير ذلك منهم خافهم وكف عنهم، ثم أخذوا محمد بن الحنفية وأخذوا من الحجيج مالاً كثيراً فسار بهم حتى دخل شعب علي، واجتمع معه أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال‏.‏

هكذا أورده ابن جرير وفي صحتها نظر والله أعلم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان نائبه بالمدينة أخاه مصعب، ونائبه على البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وقد استحوذ المختار على الكوفة، وعبد الله بن خازم على بلاد خراسان، وذكر حروباً جرت فيها لعبد الله بن خازم يطول ذكرها‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة سار إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد، وذلك لثمان بقين من ذي الحجة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/307‏)‏

 فصل مسير إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد

وقال أبو مخنف عن مشايخه‏:‏ ما هو إلا أن فرغ المختار من جبانة السبيع وأهل الكناسة، فما ترك ابن الأشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه فيه لقتال أهل الشام‏.‏

فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، وخرج معه المختار يودعه في وجوه أصحابه، وخرج معهم خاصة المختار، ومعهم كرسي المختار على بغل أشهب ليستنصروا به على الأعداء، وهم حافون به يدعون ويستصرخون ويستنصرون ويتضرعون‏.‏

فرجع المختار بعد أن وصاه بثلاث قال‏:‏ يا ابن الأشتر اتق الله في سرك وعلانيتك، وأسرع السير، وعاجل عدوك بالقتال‏.‏

واستمر أصحاب الكرسي سائرين مع ابن الأشتر، فجعل ابن الأشتر يقول‏:‏ اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، سنة بني إسرائيل والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم، فلما جاوز القنطرة هو وأصحابه رجع أصحاب الكرسي‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وكان سبب اتخاذ هذا الكرسي ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شيبويه، حدثني أبي، ثنا سليمان، ثنا عبد الله بن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، حدثني معد بن خالد، حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة قال‏:‏ أعدمت مرة من الورق فإني كذلك إذ مررت بباب رجل هو جار لي له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر في بالي أن لو قلت في هذا، فرجعت فأرسلت إليه أن أرسل إلي بالكرسي‏.‏

فأرسل به، فأتيت المختار فقلت له‏:‏ إني كنت أكتمك شيئاً وقد بدا لي أن أذكره إليك‏.‏

قال‏:‏ وما هو‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ كرسي كان جعدة بن هبيرة يجلس عليه كأنه كان يرى أن فيه أثرة من علم‏.‏

قال‏:‏ سبحان الله ‏!‏‏!‏ فلم أخرت هذا إلى اليوم‏؟‏ ابعثه إليَّ‏.‏

قال‏:‏ فجئت به وقد غسل فخرج عوداً ناضراً وقد شرب الزيت، فأمر لي باثني عشر ألفاً، ثم نودي في الناس‏:‏ الصلاة جامعة‏.‏

قال‏:‏ فخطب المختار الناس فقال‏:‏ إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وأنه قد كان في بني إسرائيل تابوت يستنصرون به، وإن هذا مثله‏.‏

ثم أمر فكشف عنه أثوابه وقامت السبابية فرفعوا أيديهم وكبروا ثلاثاً، فقام شبث بن ربعي فأنكر على الناس وكاد أن يُكَفر من يصنع بهذا التابوت هذا التعظيم‏.‏

وأشار بأن يكسر ويخرج من المسجد ويرمى في الخنس، فشكرها الناس لشبث بن ربعي‏.‏

فلما قيل‏:‏ هذا عبيد الله بن زياد قد أقبل، وبعث المختار ابن الأشتر، بعث معه بالكرسي يحمل على بغل أشهب قد غشي بأثواب الحرير، عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة‏.‏

فلما تواجهوا مع الشاميين كما سيأتي وغلبوا الشاميين وقتلوا ابن زياد، ازداد تعظيمهم لهذا الكرسي حتى بلغوا به الكفر‏.‏

قال الطفيل بن جعدة فقلت‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، وندمت على ما صنعت، وتكلم الناس في هذا الكرسي وكثر عيب الناس له، فغيب حتى لا يرى بعد ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/308‏)‏

وذكر ابن الكلبي أن المختار طلب من آل جعدة بن هبيرة الكرسي الذي كان علي يجلس عليه فقالوا‏:‏ ما عندنا شيء مما يقول الأمير، فألح عليهم حتى علموا أنهم لو جاؤوا بأي كرسي كان لقبله منهم‏.‏

فحملوا إليه كرسياً من بعض الدور فقالوا‏:‏ هذا هو، فخرجت شبام، وشاكر، وسائر رؤس المختارية وقد عصبوه بالحرير والديباج‏.‏

وحكى أبو مخنف‏:‏ أن أول من سدن هذا الكرسي موسى بن أبي موسى الأشعري، ثم أن الناس عتبوا عليه في ذلك فرفعه إلى حوشب البرسمي، وكان صاحبه حتى هلك المختار قبحه الله‏.‏

ويروى أن المختار كان يظهر أنه لا يعلم بما يعظم أصحابه هذا الكرسي، وقد قال في هذا الكرسي أعشى همدان‏:‏

شهدت عليكم أنكم سبائية * وأني بكم يا شرطة الشرك عارف

وأقسم ما كُرْسِيُّكُمْ بسكينةٍ * وإن كان قد لفت عليه اللفائف

وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت * شبام حواليه ونهد وخارف

وإني امرؤٌ أحببت آل محمدٍ * وتابعت وحياً ضمنته المصاحف

وتابعت عبد الله لما تتابعت * عليه قريشٌ شمطها والغطارف

وقال المتوكل الليثي‏:‏

أبلغ أبا إسحاق إن جئته * أني بِكُرْسِيُّكم كافر

تنزوا شبامٌ حول أعواده * وتحمل الوحي له شاكر

محمرةٌ أعينهم حوله * كأنهن الحمص الحادر

قلت‏:‏ هذا وأمثاله مما يدل على قلة عقل المختار وأتباعه، وضعفه علمه وكثرة جهله، ورادءة فهمه، وترويجه الباطل على أتباعه وتشبهه الباطل بالحق ليضل به الطغام، ويجمع عليه جهال العوام‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة وقع في مصر طاعون هلك فيه خلق كثير من أهلها‏.‏

وفيها‏:‏ ضرب الدنانير عبد العزيز بن مروان بمصر، وهو أول من ضربها بها‏.‏

قال صاحب ‏(‏مرآت الزمان‏)‏ وفيها‏:‏ ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الأقصى، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين‏.‏

وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة، وكان يخطب في أيام منى وعرفة، ومقام الناس بمكة، وينال من عبد الملك ويذكر مساوي بني مروان، ويقول‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما نسل، وأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه، وكان يدعو إلى نفسه، وكان فصيحاً، فمال معظم أهل الشام إليه‏.‏

وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا، فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة‏.‏

وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم، ففتح بذلك على نفسه بأن شنع ابن الزبير عليه، وكان يشنع عليه بمكة ويقول‏:‏ ضاهى بها فعل الأكاسرة في إيوان كسرى، والخضراء، كما فعل معاوية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/309‏)‏

ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالأموال والعمال، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالأموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغاً ولا يتوقفا فيه‏.‏

فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت من أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون، وعملا للقبة جلالين أحدهما من اليود الأحمر للشتاء، وآخر من أدم للصيف، وحفا القبة بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداماً بأنواع الطيب والمسك والعنبر والماورد والزعفران، ويعملون منه غالية ويبخرون القبة والمسجد من الليل‏.‏

وجعل فيها من قناديل الذهب والفضة وسلاسل الذهب والفضة شيئاً كثيراً، وجعل فيها العود القماري المغلف بالمسك وفرشاها والمسجد بأنواع البسط الملونة‏.‏

وكانوا إذا أطلقوا البخور شم من مسافة بعيدة، وكان إذا رجع الرجل من بيت المقدس إلى بلاده توجد منه رائحة المسك والطيب والبخور أياماً، ويعرف أنه قد أقبل من بيت المقدس، وأنه دخل الصخرة، وكان فيه من السدنة والقوم القائمين بأمره خلق كثير، ولم يكن يومئذٍ على وجه الأرض بناء أحسن ولا أبهى من قبة صخرة بيت المقدس، بحيث إن الناس التهوا بها عن الكعبة والحج، وبحيث كانوا لا يلتفتون في موسم الحج وغيره إلى غير المسير إلى بيت المقدس‏.‏

وافتتن الناس بذلك افتناناً عظيماً، وأتوه من كل مكان، وقد عملوا فيه من الإشارات والعلامات المكذوبة شيئاً كثيراً مما في الآخرة، فصوروا فيه صورة الصراط وباب الجنة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووادي جهنم، وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك وإلى زماننا‏.‏

وبالجملة أن صخرة بيت المقدس لما فرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظراً، وقد كان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شيء كثير، وأنواع باهرة‏.‏

ولما فرغ رجاء بن حيوة، ويزيد بن سلام من عمارتها على أكمل الوجوه فضل من المال الذي أنفقاه على ذلك ستمائة ألف مثقال‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاثمائة ألف مثقال، فكتبا إلى عبد الملك يخبرانه بذلك، فكتب إليهما‏:‏ قد وهبته منكما‏.‏

فكتبا إليه‏:‏ إنا لو استطعنا لزدنا في عمارة هذا المسجد من حلي نسائنا‏.‏

فكتب إليهما‏:‏ إذ أبيتما أن تقبلاه فأفرغاه على القبة والأبواب، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب القديم والحديث‏.‏

فلما كان في خلافة أبي جعفر المنصور قدم بيت المقدس في سنة أربعين ومائة، فوجد المسجد خراباً، فأمر أن يقلع ذلك الذهب والصفائح التي على القبة والأبواب، وأن يعمروا بها ما تشعث في المسجد، ففعلوا ذلك‏.‏

وكان المسجد طويلاً فأمر أن يؤخذ من طوله ويزداد في عرضه، ولما كمل البناء كتب على القبة ممايلي الباب القبلي‏:‏ أمر ببنائه بعد تشعيثه أمير المؤمنين عبد الملك سنة اثنتين وستين من الهجرة النبوية، وكان طول المسجد من القبلة إلى الشمال سبعمائة وخمسة وستون ذراعاً، وعرضه أربعمائة وستون ذراعاً، وكان فتوح القدس سنة ستة عشر والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/310‏)‏

 ثم دخلت سنة سبع وستين

ففيها‏:‏ كان مقتل عبيد الله بن زياد على يدي إبراهيم بن الأشتر النخعي، وذلك أن إبراهيم بن الأشتر خرج من الكوفة يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة في السنة الماضية‏.‏

ثم استهلت هذه السنة وهو سائر لقصد ابن زياد في أرض الموصل، فكان اجتماعهما بمكان يقال له‏:‏ الخازر، بينه وبين الموصل خمسة فراسخ، فبات ابن الأشتر تلك الليلة ساهراً لا يستطيع النوم‏.‏

فلما كان قريب الصبح نهض فعبى جيشه وكتَّبَ كتائبه، وصلى بأصحابه الفجر في أول وقت، ثم ركب فناهض جيش ابن زياد، وزحف بجيشه رويداً وهو ماشٍ في الرجالة حتى أشرف من فوق تلٍ على جيش ابن زياد، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد‏.‏

فلما رأوهم نهضوا إلى خيلهم وسلاحهم مدهوشين، فركب ابن الأشتر فرسه وجعل يقف على رايات القبائل فيحرضهم على قتال ابن زياد ويقول‏:‏

هذا قاتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جاءكم الله به وأمكنكم الله منه اليوم، فعليكم به فإنه قد فعل في ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يفعله فرعون في بني إسرائيل هذا ابن زياد قاتل الحسين الذي حال بينه وبين ماء الفرات أن يشرب منه هو وأولاده ونساؤه، ومنعه أن ينصرف إلى بلده أو يأتي يزيد بن معاوية حتى قتله‏.‏

ويحكم ‏!‏‏!‏ اشفوا صدوركم منه، وارووا رماحكم وسيوفكم من دمه، هذا الذي فعل في آل نبيكم ما فعل، قد جاءكم الله به‏.‏

ثم أكثر من هذا القول وأمثاله، ثم نزل تحت رايته، وأقبل ابن زياد في خيله ورجله في جيش كثيف قد جعل على ميمنته حصين بن نمير وعلى الميسرة عمير بن الحباب السلمي - وكان قد اجتمع بابن الأشتر ووعده أنه معه وأنه سيهزم بالناس غداً - وعلى خيل ابن زياد شرحبيل بن الكلاع، وابن زياد في الرجالة يمشي معهم‏.‏

فما كان إلا أن تواقفا الفريقان حتى حمل حصين بن نمير بالميمنة على ميسرة أهل العراق فهزمها، وقتل أميرها علي بن مالك الجشمي فأخذ رايته من بعده ولده محمد بن علي فقتل أيضاً، واستمرت الميسرة ذاهبة فجعل الأشتر يناديهم‏:‏

إلي يا شرطة الله، أنا ابن الأشتر، وقد كشف عن رأسه ليعرفوه، فالتاثوا به وانعطفوا عليه، واجتمعوا إليه، ثم حملت ميمنة أهل الكوفة على ميسرة أهل الشام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/311‏)‏

