فصل: سنة سبع وخمسين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة ست وخمسين

وذلك في أيام معاوية‏.‏

ففيها‏:‏ شتى جُنادة بن أبي أمية بأرض الروم، وقيل‏:‏ عبد الرحمن بن مسعود‏.‏ ويقال‏:‏

فيها‏:‏ غزا في البحر يزيد بن سمرة، وفي البر عياض بن الحارث‏.‏

وفيها‏:‏ اعتمر معاوية في رجب، وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان‏.‏

وفيها‏:‏ ولى معاوية سعيد بن عثمان بلاد خراسان، وعزل عنها عبيد الله بن زياد، فسار سعيد إلى خراسان والتقى مع الترك عند صغد سمرقند، فقتل منهم خلقاً كثيراً، واستشهد معه جماعة منهم فيما قيل‏:‏ قثم بن العباس بن عبد المطلب‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ سأل سعيد بن عثمان بن عفان معاوية أن يوليه خراسان، فقال‏:‏ إن بها عبيد الله بن زياد‏.‏

فقال‏:‏ أما لقد اصطنعك أبي ورقاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى، فما شكرت بلاءه، ولا جازيته بآلائه، وقدمت عليّ هذا - يعني يزيد بن معاوية - وبايعت له، ووالله لأنا خير منه أباً وأماً ونفساً‏.‏

فقال له معاوية‏:‏ أما بلاء أبيك عندي فقد يحق علي الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أني طلبت بدمه حتى تكشفت الأمور ولست بلائم لنفسي في التشمير‏.‏

وأما فضل أبيك على أبيه، فأبوك والله خير مني وأقرب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما فضل أمك على أمه، فما لا ينكر، فإن امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالاً مثلك - يعني أن الغوطة لو ملئت رجالاً مثل سعيد بن عثمان - كان يزيد خيراً وأحب إليّ منهم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/86‏)‏

فقال له يزيد‏:‏ يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره، وقد عتب عليك فيَّ فأعتبه‏.‏

فولاه حرب خراسان، فأتى سمرقند فخرج إليه أهل الصغد من الترك فقاتلهم وهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهناً خمسين غلاماً يكونون في يده من أبناء عظمائهم، فأقام بالترمذ ولم يف لهم، وجاء بالغلمان الرهن معه إلى المدينة‏.‏

وفيها‏:‏ دعا معاوية الناس إلى البيعة ليزيد ولده أن يكون ولي عهده من بعده، - وكان قد عزم قبل ذلك على هذا في حياة المغيرة بن شعبة - فروى ابن جرير‏:‏ من طريق الشعبي، أن المغيرة كان قد قدم على معاوية وأعفاه من إمرة الكوفة، فأعفاه لكبره وضعفه، وعزم على توليتها سعيد بن العاص‏.‏

فلما بلغ ذلك المغيرة كأنه ندم، فجاء إلى يزيد بن معاوية فأشار عليه بأن يسأل من أبيه أن يكون ولي العهد، فسأل ذلك من أبيه‏.‏

فقال‏:‏ من أمرك بهذا‏؟‏

قال‏:‏ المغيرة، فأعجب ذلك معاوية من المغيرة، ورده إلى عمل الكوفة، وأمره أن يسعى في ذلك، فعند ذلك سعى المغيرة في توطيد ذلك‏.‏

وكتب معاوية إلى زياد يستشيره في ذلك، فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب والصيد، فبعث إليه من يثني رأيه عن ذلك، وهو عُبيد بن كعب بن النميري - وكان صاحباً أكيداً لزياد - فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أولاً‏.‏

فكلمه عن زياد وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك، فإن تركه خير له من السعي فيه، فانزجر يزيد عما يريد من ذلك، واجتمع بأبيه واتفقا على ترك ذلك في هذا الوقت‏.‏

فلما مات زياد وكانت هذه السنة، شرع معاوية في نظم ذلك والدعاء إليه، وعقد البيعة لولده يزيد، وكتب إلى الآفاق بذلك، فبايع له الناس في سائر الأقاليم، إلا عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، والحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس‏.‏

فركب معاوية إلى مكة معتمراً، فلما اجتاز بالمدينة - مرجعه من مكة - استدعى كل واحد من هؤلاء الخمسة فأوعده وتهدده بانفراده، فكان من أشدهم عليه رداً وأجلدهم في الكلام، عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق‏.‏

وكان ألينهم كلاماً عبد الله بن عمر بن الخطاب‏.‏

ثم خطب معاوية وهؤلاء حضور تحت منبره، وبايع الناس ليزيد وهم قعود ولم يوافقوا ولم يظهروا خلافاً، لمّا تهددهم وتوعدهم، فاتسقت البيعة ليزيد في سائر البلاد‏.‏

ووفدت الوفود من سائر الأقاليم إلى يزيد، فكان فيمن قدم الأحنف بن قيس، فأمره معاوية أن يحادث يزيد، فجلسا ثم خرج الأحنف فقال له معاوية‏:‏ ماذا رأيت من ابن أخيك‏؟‏

فقال‏:‏ إنا نخاف الله إن كذبنا ونخافكم إن صدقنا، وأنت أعلم به في ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، وأنت أعلم به بما أردت، وإنما علينا أن نسمع ونطيع، وعليك أن تنصح للأمة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/87‏)‏

وقد كان معاوية لما صالح الحسن عهد للحسن بالأمر من بعده، فلما مات الحسن قوي، أمر يزيد عند معاوية، ورأى أنه لذلك أهلاً، وذاك من شدة محبة الوالد لولده‏.‏

ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى‏.‏

ولهذا قال لعبد الله بن عمر فيما خاطبه به‏:‏ إني خفت أن أذر الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راعٍ‏.‏

فقال له ابن عمر‏:‏ إذا بايعه الناس كلهم بايعته ولو كان عبداً مجدع الأطراف‏.‏

وقد عاتب معاوية في ولايته يزيد، سعيد بن عثمان بن عفان وطلب منه أن يوليه مكانه‏.‏

وقال له سعيد فيما قال‏:‏ إن أبي لم يزل معتنياً بك حتى بلغت ذروة المجد والشرف، وقد قدمت ولدك عليّ وأنا خير منه أباً وأماً ونفساً‏.‏

فقال له‏:‏ أما ما ذكرت من إحسان أبيك إليّ فإنه أمر لا ينكر، وأما كون أبيك خير من أبيه فحق، وأمك قرشية وأمه كلبية فهي خير منها، وأما كونك خيراً منه فوالله لو ملئت إلى الغوطة رجالاً مثلك، لكان يزيد أحب إليّ منكم كلكم‏.‏

وروينا عن معاوية أنه قال يوماً في خطبته‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أني وليته لأنه فيما أراه أهل لذلك فأتمم له ما وليته، وإن كُنت وليته لأني أحبه فلا تتمم له ما وليته‏.‏

وذكر الحافظ ابن عساكر‏:‏ أن معاوية كان قد سمر ليلة فتكلم أصحابه في المرأة التي يكون ولدها نجيباً، فذكروا صفة المرأة التي يكون ولدها نجيباً‏.‏

فقال معاوية‏:‏ وددت لو عرفت بامرأة تكون بهذه المئابة ‏؟‏‏.‏

فقال أحد جلسائه‏:‏ قد وجدت ذلك يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ ومن‏؟‏

