فصل: سنة إحدى وأربعين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 سنة إحدى وأربعين

قال ابن جرير‏:‏ فيها سلم الحسن بن علي الأمر لمعاوية بن أبي سفيان‏.‏

ثم روى عن الزهري أنه قال‏:‏ لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط عليهم أنهم سامعون مطيعون مسالمون من سالمت، محاربون من حاربت فارتاب به أهل العراق وقالوا‏:‏ ما هذا لكم بصاحب‏؟‏

فما كان عن قريب حتى طعنوه فأشووه فازداد لهم بغضاً وازداد منهم ذعراً، فعند ذلك عرف تفرقهم واختلافهم عليه وكتب إلى معاوية يسالمه ويراسله في الصلح بينه وبينه على ما يختاران‏.‏

وقال البخاري في كتاب ‏(‏الصلح‏)‏‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا سفيان، عن أبي موسى‏.‏

قال‏:‏ سمعت الحسن يقول‏:‏ استقبل والله الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص‏:‏ إني لأرى كتائب لا تُولِّي حتى تقتل أقرانها‏.‏

فقال معاوية‏:‏ - وكان والله خير الرجلين -‏:‏ إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس‏؟‏ من لي بضعفتهم‏؟‏ من لي ينسائهم، فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس- عبد الرحمن بن سَمُرة، وعبد الله بن عامر - قال‏:‏ اذهبا إلى هذا الرجل فأعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له وطلبا إليه‏.‏

فقال لهما الحسن بن علي‏:‏ إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا‏:‏ فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسالمك‏.‏

قال‏:‏ فمن لي بهذا‏؟‏

قالا‏:‏ نحن لك به، فما سألهما شيئاً إلا قالا‏:‏ نحن لك به، فصالحه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8 /19‏)‏

قال الحسن‏:‏ ولقد سمعت أبا بكرة يقول‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يُقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال البخاري‏:‏

قال لي علي بن المديني‏:‏ إنما ثبت عندنا سماع الحسن بن أبي بكرة بهذا الحديث‏.‏

قلت‏:‏ وقد روى هذا الحديث البخاري في كتاب ‏(‏الفتن‏)‏ عن علي بن عبد الله - وهو ابن المديني - وفي فضائل الحسن عن صدقة بن الفضل ثلاثتهم عن سفيان‏.‏

ورواه أحمد عن سفيان - وهو ابن عيينة - عن إسرائيل بن موسى البصري به‏.‏

ورواه أيضاً في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ عن عبد الله بن محمد - وهو ابن أبي شيبة - ويحيى بن آدم كلاهما عن حسين بن علي الجعفي عن إسرائيل، عن الحسن وهو البصري به‏.‏

وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث حماد بن زيد، عن على بن زيد، عن الحسن البصري به‏.‏

ورواه أبو داود أيضاً، والترمذي، من طريق أشعث، عن الحسن به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقد رواه النسائي من طريق عوف الأعرابي وغيره، عن الحسن البصري مرسلاً‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق أنا معمر أخبرني من سمع الحسن يحدث عن أبي بكرة قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا يوماً والحسن بن علي في حجره فيقبل على أصحابه فيحدثهم ثم يقبل على الحسن فيقبله ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن ابني هذا سيد إن يعش يصلح بين طائفتين من المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال الحافظ ابن عساكر‏:‏ كذا رواه معمر ولم يسم الذي حدثه به عن الحسن‏.‏

وقد رواه جماعة عن الحسن منهم‏:‏ أبو موسى إسرائيل، ويونس بن عبيد، ومنصور بن زاذان، و علي بن زيد، وهشام بن حسان، وأشعث بن سوار، والمبارك بن فضالة، وعمرو بن عبيد القدري‏.‏

ثم شرع ابن عساكر في تطريق هذه الروايات كلها فأفاد وأجاد قلت‏:‏ والظاهر أن معمراً رواه عن عمرو بن عبيد، فلم يفصح باسمه‏.‏

وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار عنه وسماه‏.‏

ورواه أحمد بن هاشم، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن بن أبي بكرة فذكر الحديث قال الحسن‏:‏ فوالله والله بعد أن يولى لم يهراق في خلافته ملء محجمة بدم‏.‏

قال شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه‏:‏ وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أم سلمة‏.‏‏(‏ج/ص‏:‏ 8/20‏)‏

وقد روي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن‏:‏ ‏(‏‏(‏إن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه عبد الرحمن بن معمر، عن الأعمش به‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ ثنا أبو بكرة، ثنا زيد بن الحباب، ثنا محمد بن صالح التمار المدني، ثنا محمد بن مسلم بن أبي مريم، عن سعيد بن أبي سعيد المدني قال‏:‏ كنا مع أبي هريرة إذ جاء الحسن بن علي قد سلم علينا قال‏:‏ فتبعه فلحقه وقال‏:‏ وعليك السلام يا سيدي‏.‏

وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه سيد‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو الحسن علي بن المديني‏:‏ كان تسليم الحسن الأمر لمعاوية في الخامس من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين‏.‏

وقال غيره‏:‏ في ربيع الآخر‏.‏

ويقال في غرة جمادى الأولى فالله أعلم‏.‏

قال‏:‏ وحينئذ دخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها بعد البيعة‏.‏

وذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص أشار على معاوية أن يأمر الحسن بن علي أن يخطب الناس ويعلمهم بنزوله عن الأمر لمعاوية، فأمر معاوية الحسن فقام في الناس خطيباً‏.‏

فقال في خطبته‏:‏ بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما بعد أيها الناس‏!‏

فإن الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 111‏]‏، فلما قالها غضب معاوية وأمره بالجلوس، وعتب على عمرو بن العاص في إشارته بذلك، ولم يزل في نفسه لذلك والله أعلم‏.‏

فأما الحديث الذي قال أبو عيسى الترمذي في جامعه‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا القاسم بن الفضل الحداني، عن يوسف بن سعدٍ قال‏:‏ قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال‏:‏ سودت وجوه المؤمنين - أو يا مسود وجوه المؤمنين - فقال‏:‏ لا تؤنبني رحمك الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أُري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت ‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏1‏]‏ يا محمد - يعني نهراً في الجنة - ونزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 1-3‏]‏ يملكها بعدك بنو أمية يا محمد‏.‏

قال الفضل‏:‏ فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل وهو ثقة وثقة يحيى القطان، وابن مهدي، قال‏:‏ وشيخه يوسف بن سعد، ويقال‏:‏ يوسف بن ماذن - رجل مجهول - قال‏:‏ ولا يعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه، فإنه حديث غريب، بل منكر جداً‏.‏

وقد تكلمنا عليه في كتاب التفسير بما فيه كفاية وبينا وجه نكارته، وناقشنا القاسم بن الفضل فيما ذكره، فمن أراد ذلك فليراجع التفسير والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/21‏)‏

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي‏:‏ ثنا إبراهيم بن مخلد بن جعفر، ثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكمي، ثنا عباس بن محمد، ثنا أسود بن عامر، ثنا زهير بن معاوية، ثنا أبو روق الهمداني، ثنا أبو العريف قال‏:‏

كنا في مقدمة الحسن بن علي اثنا عشر ألفاً بمسكن، مستميتين من الجد على قتال أهل الشام، وعلينا أبو الغمر طه فلما جاءنا بصلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ‏.‏

فلما قدم الحسن بن علي الكوفة قال له رجل منا يقال له أبو عامر سعيد بن النتل‏:‏ السلام عليك يا مذل المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ لا تقل هذا يا عامر‏!‏ لست بمذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك‏.‏

ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق، ورجع إليه قيس بن سعد أحد دهاة العرب - وقد كان عزم على الشقاق - وحصل على بيعة معاوية عامئذٍ الإجماع والاتفاق‏.‏

ترحل الحسن بن علي ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم وابن عمهم عبد الله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام‏.‏

وجعل كلما مر بحّيٍ من شيعتهم يبكتونه على ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية، وهو في ذلك هو البار الراشد الممدوح، وليس يجد في صدره حرجاً ولا تلوماً ولا ندماً، بل هو راضٍ بذلك مستبشر به، وإن كان قد ساء هذا خلقاً من ذويه وأهله وشيعتهم، ولا سيما بعد ذلك بمدد وهلم جرّا إلى يومنا هذا‏.‏

والحق في ذلك اتباع السنة ومدحه فيما حقن به دماء الأمة، كما مدحه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الحديث الصحيح ولله الحمد والمنة‏.‏

وسيأتي فضائل الحسن عند ذكر وفاته رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنات الفردوس متقلبه ومثواه، وقد فعل‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنا أبو نعيم، ثنا شريك، عن عاصم، عن أبي رزين‏.‏

قال‏:‏ خطبنا الحسن بن علي يوم الجمعة فقرأ سورة إبراهيم على المنبر حتى ختمها‏.‏

وروى ابن عساكر عن الحسن‏:‏ أنه كان يقرأ كل ليلة سورة الكهف في لوح مكتوب يدور معه حيث دار من بيوت أزواجه قبل أن ينام وهو في الفراش رضي الله عنه‏.‏

 معاوية بن أبي سفيان وملكه

قد تقدم في الحديث أن الخلافة بعده عليه السلام ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً، وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي؛ فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الإسلام وخيارهم‏.‏‏(‏ج/ص‏:‏ 8/22‏)‏

قال الطبراني‏:‏ حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أحمد بن يونس، ثنا الفضل بن عياض، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني، عن معاذ بن جبل، وأبي عبيدة قالوا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذا الأمر بدا رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكاً عضوضاً، ثم كائن عتواً وجبرية وفساداً في الأرض، يستحلون الحرير، والفروج، والخمور، ويرزقون على ذلك وينصرون حتى يلقوا الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏ إسناده جيد‏.‏

وقد ذكرنا في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ الحديث الوارد من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر وفيه ضعف عن عبد الملك بن عمير قال‏:‏ قال معاوية‏:‏ والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معاوية إن ملكت فأحسن‏)‏‏)‏‏.‏

رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن العباس بن محمد، عن محمد بن سابق، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن إسماعيل ثم قال البيهقي‏:‏ وله شواهد من وجوه أخر‏.‏

منها‏:‏ حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، عن جده سعيد أن معاوية أخذ الإداوة فتبع رسول الله فنظر إليه فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معاوية إن وليت أمراً فاتق الله واعدل‏)‏‏)‏‏.‏ قال معاوية‏:‏ فما زلت أظن أني مبتلىً بعمل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنها‏:‏ حديث راشد بن سعد، عن معاوية قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو الدرداء‏:‏ كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفعه الله بها‏.‏

ثم روى البيهقي من طريق هشيم، عن العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أبيه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الخلافة بالمدينة، والملك بالشام‏)‏‏)‏، غريب جداً‏.‏

وروي من طريق أبي إدريس، عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بينا أنا نائم رأيت الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري فعُمد به إلى الشام، وإن الإيمان حين تقع الفتنة بالشام‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن يونس بن ميسرة، عن عبد الله بن عمرو‏.‏

ورواه الوليد بن مسلم، عن عفير بن معدان، عن سليمان، عن عامر، عن أبي أمامة‏.‏

وروى يعقوب بن سفيان، عن نصر بن محمد بن سليمان السلمي الحمصي، عن أبيه، عن عبد الله بن قيس، سمعت عمر بن الخطاب يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت عموداً من نور خرج من تحت رأسي ساطعاً حتى استقر بالشام‏)‏‏)‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ عن معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن صفوان قال‏:‏ قال رجل يوم صفين‏:‏ اللهم العن أهل الشام، فقال له علي‏:‏ لا تسب أهل الشام فإن بها الأبدال فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال‏.‏

وقد روى هذا الحديث من وجه آخر مرفوعاً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/ 23‏)‏

 فضل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

هو‏:‏ معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي أبو عبد الرحمن القرشي الأموي، خال أمير المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين، أسلم هو وأبوه وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يوم الفتح‏.‏