وقيل‏:‏ بل انهزمت ميسرة أهل الشام وانحازت إلى ابن الأشتر، ثم حمل ابن الأشتر بمن معه وجعل يقول لصاحب رايته‏:‏ ادخل برايتك فيهم‏.‏

وقاتل ابن الأشتر يومئذٍ قتالاً عظيماً، وكان لا يضرب بسيفه رجلاً إلا صرعه، وكثرت القتلى بينهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن ميسرة أهل الشام ثبتوا وقاتلوا قتالاً شديداً بالرماح ثم بالسيوف، ثم أردف الحملة ابن الأشتر فانهزم جيش الشام بين يديه، فجعل يقتلهم كما يقتل الحملان، واتبعهم بنفسه ومن معه من الشجعان، وثبت عبيد الله بن زياد في موقفه حتى اجتاز به ابن الأشتر فقتله وهو لا يعرفه، لكن قال لأصحابه‏:‏

التمسوا في القتلى رجلاً ضربته بالسيف فنفحتني منه ريح المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، وهو واقف عند راية منفردة على شاطئ نهر خازر‏:‏ فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد، وإذا هو قد ضربه ابن الأشتر فقطعه نصفين، فاحتزوا رأسه وبعثوه إلى المختار إلى الكوفة مع البشارة بالنصر والظفر بأهل الشام‏.‏

وقتل من رؤوس أهل الشام أيضاً‏:‏ حصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع‏.‏

واتبع الكوفيون أهل الشام فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم أكثر ممن قتل، واحتازوا ما في معسكرهم من الأموال والخيول‏.‏

وقد كان المختار بشر أصحابه بالنصر قبل أن يجيء الخبر، فما ندري أكان ذلك تفاؤلاً منه أو اتفاقاً وقع له أو كهانة‏.‏

وأما على ما كان يزعم أصحابه أنه أوحى إليه بذلك فلا، فإن من اعتقد ذلك كفر ومن أقرهم على ذلك كفر، لكن قال‏:‏ إن الوقعة كانت بنصيبين فأخطأ مكانها، فإنها إنما كانت بأرض الموصل، وهذا مما انتقده عامر الشعبي على أصحاب المختار حين جاءه الخبر‏.‏

وقد خرج المختار من الكوفة ليتلقى البشارة، فأتى المدائن فصعد منبرها فبينما هو يخطب إذ جاءته البشارة وهو هنالك‏.‏

قال الشعبي‏:‏ فقال لي بعض أصحابه‏:‏ أما سمعته بالأمس يخبرنا بهذا‏؟‏

فقلت له‏:‏ زعم أن الوقعة كانت بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما قال البشير‏:‏ إنهم كانوا بالخازر من أرض الموصل‏.‏

فقال‏:‏ والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم‏.‏

ثم رجع المختار إلى الكوفة‏.‏

وفي غيبته هذه تمكن جماعة ممن كان قاتله يوم جبانة السبيع والكناسة من الخروج إلى مصعب بن الزبير إلى البصرة، وكان منهم شبث بن ربعي، وأما ابن الأشتر فإنه بعث بالبشارة وبرأس ابن زياد وبعث رجلاً على نيابة نصيبين واستمر مقيماً في تلك البلاد، وبعث عمالاً إلى الموصل وأخذ سنجار ودارا وما ولاها من الجزيرة‏.‏

وقال أبو أحمد الحاكم‏:‏ كان مقتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة ست وستين، والصواب‏:‏ سنة سبع وستين‏.‏

وقد قال سراقة بن مرداس البارقي يمدح ابن الأشتر على قتله ابن زياد‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/312‏)‏

أتاكم غلام من عرانين مذحج * جريءٌ على الأعداء غير نكول

فيا بن زيادٍ بؤ بأعظم هالكٍ * وذق حدَّ ماضي الشفرتين صقيل

ضربناك بالعضب الحسام بحده * إذا ما أتانا قتيلاً بقتيل

جزى الله خيراً شرطة الله إنهم * شفوا من عبيد الله أمس غليلي

 وهذه ترجمة ابن زياد

هو عبيد الله بن زياد بن عبيد، المعروف‏:‏ بابن زياد بن أبي سفيان، ويقال له‏:‏ زياد بن أبيه، وابن سمية، أمير العراق بعد أبيه زياد‏.‏

وقال ابن معين‏:‏ ويقال له عبيد الله بن مرجانة وهي أمه‏.‏

وقال غيره‏:‏ وكانت مجوسية، وكنيته أبو حفص، وقد سكن دمشق بعد يزيد بن معاوية، وكانت له دار عند الديماس تعرف بعده بدار ابن عجلان، وكان مولده في سنة تسع وثلاثين فيما حكاه ابن عساكر عن أبي العباس أحمد بن يونس الضبي‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وروى الحديث عن معاوية، وسعد بن أبي وقاص، ومعقل بن يسار‏.‏

وحدث عنه الحسن البصري، وأبو المليح بن أسامة‏.‏

وقال أبو نعيم الفضل ابن دكين‏:‏ ذكروا أن عبيد الله بن زياد حين قتل الحسين كان عمره ثمانياً وعشرين سنة‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا يكون مولده سنة ثلاث وثلاثين فالله أعلم‏.‏

وقد روى ابن عساكر‏:‏ أن معاوية كتب إلى زياد‏:‏ أن أوفد إليَّ ابنك، فلما قدم عليه لم يسأله معاوية عن شيء إلا نفذ منه، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئاً، فقال له‏:‏ ما منعك من تعلم الشعر‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إني كرهت أن أجمع في صدري مع كلام الرحمن كلام الشيطان‏.‏

فقال معاوية‏:‏ اغرب فوالله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا قول ابن الأطنابة حيث يقول‏:‏

أبت لي عفتي وأبي بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإعطائي على الإعدام مالي * وإقدامي على البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريح

لأدفع عن مآثر صالحاتٍ * وأحمي بعد عن إنفٍ صحيح

ثم كتب إلى أبيه‏:‏ أن روِّه من الشعر، فرواه حتى كان لا يسقط عنه منه شيء بعد ذلك، ومن شعره بعد ذلك‏:‏

سيعلم مروان بن نسوة أنني * إذا التقت الخيلان أطعنها شزراً

وإني إذا حل الضيوف ولم أجد * سوى فرسي أو سعته لهم نحراً

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/313‏)‏

وقد سأل معاوية يوماً أهل البصرة عن ابن زياد فقالوا‏:‏ إنه لظريف ولكنه يلحن‏.‏

فقال‏:‏ أوليس اللحن أظرف له‏؟‏

قال ابن قتيبة وغيره‏:‏ إنما أرادوا أنه يلحن في كلامه، أي‏:‏ يلغز، وهو ألحن بحجته كما قال الشاعر في ذلك‏:‏