قال‏:‏ ابنتي يا أمير المؤمنين‏.‏

فتزوجها معاوية فولدت له يزيد بن معاوية فجاء نجيباً ذكياً حاذقاً‏.‏

ثم خطب امرأة أخرى فحظيت عنده وولدت له غلاماً آخر، وهجر أم يزيد فكانت عنده في جنب داره، فبينما هو في النظارة ومعه امرأته الأخرى، إذ نظر إلى أم يزيد وهي تسرحه‏.‏

فقالت امرأته‏:‏ قبحها الله وقبح ما تسرح‏.‏

فقال‏:‏ ولم‏؟‏ فوالله إن ولدها أنجب من ولدك، وإن أحببت بينت لك ذلك، ثم استدعى ولدها‏.‏

فقال له‏:‏ إن أمير المؤمنين قد عنَّ له أن يطلق لك ما تتمناه عليه فاطلب مني ما شئت‏.‏

فقال‏:‏ أسأل من أمير المؤمنين أن يطلق لي كلاباً للصيد وخيلاً ورجالاً يكونون معي في الصيد‏.‏

فقال‏:‏ قد أمرنا لك بذلك، ثم استدعى يزيد، فقال له كما قال لأخيه‏.‏

فقال يزيد‏:‏ أو يعفيني أمير المؤمنين في هذا الوقت عن هذا ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ لا بد لك أن تسأل حاجتك ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ أسأل - وأطال الله عمر أمير المؤمنين - أن أكون ولي عهده من بعده، فإنه بلغني أن عدل يوم في الرعية كعبادة خمسمائة عام‏.‏

فقال‏:‏ قد أجبتك إلى ذلك‏.‏

ثم قال لامرأته‏:‏ كيف رأيت‏؟‏ فعلمت وتحققت فضل يزيد على ولدها‏.‏

وقد ذكر ابن الجوزي في هذه السنة وفاة أم حرام بنت ملحان الأنصارية امرأة عبادة بن عُبادة بن الصامت، والصحيح الذي لم يذكر العلماء غيره أنها توفيت سنة سبع وعشرين، في خلافة عثمان‏.‏

وكانت هي وزوجها مع معاوية حين دخل قبرص، وقصتها بغلتها فماتت هناك وقبرها بقبرص‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/88‏)‏

والعجب أن ابن الجوزي أورد في ترجمتها حديثها المخرج في ‏(‏الصحيحين‏)‏ في قيلولة النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، ورؤياه منامه قوماً من أمته يركبون ثبج البحر مثل الملوك على الأسرة غزاة في سبيل الله، وأنها سألته أن يدعو لها أن تكون منهم فدعا لها، ثم نام فرأى كذلك‏.‏

فقالت‏:‏ ادعو الله أن يجعلني منهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا ‏!‏ أنت من الأولين‏)‏‏)‏‏.‏

وهم الذين فتحوا قبرص فكانت معهم، وذلك في سنة سبع وعشرين، ولم تكن من الآخرين الذين غزوا بلاد الروم سنة إحدى وخمسين مع يزيد بن معاوية ومعهم أبو أيوب‏.‏

وقد توفي هناك فقبره قريب من سور قسطنطينية وقد ذكرنا هذا مقراراً في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏‏.‏

 سنة سبع وخمسين

فيها‏:‏ كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم، قال الواقدي‏:‏ وفي شوالها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة، وولى عليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة، لأنه صارت إليه إمرة المدينة‏.‏

وكان على الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏

 وفيها‏:‏  توفي عثمان بن حُنيف الأنصاري الأوسي، وهو أخو عبادة وسهل ابني حُنيف، بعثه عمر لمساحة خراج السواد بالعراق، واستنابه عمر على الكوفة‏.‏

فلما قدم طلحة والزبير صحبة عائشة وامتنع من تسليم دار الإمارة، نتفت لحيته وحواجبه وأشفار عينيه ومُثل به‏.‏

فلما جاء علي وسلمه البلد قال له‏:‏ يا أمير المؤمنين فارقتك ذا لحية واجتمعت بك أمرد‏.‏

فتبسم علي رضي الله عنه وقال‏:‏ لك أجر ذلك عند الله‏.‏

وله في ‏(‏المسند‏)‏ و‏(‏السنن‏)‏ حديث الأعمى الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه ضوء بصره فرده الله عليه‏.‏

وله حديث آخر عند النسائي، ولم أر أحداً أرّخ وفاته بهذه السنة سوى ابن الجوزي والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/89‏)‏

 سنة ثمان وخمسين

فيها‏:‏ غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها‏:‏ قيل‏:‏ شتى يزيد بن شجرة في البحر‏.‏

وقيل‏:‏ بل غزا البحر وبلاد الروم جنادة بن أبي أمية‏.‏

وقيل‏:‏ إنما شتى بأرض الروم عمرو بن يزيد الجهني‏.‏

قال أبو معشر والواقدي‏:‏ وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان‏.‏

وفيها‏:‏ ولي معاوية الكوفة لعبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، ابن أم الحكم، وأم الحكم هي أخت معاوية، وعزل عنها الضحاك بن قيس، فولى ابن أم الحكم على شرطته زائدة بن قدامة، وخرجت الخوارج في أيام ابن أم الحكم‏.‏

وكان رئيسهم في هذه الوقعة حيان بن ضبيان السلمي، فبعث إليهم جيشاً فقتلوا الخوارج جميعاً، ثم إن ابن أم الحكم أساء السيرة في أهل الكوفة فأخرجوه من بين أظهرهم طريداً، فرجع إلى خاله معاوية فذكر له ذلك‏.‏

فقال‏:‏ لأولينك مصراً هو خير لك، فولاه مصر‏.‏

فلما سار إليها تلقاه معاوية بن خديج على مرحلتين من مصر، فقال له‏:‏ ارجع إلى خالك معاوية، فلعمري لا ندعك تدخلها فتسير فيها، وفينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة‏.‏

فرجع ابن أم الحكم إلى معاوية ولحقه معاوية بن خديج وافداً على معاوية، فلما دخل عليه وجد عنده أخته أم الحكم، وهي أم عبد الرحمن الذي طرده أهل الكوفة وأهل مصر، فلما رآه معاوية قال‏:‏ بخ بخ، هذا معاوية بن خديج‏.‏

فقالت أم الحكم‏:‏ لأمر حبابه، تسمع بالمعيدي خير من أن تراه‏.‏

فقال معاوية بن خديج‏:‏ على رسلك يا أم الحكم، أما والله لقد تزوجتِ فما أُكرمتِ، وولدتِ فما أنجبتِ، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا أهل الكوفة‏.‏

فما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضرباً يطأطئ منه رأسه - أو قال‏:‏ لضربنا ما صاصا منه - وإن كره ذلك الجالس - فالتفت إليها معاوية فقال‏:‏ كفى‏.‏

 قصة غريبة

ذكرها ابن الجوزي في كتابه ‏(‏المنتظم‏)‏ بسنده؛ وهو أن شاباً من بني عذرة جرت له قصة مع ابن أم الحكم، وملخصها‏:‏ أن معاوية بينما هو يوماً على السماط إذا شاب من بني عذرة قد تمثل بين يديه فأنشده شعراً مضمونه التشوق إلى زوجته سعاد، فاستدناه معاوية واستحكاه عن أمره‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إني كنت مزوجاً بابنة عمٍ لي، وكان لي إبل وغنم، وأنفقت ذلك عليها‏.‏