وقد رُوي عن معاوية أنه قال‏:‏ أسلمت يوم عمرة القضاء ولكني كتمت إسلامي من أبي إلى يوم الفتح، وقد كان أبوه من سادات قريش في الجاهلية، وآلت إليه رياسة قريش بعد يوم بدر، فكان هو أمير الحروب من ذلك الجانب، وكان رئيساً مطاعاً ذا مالٍ جزيل، ولما أسلم قال‏:‏ يا رسول الله مرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏، قال‏:‏ ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم سأل أن يزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته، وهي عزة بنت أبي سفيان واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة، فلم يقع ذلك، وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يحل له‏.‏

وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير موضع، وأفردنا له مصنفاً على حدة ولله الحمد والمنة‏.‏

والمقصود أن معاوية كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيره من كتّاب الوحي رضي الله عنهم‏.‏

ولما فتحت الشام ولاه عمر نيابة دمشق بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان، وأقره على ذلك عثمان بن عفان وزاده بلاداً أخرى، وهو الذي بنى القبة الخضراء بدمشق وسكنها أربعين سنة، قاله الحافظ ابن عساكر‏.‏

ولما ولي علي بن أبي طالب الخلافة أشار عليه كثير من أمرائه ممن باشر قتل عثمان أن يعزل معاوية عن الشام ويولي عليها سهل بن حُنيف فعزله فلم ينتظم عزله والتف عليه جماعة من أهل الشام ومانع علياً عنها وقد قال‏:‏ لا أبايعه حتى يسلمني قتلة عثمان فإنه قتل مظلوماً، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وروى الطبراني عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ما زلت موقناً أن معاوية يلي الملك من هذه الآية‏.‏

أوردنا سنده ومتنه عند تفسير هذه الآية‏.‏

فلما امتنع معاوية من البيعة لعلي حتى يسلمه القتلة، كان من صفين ما قدمنا ذكره، ثم آل الأمر إلى التحكيم، فكان من أمر عمرو بن العاص وأبى موسى ما أسلفناه من قوة جانب أهل الشام في الصعدة الظاهرة‏.‏

واستفحل أمر معاوية، ولم يزل أمر علي في اختلاف مع أصحابه حتى قتله ابن ملجم كما تقدم، فعند ذلك بايع أهل العراق الحسن بن علي، وبايع أهل الشام لمعاوية بن أبي سفيان‏.‏

ثم ركب الحسن في جنود العراق عن غير إرادة منه، وركب معاوية في أهل الشام‏.‏

فلما تواجه الجيشان وتقابل الفريقان سعى الناس بينهما في الصلح فانتهى الحال إلى أن خلع الحسن نفسه من الخلافة وسلم الملك إلى معاوية بن أبي سفيان‏.‏

وكان ذلك في ربيع الأول من هذه السنة - أعني سنة إحدى وأربعين - ودخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها خطبة بليغة بعد ما بايعه الناس - واستوثقت له الممالك شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، وَسَمي هذا العام‏:‏ عام الجامعة لاجتماع الكلمة فيه على أمير واحد بعد الفرقة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8 /24‏)‏

فولى معاوية قضاء الشام لفضالة بن عبيد، ثم بعده لأبي إدريس الخولاني‏.‏

وكان على شرطته قيس بن حمزة، وكان كاتبه وصاحب أمره سرحون بن منصور الرومي، ويقال إنه أول من اتخذ الحرس وأول من حزم الكتب وختمها، وكان أول الأحداث في دولته رضي الله عنه‏.‏

 خروج طائفة من الخوارج عليه

وكان سبب ذلك أن معاوية لما دخل الكوفة وخرج الحسن وأهله منها قاصدين إلى الحجاز، قالت فرقة من الخوارج - نحو من خمسمائة -‏:‏ جاء ما لا يشك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه، فساروا حتى قربوا من الكوفة وعليهم فروه بن نوفل، فبعث إليهم معاوية خيلاً من أهل الشام فطردوا الشاميين، فقال معاوية‏:‏ لا أمان لكم عندي حتى تكفوا بوائقكم‏.‏

فخرجوا إلى الخوارج فقالت لهم الخوارج‏:‏ ويلكم ما تبغون‏؟‏ أليس معاوية عدوكم وعدونا‏؟‏ فدعونا حتى نقاتله فإن أصبناه كنا قد كفيناكموه، وإن أُصبنا كنتم قد كفيتمونا‏.‏

فقالوا‏:‏ لا والله حتى نقاتلكم‏.‏

فقالت الخوارج‏:‏ يرحم الله إخواننا من أهل النهروان كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، فاقتتلوا فهزمهم أهل الكوفة وطردوهم‏.‏

ثم إن معاوية أراد أن يستخلف على الكوفة عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال له المغيرة بن شعبة‏:‏ توليه الكوفة وأباه مصر وتبقى أنت بين لحيي الأسد‏؟‏ فثناه عن ذلك وولى عليها المغيرة بن شعبة، فاجتمع عمرو بن العاص بمعاوية فقال‏:‏ أتجعل المغيرة على الخراج‏؟‏

هلا وليت الخراج رجلاً آخر‏؟‏

فعزله عن الخراج وولاه على الصلاة، فقال المغيرة لعمرو في ذلك، فقال له‏:‏ ألست المشير على أمير المؤمنين في عبد الله بن عمرو‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏!‏

قال‏:‏ فهذه بتلك‏.‏

وفي هذه السنة وثب حمران بن أبان على البصرة فأخذها وتغلب عليها، فبعث معاوية جيشاً ليقتلوه ومن معه، فجاء أبو بكرة الثقفي إلى معاوية فسأله في الصفح والعفو، فعفى عنهم وأطلقهم وولى على البصرة بسر بن أبي أرطاة‏.‏

فتسلط على أولاد زياد يريد قتلهم، وذلك أن معاوية كتب إلى أبيهم ليحضر إليه فلبث، فكتب إليه بسر‏:‏ لئن لم تسرع إلى أمير المؤمنين وإلا قتلت بنيك، فبعث أبو بكرة إلى معاوية في ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/ 25‏)‏

وقد قال معاوية لأبي بكرة‏:‏ هل من عهد تعهده إلينا‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏

أعهد إليك يا أمير المؤمنين أن تنظر لنفسك ورعيتك وتعمل صالحاً فإنك قد تقلدت عظيماً، خلافة الله في خلقه، فاتق الله فإن لك غاية لا تعدوها، ومن ورائك طالب حثيث وأوشك أن يبلغ المدى فيلحق الطالب، فتصير إلى من يسألك عما كنت فيه، وهو أعلم به منك، وإنما هي محاسبة وتوقيف، فلا تؤثرن على رضا الله شيئاً‏.‏

ثم ولى معاوية في آخر هذه السنة البصرة لعبد الله بن عامر، وذلك أن معاوية أراد أن يوليها لعتبة بن أبي سفيان فقال له ابن عامر‏:‏ إن لي بها أموالاً وودائع، وإن تولينها هلكتُ، فولاه إياها وأجابه إلى سؤاله في ذلك‏.‏

قال أبو معشر‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ إنما حج بهم عنبسة بن أبي سفيان فالله أعلم‏.‏

 من أعيان من توفي هذا العام

 رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان شهد العقبة وبدراً وما بعد ذلك‏.‏

 ركانة بن عبد العزيز

ابن هشام بن عبد المطلب القرشي، وهو الذي صارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه، وكان هذا من أشد الرجال، وكان غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم له من المعجزات كما قدمنا في ‏(‏‏(‏دلائل النبوة‏)‏‏)‏، أسلم عام الفتح، وقيل‏:‏ قبل ذلك بمكة فالله أعلم‏.‏

 صفوان بن أمية

ابن خلف بن وهب بن حدافة بن وهب القرشي، أحد الرؤساء تقدم أنه هرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، ثم جاء فأسلم وحسن إسلامه، وكان الذي استأمن له عمير بن وهب الجمحي‏.‏

وكان صاحبه وصديقه في الجاهلية كما تقدم، وقدم به في وقت صلاة العصر فاستأمن له فأمّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر، واستعار منه أدرعاً وسلاحاً ومالاً‏.‏

وحضر صفوان حنيناً مشركاً، ثم أسلم ودخل الإيمان قلبه، فكان من سادات المسلمين كما كان من سادات الجاهلية‏.‏

قال الواقدي‏:‏ ثم لم يزل مقيماً بمكة حتى توفي بها في أول خلافة معاوية‏.‏

 عثمان بن طلحة

ابن أبي طلحة بن عبد العزى بن عبد الدار العبدري الحجبي، أسلم هو وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص في أول سنة ثمان قبل الفتح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8 /26‏)‏

وقد روى الواقدي حديثاً طويلاً عنه في صفة إسلامه، وهو الذي أخذ منه رسول الله مفتاح الكعبة عام الفتح ثم رده إليه وهو يتلو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏‏.‏

وقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏خذها يا عثمان خالدة تالدة لا ينتزعها منكم إلا ظالم‏)‏‏)‏‏.‏

وكان علي قد طلبها فمنعه من ذلك‏.‏

قال الواقدي‏:‏ نزل المدينة حياة رسول الله، فلما مات نزل بمكة فلم يزل بها حتى مات في أول خلافة معاوية‏.‏

 عمرو بن الأسود السكوني

كان من العباد الزهاد، وكانت له حلة بمائتي درهم يلبسها إذا قام إلى الصلاة الليل، وكان إذا خرج إلى المسجد وضع يمينه على شماله مخافة الخيلاء، روى عن معاذ، وعبادة بن الصامت، والعرباض بن سارية وغيرهم‏.‏

وقال أحمد في الزهد‏:‏ ثنا أبو اليمان، ثنا ابن بكر عن حكيم بن عمير، وضمرة بن حبيب، قالا‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ من سره أن ينظر إلى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدى عمرو بن الأسود‏.‏

 عاتكة بنت زيد

ابن عمرو بن نفيل بن عبد العزى، وهي‏:‏ أخت سعيد بن زيد أحد العشرة، أسلمت وهاجرت وكانت من حسان النساء وعبادهن، تزوجها عبيد الله بن أبي بكر فتتيم بها‏.‏

فلما قتل في غزوة الطائف آلت أن لا تزوج بعده، فبعث إليها عمر بن الخطاب - وهو ابن عمها - فتزوجها، فلما قتل عنها خلف بعده عليها الزبير بن العوام، فقتل بوادي السباع، فبعث إليها علي بن أبي طالب يخطبها فقالت‏:‏ إني أخشى عليك أن تقتل، فأبت أن تتزوجه ولو تزوجته لقتل عنها أيضاً، فإنها لم تزل حتى ماتت في أول خلافة معاوية في هذه السنة رحمها الله‏.‏

 سنة ثنتين وأربعين

فيها‏:‏ غزا المسلمون اللان والروم فقتلوا من أمرائهم وبطارقتهم خلقاً كثيراً، وغنموا وسلموا‏.‏

وفيها‏:‏ ولي معاوية مروان بن الحكم نيابة المدينة‏.‏

وعلى مكة‏:‏ خالد بن العاص بن هشام‏.‏

وعلى الكوفة‏:‏ المغيرة بن شعبة‏.‏

وعلى قضائها‏:‏ شريح القاضي‏.‏

وعلى البصرة‏:‏ عبد الله بن عامر‏.‏

وعلى خراسان‏:‏ قيس بن الهيثم من قبل عبد الله بن عامر‏.‏

وفى هذه السنة تحركت الخوارج الذين كانوا قد عفى عنهم علي يوم النهروان، وقد عوفي جرحاهم وثابت إليهم قواهم، فلما بلغهم مقتل علي ترحموا على قاتله ابن ملجم وقال قائلهم‏:‏ لا يقطع الله يداً علت قذال علي بالسيف، وجعلوا يحمدون الله على قتل علي، ثم عزموا على الخروج على الناس وتوافقوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يزعمون‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/ 27‏)‏

وفي هذه السنة قدم زياد بن أبيه على معاوية - وكان قد امتنع عليه قريباً من سنة في قلعة عرفت به يقال لها‏:‏ قلعة زياد - فكتب إليه معاوية‏:‏ ما يحملك على أن تهلك نفسك‏؟‏

