فصل: خروج الأسود العنسيّ‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 قصَّة الأعمى الذي ردَّ الله عليه بصره بدعاء الرَّسول‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا روح وعثمان بن عمر قالا‏:‏ حدَّثنا شعبة عن أبي جعفر المدينيّ سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدِّث عن عثمان بن حنيف أنَّ رجلاً ضريراً أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ يا رسول الله أدع الله لي أن يعافيني‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت أخَّرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ بل أدع الله لي‏.‏

قال‏:‏ فأمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يتوضأ ويصلِّي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدُّعاء‏:‏ اللَّهم إنِّي أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمَّد نبيَّ الرَّحمة إنِّي أتوَّجه به في حاجتي هذه فتقضى‏.‏

وقال في رواية عثمان بن عمر‏:‏ فشفِّعه فيَّ‏.‏

قال‏:‏ ففعل الرَّجل فبرأ‏.‏

ورواه التّرمذيّ وقال‏:‏ حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر الخطمي‏.‏

وقد رواه البيهقيّ عن الحاكم بسنده إلى أبي جعفر الخطميّ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمِّه عثمان بن حنيف فذكر نحوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/327‏)‏

قال عثمان‏:‏ فوالله ما تفرَّقنا ولا طال الحديث بنا حتى دخل الرَّجل كأن لم يكن به ضرٌّ قط‏.‏

قصَّة أخرى‏:‏

قال أبو بكر ابن أبي شيبة‏:‏ حدَّثنا محمَّد بن بشر، حدَّثنا عبد العزيز بن عمر، حدَّثني رجل من بني سلامان بن سعد عن أمِّه، عن خاله أو أنَّ خاله أو خالها حبيب بن قريط، حدَّثها أنَّ أباه خرج إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعيناه مبيضَّتان لا يبصر بهما شيئاً‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أصابك‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ كنت حملاً لي فوقعت رجلي على بيض حيَّة فأصيب بصري‏.‏

فنفث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في عينيه فأبصر، فرأيته وإنَّه ليدخل الخيط في الإبرة وإنَّه لابن ثمانين سنة وإنَّ عينيه لمبيضَّتان‏.‏

قال البيهقيّ وغيره‏:‏ يقول حبيب بن مدرك وثبت في الصَّحيح‏:‏ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نفث في عيني علي يوم خيبر وهو أرمد فبرأ من ساعته، ثمَّ لم يرمد بعدها أبداً، ومسح رجل جابر بن عتيك وقد انكسرت رجله ليلة قتل أبا رافع تاجر أهل الحجاز الخيبريّ فبرأ من ساعته أيضاً‏.‏

وروى البيهقيّ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم مسح يد محمَّد بن حاطب وكانت قد احترقت بالنَّار فبرأ من ساعته، ومسح رجل سلمة بن الأكوع وقد أصيبت يوم خيبر فبرأت من ساعتها، ودعا لسعد ابن أبي وقَّاص أن يشفى من مرضه ذلك فشفي‏.‏

وروى البيهقيّ أنَّ عمَّه أبا طالب مرض فسأل منه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدعو له ربَّه فدعا له فشفي من مرضه ذلك، وكم له من مثلها وعلى مسلكها من إبراء آلام، وإزالة أسقام، مما يطول شرحه وبسطه‏.‏

وقد وقع في كرامات الأولياء إبراء الأعمى بعد الدُّعاء عليه بالعمى أيضاً‏.‏

كما رواه الحافظ ابن عساكر من طريق أبي سعيد بن الأعرابي عن أبي داود، حدَّثنا عمر بن عثمان، حدَّثنا بقية عن محمَّد بن زياد، عن أبي مسلم أنَّ امرأة خبَّثت عليه امرأته فدعا عليها فذهب بصرها، فأتته فقالت‏:‏ يا أبا مسلم إنِّي كنت فعلت وفعلت وإني لا أعود لمثلها، فقال‏:‏ اللَّهم إن كانت صادقة فاردد عليها بصرها، فأبصرت‏.‏