فلما قل ما بيدي رغب عني أبوها، وشكاني إلى عاملك بالكوفة، ابن أم الحكم، وبلغه جمالها فحبسني في الحديد وحملني على أن أطلقها‏.‏

فلما انقضت عدتها أعطاها عاملك عشرة آلاف درهم فزوجه إياها، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحزون الملهوف المكروب، وسند المسلوب، فهل من فرج‏؟‏

ثم بكى وأنشأ يقول‏:‏

في القلب مني نارٌ * والنار فيها شرار

والجسم مني نحيلٌ * واللون فيه اصفرار

والعين تبكي بشجوٍ * فدمعها مدرار

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/90‏)‏

والحب ذا عبر * فيه الطبيب يحار

حملت فيه عظيماً * فما عليه اصطبار

فليس ليلي بليلٍ * ولا نهاري نهار

قال‏:‏ فرقّ له معاوية وكتب إلى ابن أم الحكم يؤنبه على ذلك ويعيبه عليه، ويأمره بطلاقها قولاً واحداً‏.‏

فلما جاءه كتاب معاوية تنفس الصعداء وقال‏:‏ وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنة، ثم عرضني على السيف، وجعل يؤامر نفسه على طلاقها فلا يقدر على ذلك ولا تجيبه نفسه، وجعل البريد الذي ورد عليه بالكتاب يستحثه، فطلقها وأخرجها عنه وسيرها مع الوفد إلى معاوية‏.‏

فلما وقفت بين يديه رأى منظراً جميلاً، فلما استنطقها فإذا أفصح الناس وأحلاهم كلاماً، وأكملهم جمالاً ودلالاً‏.‏

فقال لابن عمها‏:‏ يا أعرابي هل من سلُوٍّ عنها بأفضل الرغبة‏؟‏

قال‏:‏ نعم، إذا فرقت بين رأسي وجسدي ثم أنشأ يقول‏:‏

لا تجعلني والأمثال تضرب بي * كالمستغيث من الرمضاء بالنار

اردد سعاد على حيران مكتئبٍ * يمسي ويصبح في همٍ وتذكار

قد شفه قلقٌ ما مثله قلقٌ * وأسعر القلب منه أي إسعار

والله والله لا أنسى محبتها * حتى أغيب في رمسي وأحجاري

كيف السلو وقد هام الفؤاد بها * وأصبح القلب عنها غير صبار‏؟‏

فقال معاوية‏:‏ فإنا نخيرها بيني وبينك وبين ابن أم الحكم فأنشأت تقول‏:‏

هذا وإن أصبح في إطارٍ * وكان في نقصٍ من اليسار

أحب عندي من أبي وجاري * وصاحب الدرهم والدينار

أخشى إذا غدرت حر النار

قال‏:‏ فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم، ومركب ووطاء، ولما انقضت عدتها زوجه بها وسلمها إليه‏.‏

حذفنا منها أشعاراً كثيرة مطولة‏.‏

وجرت في هذه السنة فصول طويلة بين عبيد الله بن زياد والخوارج، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وجمعاً غفيراً، وحبس منهم آخرين، وكان صارماً كأبيه مقداماً في أمرهم، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/91‏)‏

 ذكر من توفي فيها من الأعيان

 توفي في هذا العام سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف

القرشي الأموي، قتل أبوه يوم بدر كافراً، قتله علي بن أبي طالب، ونشأ سعيد في حجر عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

وكان عمر سعيد يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وكان من سادات المسلمين والأجواد المشهورين‏.‏

وكان جده سعيد بن العاص - ويكنى‏:‏ بأبي أجنحة - رئيساً في قريش، يقال له‏:‏ ذو التاج، لأنه كان إذا أعتم لا يعتم أحد يومئذٍ إعظاماً له‏.‏

وكان سعيد هذا من عمال عمر على السواد، وجعله عثمان فيمن يكتب المصاحف لفصاحته، وكان أشبه الناس لحية برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في جملة الاثني عشر رجلاً، الذين يستخرجون القرآن ويعلمونه ويكتبونه، منهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت‏.‏

واستنابه عثمان على الكوفة بعد عزله الوليد بن عقبة، فافتتح طبرستان وجرجان، ونقض العهد أهل أذربيجان فغزاهم ففتحها‏.‏

فلما مات عثمان اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفين، فلما استقر الأمر لمعاوية وفد إليه فعتب عليه فاعتذر إليه فعذره في كلام طويل جداً، وولاّه المدينة مرتين، وعزله عنها مرتين بمروان بن الحكم‏.‏

وكان سعيد هذا لا يسبُّ علياً، ومروان يسبّه‏.‏

وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعائشة، وعنه ابناه عمرو بن سعيد الأشدق، وأبو سعيد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير وغيرهم، وليس له في ‏(‏المسند‏)‏ ولا في الكتب الستة شيء‏.‏

وقد كان حسن السيرة، جيد السريرة، وكان كثيراً ما يجمع أصحابه في كل جمعة فيطعمهم ويكسوهم الحلل، ويرسل إلى بيوتهم بالهدايا والتحف والبر الكثير، وكان يصر الصرر فيضعها بين يدي المصلين من ذوي الحاجات في المسجد‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وقد كانت له دار بدمشق تعرف بعده بدار نعيم، وحمام نعيم، بنواحي الديماس، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات، وكان كريماً جواداً ممدحاً‏.‏

ثم أورد شيئاً من حديثه من طريق يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا أبو سعيد الجعفي، ثنا عبد الله بن الأجلح، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه أن سعيد بن العاص قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية‏)‏‏)‏‏.‏

وفي طريق الزبير بن بكار‏:‏ حدثني رجل، عن عبد العزيز بن أبان، حدثني خالد بن سعيد، عن أبيه، عن ابن عمر قال‏:‏ جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرد‏.‏

فقالت‏:‏ إني نذرت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أعطه هذا الغلام‏)‏‏)‏ يعني - سعيد بن العاص - وهو واقف، فلذلك سميت الثياب السعيدية‏.‏

وأنشد الفرزدق قوله فيه‏:‏

ترى الغُرَّ الجحاجح من قريشٍ * إذا ما الخطب في الحدثان عالا

قياماً ينظرون إلى سعيد * كأنهم يرون به هلالا

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/92‏)‏

وذكر أن عثمان عزل عن الكوفة المغيرة وولاها سعيد بن أبي وقاص، ثم عزله وولاها الوليد بن عتبة، ثم عزله وولى سعيد بن العاص، فأقام بها حيناً، ولم تحمد سيرته فيهم ولم يحبوه‏.‏

ثم ركب مالك بن الحارث - وهو الأشتر النخعي - في جماعة إلى عثمان وسألوه أن يعزل عنهم سعيداً فلم يعزله، وكان عنده بالمدينة فبعثه إليهم، وسبق الأشتر إلى الكوفة فخطب الناس وحثهم على منعه من الدخول إليهم، وركب الأشتر في جيش يمنعوه من الدخول‏.‏

قيل‏:‏ تلقوه إلى العذيب، - وقد نزل سعيد بالرعثة - فمنعوه من الدخول إليهم، ولم يزالوا به حتى ردّوه إلى عثمان، وولى الأشتر أبا موسى الأشعري على الصلاة والثغر وحذيفة بن اليمان على الفيء‏.‏