أقدم عليَّ فأخبرني بما صار إليك من أموال فارس وما صرفت منها وما بقي عندك، فائتني به وأنت آمن، فإن شئت أن تقيم عندنا فعلت وإلا ذهبت حيث ما شئت من الأرض فأنت آمن‏.‏

فعند ذلك أزمع زياد السير إلى معاوية، فبلغ المغيرة قدومه فخشي أن يجتمع بمعاوية قبله، فسار نحو دمشق إلى معاوية فسبقه زياد إلى معاوية بشهر فقال معاوية للمغيرة‏:‏ ما هذا وهو أبعد منك وأنت جئت بعده بشهر‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه ينتظر الزيادة وأنا أنتظر النقصان، فأكرم معاوية زياداً وقبض ما كان معه من الأموال وصدقه فيما صرفه‏.‏

 سنة ثلاث وأربعين

فيها‏:‏ غزا بسر بن أبي أرطاة بلاد الروم فتوغل فيها حتى بلغ مدينة قسطنطينية، وشتى ببلادهم فيما زعمه الواقدي، وأنكر غيره ذلك وقالوا‏:‏ لم يكن بها مشتى لأحد قط، فالله أعلم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏

وفيها‏:‏ مات عمرو بن العاص بمصر، ومحمد بن مسلمة، قلت‏:‏ وسنذكر ترجمة كل منهما في آخرها، فولي معاوية بعد عمرو بن العاص على ديار مصر ولده عبد الله بن عمرو‏.‏

قال الواقدي‏:‏ فعمل له عليها سنتين‏.‏

وقد كانت في هذه السنة - أعني سنة ثلاث وأربعين -وقعة عظيمة بين الخوارج وجند الكوفة، وذلك أنهم صمموا -كما قدمنا - على الخروج على الناس في هذا الحين‏.‏

فاجتمعوا في قريب من ثلثمائة عليهم المستورد بن علقمة، فجهز عليهم المغيرة بن شعبة جنداً عليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، فصار إليهم وقدم بين يديه أبا الرواع في طليعة هي ثلثمائة على عدة الخوارج، فلقيهم أبو الرواع بمكان يقال له‏:‏ المذار فاقتتلوا معهم فهزمهم الخوارج‏.‏

ثم كروا عليهم فهزمتهم الخوارج، ولكن لم يقتل أحد منهم، فلزموا مكانهم في مقاتلتهم ينتظرون قدوم أمير الجيش معقل بن قيس عليهم‏.‏

فما قدم عليهم إلا في آخر نهار غربت فيه الشمس، فنزل وصلى بأصحابه، ثم شرع في مدح أبي الرواع فقال له‏:‏ أيها الأمير إن لهم شدات منكرة، فكن أنت ردأ الناس، ومر الفرسان فليقاتلوا بين يديك‏.‏

فقال معقل بن قيس‏:‏ نعم ما رأيت، فما كان إلا ريثما قال له ذلك حتى حملت الخوارج على معقل وأصحابه، فانجفل عنه عامة أصحابه، فترجل عند ذلك معقل بن قيس وقال‏:‏ يا معشر المسلمين الأرض الأرض، فترجل معه جماعة من الفرسان والشجعان قريب من مائتي فارس، منهم أبو الرواع الشاكري‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/28‏)‏

فحمل عليهم المستورد بن علقمة بأصحابه فاستقبلوهم بالرماح والسيوف، ولحق بقية الجيش بعض الفرسان فدمرهم وعيرهم وأنبهم على الفرار فرجع الناس إلى معقل وهو يقاتل الخوارج بمن معه من الأنصار قتالاً شديداً، والناس يتراجعون في أثناء الليل‏.‏

فصفهم معقل بن قيس ميمنة وميسرة ورتبهم وقال‏:‏ لا تبرحوا على مصافكم حتى نصبح فنحمل عليهم، فما أصبحوا حتى هزمت الخوارج فرجعوا من حيث أتوا‏.‏

فسار معقل في طلبهم وقدم بين يديه أبا الرواع في ستمائة فالتقوا بهم عند طلوع الشمس فثار إليهم الخوارج فتبارزوا ساعة، ثم حملوا حملة رجل واحد فصبر لهم أبو الرواع بمن معه، وجعل يدمرهم ويعيرهم ويؤنبهم على الفرار ويحثهم على الصبر فصبروا وصدقوا في الثبات حتى ردوا الخوارج إلى أماكنهم‏.‏

فلما رأت الخوارج ذلك خافوا من هجوم معقل عليهم فما يكون دون قتلهم شيء، فهربوا بين أيديهم حتى قطعوا دجلة في أرض نهر شير، وتبعهم أبو الرواع، ولحقه معقل بن قيس‏.‏

ووصلت الخوارج إلى المدينة العتيقة فركب إليهم شريك بن عبيد - نائب المدائن - ولحقهم أبو الرواع بمن معه من المقدمة‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم نائب المدينة‏.‏

وممن توفي بها‏:‏ عمرو بن العاص، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما‏.‏

أما عمرو بن العاص‏:‏ فهو عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي السهمي، أبو عبد الله، ويقال‏:‏ أبو محمد، أحد رؤساء قريش في الجاهلية، وهو الذي أرسلوه إلى النجاشي ليرد عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده فلم يجبهم إلى ذلك لعدله، ووعظ عمرو بن العاص في ذلك‏.‏

فيقال‏:‏ إنه أسلم على يديه والصحيح أنه إنما أسلم قبل الفتح بستة أشهر هو وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة العبدري‏.‏

وكان أحد أمراء الإسلام، وهو أمير ذات السلاسل، وأمده رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدد عليهم أبو عبيدة، ومعه الصديق، وعمر الفاروق، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمان، فلم يزل عليها مدة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره عليها الصديق‏.‏

وقد قال الترمذي‏:‏ ثنا قتيبة، ثنا ابن لهيعة، ثنا مشرح بن عاهان، عن عقبة بن عامر قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/29‏)‏

وقال أيضاً‏:‏ ثنا إسحاق بن منصور، ثنا أبو أسامة، عن نافع، عن عمر الجمحي، عن ابن أبي ملكية، قال‏:‏ قال طلحة بن عبيد الله‏:‏

سمعت رسول الله يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن عمرو بن العاص من صالحي قريش‏)‏‏)‏‏.‏

وفى الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏‏(‏ابنا العاص مؤمنان‏)‏‏)‏‏.‏

وفى الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏‏(‏نِعم أهل البيت عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله‏)‏‏)‏‏.‏

رووه في فضائل عمرو بن العاص، ثم إن الصديق بعثه في جملة من بعث من أمراء الجيش إلى الشام فكان ممن شهد تلك الحروب، وكانت له الآراء السديدة، والمواقف الحميدة، والأحوال السعيدة‏.‏

ثم بعثه عمر إلى مصر فافتتحها واستنابه عليها وأقره فيها عثمان بن عفان أربع سنين، ثم عزله كما قدمنا، وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاعتزل عمرو بفلسطين وبقي في نفسه من عثمان رضي الله عنهما‏.‏

فلما قتل سار إلى معاوية فشهد مواقفه كلها بصفين وغيرها، وكان هو أحد الحكمين‏.‏

ثم لما أن استرجع معاوية مصر وانتزعها من يد محمد بن أبي بكر، استعمل عمرو بن العاص عليها، فلم يزل نائبها إلى أن مات في هذه السنة على المشهور‏.‏

وقيل‏:‏ إنه توفي سنة سبع وأربعين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة ثمان وأربعين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة إحدى وخمسين رحمه الله‏.‏

وقد كان معدوداً من دهاة العرب وشجعانهم، وذوي آرائهم وله أمثال حسنة، وأشعار جيدة‏.‏

وقد روي عنه أنه قال‏:‏ حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل، ومن شعره‏:‏

إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه * ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمما

قضى وطراً منه وغادر سبة * إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا على بن إسحاق، ثنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن عبد الرحمن بن شماسة حدثه قال‏:‏ لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى فقال له ابنه عبد الله‏:‏ لم تبكي‏؟‏ أجزعاً على الموت

فقال‏:‏ لا والله ولكن مما بعد الموت‏.‏

فقال له‏:‏ قد كنت على خير، فجعل يذكره صحبة رسول الله وفتوحه الشام‏.‏

فقال عمرو‏:‏ تركت أفضل من ذلك كله شهادة أن لا إله إلا الله، إني كنت على ثلاثة أطباق ليس فيها طبق إلا عرفت نفسي فيه، كنت أول قريش كافراً، وكنت أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلومت حينئذ وجبت لي النار‏.‏

فلما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أشد الناس حياء منه، فما ملأت عيني من رسول الله ولا راجعته فيما أريد حتى لحق بالله حياء، فلو مت يومئذ قال الناس‏:‏ هنيئا لعمرو أسلم، وكان على خير فمات عليه نرجو له الجنة‏.‏

ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء فلا أدرى علي أم لي، فإذا مت فلا تبكين عليَّ باكية، ولا يتبعني مادح، ولا نار، وشدوا علي إزاري فأني مخاصم، وشنوا عليَّ التراب شناً، فإن جنبي الأيمن ليس أحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلن في قبري خشبة ولا حجراً، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جزور أستأنس بكم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/30‏)‏

وقد روى مسلم هذا الحديث في صحيحه من حديث يزيد بن أبي حبيب بإسناده نحوه وفيه زيادات على هذا السياق‏.‏

فمنها‏:‏ قوله‏:‏ كي أستأنس بكم لأنظر ماذا أراجع رسل ربي عز وجل‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنه بعد هذا حول وجهه إلى الجدار وجعل يقول‏:‏ اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا، ولا يسعنا إلا عفوك‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنه وضع يده على موضع الغل من عنقه ورفع رأسه إلى السماء وقال‏:‏ اللهم لا قوي فانتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستنكر بل مستغفر، لا إله إلا أنت فلم يزل يرددها حتى مات رضي الله عنه‏.‏

وأما محمد بن مسلمة الأنصاري فقد أسلم على يدي مصعب بن عمير قبل أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، شهد بدراً وما بعدها إلا تبوك، فإنه استخلفه رسول الله على المدينة في قوله‏.‏

وقيل‏:‏ استخلفه في قرقرة الكدر، وكان فيمن قتل كعب بن الأشرف اليهودي‏.‏

وقيل‏:‏ أنه الذي قتل مرحباً اليهودي يوم خيبر أيضاً‏.‏

وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو من خمس عشرة سرية، وكان ممن اعتزل تلك الحروب بالجمل وصفين ونحو ذلك، واتخذ سيفاً من خشب‏.‏

وقد ورد في حديث قدمناه أنه أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وخرج إلى الربذة‏.‏

وكان من سادات الصحابة، وكان هو رسول عمر إلى عماله، وهو الذي شاطرهم عن أمره، وله وقائع عظيمة، وصيانة وأمانة بليغة رضي الله عنه، واستعمله على صدقات جهينة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه توفي سنة ست أو سبع وأربعين‏.‏

وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏

وقد جاوز السبعين، وترك بعده عشرة ذكور وست بنات، وكان أسمر، شديد السمرة، طويلاً، أصلع رضي الله عنه‏.‏

وممن توفي فيها‏:‏ عبد الله بن سلام أبو يوسف الإسرائيلي أحد أحبار اليهود، أسلم حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة‏.‏

قال‏:‏ لما قدم رسول الله المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل إليه، فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، فكان أول ما سمعته يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أيها الناس، افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، تدخلوا الجنة بسلام‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ذكرنا صفة إسلامه أول الهجرة، وماذا سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسئلة النافعة الحسنة رضي الله عنه‏.‏

وهو ممن شهد له رسول الله بالجنة، وهو ممن يقطع له بدخولها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/31‏)‏