ورواه أيضاً من طريق أبي بكر ابن أبي الدُّنيا حدَّثنا عبد الرحمن بن واقد، حدَّثنا ضمرة، حدَّثنا عاصم، حدَّثنا عثمان بن عطاء قال‏:‏ كان أبو مسلم الخولانيّ إذا دخل منزله فإذا بلغ وسط الدَّار كبَّر وكبَّرت امرأته، فإذا دخل البيت كبَّر وكبَّرت امرأته، فيدخل فينزع رداءه وحذاءه وتأتيه بطعام يأكل، فجاء ذات ليلة فكبَّر فلم تجبه، ثمَّ جاء إلى باب البيت فكبَّر وسلَّم فلم تجبه، وإذا البيت ليس فيه سراج، وإذا هي جالسة بيدها عود تنكت في الأرض به، فقال لها‏:‏ مالك ‏؟‏

فقالت‏:‏ النَّاس بخير وأنت لو أتيت معاوية فيأمر لنا بخادم ويعطيك شيئاً تعيش به‏.‏

فقال‏:‏ اللَّهم من أفسد عليَّ أهلي فأعم بصره‏.‏

قال‏:‏ وكانت أتتها امرأة فقالت لامرأة أبي مسلم‏:‏ لو كلَّمت زوجك ليكلِّم معاوية فيخدمكم ويعطيكم‏.‏

قال‏:‏ فبينما هذه المرأة في منزلها والسِّراج مزهو إذ أنكرت بصرها فقالت‏:‏ سراجكم طفئ ‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قالت‏:‏ إنَّ الله أذهب بصري فأقبلت كما هي إلى أبي مسلم فلم تزل تناشده وتتلطف إليه، فدعا الله فردَّ بصرها، ورجعت امرأته على حالها التي كانت عليها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/328‏)‏

وأمَّا قصَّة المائدة التي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 112-115‏]‏‏.‏

وقد ذكرنا في التَّفسير بسط ذلك واختلاف المفسِّرين فيها هل نزلت أم لا على قولين، والمشهور عن الجمهور أنَّها نزلت واختلف فيما كان عليها من الطَّعام على أقوال، وذكر أهل التَّاريخ أنَّ موسى بن نصير الذي فتح البلاد المغربية أيَّام بني أمية وجد المائدة، ولكن قيل‏:‏ إنَّها مائدة سليمان بن داود مرصَّعة بالجواهر وهي من ذهب، فأرسل بها إلى الوليد بن عبد الملك فكانت عنده حتَّى مات، فتسلَّمها أخوه سليمان، وقيل‏:‏ إنَّها مائدة عيسى لكن يبعد هذا أنَّ النَّصارى لا يعرفون المائدة كما قاله غير واحد من العلماء والله أعلم‏.‏

والمقصود أنَّ المائدة سواء كانت قد نزلت أم لم تنزل، وقد كانت موائد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تمدُّ من السَّماء، وكانوا يسمعون تسبيح الطَّعام وهو يؤكل بين يديه، وكم قد أشبع من طعام يسير ألوفاً ومئات وعشرات صلَّى الله عليه وسلَّم ما تعاقبت الأوقات، وما دامت الأرض والسَّموات‏.‏

وهذا أبو مسلم الخولانيّ وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمته من تاريخه أمراً عجيباً، وشأناً غريباً حيث روي من طريق إسحاق بن يحيى الملطي عن الأوزاعيّ قال‏:‏ أتى أبا مسلم الخولانيّ نفر من قومه فقالوا‏:‏ يا أبا مسلم أما تشتاق إلى الحجِّ ‏؟‏

قال‏:‏ بلى لو أصبت لي أصحاباً‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن أصحابك‏.‏

قال‏:‏ لستم لي بأصحاب، إنَّما أصحابي قوم لا يريدون الزَّاد ولا المزاد‏.‏

فقالوا‏:‏ سبحان الله وكيف يسافر أقوام بلا زاد ولا مزاد ‏؟‏

قال لهم‏:‏ ألا ترون إلى الطَّير تغدو وتروح بلا زاد ولا مزاد والله يرزقها، وهي لا تبيع ولا تشتري، ولا تحرث ولا تزرع والله يرزقها‏.‏