فأجاز ذلك أهل الكوفة وبعثوا إلى عثمان في ذلك فأمضاه وسره ذلك فيما أظهره، ولكن هذا كان أول وهن دخل على عثمان‏.‏

وأقام سعيد بن العاص بالمدينة حتى كان زمن حصر عثمان فكان عنده بالدار‏.‏

ثم لما ركب طلحة والزبير مع عائشة من مكة يريدون قتلة عثمان ركب معهم، ثم انفرد عنهم هو والمغيرة بن شعبة وغيرهما، فأقام بالطائف حتى انقضت تلك الحروب كلها‏.‏

ثم ولاه معاوية إمرة المدينة سنة تسع وأربعين، وعزل مروان فأقام سبعاً ثم رد مروان‏.‏

وقال عبد الملك بن عمير‏:‏ عن قبيضة بن جابر قال‏:‏ بعثني زياد في شغل إلى معاوية، فلما فرغت من أموري قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين لمن يكون الأمر من بعدك‏؟‏

فسكت ساعة ثم قال‏:‏ يكون بين جماعة، إما كريم قريش سعيد بن العاص، وإما فتى قريش حياء ودهاء وسخاء، عبد الله بن عامر، وإما الحسن بن علي فرجل سيد كريم‏.‏

وإما القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله مروان بن الحكم، وإما رجل فقيه عبد الله بن عمر، وإما رجل يتردد الشريعة مع دواهي السباع ويروغ روغان الثعلب فعبد الله بن الزبير‏.‏

وروينا أنه استسقى يوماً في بعض طرق المدينة، فأخرج له رجل من دار ماء فشرب، ثم بعد حين رأى ذلك يعرض داره للبيع فسأل عنه لِمَ يبيع داره‏؟‏

فقالوا‏:‏ عليه دين أربعة آلاف دينار، فبعث إلى غريمه فقال‏:‏ هي لك عليّ، وأرسل إلى صاحب الدار فقال‏:‏ استمتع بدارك‏.‏

وكان رجل من القراء الذين يجالسونه قد افتقر وأصابته فاقة شديدة‏.‏

فقالت له امرأته‏:‏ إن أميرنا هذا يوصف بكرم، فلو ذكرت له حالك فلعله يسمح لك بشيء‏.‏

فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ لا تحلقي وجهي، فألحت عليه في ذلك، فجاء فجلس إليه، فلما انصرف الناس عنه مكث الرجل جالساً في مكانه‏.‏

فقال له سعيد‏:‏ أظن جلوسك لحاجة‏؟‏

فسكت الرجل، فقال سعيد لغلمانه‏:‏ انصرفوا، ثم قال له سعيد‏:‏ لم يبق غيري وغيرك، فسكت، فأطفأ المصباح ثم قال له‏:‏ رحمك الله لست ترى وجهي فاذكر حاجتك‏.‏

فقال‏:‏ أصلح الله الأمير أصابتنا فاقة وحاجة فأحببت ذكرها لك فاستحييت‏.‏

فقال له‏:‏ إذا أصبحت فالق وكيلي فلاناً، فلما أصبح الرجل لقي الوكيل فقال له الوكيل‏:‏ إن الأمير قد أمر لك بشيء فأت بمن يحمله معك‏.‏

فقال‏:‏ ما عندي من يحمله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/93‏)‏

ثم انصرف الرجل إلى امرأته فلامها وقال‏:‏ حملتيني على بذل وجهي للأمير، فقد أمر لي بشيء يحتاج إلى من يحمله‏.‏

وما أراه أمر لي إلا بدقيق أو طعام، ولو كان مالاً لما احتاج إلى من يحمله، ولأعطانيه‏.‏

فقالت له المرأة‏:‏ فمهما أعطاك فإنه يقوتنا فخذه، فرجع الرجل إلى الوكيل، فقال له الوكيل‏:‏ إني أخبرت الأمير أنه ليس لك أحد يحمله، وقد أرسل بهؤلاء الثلاثة السودان يحملونه معك، فذهب الرجل‏.‏

فلما وصل إلى منزله إذا على رأس كل واحد منهم عشرة آلاف درهم‏.‏

فقال للغلمان‏:‏ ضعوا ما معكم وانصرفوا‏.‏

فقالوا‏:‏ إن الأمير قد أطلقنا لك، فإنه ما بعث مع خادم هدية إلى أحد، إلا كان الخادم الذي يحملها من جملتها‏.‏

قال‏:‏ فحسن حال ذلك الرجل‏.‏

وذكر ابن عساكر‏:‏ أن زياد بن أبي سفيان بعث إلى سعيد بن العاص هدايا وأموالاً وكتاباً ذكر فيه أنه يخطب إليه ابنته أم عثمان من آمنة بنت جرير بن عبد الله البجلي‏.‏

فلما وصلت الهدايا والأموال والكتاب قرأه، ثم فرق الهدايا في جلسائه، ثم كتب إليه كتاباً لطيفاً فيه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم ‏!‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6- 7‏]‏ والسلام‏.‏

وروينا‏:‏ أن سعيداً خطب أم كلثوم بنت علي من فاطمة، التي كانت تحت عمر بن الخطاب، فأجابت إلى ذلك وشاورت أخويها فكرها ذلك‏.‏

وفي رواية‏:‏ إنما كره ذلك الحسين وأجاب الحسن، فهيأت دارها ونصبت سريراً وتواعدوا للكتاب، وأمرت ابنها زيد بن عمر أن يزوجها منه، فبعث إليها بمائة ألف‏.‏

وفي رواية‏:‏ بمائتي ألف مهراً، واجتمع عنده أصحابه ليذهبوا معه، فقال‏:‏ إني أكره أن أخرج أمي فاطمة، فترك التزويج وأطلق جميع ذلك المال لها‏.‏

وقال ابن معين، وعبد الأعلى بن حماد‏:‏ سأل أعرابي سعيد بن العاص فأمر له بخمسمائة‏.‏

فقال الخادم‏:‏ خمسمائة درهم أو دينار ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ إنما أمرتك بخمسمائة درهم، وإذ قد جاش في نفسك أنها دنانير فادفع إليه خمسمائة دينار‏.‏

فلما قبضها الأعرابي جلس يبكي‏.‏

فقال له‏:‏ مالك‏؟‏ ألم تقبض نوالك‏؟‏

قال‏:‏ بلى والله ‏!‏ ولكن أبكي على الأرض كيف تأكل مثلك‏.‏

وقال عبد الحميد بن جعفر‏:‏ جاء رجل في حمالة أربع ديات سأل فيها أهل المدينة، فقيل‏:‏ له عليك بالحسن بن علي، أو عبد الله بن جعفر، أو سعيد بن العاص، أو عبد الله بن عباس‏.‏

فانطلق إلى المسجد فإذا سعيد داخل إليه، فقال‏:‏ من هذا‏؟‏

فقيل‏:‏ سعيد بن العاص فقصده فذكر له ما أقدمه فتركه حتى انصرف من المسجد إلى المنزل فقال للأعرابي‏:‏ ائت بمن يحمل معك‏.‏

فقال‏:‏ رحمك الله ‏!‏ إنما سألتك مالاً لا تمراً‏.‏

فقال‏:‏ أعرف، ائت بمن يحمل معك‏؟‏ فأعطاه أربعين ألفاً فأخذها الأعرابي وانصرف ولم يسأل غيره‏.‏