 سنة أربع وأربعين

فيها‏:‏ غزا عبد الرحمن بن خالد الوليد بلاد الروم ومعه المسلمون، وشتوا هنالك‏.‏

وفيها‏:‏ غزا بسر بن أبي أرطاة في البحر‏.‏

وفيها‏:‏ عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة، وذلك أنه ظهر فيها الفساد وكان ليـِّنَ العريكة سهلاً، يقال‏:‏ أنه كان لا يقطع لصاً، ويريد أن يتألف الناس، فذهب عبد الله بن أبي أوفى المعروف بابن الكوا فشكاه إلى معاوية، فعزل معاوية ابن عامر عن البصرة، وبعث إليها الحرث ابن عبد الله الأزدي‏.‏

ويقال‏:‏ إن معاوية استدعاه إليه ليزوره فقدم ابن عامر على معاوية دمشق، فأكرمه ورده على عمله‏.‏

فلما ودعه قال له معاوية‏:‏ ثلاث أسألكهن فقل هي لك وأنا ابن أم حكيم ترد عليّ عملي ولا تغضب‏.‏

قال ابن عامر‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال معاوية‏:‏ وتهب لي مالك بعرفة‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال‏:‏ وتهب لي دورك بمكة‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

فقال له معاوية‏:‏ وصلتك رحماً‏.‏

فقال ابن عامر‏:‏ يا أمير المؤمنين، وإني سائلك ثلاثاً فقل هي لك وأنا ابن هند‏.‏

قال‏:‏ ترد عليَّ مالي بعرفة‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال‏:‏ ولا تحاسب لي عاملاً ولا أميراً‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال‏:‏ وتنكحني ابنتك هنداً‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

ويقال‏:‏ إن معاوية خيره بين هذه الثلاث وبين الولاية على بصرة فاختار هذه الثلاث، واعتزل عن البصرة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أبيه، فألحقه بأبي سفيان، وذلك أن رجلاً شهد على إقرار أبي سفيان أنه عاهر بسمية أم زياد في الجاهلية، وأنها حملت بزياد هذا منه، فلما استلحقه معاوية قيل له‏:‏ زياد بن أبي سفيان‏.‏

وقد كان الحسن البصري ينكر هذا الاستلحاق ويقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الولد للفراش، وللعاهر الحجر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا هشيم، ثنا خالد، عن أبي عثمان، قال‏:‏ لما ادَّعى زياد، لقيت أبا بكرة، فقلت‏:‏ ما هذا الذي صنعتم، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول‏:‏ سمعت أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو بكرة‏:‏ وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجناه من حديث أبي عثمان عنهما‏.‏

قلت‏:‏ أبو بكرة واسمه نفيع، وأمه سمية أيضاً‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة معاوية‏.‏

وفيها‏:‏ عمل معاوية المقصورة بالشام ومروان مثلها بالمدينة‏.‏

وفى هذه السنة‏:‏ توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين، واسمها رملة أخت معاوية، أسلمت قديماً، وهاجرت هي وزوجها عبد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتنصر هناك زوجها وثبت على دينها رضي الله عنها، وحبيبة هي أكبر أولادها منه ولدتها بالحبشة، وقيل‏:‏ بمكة قبل الهجرة، ومات زوجها هنالك لعنه الله وقبحه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/32‏)‏

ولما تأيمت من زوجها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجها منه، وولي العقد خالد بن سعيد بن العاص، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وحملها إليه في سنة سبع‏.‏

ولما جاء أبوها عام الفتح ليشهد العقد دخل عليها فثنت عنه فراش رسول الله فقال لها‏:‏ والله يا بنية ما أدري أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه‏؟‏

فقالت‏:‏ بل هو فراش رسول الله، وأنت رجل مشرك‏.‏

فقال لها‏:‏ والله يا بنية لقد لقيت بعدي شراً‏.‏

وقد كانت من سيدات أمهات المؤمنين، ومن العابدات الورعات رضي الله عنها‏.‏

قال محمد بن عمر الواقدي‏:‏ حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عوف بن الحارث، قال‏:‏

سمعت عائشة تقول‏:‏ دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت‏:‏ قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر‏.‏

فقلت‏:‏ يغفر الله لي ولك ما كان من ذلك كله، وتجاوزت وحاللتك‏.‏

فقالت‏:‏ سررتيني سرك الله وأرسلت إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك‏.‏

 سنة خمس وأربعين

فيها‏:‏ ولى معاوية البصرة للحارث بن عبد الله الأزدي، ثم عزله بعد أربعة أشهر، وولى زياداً فقدم زياد الكوفة، وعليها المغيرة فأقام بها ليأتيه رسول معاوية بولاية البصرة، فظن المغيرة أنه قد جاء على إمرة الكوفة، فبعث إليه وائل بن حجر ليعلم خبره‏.‏

فاجتمع به فلم يقدر منه على شيء، فجاء البريد إلى زياد‏:‏ أن يسير إلى البصرة، واستعمله على خراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان‏.‏

ودخل زياد البصرة في مستهل جمادى الأول، فقام في أول خطبة خطبها - وقد وجد الفسق ظاهراً - فقال فيها‏:‏

أيها الناس، كأنكم لم تسمعوا ما أعد الله من الثواب لأهل الطاعة، والعذاب لأهل المعصية، تكونون كمن طرقت جبينه الدنيا، وفسدت مسامعه الشهوات، فاختار الفانية على الباقية‏.‏

ثم ما زال يقيم أمر السلطان، ويجرد السيف حتى خافه الناس خوفاً عظيماً، وتركوا ما كانوا فيه من المعاصي الظاهرة، واستعان بجماعة من الصحابة‏.‏

وولى عمران بن حصين القضاء بالبصرة‏.‏

وولى الحكم بن عمرو الغفاري نيابة خراسان‏.‏

وولى سمرة بن جندب، وعبد الرحمن بن سمرة، وأنس بن مالك، وكان حازم الرأي ذا هيبة داهية، وكان مفوهاً فصيحاً بليغاً‏.‏

قال الشعبي‏:‏ ما سمعت متكلماً قط تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفاً من أن يسيء إلا زياداً، فإنه كان كلماً أكثر كان أجود كلاماً‏.‏

وقد كانت له وجاهة عند عمر بن الخطاب‏.‏

وفي هذه السنة غزا الحكم بن عمر نائب زياد على خراسان جبل الأسل عن أمر زياد فقتل منهم خلقاً كثيراً، وغنم أموالاً جمة، فكتب إليه زياد‏:‏ إن أمير المؤمنين قد جاء كتابه أن يصطفى له كل صفراء أو بيضاء - يعني الذهب والفضة - يجمع كله من هذه الغنيمة لبيت المال‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/33‏)‏

فكتب الحكم بن عمرو‏:‏ إن كتاب الله مقدم على كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو كانت السموات والأرض على عدو فاتقى الله يجعل له مخرجاً، ثم نادى في الناس‏:‏ أن اغدوا على قسم غنيمتكم‏.‏

فقسمها بينهم، وخالف زياداً فيما كتب إليه عن معاوية، وعزل الخمس كما أمر الله ورسوله‏.‏

ثم قال الحكم‏:‏ إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، فمات بمرو من خراسان رضي الله عنه‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم وكان نائب المدينة‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ توفي زيد بن ثابت الأنصاري، أحد كتَّاب الوحي وقد ذكرنا ترجمته فيهم في أواخر السيرة، وهو الذي كتب هذا المصحف الإمام الذي بالشام عن أمر عثمان بن عفان، وهو خط جيد قوي جداً فيما رأيته‏.‏

وقد كان زيد بن ثابت من أشد الناس ذكاءً تعلم لسان يهود وكتابهم في خمسة عشر يوماً‏.‏

قال أبو الحسن بن البراء‏:‏ تعلم الفارسية من رسول كسرى في ثمانية عشر يوماً، وتعلم الحبشية، والرومية، والقبطية، من خدام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وأول مشاهده الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة‏.‏

وفي الحديث الذي رواه أحمد والنسائي‏:‏ ‏(‏‏(‏وأعلمهم بالفرائض زيد بن ثابت‏)‏‏)‏‏.‏

وقد استعمله عمر بن الخطاب على القضاء‏.‏

وقال مسروق‏:‏ كان زيد بن ثابت من الراسخين‏.‏

وقال محمد بن عمرو‏:‏ عن أبي سلمة، عن ابن عباس، أنه أخذ لزيد بن ثابت بالركاب‏.‏

فقال له‏:‏ تنح يا ابن عم رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ لا ‏!‏ هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ عن ثابت، عن عبيدة، قال‏:‏ كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته، ومن أذمها إذا خرج إلى الرجال‏.‏

وقال محمد بن سيرين‏:‏ خرج زيد بن ثابت إلى الصلاة فوجد الناس راجعين منها فتوارى عنهم، وقال‏:‏ من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله‏.‏

مات في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ في سنة خمس وخمسين والصحيح الأول، وقد قارب الستين، وصلى عليه مروان‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ لقد مات اليوم عالم كبير‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ مات حبر هذه الأمة‏.‏

وفيها‏:‏ مات سلمة بن سلامة بن وقش عن سبعين، وقد شهد بدراً وما بعدها، ولا عقب له‏.‏

وعاصم بن عدي وقد استخلفه رسول الله حين خرج إلى بدر على قبا وأهل العالية، وشهد أحداً وما بعدها‏.‏

وتوفي عن خمس وعشرين ومائة، وقد بعثه رسول الله هو ومالك بن الدخشم إلى مسجد الضرار فحرقاه‏.‏

وفيها‏:‏ توفيت حفصة بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت حنيس بن حذافة السهمي، وهاجرت معه إلى المدينة فتوفي عنها بعد بدر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/34‏)‏

فلما انقضت عدتها، عرضها أبوها على عثمان بعد وفاة زوجته رقية بنت الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يتزوجها؛ فعرضها على أبي بكر فلم يرد عليه شيئاً، فما كان عن قريب حتى خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجها‏.‏

فعاتب عمر أبا بكر بعد ذلك في ذلك فقال له أبو بكر‏:‏ إن رسول الله كان قد ذكرها فما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لتزوجتها‏.‏

وقد روينا في الحديث‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها‏.‏

وفى رواية‏:‏ أن جبريل أمره بمراجعتها وقال‏:‏ إنها صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجنة‏.‏

وقد أجمع الجمهور‏:‏ أنها توفيت في شعبان من هذه السنة عن ستين سنة وقيل أنها توفيت أيام عثمان، والأول أصح‏.‏

 سنة ست وأربعين

فيها شتى المسلمون ببلاد الروم مع أميرهم عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد‏.‏

وقيل‏:‏ كان أميرهم غيره والله أعلم‏.‏

وحج بالناس عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، والعمال على البلاد هم المتقدم ذكرهم‏.‏

وممن توفي في هذه السنة سالم بن عمير أحد البكائين المذكورين في القرآن، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد كلها‏.‏

سراقة بن كعب شهد بدراً وما بعدها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد

القرشي المخزومي، وكان من الشجعان المعروفين، والأبطال المشهورين كأبيه، وكان قد عظم ببلاد الشام لذلك حتى خاف منه معاوية، ومات وهو مسموم رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

قال ابن منده وأبو نعيم الأصبهاني‏:‏ أدرك النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد روى ابن عساكر‏:‏ من طريق أبي عمر، أن عمرو بن قيس روى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة بين الكتفين‏.‏

قال البخاري‏:‏ وهو منقطع - يعني مرسلاً - وكان كعب بن جعيل مداحاً له ولأخويه مهاجر وعبد الله‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ كان عظيم القدر في أهل الشام، شهد صفين مع معاوية‏.‏

وقال ابن سميع‏:‏ كان يلي الصوائف زمن معاوية، وقد حفظ عن معاوية‏.‏

وقد ذكر ابن جرير وغيره‏:‏ أن رجلاً يقال له‏:‏ ابن أثال - وكان رئيس الذمة بأرض حمص - سقاه شربة فيها سم فمات‏.‏

وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ولا يصح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/35‏)‏

ورثاه بعضهم، فقال‏:‏

أبوك الذي قاد الجيوش مغرياً * إلى الروم لما أعطت الخرج فارس

وكم من فتى نبهته بعد هجعةٍ * بقرع لجام وهو أكتع ناعس

وما يستوي الصفان صفٌ لخالدٍ * وصفُ عليه من دمشقُ البرانس

وقد ذكروا أن خالد بن عبد الرحمن بن خالد قدم المدينة، فقال له عروة بن الزبير‏:‏ ما فعل ابن أثال‏؟‏