قال‏:‏ فقالوا‏:‏ فإنَّا نسافر معك‏.‏

قال‏:‏ فهبُّوا على بركة الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ فغدوا من غوطة دمشق ليس معهم زاد ولا مزاد، فلمَّا انتهوا إلى المنزل قالوا‏:‏ يا أبا مسلم طعام لنا وعلف لدوابنا‏.‏

قال‏:‏ فقال لهم‏:‏ نعم، فسجا غير بعيد فيمم مسجد أحجار فصلَّى فيه ركعتين ثمَّ جثى على ركبتيه فقال‏:‏ إلهي قد تعلم ما أخرجني من منزلي وإنَّما خرجت آمراً لك، وقد رأيت البخيل من ولد آدم تنزل به العصابة من النَّاس فيوسعهم قرى وإنَّا أضيافك وزوَّارك فأطعمنا واسقنا واعلف دوابَّنا‏.‏

قال‏:‏ فأتى بسفرة مدَّت بين أيديهم، وجيء بجفنة من ثريد، وجيء بقلَّتين من ماء، وجيء بالعلف لا يدرون من يأتي به، فلم تزل تلك حالهم منذ خرجوا من عند أهاليهم حتَّى رجعوا لا يتكَّلفون زاداً ولا مزاداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/329‏)‏

فهذه حال وليٍّ من هذه الأمَّة نزل عليه وعلى أصحابه مائدة كل يوم مرتين مع ما يضاف إليها من الماء والعلوفة لدوابِّ أصحابه، وهذا اعتناء عظيم، وإنَّما نال ذلك ببركة متابعته لهذا النَّبيّ الكريم - عليه أفضل الصَّلاة والتَّسليم -‏.‏

وأمَّا قوله عن عيسى بن مريم عليه السلام‏:‏ أنَّه قال لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏‏.‏

فهذا شيء يسير على الأنبياء بل وعلى كثير من الأولياء، وقد قال يوسف الصِّديق لذينك الفتيين المحبوسين معه‏:‏ ‏{‏وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وقد أخبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالأخبار الماضية طبق ما وقع، وعن الأخبار الحاضرة سواء بسواء، كما أخبر عن أكل الأرضة لتلك الصَّحيفة الظَّالمة التي كانت بطون قريش قديماً كتبتها على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطَّلب حتى يسلِّموا إليهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكتبوا بذلك صحيفة وعلَّقوها في سقف الكعبة فأرسل الله الأرضة فأكلتها إلا مواضع اسم الله تعالى، وفي رواية فأكلت اسم الله منها تنزيها لها أن تكون مع الذي فيها من الظُّلم والعدوان، فأخبر بذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّه أبا طالب وهم بالشِّعب، فخرج إليهم أبو طالب وقال لهم عمَّا أخبرهم به‏.‏

فقالوا‏:‏ إن كان كما قال، وإلا فسلِّموه إلينا‏.‏

فقالوا‏:‏ نعم، فأنزلوا الصَّحيفة فوجدوها كما أخبر عنها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سواء بسواء، فأقلعت بطون قريش عمَّا كانوا عليه لبني هاشم وبني المطلب، وهدى الله بذلك خلقاً كثيراً، وكم له مثلها كما تقدَّم بسطه وبيانه في مواضع من السِّيرة وغيرها ولله الحمد والمنَّة‏.‏

وفي يوم بدر لما طلب من العبَّاس عمّه فداء ادعى أنَّه لا مال له‏.‏

فقال له‏:‏ فأين المال الذي دفنته أنت وأمَّ الفضل تحت أسكفة الباب وقلت لها‏:‏ إن قتلت فهو للصِّبية‏.‏

فقال‏:‏ والله يا رسول الله إنَّ هذا شيء لم يطَّلع عليه غيري وغير أمَّ الفضل إلا الله عزَّ وجل‏.‏