وقال سعيد بن العاص لابنه‏:‏ يا بني أجر لله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فأما إذا أتاك الرجل تكاد ترى دمه في وجهه، أوجاءك مخاطراً لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته‏.‏

وقال سعيد‏:‏ لجليسي علي ثلاث، إذا دنا رحبت به، وإذا جلس أوسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنيء فتهون عليه‏.‏

وفي رواية‏:‏ فيجترئ عليك‏.‏

وخطب يوماً فقال‏:‏ من رزقه الله رزقاً حسناً فليكن أسعد الناس به، إنما يتركه لأحد رجلين، إما مصلح فيسعد بما جمعت له وتخيب أنت، والمصلح لا يقل عليه شيء، وإما مفسد فلا يبقى له شيء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/94‏)‏

فقال أبو معاوية‏:‏ جمع أبو عثمان طرف الكلام‏.‏

وروى الأصمعي‏:‏ عن حكيم بن قيس‏.‏

قال سعيد بن العاص‏:‏ موطنان لا أستحي من رفقي فيهما والتأني عندهما، مخاطبتي جاهلاً أو سفيهاً، وعند مسألتي حاجة لنفسي‏.‏

ودخلت عليه امرأة من العابدات وهو أمير الكوفة فأكرمها وأحسن إليها، فقالت‏:‏ لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زالت المنة لك في أعناق الكرام، وإذا أزال عن كريم نعمة جعلك سبباً لردها عليه‏.‏

وقد كان له عشرة من الولد ذكوراً وإناثاً، وكانت إحدى زوجاته أم البنين بنت الحكم بن أبي العاص - أخت مروان بن الحكم - ولما حضرت سعيداً الوفاة جمع بنيه‏.‏

وقال لهم‏:‏ لا يفقدن أصحابي غير وجهي، وصلوهم بما كنت أصلهم به، وأجروا عليهم ما كنت أجري عليهم، واكفوهم مؤنة الطلب، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه، وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد، فوالله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعاً لحاجته أعظم منة عليكم مما تعطونه‏.‏

ثم أوصاهم بوصايا كثيرة منها‏:‏ أن يوفوا ما عليه من الدين والوعود، وأن لا يزوجوا أخواتهم إلا من الأكفاء، وأن يسودوا أكبرهم‏.‏

فتكفل بذلك كله ابنه عمرو بن سعيد الأشدق‏.‏

فلما دفنه بالبقيع، ثم ركب عمرو إلى معاوية فعزاه فيه واسترجع معاوية وحزن عليه قال‏:‏ هل ترك من دين عليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ وكم هو‏؟‏

قال‏:‏ ثلاثمائة ألف درهم، وفي رواية‏:‏ ثلاث آلاف ألف درهم‏.‏

فقال معاوية‏:‏ هي عليّ ‏!‏

فقال ابنه‏:‏ يا أمير المؤمنين، إنه أوصاني أن لا أقضي دينه إلا من ثمن أراضيه، فاشترى منه معاوية أراضي بمبلغ الدين، وسأل منه عمرو أن يحملها إلى المدينة فحملها له، ثم شرع عمرو يقضي ما على أبيه من الدين حتى لم يبق أحد، فكان من جملة من طالبه شاب معه رقعة من أديم فيها عشرون ألفاً‏.‏

فقال له عمرو‏:‏ كيف استحققت هذه على أبي‏؟‏

فقال الشاب‏:‏ إنه كان يوماً يمشي وحده، فأحببت أن أكون معه حتى يصل إلى منزله، فقال‏:‏ أبغني رقعة من أدم، فذهبت إلى الجزارين فأتيته بهذه، فكتب لي فيها هذا المبلغ، واعتذر بأنه ليس عنده اليوم شيء‏.‏

فدفع إليه عمرو ذلك المال وزاده شيئاً كثيراً، ويروى أن معاوية قال لعمرو بن سعيد‏:‏ من ترك مثلك لم يمت‏.‏

ثم قال‏:‏ رحم الله أبا عثمان، ثم قال‏:‏ قد مات من هو أكبر مني ومن هو أصغر مني، وأنشد قول الشاعر‏:‏

إذا سار من دون امرئ وإمامه * وأوحش من إخوانه فهو سائر

وكانت وفاة سعيد بن العاص في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ في التي قبلها وقيل‏:‏ في التي بعدها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كانت وفاته قبل عبد الله بن عامر بجمعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/95‏)‏

شداد بن أوس بن ثابت

ابن المنذر بن حرام، أبو يعلى الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وهو ابن أخي حسان بن ثابت‏.‏

وحكى ابن منده‏:‏ عن موسى بن عقبة أنه قال‏:‏ شهد بدراً‏.‏

قال ابن منده‏:‏ وهو وهم، وكان من الاجتهاد في العبادة على جانب عظيم، كان إذا أخذ مضجعه تعلق على فراشه ويتقلب عليه ويتلوى كما تتلوى الحية ويقول‏:‏ اللهم إن خوف النار قد أقلقني، ثم يقوم إلى صلاته‏.‏

قال عبادة بن الصامت‏:‏ كان شداد من الذين أوتوا العلم والحلم‏.‏

نزل شداد فلسطين وبيت المقدس، ومات في هذه السنة عن خمس وسبعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ مات سنة أربع وستين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة إحدى وأربعين، فالله أعلم‏.‏

 عبد الله بن عامر

ابن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي، ابن خال عثمان بن عفان، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفل في فيه، فجعل يبتلع ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ إنه لمسقاء، فكان لا يعالج أرضاً إلا ظهر له الماء، وكان كريماً ممدحاً ميمون النقيبة‏.‏

استنابه عثمان على البصرة بعد أبي موسى، وولاه بلاد فارس بعد عثمان بن أبي العاص، وعمره إذ ذاك خمساً وعشرين سنة، ففتح خراسان كلها، وأطراف فارس وسجستان وكرمان وبلا غزنة‏.‏

وقتل كسرى ملك الملوك في أيامه - وهو يزدجرد - ثم أحرم عبد الله بن عامر بحجة‏.‏

وقيل‏:‏ بعمرة من تلك البلاد شكراً لله عز وجل، وفرق في أهل المدينة أموالاً كثيرةً جزيلةً، وهو أول من لبس الخز بالبصرة، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وهو أول من اتخذ الحياض بعرفة وأجرى إليها الماء المعين والعين، ولم يزل على البصرة حتى قتل عثمان، فأخذ أموال بيت المال وتلقى بها طلحة والزبير وحضر معهم الجمل‏.‏

ثم سار إلى دمشق ولم يسمع له ذكر في صفين، ولكن ولاه معاوية البصرة بعد صلحه مع الحسن، وتوفي في هذه السنة بأرضه بعرفات، وأوصى إلى عبد الله بن الزبير‏.‏

له حديث واحد، وليس له في الكتب شيء، وروى مصعب الزبيري عن أبيه، عن حنظلة بن قيس، عن عبد الله بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد‏)‏‏)‏‏.‏

وقد زوجه معاوية بابنته هند، وكانت جميلة، فكانت تلي خدمته بنفسها من محبتها له، فنظر يوماً في المرآة فرأى صباحة وجهها وشيبة في لحيته فطلقها، وبعث إلى أبيها أن يزوجها بشاب كأن وجهه ورقة مصحف‏.‏