فسكت ثم رجع إلى حمص فثار على ابن أثال فقتله‏.‏

فقال‏:‏ قد كفيتك إياه، ولكن ما فعل ابن جرموز‏؟‏ فسكت عروة ومحمد بن مسلمة في قول‏.‏

وقد تقدم هرم بن حبان العبدي وهو أحد عمال عمر بن الخطاب، ولقي أويساً القرني، وكان من عقلاء الناس وعلمائهم، ويقال‏:‏ إنه لما دفن جاءت سحابة فروت قبره وحده، ونبت العشب عليه من وقته، والله أعلم‏.‏

 سنة سبع وأربعين

فيها‏:‏ شتى المسلمون ببلاد الروم‏.‏

وفيها‏:‏ عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص عن ديار مصر، وولى عليها معاوية بن خديج، وحج بالناس عتبة‏.‏

وقيل‏:‏ أخوه عنبسة بن أبي سفيان، فالله أعلم‏.‏

وممن توفي فيها‏:‏ قيس بن عاصم المنقري، كان من سادات الناس في الجاهلية والإسلام، وكان ممن حرَّم الخمر في الجاهلية والإسلام، وذلك أنه سكر يوماً فعبث بذات محرم منه فهربت منه، فلما أصبح قيل له في ذلك، فقال في ذلك‏:‏

رأيت الخمر منقصةً وفيها * مقابح تفضح الرجل الكريما

فلا والله أشربها حياتي * ولا أشفى بها أبداً سقيما

وكان إسلامه مع وفد بني تميم، وفي بعض الأحاديث أن رسول الله قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا سيد أهل الوبر‏)‏‏)‏‏.‏

وكان جواداً ممدحاً كريماً، وهو الذي يقول فيه الشاعر‏:‏

وما كان قيسٌ هلكهُ هلكُ واحدٍ * ولكنهُ بنيانُ قومٍ تهدما

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/36‏)‏

وقال الأصمعي‏:‏ سمعت أبا عمرو بن العلاء، وأبا سفيان بن العلاء يقولان‏:‏

قيل للأحنف بن قيس‏:‏ ممن تعلمت الحلم‏؟‏

قال‏:‏ من قيس بن عاصم المنقري، لقد اختلفنا إليه في الحكم كما يختلف إلى الفقهاء، فبينا نحن عنده يوماً وهو قاعد بفنائه، محتبٍ بكسائه، أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف، فقالوا‏:‏ هذا ابنك قتله ابن أخيك‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما حل حبوته حتى فرغ من كلامه، ثم التفت إلى ابن له في المسجد، فقال‏:‏ أطلق عن ابن عمك، ووار أخاك، واحمل إلى أمه مائة من الإبل فإنها غريبةً‏.‏

ويقال‏:‏ إنه لما حضرته الوفاة جلس حوله بنوه - وكانوا اثنين وثلاثين ذكراً - فقال لهم‏:‏ يا بنيّ، سوِّدوا عليكم أكبركم تخلفوا أباكم، ولا تسوِّدوا أصغركم فيزدري بكم أكفاؤكم، وعليكم بالمال واصطناعه فإنه نعم ما يهبه الكريم، ويستغني به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس فإنها من أخس مكسبة الرجل، ولا تنوحوا علي فإن رسول الله لم ينح عليه، ولا تدفنوني حيث يشعر بكر بن وائل، فإني كنت أعاديهم في الجاهلية‏.‏

وفيه يقول الشاعر‏:‏

عليك سلام الله قيس بن عاصم * ورحمته ما شاء أن يترحما

تحية من أوليتهُ منك منة * إذا ذكرت مثلها تملأ الفما

فما كان قيس هلكهُ هلكُ واحد * ولكنه بنيان قوم تهدما

 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين

فيها‏:‏ شتى أبو عبد الرحمن القتبي بالمسلمين ببلاد أنطاكيا‏.‏

وفيها‏:‏ غزا عقبة بن عامر بأهل مصر البحر، وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم نائب المدينة‏.‏

 سنة تسع وأربعين

فيها‏:‏ غزا يزيد بن معاوية بلاد الروم حتى بلغ قسطنطينية، ومعه جماعات من سادات الصحابة منهم‏:‏ ابن عمرو بن عباس، وابن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم‏)‏‏)‏ فكان هذا الجيش أول من غزاها، وما وصلوا إليها حتى بلغوا الجهد‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري‏.‏

وقيل‏:‏ لم يمت في هذه الغزوة بل بعدها سنة إحدى أو ثنتين أو ثلاث وخمسين كما سيأتي‏.‏

وفيها‏:‏ عزل معاوية مروان عن المدينة، وولى عليها سعيد بن العاص، فاستقضى سعيد عليها أبا سلمة بن عبد الرحمن‏.‏

وفيها‏:‏ شتى مالك بن هبيرة الفزاري بأرض الروم‏.‏

وفيها‏:‏ كانت غزوة فضالة بن عبيد، وشتى هنالك ففتح البلد وغنم شيئاً كثيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/37‏)‏

وفيها‏:‏ كانت صائفة عبد الله بن كرز‏.‏

وفيها‏:‏ وقع الطاعون بالكوفة فخرج منها المغيرة فاراً، فلما ارتفع الطاعون رجع إليها فأصابه الطاعون فمات، والصحيح أنه مات سنة خمسين كما سيأتي‏.‏

فجمع معاوية لزياد الكوفة إلى البصرة فكان أول من جمع له بينهما، فكان يقيم في هذه ستة أشهر وهذه ستة أشهر، وكان يستخلف على البصرة سمرة بن جندب‏.‏ وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان  الحسن بن علي بن أبي طالب

أبو محمد القرشي الهاشمي، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ابنته فاطمة الزهراء، وريحانته، وأشبه خلق الله به في وجهه، ولد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، فحنكه رسول الله بريقه وسماه حسناً، وهو أكبر ولد أبويه‏.‏

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حباً شديداً حتى كان يقبل ذبيبته وهو صغير، وربما مص لسانه واعتنقه وداعبه‏.‏

وربما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد في الصلاة فيركب على ظهره فيُقره على ذلك ويطيل السجود من أجله‏.‏

وربما صعد معه إلى المنبر، وقد ثبت في الحديث أنه عليه السلام بينما هو يخطب، إذ رأى الحسن والحسين مقبلين فنزل إليهما فاحتضنهما وأخذهما معه إلى المنبر وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدق الله ‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏‏[‏التغابن‏:‏ 15‏]‏ إني رأيت هذين يمشيان ويعثران فلم أملك أن نزلت إليهما‏)‏‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنكم لمن روح الله، وإنكم لتبجلون وتحببون‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏صحيح البخاري‏)‏‏:‏ عن أبي عاصم، عن عمر ابن سعيد بن أبي حسين، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، أن أبا بكر صلى بهم العصر بعد وفاة رسول الله بليالٍ، ثم خرج هو وعلي يمشيان فرأى الحسن يلعب مع الغلمان فاحتمله على عنقه، وجعل يقول‏:‏ بأبي شبه النبي ليس شبيهاً بعلي‏.‏

قال‏:‏ وعلي يضحك‏.‏

وروى سفيان الثوري وغير واحد قالوا‏:‏ ثنا وكيع، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، سمعت أبا جحيفة يقول‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان الحسن بن علي يشبهه‏.‏

ورواه البخاري ومسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد، قال وكيع‏:‏ لم يسمع إسماعيل من أبي جحيفة إلا هذا الحديث‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا زمعة، عن ابن أبي مليكة قالت‏:‏ كانت فاطمة تنقر للحسن بن علي وتقول‏:‏ بأبي شبه النبي ليس شبيهاً بعلي‏.‏

وقال عبد الرزاق وغيره‏:‏ عن معمر، عن الزهري، عن أنس قال‏:‏ كان الحسن بن علي أشبههم وجهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورواه أحمد‏:‏ عن عبد الرزاق بنحوه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/38‏)‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا حجاج، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ، عن علي قال‏:‏ الحسن أشبه برسول الله ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه برسول الله ما أسفل من ذلك‏.‏

ورواه الترمذي من حديث إسرائيل وقال‏:‏ حسن غريب‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ ثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي قال‏:‏ كان الحسن أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهه إلى سرته، وكان الحسين أشبه الناس به ما أسفل من ذلك‏.‏

وقد روي عن ابن عباس، وابن الزبير، أن الحسن بن علي كان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا حازم بن الفضيل، ثنا معتمر، عن أبيه، قال‏:‏ سمعت أبا تميمة يحدث عن أبي عثمان النهدي، يحدثه أبو عثمان، عن أسامة بن زيد، قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخده، ويقعد الحسن على فخده الأخرى، ثم يضمنا ثم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم ارحمهما فإني أرحمهما‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه البخاري، عن النهدي، عن محمد بن الفضيل أخو حازم به، وعن علي بن المديني، عن يحيى القطان، عن سليمان التيمي، عن أبي تميمة، عن أبي عثمان، عن أسامة‏.‏

وأخرجه أيضاً‏:‏ عن موسى بن إسماعيل ومسدد، عن معتمر، عن أبيه، عن أبي عثمان، عن أسامة فلم يذكر أبا تميمة، والله أعلم‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أحبهما فأحبهما‏)‏‏)‏‏.‏

وقال شعبة‏:‏ عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي عاتقه، وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أحبه فأحبه‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجاه من حديث شعبة‏.‏

ورواه علي بن الجعد، عن فضيل بن مرزوق، عن عدي، عن البراء، فزاد‏:‏ ‏(‏‏(‏وأحب من أحبه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم‏:‏ عن أحمد، وأخرجاه من حديث شعبة، وقال أحمد‏:‏ ثنا أبو النضر، ثنا ورقاء، عن عبيد الله، عن أبي يزيد، عن نافع بن جبير، عن أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سوق من أسواق المدينة، فانصرف وانصرفت معه، فجاء إلى فناء فاطمة، فقال‏:‏ أي لكع، أي لكع، أي لكع، فلم يجبه أحد، فانصرف وانصرفت معه إلى فناء فقعد‏.‏

قال‏:‏ فجاء الحسن بن علي - قال أبو هريرة‏:‏ ظننا أن أمه حبسته لتجعل في عنقه السخاب - فلما دخل التزمه رسول الله، والتزم هو رسول الله، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني أحبه وأحب من يحبه‏)‏‏)‏ ثلاث مرات‏.‏

وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة، عن عبد الله به‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/39‏)‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا حماد الخياط، ثنا هشام بن سعد، عن نعيم بن عبد الله المجمر، عن أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ خرج رسول الله إلى سوق بني قينقاع متكئاً على يدي، فطاف فيها، ثم رجع فاحتبى في المسجد، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أين لكاع، ادعوا لي لكاع‏)‏‏)‏ فجاء الحسن فاشتد حتى وثب في حبوته فأدخل فمه في فمه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه‏)‏‏)‏ ثلاثاً‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ ما رأيت الحسن إلا فاضت عينيّ، أو قال دمعت عينيّ، أو بكيت‏.‏

وهذا على شرط مسلم ولم يخرجوه‏.‏

وقد رواه الثوري، عن نعيم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، فذكر مثله، أو نحوه‏.‏

ورواه معاوية بن أبي برود، عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه، وفيه زيادة‏.‏

وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي نحوا من هذا‏.‏

ورواه عثمان بن أبي اللباب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة بنحوه، وفيه زيادة‏.‏

وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي نحواً من هذا السياق‏.‏

وقال سفيان الثوري وغيره‏:‏ عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني‏)‏‏)‏ غريب من هذا الوجه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا ابن نمير، ثنا الحجاج - يعني‏:‏ ابن دينار - عن جعفر بن إياس، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة قال‏:‏