منطقٌ رائعٌ ويلحن أحياناً * وخير الحديث ما كان لحناً

وقيل‏:‏ إنهم أرادوا أنه يلحن في قوله لحناً وهو ضد الإعراب‏.‏

وقيل‏:‏ أرادوا اللحن الذي هو ضد الصواب وهو الأشبه والله أعلم‏.‏

فاستحسن معاوية منه السهولة في الكلام وأنه لم يكن ممن يتعمق في كلامه ويفخمه، ويتشدق فيه‏.‏

وقيل‏:‏ أرداوا أنه كانت فيه لكنة من كلام العجم، فإن أمه مرجانة كانت سيروية وكانت بنت بعض ملوك الأعاجم يزدجرد أو غيره، قالوا‏:‏ وكان في كلامه شيء من كلام العجم‏.‏

قال يوماً لبعض الخوارج‏:‏ أهروري أنت‏؟‏ يعني‏:‏ أحروري أنت‏؟‏

وقال يوماً‏:‏ من كاتلنا كاتلناه، أي‏:‏ من قاتلنا قاتلناه، وقول معاوية‏:‏ ذاك أظرف له، أي‏:‏ أجود له حيث نزع إلى أخواله، وقد كانوا يوصفون بحسن السياسة وجودة الرعاية ومحاسن الشيم‏.‏

ثم لما مات زياد سنة ثلاث وخمسين ولى معاوية على البصرة سمرة بن جندب سنة ونصفاً، ثم عزله وولى عليها عبد الله بن عمرو بن غيلان بن سلمة ستة أشهر، ثم عزله وولى عليها ابن زياد سنة خمس وخمسين‏.‏

فلما تولى يزيد الخلافة جمع له بين البصرة والكوفة، فبنى في إمارة يزيد البيضاء، وجعل باب القصر الأبيض الذي كان لكسرى عليها‏.‏

وبنى الحمراء وهي على سكة المربد، فكان يشتي في الحمراء ويصيف في البيضاء‏.‏

قالوا‏:‏ وجاء رجل إلى ابن زياد فقال‏:‏ أصلح الله الأمير إن امرأتي ماتت، وإني أريد أن أتزوج أمها‏.‏

فقال له‏:‏ كم عطاؤك في الديوان‏؟‏

فقال‏:‏ سبعمائة‏.‏

فقال‏:‏ يا غلام حط من عطائه أربعمائة‏.‏

ثم قال له‏:‏ يكفيك من فقهك هذا ثلاثمائة‏.‏

قالوا‏:‏ وتخاصمت أم الفجيج وزوجها إليه وقد أحبت المرأة أن تفارق زوجها‏.‏

فقال أبو الفجيج‏:‏ أصلح الله الأمير إن خير شطري الرجل آخره، وإن شر شطري المرأة آخرها‏.‏

فقال‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏

فقال‏:‏ إن الرجل إذا أسن اشتد عقله واستحكم رأيه وذهب جهله، وإن المرأة إذا أسنت ساء خلقها وقل عقلها وعقم رحمها واحتد لسانها‏.‏

فقال‏:‏ صدقت خذ بيدها وانصرف‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ أمر ابن زياد لصفوان بن محرز بألفي درهم فسرقت، فقال‏:‏ عسى أن يكون خيراً‏.‏

فقال أهله‏:‏ كيف يكون هذا خيراً‏؟‏ فبلغ ذلك ابن زياد فأمر له بألفين آخرين، ثم وجد الألفين فصارت أربعة آلاف فكان خيراً‏.‏

وقيل‏:‏ لهند بنت أسماء بن خارجة - وكانت قد تزوجت بعده أزواجاً من نواب العراق - من أعز أزواجك عندك وأكرمهم عليك‏؟‏

فقالت‏:‏ ما أكرم النساء أحد إكرام بشير بن مروان، ولا هاب النساء هيبة الحجاج بن يوسف، ووددت أن القيامة قد قامت فأرى عبيد الله بن زياد واشتفي من حديثه والنظر إليه - وكان أتى عذارتها وقد تزوجت بالآخرين أيضاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/314‏)‏

وقال عثمان بن أبي شيبة‏:‏ عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال‏:‏ أول من جهر بالمعوذتين في الصلاة المكتوبة ابن زياد، قلت‏:‏ يعني‏:‏ والله أعلم في الكوفة، فإن ابن مسعود كان لا يكتبهما في مصحفه وكان فقهاء الكوفة عن كبراء أصحاب ابن مسعود يأخذون والله أعلم‏.‏

وقد كانت في ابن زياد جرأة وإقدام ومبادرة إلى ما لا يجوز، وما لا حاجة له به، لما ثبت في الحديث الذي رواه أبو يعلى ومسلم، كلاهما عن شيبان بن فروخ، عن جرير، عن الحسن أن عائذ بن عمرو دخل على عبيد الله بن زياد فقال‏:‏ أي بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له‏:‏ اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ وهل كان فيهم نخالة‏؟‏ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم‏.‏

وقد روى غير واحد عن الحسن أن عبيد الله بن زياد دخل على معقل بن يسار يعوده فقال له‏:‏ إني محدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما من رجل استرعاه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ذكر غير واحد أنه لما مات معقل صلى عليه عبيد الله بن زياد ولم يشهد دفنه، واعتذر بما ليس يجدي شيئاً وركب إلى قصره، ومن جراءته إقدامه على الأمر بإحضار الحسين إلى بين يديه وإن قتل دون ذلك، وكان الواجب عليه أن يجيبه إلى سؤاله الذي سأله فيما طلب من ذهابه إلى يزيد أو إلى مكة أو إلى أحد الثغور‏.‏

فلما أشار عليه شمر بن ذي الجوشن بأن الحزم أن يحضر عندك وأنت تسيره بعد ذلك إلى حيث شئت من هذه الخصال أو غيرها، فوافق شمراً على ما أشار به من إحضاره بين يديه فأبى الحسين أن يحضر عنده ليقضي فيه بما يراه ابن مرجانة‏.‏

وقد تعس وخاب وخسر، فليس لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر بين يدي ابن مرجانة الخبيث‏.‏

وقد قال محمد بن سعد‏:‏ أنبأنا الفضل بن دكين، ومالك بن إسماعيل قالا‏:‏ حدثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك بن كردوس، عن حاجب عبيد الله بن زياد قال‏:‏ دخلت معه القصر حين قتل الحسين قال‏:‏ فاضطرم في وجهه ناراً أو كلمة نحوها‏.‏