توفي في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ بعدها بسنة‏.‏

 عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما

وهو أكبر ولد أبي بكر الصديق، قاله الزبير بن بكار، قال‏:‏ وكانت فيه دعابة، وأمه أم رومان، وأم عائشة فهو شقيقها، بارز يوم بدر، وأخذ مع المشركين، وأراد قتل أبيه أبي بكر، فتقدم إليه أبوه أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أمتعنا بنفسك‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أسلم عبد الرحمن بعد ذلك في الهدنة، وهاجر قبل الفتح، ورزقه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر كل سنة أربعين وسقاً، وكان من سادات المسلمين، وهو الذي دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات وعائشة مسندته إلى صدرها، ومع عبد الرحمن سواك رطب فأخذه بصره، فأخذت عائشة ذلك السواك فقضمته وطيبته‏.‏

ثم دفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به أحسن استنان ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم في الرفيق الأعلا‏)‏‏)‏، ثم قضى‏.‏

قالت‏:‏ فجمع الله بين ريقي وريقه، ومات بين سحري ونحري، في بيتي ويومي لم أظلم فيه أحداً‏.‏

وقد شهد عبد الرحمن فتح اليمامة وقتل يومئذ سبعة، وهو الذي قتل محكم بن الطفيل‏.‏

صديق مسيلمة على باطله، كان محكم واقفاً في ثلمة حائط فرماه عبد الرحمن فسقط محكم، فدخل المسلمون من الثلمة فخلصوا إلى مسيلمة فقتلوه‏.‏

وقد شهد فتح الشام، وكان معظماً بين أهل الإسلام ونفل ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام، نفله إياها خالد بن الوليد عن أمر عمر بن الخطاب كما سنذكره مفصلاً‏.‏

وقد قال عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ حدثني عبد الرحمن بن أبي بكر - ولم يجرب عليه كذبة قط - ذكر عنه حكاية‏:‏ أنه لما جاءت بيعة يزيد بن معاوية إلى المدينة‏.‏

قال عبد الرحمن لمروان‏:‏ جعلتموها والله هرقلية وكسروية - يعني‏:‏ جعلتم ملك الملك لمن بعده من ولده -‏.‏

فقال له مروان‏:‏ اسكت فإنك أنت الذي أنزل الله فيك ‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏‏.‏

فقالت عائشة‏:‏ ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن، إلا أنه أنزل عذري، ويروى أنها بعثت إلى مروان تعتبه وتؤنبه وتخبره بخبر فيه ذم له ولأبيه لا يصح عنها‏.‏

قال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه، عن جده‏.‏

قال‏:‏ بعث معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد بن معاوية، فردها عبد الرحمن وأبى أن يأخذها، وقال‏:‏ أبيع ديني بدنياي‏؟‏

وخرج إلى مكة فمات بها‏.‏

وقال أبو زرعة الدمشقي‏:‏ ثنا أبو مسهر، ثنا مالك قال‏:‏ توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نومة نامها‏.‏

ورواه أبو مصعب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد فذكره وزاد‏:‏ فأعتقت عنه عائشة رقاباً‏.‏

ورواه الثوري‏:‏ عن يحيى بن سعيد، عن القاسم فذكره‏.‏

ولما توفي كانت وفاته بمكان يقال له الحبشي - على ستة أميال من مكة، وقيل‏:‏ اثني عشر ميلاً - فحمله الرجال على أعناقهم حتى دفن بأعلا مكة‏.‏

فلما قدمت عائشة مكة زارته وقالت‏:‏ أما والله لو شهدتك لم أبكِ عليك، ولو كنت عندك لم أنقلك من موضعك الذي مت فيه، ثم تمثلت بشعر متمم بن نويرة في أخيه مالك‏:‏ وكنا كند ماني جذيمة برهةً * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكٍ * لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا

رواه الترمذي وغيره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/97‏)‏

وروى ابن سعد‏:‏ أن ابن عمر مرة رأى فسطاساً مضروباً على قبر عبد الرحمن - ضربته عائشة بعد ما ارتحلت - فأمر ابن عمر بنزعه وقال‏:‏ إنما يظله عمله‏.‏

وكانت وفاته في هذا العام في قول كثير من علماء التاريخ‏.‏

ويقال‏:‏ إن عبد الرحمن توفي سنة ثلاث وخمسين قاله الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد وأبو عبيد وغير واحد‏.‏

وقيل‏:‏ سنة أربع وخمسين فالله أعلم‏.‏

قصته مع ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام

قال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني محمد بن الضحاك الحزامي، عن أبيه‏:‏ أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قدم الشام في تجارة - يعني‏:‏ في زمان جاهليته - فرأى امرأة يقال لها‏:‏ ليلى ابنة الجودي على طنفسة لها، وحولها ولائدها فأعجبته‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ رآها بأرض بصرى، فقال فيها‏:‏

تذكرت ليلى والسماوة دونها * فمال ابنة الجودي ليلى وماليا

وإني تعاطى قلبه حارثية * تؤمن بصرى أوتحل الحوابيا

وإني بلاقيها بلى ولعلها * إن الناس حجوا قابلاً أن توافيا

قال‏:‏ فلما بعث عمر بن الخطاب جيشه إلى الشام قال للأمير على الجيش‏:‏ إن ظفرت بليلى بنت الجودي عنوة فادفعها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فظفر بها فدفعها إليه فأعجب بها وآثرها على نسائه حتى جعلن يشكونها إلى عائشة، فعاتبته عائشة على ذلك‏.‏

فقال‏:‏ والله كأني أرشف بأنيابها حب الرمان، فأصابها وجع سقط له فوها، فجفاها حتى شكته إلى عائشة، فقالت له عائشة‏:‏ يا عبد الرحمن، لقد أحببت ليلى فأفرطت، وأبغضتها فأفرطت، فإما أن تنصفها، وإما أن تجهزها إلى أهلها‏.‏

قال الزبيري‏:‏ وحدثني عبد الله بن نافع، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏.‏

إن عمر بن الخطاب نفل عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي حين فتح دمشق، وكانت ابنة ملك دمشق - يعني‏:‏ ابنة ملك العرب الذين حول دمشق - والله أعلم‏.‏

عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب

القرشي الهاشمي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أصغر من أخيه عبد الله بسنة، وأمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية‏.‏

وكان عبيد الله كريماً جميلاً وسيماً يشبه أباه في الجمال، روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصف عبد الله وعبيد الله وكثيراً صفاً ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من سبق إليّ فله كذا‏)‏‏)‏ فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/98‏)‏

وقد استنابه علي بن أبي طالب في أيام خلافته على اليمن‏.‏

وحج بالناس سنة ست وثلاثين وسنة سبع وثلاثين، فلما كان سنة ثمان وثلاثين اختلف هو ويزيد بن سمرة الرهاوي الذي قدم على الحج من جهة معاوية‏.‏

ثم اصطلحا على شيبة بن عثمان الحجبي، فأقام للناس الحج عامئذٍ، ثم لما صارت الشوكة لمعاوية تسلط على عبيد الله بسر بن أبي أرطأة فقتل له ولدين، وجرت أمور باليمن قد ذكرنا بعضها‏.‏

وكان يقدم هو وأخوه عبد الله المدينة فيوسعهم عبد الله علماً، ويوسعهم عبيد الله كرماً‏.‏

وقد روي أنه نزل في مسير له مع مولى له على خيمة رجل من الأعراب، فلما رآه الأعرابي أعظمه وأجله، ورأى حسنه وشكله، فقال لامرأته‏:‏ ويحك ماذا عندك لضيفنا هذا‏؟‏