خرج علينا رسول الله ومعه حسن وحسين هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة، وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل‏:‏ يا رسول الله إنك لتحبهما‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني‏)‏‏)‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقال أبو بكر ابن عياش‏:‏ عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاء الحسن والحسين، فجعلا يتوثبان على ظهره إذا سجد، فأراد الناس زجرهما، فلما سلم قال للناس‏:‏ ‏(‏‏(‏هذان ابناي، من أحبهما فقد أحبني‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه النسائي من حديث‏:‏ عبيد الله بن موسى، عن علي بن صالح، عن عاصم به‏.‏

وقد ورد عن عائشة، وأم سلمة أميّ المؤمنين، أن رسول الله اشتمل على الحسن والحسين وأمهما وأبيهما فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ ثنا محمد بن عبد الله الأسدي، ثنا شريك، عن جابر، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من سره أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن بن علي‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه وكيع، عن الربيع بن سعد، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر، فذكر مثله، وإسناده لا بأس به، ولم يخرجوه‏.‏

وجاء من حديث علي وأبي سعيد وبريده أن رسول الله قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو القاسم البغوي‏:‏ ثنا داود بن عمرو، ثنا إسماعيل ابن عياش، حدثني عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعد بن راشد، عن يعلى بن مرة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/40‏)‏

قال‏:‏ جاء الحسن والحسين يسعيان إلى رسول الله، فجاء أحدهما قبل الآخر فجعل يده تحت رقبته ثم ضمه إلى إبطه، ثم جاء الآخر فجعل يده إلى الأخرى في رقبته ثم ضمه إلى إبطه، وقبّل هذا، ثم قبّل هذا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أحبهما فأحبهما‏)‏‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أيها الناس إن الولد مبخلة مجبنة مجهلة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي خيثم، عن محمد بن الأسود بن خلف، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله أخذ حسناً فقبله، ثم أقبل عليهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الولد مبخلة مجبنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن خزيمة‏:‏ ثنا عبدة بن عبد الله الخزاعي، ثنا زيد بن الحباب ح، وقال أبو يعلى أبو خيثمة‏:‏ ثنا زيد بن الحباب، حدثني حسين بن واقد، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال‏:‏

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدق الله ‏!‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏، رأيت هذين الصبين فلم أصبر، ثم أخذ في خطبته‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الحسين بن واقد‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه‏.‏

وقد رواه محمد الضمري، عن زيد بن أرقم، فذكر القصة للحسن وحده‏.‏

وفي حديث عبد الله بن شداد، عن أبيه، أن رسول الله صلى بهم إحدى صلاتي العشي فسجد سجدة أطال فيها السجود، فلما سلم قال الناس له في ذلك، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن ابني هذا - يعني‏:‏ الحسن - ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ عن أبي الزبير، عن جابر، قال‏:‏ دخلت على رسول الله وهو حامل الحسن والحسين على ظهره وهو يمشي بهما على أربع، فقلت‏:‏ نعم الحمل حملكما فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ونعم العدلان هما‏)‏‏)‏‏.‏

على شرط مسلم ولم يخرجوه‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ ثنا أبو هاشم، ثنا أبو عامر، ثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ خرج رسول الله وهو حامل الحسن على عاتقه فقال له رجل‏:‏ يا غلام، نعم المركب ركبت، فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏ونعم الراكب هو‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا تليد بن سليمان، ثنا أبو الحجاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ نظر رسول الله إلى علي وحسن وحسين وفاطمة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه النسائي من حديث أبي نعيم، وابن ماجه من حديث وكيع، كلاهما عن سفيان الثوري، عن أبي الحجاف داود بن أبي عوف، قال وكيع‏:‏ وكان مريضاً - عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله قال عن الحسن والحسين‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/41‏)‏

وقد رواه أسباط عن السدي، عن صبيح مولى أم سلمة، عن زيد بن أرقم فذكره‏.‏

وقال بقية‏:‏ عن بجير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب، قال‏:‏ سمعت رسول الله يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏الحسن مني والحسين من علي‏)‏‏)‏‏.‏

فيه نكارة لفظاً ومعنى‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن عوف، عن عمير بن إسحاق‏.‏

قال‏:‏ كنت مع الحسن بن علي فلقينا أبو هريرة فقال‏:‏ أرني أقبّل منك حيث رأيت رسول الله يقبّل، فقال‏:‏ بقميصه، قال‏:‏ فقبّل سرته‏.‏

تفرد به أحمد، ثم رواه عن إسماعيل بن علية، عن ابن عوف‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا هاشم بن القاسم، عن جرير، عن عبد الرحمن أبي عوف الجرشي، عن معاوية‏.‏

قال رأيت رسول الله يمص لسانه - أو قال شفته يعني‏:‏ الحسن بن علي - وإنه لن يُعذب لسان أو شفتان يمصهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن أبي بكرة‏.‏

وروى أحمد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تقدم هذا الحديث في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏، وتقدم قريباً عند نزول الحسن لمعاوية عن الخلافة، ووقع ذلك تصديقاً لقوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

هذا، وكذلك ذكرناه في كتاب ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد كان الصديق يجله ويعظمه ويكرمه ويحبه ويتفداه‏.‏

وكذلك عمر ابن الخطاب، فروى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبيه‏:‏

أن عمر لما عمل الديوان فرض للحسن والحسين مع أهل بدر في خمسة آلاف خمسة آلاف، وكذلك كان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما‏.‏

وقد كان الحسن بن علي يوم الدار - وعثمان بن عفان محصور - عنده ومعه السيف متقلداً به يحاجف عن عثمان فخشي عثمان عليه فأقسم عليه ليرجعن إلى منزلهم تطييباً لقلب علي، وخوفاً عليه رضي الله عنهم‏.‏

وكان علي يكرم الحسن إكراماً زائداً، ويعظمه ويبجله، وقد قال له يوماً‏:‏ يا بني ألا تخطب حتى أسمعك‏؟‏

فقال‏:‏ إني أستحي أن أخطب وأنا أراك، فذهب علي فجلس حيث لا يراه الحسن، ثم قام الحسن في الناس خطيباً وعليّ يسمع، فأدى خطبة بليغة فصيحة‏.‏

فلما انصرف جعل علي يقول ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم‏.‏

وقد كان ابن عباس يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا من النعم عليه‏.‏

وكانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما مما يزدحمون عليهما للسلام عليهما، رضي الله عنهما وأرضاهما‏.‏

وكان ابن الزبير يقول‏:‏ والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان الحسن إذا صلى الغداة في مسجد رسول الله يجلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس، ويجلس إليه من يجلس من سادات الناس يتحدثون عنده، ثم يقوم فيدخل على أمهات المؤمنين فيسلم عليهن وربما أتحفنه، ثم ينصرف إلى منزله‏.‏

ولما نزل لمعاوية عن الخلافة من ورعه صيانة لدماء المسلمين، كان له على معاوية في كل عام جائزة، وكان يفد إليه، فربما أجازه بأربعمائة ألف درهم، وراتبه في كل سنة مائة ألف‏.‏

فانقطع سنة عن الذهاب، وجاء وقت الجائزة فاحتاج الحسن إليها - وكان من أكرم الناس - فأراد أن يكتب إلى معاوية ليبعث بها إليه‏.‏

فلما نام تلك الليلة رأى رسول الله في المنام فقال له‏:‏

‏(‏‏(‏يا بني أتكتب إلى مخلوق بحاجتك‏؟‏‏)‏‏)‏ وعلمه دعاء يدعو به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/42‏)‏

فترك الحسن ما كان همّ به من الكتابة، فذكره معاوية وافتقده، وقال‏:‏ ابعثوا إليه بمائتي ألف فلعل له ضرورة في تركه القدوم علينا، فحملت إليه من غير سؤال‏.‏

قال صالح بن أحمد‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ الحسن بن علي مدني ثقة‏.‏

حكاه ابن عساكر في ‏(‏تاريخه‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وقاسم الله ماله ثلاث مرات، وخرج من ماله مرتين، وحج خمساً وعشرين مرة ماشياً وإن الجنائب لتقاد بين يديه‏.‏

وروى ذلك البيهقي من طريق عبيد الله بن عمير، عن ابن عباس وقال‏:‏ علي بن زيد بن جدعان‏.‏

وقد علق البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ أنه حج ماشياً والجنائب تقاد بين يديه‏.‏

وروى داود بن رشيد، عن حفص، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال‏:‏ حج الحسن بن علي ماشياً والجنائب تقاد بين يديه ونجائبه تقاد إلى جنبه‏.‏

وقال العباس بن الفضل‏:‏ عن القاسم، عن محمد بن علي قال‏:‏ قال الحسن بن علي‏:‏ إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين مرة إلى المدينة على رجليه‏.‏

قالوا‏:‏ وكان يقرأ في بعض خطبه سورة إبراهيم، وكان يقرأ كل ليلة سورة الكهف قبل أن ينام، يقرأها من لوح كان يدور معه حيث كان من بيوت نسائه، فيقرأه بعد ما يدخل في الفراش قبل أن ينام رضي الله عنه‏.‏

وقد كان من الكرم على جانب عظيم‏.‏

قال محمد بن سيرين‏:‏ ربما أجاز الحسن بن علي على الرجل الواحد بمائة ألف‏.‏

وقال سعيد بن عبد العزيز‏:‏ سمع الحسن رجلاً إلى جانبه يدعو الله أن يملكه عشرة آلاف درهم، فقام إلى منزله فبعث بها إليه‏.‏

وذكروا أن الحسن رأى غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلباً هناك لقمة، فقال له‏:‏ ما حملك على هذا‏؟‏

فقال‏:‏ إني أستحي منه أن آكل ولا أطعمه‏.‏

فقال له الحسن‏:‏ لا تبرح من مكانك حتى آتيك، فذهب إلى سيده فاشتراه واشترى الحائط الذي هو فيه، فأعتقه وملّكه الحائط‏.‏

فقال الغلام‏:‏ يا مولاي قد وهبت الحائط للذي وهبتني له‏.‏

قالوا‏:‏ وكان كثير التزوج، وكان لا يفارقه أربع حرائر، وكان مطلاقاً مصداقاً‏.‏

يقال‏:‏ إنه أحصن سبعين امرأة‏.‏

وذكروا أنه طلق امرأتين في يوم، واحدة من بني أسد، وأخرى من بني فزارة - فزارية - وبعث إلى كل واحدة منهما بعشرة آلاف، وبزقاق من عسل‏.‏

وقال للغلام‏:‏ اسمع ما تقول كل واحدة منهما‏.‏

فأما الفزارية فقالت‏:‏ جزاه الله خيراً، ودعت له‏.‏

وأما الأسدية فقالت‏:‏ متاع قليل من حبيب مفارق‏.‏

فرجع الغلام إليه بذلك فارتجع الأسدية وترك الفزارية‏.‏

وقد كان علي يقول لأهل الكوفة‏:‏ لا تزوجوه فإنه مطلاق‏.‏

فيقولون‏:‏ والله يا أمير المؤمنين لو خطب إلينا كل يوم لزوجناه منا من شاء ابتغاء في صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذكروا أنه نام مع امرأته خولة بنت منظور الفزاري -وقيل‏:‏ هند بنت سهيل - فوق إجار فعمدت المرأة فربطت رجله بخمارها إلى خلخالها، فلما استيقظ قال لها‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقالت‏:‏ خشيت أن تقوم من وسن النوم فتسقط فأكون أشأم سخلة على العرب، فأعجبه ذلك منها، واستمر بها سبعة أيام بعد ذلك‏.‏

وقال أبو جعفر الباقر‏:‏ جاء رجل إلى الحسين بن علي فاستعان به في حاجة، فوجده معتكفاً فاعتذر إليه، فذهب إلى الحسن فاستعان به فقضى حاجته، وقال‏:‏ لقضاء حاجة أخ لي في الله أحب إليّ من اعتكاف شهر‏.‏

وقال هشيم‏:‏ عن منصور، عن ابن سيرين قال‏:‏ كان الحسن بن علي لا يدعو إلى طعامه أحداً يقول‏:‏ هو أهون من أن يدعى إليه أحد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/43‏)‏