فقال‏:‏ بكمه هكذا على وجهه وقال‏:‏ لا تحدثن بها أحداً‏.‏

وقال شريك‏:‏ عن مغيرة قال‏:‏ قالت مرجانة لابنها عبيد الله‏:‏ يا خبيث قتلت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ لا ترى الجنة أبداً‏.‏

وقد قدمنا أن يزيد بن معاوية لما مات بايع الناس في المصرين لعبيد الله حتى يجتمع الناس على إمام، ثم خرجوا عليه فأخرجوه من بين أظهرهم، فسار إلى الشام فاجتمع بمروان، وحَسُنَ له أن يتولى الخلافة ويدعو إلى نفسه ففعل ذلك، وخالف الضحاك بن قيس، ثم انطلق عبيد الله إلى الضحاك بن قيس فما زال به حتى أخرجه من دمشق إلى مرج راهط‏.‏

ثم حَسُنَ له أن دعا إلى بيعة نفسه وخلع ابن الزبير ففعل، فانحل نظامه ووقع ما وقع بمرج راهط، من قتل الضحاك وخلق معه هنالك، فلما تولى مروان أرسل ابن زياد إلى العراق في جيش فالتقى هو جيش التوابين مع سليمان بن صرد فكسرهم، واستمر قاصداً الكوفة في ذلك الجيش، فتعوق في الطريق بسبب من كان يمانعه من أهل الجزيرة من الأعداء الذين هم من جهة ابن الزبير‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/315‏)‏

ثم اتفق خروج ابن الأشتر إليه في سبعة آلاف، وكان مع ابن زياد أضعاف ذلك، ولكن ظفر به ابن الأشتر فقتله شر قتلة على شاطئ نهر الخازر قريباً من الموصل بخمس مراحل‏.‏

قال أبو أحمد الحاكم‏:‏ وكان ذلك يوم عاشوراء‏.‏

قلت‏:‏ وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين، ثم بعث ابن الأشتر برأسه إلى المختار ومعه رأس الحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع وجماعة من رؤساء أصحابهم، فسر بذلك المختار‏.‏

فقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثني يوسف بن موسى بن جرير، عن يزيد بن أبي زياد قال‏:‏ لما جيء برأس ابن مرجانة وأصحابه طرحت بين يدي المختار فجاءت حية رقيقة ثم تخللت الرؤوس حتى دخلت في فم ابن مرجانة وخرجت من منخره، ودخلت في منخره وخرجت من فمه، وجعلت تدخل وتخرج من رأسه من بين الرؤوس‏.‏

ورواه الترمذي من وجه آخر بلفظ آخر فقال‏:‏ حدثنا واصل بن عبد الأعلا بن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير‏.‏

قال‏:‏ لما جيء برأس عبيد الله وأصحابه فنصبت في المسجد فيالرحبة، فانتهيت إليها وهم يقولون‏:‏ قد جاءت قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تتخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا‏:‏ قد جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثة‏.‏

قال الترمذي‏:‏ وهذا حديث حسن صحيح‏.‏

وقال أبو سليمان بن زيد‏:‏ وفي سنة ست وستين، قالوا فيها‏:‏ قتل ابن زياد والحصين بن نمير، وليّ قتلهما إبراهيم بن الأشتر، وبعث برأسيهما إلى المختار فبعث بهما إلى ابن الزبير، فنصبت بمكة والمدينة‏.‏

وهكذا حكى ابن عساكر، عن أبي أحمد الحاكم وغيره أن ذلك كانت في سنة ست وستين‏.‏

زاد أبو أحمد في يوم عاشوراء، وسكت ابن عساكر عن ذلك‏.‏

والمشهور أن ذلك كانت في سنة سبع وستين كما ذكره ابن جرير وغيره، ولكن بعث الرؤوس إلى ابن الزبير في هذه السنة متعذر لأن العداوة كانت قد قويت وتحققت بين المختار وابن الزبير في هذه السنة‏.‏

وعما قليل أمر ابن الزبير أخاه مصعباً أن يسير إلى البصرة إلى الكوفة لحصار المختار وقتاله والله أعلم‏.‏

 مقتل المختار بن أبي عبيد على يدي مصعب بن الزبير

كان عبد الله بن الزبير قد عزل في هذه السنة عن نيابة البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع، وولاها لأخيه مصعب بن الزبير، ليكون رداً وقرناً وكفؤاً للمختار‏.‏

فلما قدم مصعب البصرة دخلها متلثماً فيمم المنبر، فلما صعده قال الناس‏:‏ أمير أمير، فلما كشف اللثام عرفه الناس فأقبلوا إليه وجاء القباع فجلس تحته بدرجة، فلما اجتمع الناس قام مصعب خطيباً فاستفتح القصص حتى بلغ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ وأشار بيده نحو الشام أو الكوفة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/316‏)‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏ وأشار إلى الحجاز‏.‏

وقال‏:‏ يا أهل البصرة إنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار، فاجتمع عليه الناس وفرحوا له، ولما انهزم أهل الكوفة حين خرجوا على المختار فقهرهم وقتل منهم من قتل، كان لا ينهزم أحد من أهلها إلا قصد البصرة‏.‏

ثم خرج المختار ليلتقي بالذي جاء بالرؤوس والبشارة، فاغتنم من بقي بالكوفة من أعداء المختار غيبته فذهبوا إلى البصرة فراراً من المختار لقلة دينه وكفره، ودعواه أنه يأتيه الوحي وأنه قدم الموالي على الأشراف، واتفق أن ابن الأشتر حين قتل ابن زياد واستقل بتلك النواحي، فأحرز بلاداً وأقاليم ورساتيق لنفسه‏.‏

واستهان بالمختار، فطمع مصعب فيه وبعث محمد بن الأشعث بن قيس على البريد إلى المهلب بن أبي صفرة، وهو نائبهم على خراسان، فقدم في تجمل عظيم ومال ورجال، وعَدَدٍ وعِددٍ، وجيش كثيف، ففرح به أهل البصرة وتقوى به مصعب، فركب في أهل البصرة ومن اتبعهم من أهل الكوفة فركبوا في البحر والبر قاصدين الكوفة‏.‏

وقدم مصعب بين يديه عباد بن الحصين، وجعل على ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر، وعلى الميسرة المهلب بن أبي صفرة، ورتب الأمراء على راياتها وقبائلها، كمالك بن مسمع، والأحنف بن قيس، وزياد بن عمر، وقيس بن الهيثم وغيرهم‏.‏

وخرج المختار بعسكره فنزل المدار وقد جعل على مقدمته أبا كامل الشاكري، وعلى ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب الجشمي، وعلى الخيل وزير بن عبد الله السلولي، وعلى الموالي أبا عمرة صاحب شرطته‏.‏