فقالت‏:‏ ليس عندنا إلا هذه الشويهة التي حياة ابنتك من لبنها‏.‏

فقال‏:‏ إنه لا بد من ذبحها‏.‏

فقالت‏:‏ أتقتل ابنتك‏؟‏

فقال‏:‏ وإن فأخذ الشفرة والشاة وجعل يذبحها ويسلخها، وهو يقول مرتجزاً‏:‏

يا جارتي لا توقظي البنية * إن توقظيها تنتحب عليه

وتنتزع الشفرة من يديه

ثم هيأها طعاماً فوضعها بين يدي عبيد الله ومولاه فعشاهما، وكان عبيد الله قد سمع محاورته لامرأته في الشاة، فلما أراد الارتحال قال لمولاه‏:‏ ويلك ماذا معك من المال‏؟‏

فقال‏:‏ معي خمسمائة دينار فضلت من نفقتك‏.‏

فقال‏:‏ ادفعها إلى الأعرابي‏.‏

فقال‏:‏ سبحان الله ‏!‏ تعطيه خمسمائة دينار، وإنما ذبح لك شاة واحدة تساوي خمسة دراهم‏؟‏

فقال‏:‏ ويحك والله لهو أسخى منا وأجود، لأنا إنما أعطيناه بعض ما نملك، وجاد هو علينا بجميع ما يملك، وآثرنا على مهجة نفسه وولده‏.‏

فبلغ ذلك معاوية فقال‏:‏ لله در عبيد الله من أي بيضة خرج‏؟‏ ومن أي شيء درج‏.‏

قال خليفة بن خياط‏:‏ توفي سنة ثمان وخمسين‏.‏

وقال غيره‏:‏ توفي في أيام يزيد بن معاوية‏.‏

قال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ توفي في سنة سبع وثمانين، وكانت وفاته بالمدينة‏.‏

وقيل‏:‏ باليمن، وله حديث واحد‏.‏

قال أحمد‏:‏ ثنا هشيم، ثنا يحيى بن إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس قال‏:‏ جاءت العميصا - أو الرميصا - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها تزعم أنه لا يصل إليها‏.‏

فما كان إلا يسيراً حتى جاء زوجها، فزعم أنها كاذبة وأنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ليس لك ذلك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجه النسائي، عن علي بن حجرة، عن هشيم به وممن توفي فيها‏.‏

أم المؤمنين عائشة بنت أبو بكر الصديق

وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أزواجه إليه، المبرّأة من فوق سبع سموات رضي الله عنها، وعن أبيها‏.‏

وأمها‏:‏ هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، تكنى عائشة‏:‏ بأم عبد الله‏.‏

قيل‏:‏ كناها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أختها عبد الله بن الزبير‏.‏

وقيل‏:‏ إنها أسقطت من رسول الله سقطاً فسماه عبد الله، ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها‏.‏

تزوجها بمكة بعد وفاة خديجة، وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حريرة مرتين أو ثلاثاً فيقول‏:‏ هذه زوجتك‏.‏

قال‏:‏ فأكشف عنك فإذا هي أنت، فأقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن يكن هذا من عند الله يمضه‏)‏‏)‏ فخطبها من أبيها‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله أو تحل لك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم ‏!‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ أولست أخوك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى في الإسلام، وهي لي حلال‏)‏‏)‏، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحظيت عنده‏.‏

وقد قدمنا ذلك في أول السيرة، وكان ذلك قبل الهجرة بسنتين‏.‏

وقيل‏:‏ بسنة ونصف‏.‏

وقيل‏:‏ بثلاث سنين، وكان عمرها إذ ذاك ست سنين، ثم دخل بها وهي بنت تسع سنين بعد بدر، في شوال من سنة ثنتين من الهجرة فأحبها‏.‏

ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان، غار الله لها فأنزل لها براءتها في عشر آيات من القرآن تتلى على تعاقب الزمان‏.‏

وقد ذكرنا ذلك مفصلاً فيما سلف، وشرحنا الآيات والأحاديث الواردة في ذلك في غزوة المريسيع، وبسطنا ذلك أيضاً في كتاب التفسير بما فيه كفاية ومقنع، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها، واختلفوا في بقية أمهات المؤمنين، هل يكفر من قذفهن أم لا‏؟‏

على قولين، وأصحهما أنه يكفر، لأن المقذوفة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى إنما غضب لها لأنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي وغيرها منهن سواء‏.‏

ومن خصائصها‏:‏ رضي الله عنها أنها كان لها في القسم يومان يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مات في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا، وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن مصعب بن إسحاق بن طلحة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه ليهون عليّ أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة‏)‏‏)‏ تفرد به أحمد‏.‏

وهذا في غاية ما يكون من المحبة العظيمة أنه يرتاح لأنه رأى بياض كفها أمامه في الجنة‏.‏

ومن خصائصها‏:‏ أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أعلم النساء على الإطلاق‏.‏

قال الزهري‏:‏ لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل‏.‏

وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة‏.‏

وقال عروة‏:‏ ما رأيت أحداً أعلم بفقه، ولا طب، ولا شعر من عائشة‏.‏

ولم ترو امرأة ولا رجل غير أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث بقدر روايتها رضي الله عنها‏.‏

وقال أبو موسى الأشعري‏:‏ ما أشكل علينا أصحاب محمد حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً‏.‏

رواه الترمذي، وقال أبو الضحى‏:‏ عن مسروق رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/100‏)‏

فأما ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث‏:‏ ‏(‏‏(‏خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء‏)‏‏)‏ فإنه ليس له أصل ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال‏:‏ لا أصل له‏.‏

ثم لم يكن في النساء أعلم من تلميذاتها عمرة بنت عبد الرحمن، وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة‏.‏

وقد تفردت أم المؤمنين عائشة بمسائل عن الصحابة لم توجد إلا عندها، وانفردت باختيارات أيضاً، وردت أخبار بخلافها بنوع من التأويل‏.‏

وقد جمع ذلك غير واحد من الأئمة، فمن ذلك قال الشعبي‏:‏ كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال‏:‏ حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله المبرأة من فوق سبع سموات‏.‏

وثبت في ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ من حديث أبي عثمان النهدي عن عمرو بن العاص قال‏:‏

قلت‏:‏ يا رسول الله أي الناس أحب عليك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عائشة‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ومن الرجال‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبوها‏)‏‏)‏‏.‏

وفي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ أيضاً عن أبي موسى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏)‏‏)‏‏.‏

وقد استدل كثير من العلماء ممن ذهب إلى تفضيل عائشة على خديجة بهذا الحديث، قال‏:‏ فإنه دخل فيه سائر النساء الثلاث المذكورات وغيرهن‏.‏

ويعضد ذلك أيضاً الحديث الذي رواه البخاري، حدثنا إسماعيل بن خليل، ثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏‏(‏استأذنت هالة بنت خويلد - أخت خديجة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم هالة‏)‏‏)‏‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فغرت وقلت‏:‏ ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر الأول، قد أبدلك الله خيراً منها‏؟‏

هكذا رواه البخاري، فأما ما يروى فيه من الزيادة‏:‏ ‏(‏‏(‏والله ما أبدلني خيراً منها‏)‏‏)‏ فليس يصح سندها‏.‏