وقال أبو جعفر‏:‏ قال علي‏:‏ يا أهل الكوفة، لا تزوجوا الحسن بن علي فإنه مطلاق‏.‏

فقال رجل من همذان‏:‏ والله لنزوجنه، فما رضي أمسك، وما كره طلق‏.‏

وقال أبو بكر الخرائطي - في كتاب ‏(‏مكارم الأخلاق‏)‏ -‏:‏ ثنا ابن المنذر - هو إبراهيم - ثنا القواريري، ثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد بن سيرين قال‏:‏

تزوج الحسن بن علي امرأة فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ عن الثوري، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه، عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال‏:‏ متع الحسن بن علي امرأتين بعشرين ألفاً وزقاق من عسل، فقالت إحداهما - وأراها الحنفية - متاع قليل من حبيب مفارق‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين قال‏:‏ كان الحسن بن علي مطلاقاً للنساء، وكان لا يفارق امرأة إلا وهي تحبه‏.‏

وقال جويرية بن أسماء‏:‏ لما مات الحسن بكى عليه مروان في جنازته‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه‏؟‏

فقال‏:‏ إني كنت أفعل إلى أحلم من هذا، وأشار هو إلى الجبل‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، عن ابن عون، عن محمد بن إسحاق قال‏:‏ ما تكلم عندي أحد كان أحب إليّ إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي‏.‏

وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة، فإنه كان بينه وبين عمرو بن عثمان خصومة فقال‏:‏ ليس له عندنا إلا ما رغم أنفه، فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأنا الفضل بن دكين، أنا مساور الجصاص، عن رزين بن سوار قال‏:‏ كان بين الحسن ومروان خصومة، فجعل مروان يغلظ للحسن وحسن ساكت، فامتخط مروان بيمينه‏.‏

فقال له الحسن‏:‏ ويحك‏!‏ أما علمت أن اليمنى للوجه، والشمال للفرج‏؟‏ أفٍ لك‏.‏

فسكت مروان‏.‏

وقال أبو العباس‏:‏ محمد بن يزيد المبرد، قيل للحسن بن علي‏:‏ إن أبا زر يقول‏:‏ الفقر أحب إليّ من الغنى، والسقم أحب إليّ من الصحة، فقال‏:‏ رحم الله أبا زر، أما أنا فأقول‏:‏ من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمنَ أن يكون في غير الحالة التي اختار الله له‏.‏

وهذا أحد الوقوف على الرضا بما تعرف به القضاء‏.‏

وقال أبو بكر محمد بن كيسان الأصم‏:‏ قال الحسن ذات يوم لأصحابه‏:‏

إني أخبركم عن أخٍ لي كان من أعظم الناس في عيني، وكان عظيم ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجاً عن سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجاً عن سلطان فرجه، فلا يستخف له عقله ولا رأيه‏.‏

وكان خارجاً عن سلطان جهله فلا يمد يداً إلا على ثقة المنفعة، ولا يخطو خطاة إلا لحسنة، وكان لا يسخط ولا يتبرم‏.‏

كان إذا جامع العلماء يكون على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم، وكان إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على الصمت، كان أكثرهم دهره صامتاً، فإذا قال يذر القائلين‏.‏

وكان لا يشارك في دعوى، ولا يدخل في مراء، ولا يدلي بحجة، حتى يرى قاضياً يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول تفضلاً وتكرماً، كان لا يغفل عن إخوانه ولا يستخص بشيء دونهم‏.‏

كان لا يكرم أحداً فيما يقع العذر بمثله، كان إذا ابتداه أمران لا يرى أيهما أقرب إلى الحق نظر فيما هو أقرب إلى هواه فخالفه‏.‏

رواه ابن عساكر والخطيب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/44‏)‏

وقال أبو الفرج المعافي بن زكريا الحريري‏:‏ ثنا بدر بن الهيثم الحضرمي، ثنا علي بن المنذر الطريفي، ثنا عثمان ابن سعيد الدارمي، ثنا محمد بن عبد الله أبو رجاء - من أهل تستر - ثنا شعبة بن الحجاج الواسطي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث الأعور أن علياً سأل ابنه - يعني الحسن - عن أشياء من المروءة فقال‏:‏ يا بني ما السداد ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ يا أبة السداد دفع المنكر بالمعروف‏.‏

قال‏:‏ فما الشرف ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ اصطناع العشيرة، وحمل الجريرة‏.‏

قال‏:‏ فما المروءة ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ العفاف وإصلاح المرء ماله‏.‏

قال‏:‏ فما الدنيئة ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ النظر في اليسير ومنع الحقير‏.‏

قال‏:‏ فما اللوم ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ احتراز المرء نفسه وبذله عرسه‏.‏

قال‏:‏ فما السماحة ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ البذل في العسر واليسر‏.‏

قال‏:‏ فما الشح ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ أن ترى ما في يديك سرفاً، وما أنفقته تلفاً‏.‏

قال‏.‏ فما الإخاء ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ الوفاء في الشدة والرخاء‏.‏

قال‏:‏ فما الجبن ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ الجرأة على الصديق، والنكول عن العدو‏.‏

قال‏:‏ فما الغنيمة ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا‏.‏

قال‏:‏ فما الحلم ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ كظم الغيظ، وملك النفس‏.‏

قال‏:‏ فما الغنى ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ رضى النفس بما قسم الله لها، وإن قلّ، فإنما الغنى غنى النفس‏.‏

قال‏:‏ فما الفقر ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ شره النفس في كل شيء‏.‏

قال‏:‏ فما المنعة ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ شدة البأس ومقارعة أشد الناس‏.‏

قال‏:‏ فما الذل ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ الفزع عند المصدوقية‏.‏

قال‏:‏ فما الجرأة ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ موافقة الأقران‏.‏

قال‏:‏ فما الكلفة ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ كلامك فيما لا يعنيك‏.‏

قال‏:‏ فما المجد ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ أن تعطي في الغرم وأن تعفو عن الجرم‏.‏

قال‏:‏ فما العقل ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ حفظ القلب كل ما استرعيته‏.‏

قال‏:‏ فما الخرق ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ معاداتك إمامك، ورفعك عليه كلامك‏.‏

قال‏:‏ فما الثناء ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ إتيان الجميل، وترك القبيح‏.‏

قال‏:‏ فما الحزم ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ طول الأناة، والرفق بالولاة، والاحتراس من الناس بسوء الظن هو الحزم‏.‏

قال‏:‏ فما الشرف ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ موافقة الإخوان، وحفظ الجيران‏.‏

قال‏:‏ فما السفه ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ اتباع الدناة، ومصاحبة الغواة‏.‏

قال‏:‏ فما الغفلة ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ تركك المسجد، وطاعتك المفسد‏.‏

قال‏:‏ فما الحرمان ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ تركك حظك وقد عرض عليك‏.‏

قال‏:‏ فمن السيد ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ الأحمق في المال المتهاون بعرضه، يشتم فلا يجيب، المتحرن بأمر العشيرة هو السيد‏.‏

قال‏:‏ ثم قال علي‏:‏ يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أفضل من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف، ولا عبادة كالتفكر، ولا إيمان كالحياء، ورأس الإيمان الصبر، وآفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفترة، وآفة الطرف الصلف، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء، وآفة الحب الفخر‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال علي‏:‏ يا بني لا تستخفن برجل تراه أبداً، فإن كان أكبر منك فعدّه أباك، وإن كان مثلك فهو أخوك، وإن كان أصغر منك فاحسب أنه ابنك‏.‏

فهذا ما سأل علي ابنه عن أشياء من المروءة‏.‏

قال القاضي أبو الفرج‏:‏ ففي هذا الخبر من الحكمة، وجزيل الفائدة ما ينتفع به من راعاه، وحفظه ووعاه وعمل به وأدب نفسه بالعمل عليه، وهذبها بالرجوع إليه، وتتوفر فائدته بالوقوف عنده‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/45‏)‏

وفيما رواه أمير المؤمنين وأضعافه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا غنى لكل لبيب عليم، وقدرة حكيم، عن حفظه وتأمله، والمسعود من هدي لتلقيه، والمجدود من وفق لامتثاله وتقبله‏.‏

قلت‏:‏ ولكن إسناد هذا الأثر وما فيه من الحديث المرفوع ضعيف، ومثل هذه الألفاظ في عبارتها ما يدل ما في بعضها من النكارة على أنه ليس بمحفوظ، والله أعلم‏.‏

وقد ذكر الأصمعي والعتبي والمدائني وغيرهم‏:‏ أن معاوية سأل الحسن عن أشياء تشبه هذا، فأجابه بنحو ما تقدم، لكن هذا السياق أطول بكثير مما تقدم، فالله أعلم‏.‏

وقال علي بن العباس الطبراني‏:‏ كان على خاتم الحسن بن علي مكتوباً‏:‏

قدم لنفسك ما استطعت من التقى * إن المنية نازلة بك يا فتى

أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى * أحباب قلبك في المقابر والبلى

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مطلب بن زياد بن محمد، ثنا محمد بن أبان، قال‏:‏ قال الحسن بن علي لبنيه وبني أخيه‏:‏ تعلموا فإنكم صغار قوم اليوم وتكونوا كبارهم غداً، فمن لم يحفظ منكم فليكتب‏.‏

ورواه البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ ثنا الحسن بن موسى، وأحمد بن يونس قالا‏:‏ ثنا زهير بن معاوية، ثنا أبو إسحاق، عن عمرو الأصم، قال‏:‏ قلت للحسن بن علي‏:‏ إن هذه الشيعة تزعم أن علياً مبعوث قبل يوم القيامة‏.‏

قال‏:‏ كذبوا، والله‏!‏ ما هؤلاء بالشيعة، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه، ولا اقتسمنا ماله‏.‏

وقال عبد الله بن أحمد‏:‏ حدثني أبو علي سويد الطحان، ثنا علي بن عاصم، ثنا أبو ريحانة، عن سفينة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الخلافة بعدي ثلاثون سنة‏)‏‏)‏‏.‏

فقال رجل كان حاضراً في المجلس‏:‏ قد دخلت من هذه الثلاثين ستة شهور في خلافة معاوية‏.‏

فقال‏:‏ من هاهنا أتيت تلك الشهور كانت البيعة للحسن بن علي، بايعه أربعون ألفاً أو اثنان وأربعون ألفاً‏.‏

وقال صالح بن أحمد‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ بايع الحسن تسعون ألفاً فزهد في الخلافة وصالح معاوية، ولم يسل في أيامه محجمة من دم‏.‏

وقال ابن أبي خيثمة‏:‏ وحدثنا أبي، ثنا وهب بن جرير قال‏:‏ قال أبي‏:‏ فلما قُتل علي بايع أهل الكوفة الحسن بن علي وأطاعوه، وأحبوه أشد من حبهم لأبيه‏.‏

وقال ابن أبي خيثمة‏:‏ ثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، عن ابن شوذب قال‏:‏ لما قتل علي سار الحسن في أهل العراق، وسار معاوية في أهل الشام، فالتقوا فكره الحسن القتال، وبايع معاوية على أن جعل العهد للحسن من بعده‏.‏

قال‏:‏ فكان أصحاب الحسن يقولون‏:‏ يا عار المؤمنين‏.‏

قال‏:‏

فيقول لهم‏:‏ العار خير من النار‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا العباس بن هشام، عن أبيه قال‏:‏

لما قُتل علي بايع الناس الحسن بن علي فوليها سبعة وأحد عشر يوماً‏.‏

وقال غير عباس‏:‏ بايع الحسن أهل الكوفة، وبايع أهل الشام معاوية بإيلياء بعد قتل علي، وبويع بيعة العامة ببيت المقدس يوم الجمعة من آخر سنة أربعين‏.‏

ثم لقي الحسن معاوية بمسكن - من سواد الكوفة - في سنة إحدى وأربعين فاصطلحا، وبايع الحسن معاوية‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان صلحهما ودخول معاوية الكوفة في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين‏.‏

وقد تكلمنا على تفصيل ذلك فيما تقدم بما أغنى عن إعادته هاهنا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/46‏)‏

وحاصل ذلك أنه اصطلح مع معاوية على أن يأخذ ما في بيت المال الذي بالكوفة، فوفى له معاوية بذلك، فإذا فيه خمسة آلاف ألف‏.‏