ثم خطب الناس وحثهم على الخروج، وبعث بين يديه الجيوش، وركب هو وخلق من أصحابه وهو بيشرهم بالنصر، فلما انتهى مصعب إلى قريب الكوفة لقيتهم الكتائب المختارية فحملت عليهم الفرسان الزبيرية، فما لبثت المختارية إلا يسيراً حتى هربوا على حمية، وقد قتل منهم جماعة من الأمراء، وخلق من القراء، وطائفة كثيرة من الشيعة الأغبياء، ثم انتهت الهزيمة إلى المختار‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/317‏)‏

وقال الواقدي‏:‏ لما انتهت مقدمة المختار إليه جاء مصعب فقطع الدجلة إلى الكوفة وقد حصن المختار القصر واستعمل عليه عبد الله بن شداد، وخرج المختار بمن بقي معه فنزل حروراء، فلما قرب جيش مصعب منه جهز إلى كل قبيلة كردوساً‏.‏

فبعث إلى بكر بن وائل سعيد بن منقذ، وإلى عبد القيس مالك بن منذر، وإلى العالية عبد الله بن جعدة، وإلى الأزد مسافر بن سعيد، وإلى بني تميم سليم بن يزيد الكندي، وإلى محمد بن الأشعث السائب بن مالك‏.‏

ووقف المختار في بقية أصحابه فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى الليل، فقتل أعيان أصحاب المختار، وقتل تلك الليلة محمد بن الأشعث وعمير بن علي بن أبي طالب، وتفرق عن المختار باقي أصحابه، فقيل له‏:‏ القصر القصر‏.‏

فقال‏:‏ والله ما خرجت منه وأنا أريد أن أعود إليه، ولكن هذا حكم الله، ثم ساروا إلى القصر فدخل وجاءه مصعب ففرق القبائل في نواحي الكوفة، واقتسموا المحال، وخلصوا إلى القصر، وقد منعوا المختار المادة والماء، وكان المختار يخرج فيقاتلهم ثم يعود إلى القصر‏.‏

ولما اشتد عليه الحصار قال لأصحابه‏:‏ إن الحصار لا يزيدنا إلا ضعفاً، فانزلوا بنا حتى نقاتل حتى الليل حتى نموت كراماً، فوهنوا فقال‏:‏ أما فوالله لا أعطي بيدي‏.‏

ثم اغتسل وتطيب وتحنط وخرج فقاتل هو ومن معه حتى قتلوا‏.‏

وقيل‏:‏ بل أشار عليه جماعة من أساورته بأن يدخل القصر دار إمارته، فدخله وهو ملوم مذموم، وعن قريب ينفذ فيه القدر المحتوم، فحاصره مصعب فيه وجميع أصحابه حتى أصابهم من جهد العطش ما الله به عليم، وضيق عليهم المسالك والمقاصد، وانسدت عليهم أبواب الحيل وليس فيهم رجل رشيد ولا حليم‏.‏

ثم جعل المختار يجيل فكرته ويكرر رويته في الأمر الذي قد حل به، واستشار من عنده في هذا السبب الشيء الذي قد اتصل سببه بسببه من الموالي والعبيد، ولسان القدر والشرع يناديه‏:‏ ‏{‏قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ‏}‏‏[‏سبأ‏:‏ 49‏]‏‏.‏

ثم قوي عزمه قوة الشجاعة المركبة فيه، على أن أخرجته من بين من كان يحالفه ويواليه، ورأى أن يموت على فرسه، حتى يكون عليها انقضاء آخر نفسه، فنزل حميةً وغضباً، وشجاعة وصلباً، وهو مع ذلك لا يجد مناصاً ولا مفراً ولا مهرباً، وليس معه من أصحابه سوى تسعة عشر، ولعله إن كان قد استمر على ما عاش عليه أن لا يفارقه التسعة عشر الموكلون بسقر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/318‏)‏

ولما خرج من القصر سأل أن يخلى سبيله فيذهب في أرض الله، فقالوا له‏:‏ إلا على حكم الأمير‏.‏

والمقصود‏:‏ أنه لما خرج من القصر تقدم إليه رجلان شقيقان أخوان، وهما‏:‏ طرفة وطراف ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة، فقتلاه بمكان الزياتين من الكوفة، واحتزا برأسه وأتيا به إلى مصعب بن الزبير، وقد دخل قصر الإمارة، فوضع بين يديه، كما وضع رأس ابن زياد بين يدي المختار‏.‏

وكما وضع رأس الحسين بين يدي ابن زياد، وكما سيوضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان، فلما وضع رأس المختار بين يدي مصعب أمر لهما بثلاثين ألفاً‏.‏

وقد قتل مصعب جماعة من المختارية، وأسر منهم خمسمائة أسير، فضرب أعناقهم عن آخرهم في يوم واحد، وقد قتل من أصحاب مصعب في الوقعة محمد بن الأشعث بن قيس، وأمر مصعب بكف المختار فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد، فلم يزل هناك حتى قدم الحجاج فسأل عنها‏.‏

فقيل له‏:‏ هي كف المختار، فأمر بها فرفعت وانتزعت من هنالك، لأن المختار كان من قبيلة الحجاج‏.‏

والمختار هو الكذاب، والمبير الحجاج، ولهذا أخذ الحجاج بثأره من ابن الزبير فقتله وصلبه شهوراً‏.‏

وقد سأل مصعب أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار عنه، فقالت‏:‏ ما عسى أن أقول فيه إلا ما تقولون أنتم فيه‏.‏

فتركها واستدعى بزوجته الأخرى، وهي‏:‏ عمرة بنت النهمان بن بشير، فقال لها‏:‏ ما تقولين فيه‏؟‏

فقالت‏:‏ رحمه الله، لقد كان عبداً من عباد الله الصالحين‏.‏

فسجنها وكتب إلى أخيه إنها تقول‏:‏ إنه نبي، فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها، فأخرجها إلى ظاهر البلد فضربت ضربات حتى ماتت‏.‏

فقال في ذلك عمر بن أبي رمثة المخزومي‏:‏

إن من أعجب العجائب عندي * قتل بيضاء حرة عطبول

قتلت هكذا على غير جرمٍ * إن لله درها من قتيل

كتب القتل والقتال علينا * وعلى الغانيات جر الذيول

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/319‏)‏

وقال أبو مخنف‏:‏ حدثني محمد بن يوسف أن مصعباً لقي عبد الله بن عمر بن الخطاب فسلم عليه فقال ابن عمر‏:‏ من أنت‏؟‏

فقال‏:‏ أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير‏.‏

فقال له ابن عمر‏:‏ نعم، أنت قاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة‏؟‏ عش ما استطعت‏.‏