وقد ذكرنا ذلك مطولاً عند وفاة خديجة، وذكرنا حجة من ذهب إلى تفضيلها على عائشة بما أغنى عن إعادته ههنا‏.‏

وروى البخاري‏:‏ عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى‏.‏

وثبت في ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، فاجتمع أزواجه إلى أم سلمة وقلن لها‏:‏ قولي له يأمر الناس أن يهدوا له حيث كان‏.‏

فقالت أم سلمة‏:‏ فلما دخل عليّ قلت له ذلك فأعرض عني، ثم قلن لها ذلك فقالت له فأعرض عنها، ثم لما دار إليها قالت له، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليّ الوحي في بيت وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/101‏)‏

وذكر‏:‏ ‏(‏‏(‏أنهن بعثن فاطمة ابنته إليه فقالت‏:‏ إن نساءك ينشدونك العدل في ابنة أبي بكر بن أبي قحافة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا بنية ألا تحبين من أحب‏؟‏‏)‏‏)‏

قالت‏:‏ قلت‏:‏ بلى ‏!‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فأحبي هذه‏)‏‏)‏‏.‏

ثم بعثن زينب بنت جحش فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فتكلمت زينب ونالت من عائشة، فانتصرت عائشة منها وكلمتها حتى أفحمتها، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عائشة ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنها ابنة أبي بكر‏)‏‏)‏‏.‏

وذكرنا أن عماراً لما جاء يستصرخ الناس ويستفزهم إلى قتال طلحة والزبير أيام الجمل، صعد هو والحسن بن علي على منبر الكوفة، فسمع عمار رجلاً ينال من عائشة فقال له‏:‏ اسكت مقبوحاً منبوذاً، والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أو إياها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا معاوية بن عمر، ثنا زائدة، ثنا عبد الله بن خيثم، حدثني عبد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان - حاجب عائشة -‏:‏ أنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة فجئت - وعند رأسها عبد الله بن أخيها عبد الرحمن -

فقلت‏:‏ هذا ابن عباس يستأذن فأكب عليها ابن أخيها عبد الله فقال‏:‏ هذا عبد الله بن عباس يستأذن وهي تموت، فقالت‏:‏ دعني من ابن عباس‏.‏

فقال‏:‏ يا أماه ‏!‏‏!‏ إن ابن عباس من صالح بنيك يسلم عليك ويودعك‏.‏

فقالت‏:‏ ائذن له إن شئت‏.‏

قال‏:‏ فأدخلته، فلما جلس قال‏:‏ أبشري‏.‏

فقالت‏:‏ بماذا‏؟‏

فقال‏:‏ ما بينك وبين أن تلقي محمداً والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، وكنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً‏.‏

وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله آية التيمم، فكان ذلك في سببك، وما أنزل الله من الرخصة لهذه الأمة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار‏.‏

فقالت‏:‏ دعني منك يا ابن عباس، والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسياً منسياً‏.‏

والأحاديث في فضائلها ومناقبها كثيرة جداً‏.‏

وقد كانت وفاتها في هذا العام سنة ثمان وخمسين‏.‏

وقيل‏:‏ قبله بسنة‏.‏

وقيل‏:‏ بعده بسنة، والمشهور في رمضان منه‏.‏

وقيل‏:‏ في شوال، والأشهر ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان‏.‏

وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلاً، وصلى عليها أبو هريرة بعد صلاة الوتر، ونزل في قبرها خمسة، وهم عبد الله، وعروة ابنا الزبير بن العوام، من أختها أسماء بنت أبي بكر، والقاسم، وعبد الله ابنا أخيها محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏

وكان عمرها يومئذ سبعاً وستين سنة، لأنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرها ثمان عشرة سنة، وكان عمرها عام الهجرة ثمان سنين أو تسع سنين فالله أعلم، ورضي الله تعالى عن أبيها وعن الصحابة أجمعين‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/102‏)‏

 ثم دخلت سنة تسع وخمسين

فيها‏:‏ شتى عمرو بن مرة الجهني في أرض الروم في البر، قاله الواقدي‏:‏ ولم يكن فيها غزو في البحر، وقال غيره‏:‏ بل غزا في البحر عامئذ جنادة بن أبي أمية‏.‏

وفيها‏:‏ عزل معاوية ابن أم الحكم عن الكوفة لسوء سيرته فيهم، وولى عليهم النعمان بن بشير‏.‏

وفيها‏:‏ ولي معاوية عبد الرحمن بن زياد ولاية خراسان وعزل عنها سعيد بن عثمان بن عفان، فصار عبيد الله على البصرة، وأخوه عبد الرحمن هذا على خراسان، وعباد بن زياد على سجستان، ولم يزل عبد الرحمن عليها والياً إلى زمن يزيد، فقدم عليه بعد مقتل الحسين فقال له‏:‏ كم قدمت به من هذا المال‏؟‏

قال‏:‏ عشرون ألف ألف‏.‏

فقال له‏:‏ إن شئت حاسبناك، وإن شئت سوغناكها وعزلناك عنها، على أن تعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم‏.‏

قال‏:‏ بل سوغها‏.‏

وأما عبد الله بن جعفر فأعطيه ما قلت ومثلها معها، فعزله وولى غيره‏.‏

وبعث عبد الرحمن بن زياد إلى عبد الله بن جعفر بألف ألف درهم، وقال‏:‏ خمسمائة ألف من جهة أمير المؤمنين، وخمسمائة ألف من قبلي‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ وفد عبيد الله بن زياد على معاوية ومعه أشراف أهل البصرة والعراق، فاستأذن لهم عبد الله عليه على منازلهم منه، وكان آخر من أدخله على معاوية الأحنف بن قيس، - ولم يكن عبيد الله يجله -

فلما رأى معاوية الأحنف رحّب به وعظمه وأجله وأجلسه معه على السرير، ورفع منزلته، ثم تكلم القوم فأثنوا على عبيد الله والأحنف ساكت‏.‏

فقال له معاوية‏:‏ مالك يا أبا بحر لا تتكلم‏؟‏

فقال له‏:‏ إن تكلمت خالفت القوم‏.‏

فقال معاوية‏:‏ انهضوا فقد عزلته عنكم فاطلبوا والياً ترضونه، فمكثوا أياماً يترددون إلى أشراف بني أمية، يسألون كل واحد أن يتولى عليهم فلم يقبل أحد منهم ذلك، ثم جمعهم معاوية فقال‏:‏ من اخترتم‏؟‏

فاختلفوا عليه، والأحنف ساكت‏.‏

فقال له معاوية‏:‏ مالك لا تتكلم‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن كنت تريد غير أهل بيتك فرأيك‏.‏

فقال معاوية‏:‏ قد أعدته إليكم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ قال الأحنف‏:‏ يا أمير المؤمنين إن وليت علينا من أهل بيتك فإنا لا نعدل بعبيد الله بن زياد أحداً، وإن وليت علينا من غيرهم فانظر لنا في ذلك‏.‏

فقال معاوية‏:‏ قد أعدته إليكم‏.‏

ثم إن معاوية أوصى عبيد الله بن زياد بالأحنف خيراً، وقبح رأيه فيه وفي مباعدته، فكان الأحنف بعد ذلك أخص أصحاب عبيد الله، ولما وقعت الفتنة لم يفِ لعبيد الله غير الأحنف بن قيس والله أعلم‏.‏