وقيل‏:‏ سبعة آلاف ألف، وعلى أن يكون خراج‏.‏

وقيل‏:‏ دار أبجرد له في كل عام، فامتنع أهل تلك الناحية عن أداء الخراج إليه، فعوضه معاوية عن كل ستة آلاف ألف درهم في كل عام، فلم يزل يتناولها مع ماله في كل زيادة من الجوائز والتحف والهدايا، إلى أن توفي في هذا العام‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ عن هودة بن خليفة، عن عوف، عن محمد بن سيرين قال‏:‏ لما دخل معاوية الكوفة، وبايعه الحسن بن علي قال أصحاب معاوية لمعاوية‏:‏

مرْ الحسن بن علي أن يخطب فإنه حديث السن عيني، فلعله يتلعثم فيتضع في قلوب الناس‏.‏

فأمره فقام فاختطب فقال في خطبته‏:‏ أيها الناس، لو اتبعتم بين جابلق وجابرس رجلاً جده نبي غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا بيعتنا لمعاوية، ورأينا أن حقن دماء المسلمين خير من إهراقها، والله ما أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين - وأشار إلى معاوية - فغضب من ذلك، وقال‏:‏ ما أردت من هذه‏؟‏

قال‏:‏ أردت منها ما أراد الله منها‏.‏

فصعد معاوية وخطب بعده‏.‏

وقد رواه غير واحد، وقدمنا أن معاوية عتب على أصحابه‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ ثنا أبو داود الطيالسي‏:‏ ثنا شعبة، عن يزيد قال‏:‏

سمعت جبير بن نفير الحضرمي يحدث عن أبيه قال‏:‏

قلت للحسن بن علي‏:‏ إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله، ثم أثيرها ثانياً من أهل الحجاز‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنا علي بن محمد، عن إبراهيم بن محمد، عن زيد بن أسلم قال‏:‏

دخل رجل على الحسن بن علي وهو بالمدينة، وفي يده صحيفة فقال‏:‏ ما هذه‏؟‏

فقال‏:‏ ابن معاوية يعدنيها ويتوعد‏.‏

قال‏:‏ قد كنت على النّصف منه‏.‏

قال‏:‏ أجل، ولكن خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفاً، أو ثمانون ألفاً، أو أكثر أو أقل، تنضح أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ عن سلام بن مسكين، عن عمران بن عبد الله قال‏:‏

رأى الحسن بن علي في منامه أنه مكتوب بين عينيه ‏(‏‏(‏قل هو الله أحد‏)‏‏)‏، ففرح بذلك، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال‏:‏ إن كان رأى هذه الرؤيا فقلّ ما بقي من أجله‏.‏

قال‏:‏ فلم يلبث الحسن بن علي بعد ذلك إلا أياماً حتى مات‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن صالح العتكي، ومحمد بن عثمان العجلي قالا‏:‏ ثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق‏.‏

قال‏:‏ دخلت أنا ورجل آخر من قريش على الحسن بن علي، فقام فدخل المخرج ثم خرج، فقال‏:‏ لقد لفظت طائفة من كبدي أقلبها بهذا العود، ولقد سقيت السم مراراً، وما سقيت مرة هي أشد من هذه‏.‏

قال‏:‏ وجعل يقول لذلك الرجل‏:‏ سلني قبل أن لا تسألني‏.‏

فقال‏:‏ ما أسألك شيئاً يعافيك الله‏.‏

قال‏:‏ فخرجنا من عنده، ثم عدنا إليه من الغد‏.‏

وقد أخذ في السوق، فجاء حسين حتى قعد عند رأسه فقال‏:‏ أي أخي ‏!‏ من صاحبك‏؟‏

قال‏:‏ تريد قتله‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

قال‏:‏ لئن كان صاحبي الذي أظن لله أشد نقمة‏.‏

وفي رواية‏:‏ فالله أشد بأساً وأشد تنكيلاً، وإن لم يكنه ما أحب أن تقتل بي بريئاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/47‏)‏

ورواه محمد بن سعد، عن ابن علية، عن أبي عون‏.‏

وقال محمد بن عمر الواقدي‏:‏ حدثني عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور‏.‏

قالت‏:‏ الحسن سقي مراراً كل ذلك يفلت منه، حتى كانت المرة الآخرة التي مات فيها، فإنه كان يختلف كبده، فلما مات أقام نساء بني هاشم عليه النوح شهراً‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ وحدثنا عبدة بنت نائل، عن عائشة قالت‏:‏ حد نساء بني هاشم على الحسن بن علي سنة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن حسن قال‏:‏ كان الحسن بن علي كثير نكاح النساء، وكان قل ما يحظين عنده، وكان قل امرأة تزوجها إلا أحبته وضنت به‏.‏

فيقال‏:‏ أنه كان سُقي سماً، ثم أفلت، ثم سُقي فأفلت، ثم كانت الآخرة توفي فيها‏.‏

فلما أحضرته الوفاة قال الطبيب وهو يختلف إليه‏:‏ هذا رجل قطع السم أمعاءه‏.‏

فقال الحسين‏:‏ يا أبا محمد أخبرني من سقاك‏؟‏

قال‏:‏ ولما يا أخي‏؟‏

قال‏:‏ أقتله والله قبل أن أدفنك، ولا أقدر عليه أو يكون بأرض أتكلف الشخوص إليه‏.‏

فقال‏:‏ يا أخي إنما هذه الدنيا ليال فانية، دعه حتى ألتقي أنا وهو عند الله، وأبى أن يسميه‏.‏

وقد سمعت بعض من يقول‏:‏ كان معاوية قد تلطف لبعض خدمه أن يسقيه سماً‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأنا يحيى بن حمال أنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أم موسى أن جعدة بنت الأشعث بن قيس سقت الحسن السم، فاشتكى منه شكاة، قال‏:‏ فكان يوضع تحته طشت ويرفع آخر نحواً من أربعين يوماً‏.‏

وروى بعضهم‏:‏ أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث‏:‏ أن سمي الحسن، وأنا أتزوجك بعده‏.‏

ففعلت، فلما مات الحسن، بعثت إليه فقال‏:‏ إنا والله لم نرضك للحسن افنرضاك لأنفسنا ‏؟‏‏.‏

وعندي أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبي معاوية بطريق الأولى والأحرى، وقد قال كثير نمرة في ذلك‏:‏

يا جعد بكِّيه ولا تسأمي * بكاء حقٍ ليس بالباطل

لن تستري البيت على مثله * في الناس من حاف ولا ناعل

أعني الذي أسلمه أهله * للزمن المستخرج الماحل

كان إذا شبت له ناره * يرفعها بالنسب الماثل

كما يراها بائس مرمل * أو فرد قوم ليس بالآهل

تغلي بنيَّ اللحم حتى إذا * أنضج لم تغل على آكل

قال سفيان بن عيينة‏:‏ عن رقبة بن مصقلة، قال لما احتضر الحسن بن علي قال‏:‏

أخرجوني إلى الصحن أنظر في ملكوت السموات‏.‏

فأخرجوا فراشه، فرفع رأسه فنظر، فقال‏:‏ اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإنها أعز الأنفس عليّ‏.‏

قال‏:‏ فكان مما صنع الله له أنه احتسب نفسه عنده‏.‏

وقال عبد الرحمن بن مهدي‏:‏ لما اشتد بسفيان الثوري المرض جزع جزعاً شديداً، فدخل عليه مرحوم بن عبد العزيز فقال‏:‏ ما هذا الجزع يا أبا عبد الله‏؟‏ تقدم على رب عبدته ستين سنة، صمت له، صليت له، حججت له، قال‏:‏ فسري عن الثوري‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/48‏)‏

وقال أبو نعيم‏:‏ لما اشتد بالحسن بن علي الوجع جزع فدخل عليه رجل فقال له‏:‏

يا أبا محمد، ما هذا الجزع‏؟‏ ما هو إلا أن تفارق روحك جسدك، فتقدم على أبويك علي وفاطمة، وعلى جديك النبي صلى الله عليه وسلم وخديجة، وعلى أعمامك حمزة وجعفر، وعلى أخوالك القاسم الطيب ومطهر وإبراهيم، وعلى خالاتك رقية وأم كلثوم وزينب، قال‏:‏ فسرى عنه‏.‏

وفي رواية‏:‏ أن القائل له ذلك الحسين، وأن الحسن قال له‏:‏ يا أخي إني أدخل في أمر من أمر الله لم أدخل في مثله، وأرى خلقاً من خلق الله لم أر مثله قط‏.‏

قال‏:‏ فبكى الحسين رضي الله عنهما‏.‏

رواه عباس الدوري، عن ابن معين، ورواه بعضهم عن جعفر بن محمد، عن أبيه فذكر نحوهما‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ ثنا إبراهيم بن الفضل، عن أبي عتيق قال‏:‏ سمعت جابر بن عبد الله يقول‏:‏

شهدنا حسن بن علي يوم مات وكادت الفتنة تقع بين الحسين بن علي ومروان بن الحكم، وكان الحسن قد عهد إلى أخيه أن يدفن مع رسول الله، فإن خاف أن يكون في ذلك قتال أو شر فليدفن بالبقيع‏.‏

فأبى مروان أن يدعه - ومروان يومئذ معزول يريد أن يرضي معاوية - ولم يزل مروان عدواً لبني هاشم حتى مات‏.‏

قال جابر‏:‏ فكلمت يومئذ حسين بن علي فقلت‏:‏ يا أبا عبد الله اتق الله ولا تثر فتنة، فإن أخاك كان لا يحب ما ترى، فادفنه بالبقيع مع أمه ففعل‏.‏

ثم روى الواقدي‏:‏ حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن عمر قال‏:‏

حضرت موت الحسن بن علي فقلت للحسين بن علي‏:‏ اتق الله، ولا تثر فتنة ولا تسفك الدماء، وادفن أخاك إلى جانب أمه، فإن أخاك قد عهد بذلك إليك، قال‏:‏ ففعل الحسين‏.‏

وقد روى الواقدي‏:‏ عن أبي هريرة نحواً من هذا‏.‏

وفي رواية‏:‏ أن الحسن بعث يستأذن عائشة في ذلك، فأذنت له‏.‏

فلما مات لبس الحسين السلاح، وتسلح بنو أمية، وقالوا‏:‏ لا ندعه يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيدفن عثمان بالبقيع، ويدفن الحسن بن علي في الحجرة‏؟‏

فلما خاف الناس وقوع الفتنة أشار سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وجابر، وابن عمر، على الحسين أن لا يقاتل، فامتثل ودفن أخاه قريباً من قبر أمه بالبقيع، رضي الله عنه‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي حازم قال‏:‏ رأيت الحسين بن علي قدّم يومئذ سعيد بن العاص فصلى على الحسن وقال‏:‏ لولا أنها سنة ما قدمته‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني مساور مولى بني سعد بن بكر قال‏:‏ رأيت أبا هريرة قائماً على مسجد رسول الله يوم مات الحسن بن علي، وهو ينادى بأعلا صوته‏:‏

يا أيها الناس مات اليوم حب رسول الله فابكوا‏.‏

وقد اجتمع الناس لجنازته حتى ما كان البقيع يسع أحداً من الزحام‏.‏

وقد بكاه الرجال والنساء سبعاً، واستمر نساء بني هاشم ينحن عليه شهراً، وحدّت نساء بني هاشم عليه سنة‏.‏

قال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال‏:‏

قتل علي وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ومات لها حسن، وقتل لها الحسين رضي الله عنهم‏.‏

وقال شعبة‏:‏ عن أبي بكر بن حفص قال‏:‏ توفي سعد، والحسن بن علي في أيام بعد ما مضى من إمارة معاوية عشر سنين‏.‏

وقال علية‏:‏ عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال‏:‏ توفي الحسن وهو ابن سبع وأربعين، وكذا قال غير واحد، وهو أصح‏.‏

والمشهور أنه مات سنة تسع وأربعين كما ذكرنا‏.‏

وقال آخرون‏:‏ مات سنة خمسين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة إحدى وخمسين أو ثمان وخمسين‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/ 49‏)‏