فقال له مصعب‏:‏ إنهم كانوا كفرة سحرة‏.‏

فقال ابن عمر‏:‏ والله لو قتلت عدلهم غنماً من تراث أبيك لكان ذلك سرفاً‏.‏

 وهذه ترجمة المختار بن أبي عبيد الثقفي

هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عفرة بن عميرة بن عوف بن ثقيف الثقفي‏.‏

أسلم أبوه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، فلهذا لم يذكره أكثر الناس في الصحابة، وإنما ذكره ابن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏‏.‏

وقد كان عمر بعثه في جيش كثيف في قتال الفرس سنة ثلاث عشرة، فقتل يومئذ شهيداً، وقتل معه نحو من أربعة آلاف من المسلمين، كما قدمنا، وعرف ذلك الجسر به، وهو الجسر على دجلة ويقال له‏:‏ إلى اليوم جسر أبي عبيد‏.‏

وكان له من الولد صفية بنت أبي عبيد، وكانت من الصالحات العابدات‏.‏

وهي زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكان عبد الله لها مكرماً ومحباً، وماتت في حياته‏.‏

وأما أخوها المختار هذا فإنه كان أولاً ناصبياً يبغض علياً بغضاً شديداً، وكان عند عمه في المدائن، وكان عمه نائبها‏.‏

فلما دخلها الحسن بن علي خذله أهل العراق وهو سائر إلى الشام لقتال معاوية بعد مقتل أبيه، فلما أحس الحسن منهم بالغدر فرَّ منهم إلى المدائن في جيش قليل، فقال المختار لعمه‏:‏ لو أخذت الحسن فبعثته إلى معاوية لاتخذت عنده اليد البيضاء أبداً‏.‏

فقال له عمه‏:‏ بئس ما تأمرني به يا ابن أخي، فما زالت الشيعة تبغضه حتى كان من أمر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ما كان، وكان المختار من الأمراء بالكوفة، فجعل يقول‏:‏ أما لأنصرنه‏.‏

فبلغ ابن زياد ذلك، فحبسه بعد ضربه مائة جلدة، فأرسل ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يتشفع فيه، فأرسل يزيد إلى ابن زياد فأطلقه وسيره إلى الحجاز في عباءة، فصار إلى ابن الزبير بمكة فقاتل معه حين حصره أهل الشام قتالاً شديداً، ثم بلغ المختار ما قال أهل العراق فيه من التخبيط، فسار إليهم وترك ابن الزبير‏.‏

ويقال‏:‏ إنه سأل ابن الزبير أن يكتب له كتاباً إلى ابن مطيع نائب الكوفة ففعل، فسار إليها، وكان يظهر مدح ابن الزبير في العلانية ويسبه في السر، ويمدح محمد بن الحنفية ويدعو إليه، وما زال حتى استحوذ على الكوفة بطريق التشيع وإظهار الأخذ بثأر الحسين‏.‏

وبسبب ذلك التفت عليه جماعات كثيرة من الشيعة وأخرج عامل ابن الزبير منها، واستقر ملك المختار بها، ثم كتب إلى الزبير يعتذر إليه ويخبره أن ابن مطيع كان مداهناً لبني أمية، وقد خرج من الكوفة، وأنا ومن بها في طاعتك، فصدقه ابن الزبير لأنه كان يدعو إليه على المنبر يوم الجمعة على رؤوس الناس، ويظهر طاعته‏.‏

ثم شرع في تتبع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/320‏)‏

فقتل منهم خلقاً كثيراً، وظفر برؤوس كبار منهم كعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين، وشمر بن ذي الجوشن أمير الألف الذين ولوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخولي بن يزيد الأصبحي، وخلق غير هؤلاء‏.‏

وما زال حتى بعث سيف نقمته إبراهيم بن الأشتر في عشرين ألفاً إلى ابن زياد، وكان ابن زياد حين التقاه في جيش أعظم من جيشه - في أضعاف مضاعفة - كانوا ثمانين ألفاً‏.‏

وقيل‏:‏ ستين ألفاً، فقتل ابن الأشتر ابن زياد وكسر جيشه، واحتاز ما في معسكره، ثم بعث برأس ابن زياد ورؤوس أصحابه مع البشارة إلى المختار، ففرح بذلك فرحاً شديداً، ثم إن المختار بعث برأس ابن زياد، ورأس حصين بن نمير ومن معهما إلى ابن الزبير بمكة، فأمر ابن الزبير بها فنصبت على عقبة الحجون‏.‏

وقد كانوا نصبوها بالمدينة، وطابت نفس المختار بالملك، وظن أنه لم يبق له عدو ولا منازع، فلما تبين ابن الزبير خداعه ومكره وسوء مذهبه، بعث أخاه مصعباً أميراً على العراق، فسار إلى البصرة فجمع العساكر فما تم سرور المختار حتى سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة في جيش هائل، فقتله واحتز رأسه وأمر بصلب كفه على باب المسجد‏.‏

وبعث مصعب برأس المختار مع رجل من الشرط على البريد، إلى أخيه عبد الله بن الزبير، فوصل مكة بعد العشاء فوجد عبد الله يتنفل، فما زال يصلي حتى أسحر ولم يلتفت إلى البريد الذي جاء بالرأس، فلما كان قريب الفجر قال‏:‏ ما جاء بك‏؟‏

فألقى إليه الكتاب فقرأه، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين معي الرأس‏.‏

فقال‏:‏ ألقه على باب المسجد‏.‏

فألقاه ثم جاء فقال‏:‏ جائزتي يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلى العراق‏.‏

ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها، وذلك لأن الرجل لم يكن في نفسه صادقاً، بل كان كاذباً يزعم أن الوحي يأتيه على يد جبريل‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن نمير، حدثنا عيسى القارئ، أبو عمير بن السدي، عن رفاعة القباني قال‏:‏ دخلت على المختار فألقى لي وسادة وقال‏:‏ لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لألقيتها لك‏.‏

قال‏:‏ فأردت أن أضرب عنقه‏.‏

قال‏:‏ فذكرت حديثاً حدثنيه أخي عمر بن الحمق، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أيما مؤمن أمن مؤمناً على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن حماد بن سلمة، حدثني عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شداد‏.‏

قال‏:‏ كنت أقوم على رأس المختار فلما عرفت كذبه هممت أن أسل سيفي فأضرب عنقه، فذكرت حديثاً حدثناه عمر بن الحمق‏.‏

قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من آمن رجلاً على نفسه فقتله أعطى لواء غدر يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه النسائي، وابن ماجه، من غير وجه عن عبد الملك بن عمير وفي لفظ لهما‏:‏ ‏(‏‏(‏من أمن رجلاً على دم فقتله فأنا بري من القاتل، وإن كان المقتول كافراً‏)‏‏)‏‏.‏ وفي سند هذا الحديث اختلاف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/321‏)‏

وقد قيل لابن عمر‏:‏ إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه‏.‏

فقال‏:‏ صدق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏‏.‏

وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال‏:‏ قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي بالليل‏.‏

قال‏:‏ فقال لي‏:‏ اخرج فحدث الناس، قال‏:‏ فخرجت فجاء رجل، فقال‏:‏ ما تقول في الوحي‏؟‏

فقلت‏:‏ الوحي وحيان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ‏}‏‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فهموا أن يأخذوني‏.‏

فقلت‏:‏ ما لكم وذاك ‏!‏ إني مفتيكم وضيفكم‏.‏

فتركوني، وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحي ينزل عليه‏.‏

وروى الطبراني من طريق أنيسة بنت زيد بن الأرقم‏:‏ أن أباها دخل على المختار بن أبي عبيد فقال له‏:‏ يا أبا عامر لو شفت رأي جبريل وميكائيل‏.‏

فقال له زيد‏:‏ خسرت وتعست، أنت أهون على الله من ذلك، كذاب مفترٍ على الله ورسوله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن إسحاق بن يوسف، ثنا ابن عوف الصديق الناجي‏:‏ أن الحجاج بن يوسف دخل على أسماء بنت أبي بكر الصديق، بعد ما قتل ابنها عبد الله بن الزبير، فقال‏:‏ إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به وفعل‏.‏

فقالت له‏:‏ كذبت، كان باراً بالوالدين، صواماً قواماً، والله لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول، وهو مبير‏.‏

هكذا رواه أحمد بهذا السند واللفظ‏.‏

وقد أخرجه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ في كتاب ‏(‏الفضائل‏)‏، عن عقبة بن مكرم العمي البصري، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي، عن الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل، عن أبي عقرب واسمه معاوية بن سلم، عن أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن في ثقيف كذاباً ومبيراً‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث قصة طويلة في مقتل الحجاج ولدها عبد الله في سنة ثلاث وسبعين كما سيأتي‏.‏

وقد ذكر البيهقي هذا الحديث في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏‏:‏ وقد ذكر العلماء أن الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة، وأسرّ إلى أخصائه أنه يوحى إليه، ولكن ما أدري هل كان يدّعي النبوة أم لا‏؟‏

وكان قد وضع له كرسي يعظم ويحف به الرجال ويستر بالحرير، ويحمل على البغال، وكان يضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور في القرآن، ولا شك أنه كان ضالاً مضلاً أراح الله المسلمين منه بعد ما انتقم به من قوم آخرين من الظالمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 129‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/322‏)‏

وأما المبير‏:‏ فهو القتّال وهو الحجاج بن يوسف الثقفي نائب العراق لعبد الملك بن مروان، الذي انتزع العراق من يد مصعب بن الزبير، كما سيأتي بيانه قريباً‏.‏

وذكر الواقدي‏:‏ أن المختار لم يزل مظهراً موافقة ابن الزبير حتى قدم مصعب إلى البصرة في أول سنة سبع وستين وأظهر مخالفته فسار إليه مصعب فقاتله، وكان المختار في نحو من عشرين ألفاً‏.‏

وقد حمل عليه المختار مرة فهزمه، ولكن لم يثبت جيش المختار حتى جعلوا ينصرفون إلى مصعب ويدعون المختار، وينقمون عليه ما هو فيه من الكهانة والكذب، فلما رأى المختار ذلك انصرف إلى قصر الإمارة فحاصره مصعب فيه أربعة أشهر، ثم قتله في رابع عشر من رمضان سنة سبع وستين، وله من العمر سبع وستون سنة فيما قيل‏.‏

 فصل استقرار مصعب بن الزبير بالكوفة

ولما استقر مصعب بن الزبير بالكوفة بعث إلى إبراهيم بن الأشتر ليقدم عليه، وبعث إليه عبد الملك بن مروان ليقدم عليه، فحار بن الأشتر في أمره، وشاور أصحابه إلى أيهما يذهب، ثم اتفق رأيهم على الذهاب إلى بلدهم الكوفة، فقدم ابن الأشتر على مصعب بن الزبير فأكرمه وعظمه واحترمه كثيراً‏.‏

وبعث مصعب المهلب بن أبي صفرة على الموصل، والجزيرة، وأذربيجان، وأرمينية، وكان قد استخلف على البصرة حين خرج منها عبيد الله بن عبد الله بن معمر، وأقام هو بالكوفة‏.‏

ثم لم تنسلخ هذه السنة حتى عزله أخوه عبد الله بن الزبير عن البصرة، وولى عليها ابنه حمزة بن عبد الله بن الزبير، وكان شجاعاً جواداً مخلطاً يعطي أحياناً حتى لا يدع شيئاً، ويمنع أحياناً ما لم يمنع مثله، وظهرت خفة وطيش في عقله، وسرعة في أمره‏.‏

فبعث الأحنف إلى عبد الله بن الزبير فعزله وأعاد إلى ولايتها أخاه مصعباً مضافاً إلى ما بيده من ولاية الكوفة، قالوا‏:‏ وخرج حمزة بن عبد الله بن الزبير من البصرة بمال كثير من بيت مالها، فعرض له مالك بن مسمع، فقال‏:‏ لا ندعك تذهب بأعطياتنا، فضمن له عبيد الله بن معمر العطاء فكف عنه‏.‏

فلما انصرف حمزة لم يقدم على أبيه مكة، بل عدل إلى المدينة، فأودع ذلك المال رجالاً فكلهم غل ما أودعه وجحده، سوى رجل من أهل الكتاب، فأدى إليه أمانته‏.‏

فلما بلغ أباه ما صنع قال‏:‏ أبعده الله، أردت أن أباهي به بني مروان فنكص‏.‏

وذكر أبو مخنف‏:‏ أن حمزة بن عبد الله بن الزبير ولي البصرة سنة كاملة فالله أعلم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وحج بالناس فيها عبد الله بن الزبير، وكان عامله على الكوفة أخاه مصعباً، وعلى البصرة ابنه حمزة‏.‏

وقيل‏:‏ بل كان رجع إليها أخوه، وعلى خراسان وتلك البلاد عبد الله بن خازم السلمي من جهة ابن الزبير والله سبحانه أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/323‏)‏

وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏ الوليد بن عقبة بن أبي معيط‏.‏

وأبو الجهم، وهو صاحب الأنبجانية المذكورة في الحديث الصحيح‏.‏

وفيها‏:‏ قتل خلق كثير يطول ذكرهم‏.‏