وأخبر بموت النَّجاشي يوم مات وهو بالحبشة وصلَّى عليه‏.‏

وأخبر عن قتل الأمراء يوم مؤتة واحداً بعد واحد وهو على المنبر وعيناه تذرفان‏.‏

وأخبر عن الكتاب الذي أرسل به حاطب بن بلتعة مع شاكر مولى بني عبد المطَّلب، وأرسل في طلبها علياً، والزُّبير، والمقداد، فوجدوها قد جعلته في عقاصها، وفي رواية في حجزتها، وقد تقدَّم ذلك في غزوة الفتح‏.‏

وقال لأميري كسرى اللَّذين بعث بهما نائب اليمن لكسرى ليستعلما أمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ ربِّي قد قتل اللَّيلة ربكما‏)‏‏)‏ فأرَّخا تلك اللَّيلة، فإذا كسرى قد سلَّط الله عليه ولده فقتله، فأسلما وأسلم نائب اليمن، وكان سبب ملك اليمن لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وأمَّا إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم عن الغيوب المستقبلة فكثيرة جداً كما تقدَّم بسط ذلك، وسيأتي في أنباء التَّواريخ ليقع ذلك طبق ما كان سواء‏.‏

وذكر ابن حامد في مقابلة جهاد عيسى عليه الصلاة والسلام جهاد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وفي مقابلة زهد عيسى عليه الصلاة والسلام زهادة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن كنوز الأرض حين عرضت عليه فأباها وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجوع يوماً وأشبع يوماً‏)‏‏)‏‏.‏

وأنَّه كان له ثلاث عشرة زوجة يمضي عليهنَّ الشَّهر والشَّهران لا توقد عندهنَّ نار ولا مصباح، إنَّما هو الأسودان التَّمر والماء، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع، وما شبعوا من خبز برٍّ ثلاث ليال تباعاً وكان فراشه من أدم حشوه ليف، وربَّما اعتقل الشَّاة فيحلبها، ورقع ثوبه، وخصف نعله بيده الكريمة - صلوات الله وسلامه عليه - ومات صلَّى الله عليه وسلَّم ودرعه مرهونة عند يهودي على طعام اشتراه لأهله، هذا وكم آثر بآلاف مؤلفة والإبل والشَّاء والغنائم والهدايا على نفسه وأهله للفقراء، والمحاويج والأرامل والأيتام والأسرى، والمساكين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/330‏)‏

وذكر أبو نعيم في مقابلة تبشير الملائكة لمريم الصِّديقة بوضع عيسى، ما بشِّرت به آمنة أمُّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين حملت به في منامها، وما قيل لها‏:‏ إنَّك قد حملت بسيِّد هذه الأمَّة فسمِّيه محمداً، وقد بسطنا ذلك في المولد كما تقدَّم‏.‏

وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا حديثاً غريباً مطولاً بالمولد أحببنا أن نسوقه ليكون الختام نظير الافتتاح وبالله المستعان وعليه التُّكلان، ولله الحمد‏.‏

فقال‏:‏ حدَّثنا سليمان بن أحمد، حدَّثنا حفص بن عمرو بن الصَّباح، حدَّثنا يحيى بن عبد الله البابليّ، أنَّا أبو بكر ابن أبي مريم عن سعيد بن عمر الأنصاريّ، عن أبيه قال‏:‏ قال ابن عبَّاس‏:‏ فكان من دلالات حمل محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم أن كلَّ دابَّة كانت لقريش نطقت تلك اللَّيلة‏:‏ قد حمل برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورب الكعبة، وهو أمان الدُّنيا، وسراج أهلها، ولم يبق كاهن في قريش ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها، وانتزع علم الكهنة منها، ولم يبق سرير ملك من ملوك الدُّنيا إلا أصبح منكوساً، والملك مخرساً لا ينطق يومه لذلك، وفرَّت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار بشَّر بعضهم بعضاً، وفي كل شهر من شهوره نداء في الأرض ونداء في السَّموات‏:‏ أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميموناً مباركاً‏.‏

قال‏:‏ وبقي في بطن أمِّه تسعة أشهر، وهلك أبوه عبد الله وهو في بطن أمِّه، فقالت الملائكة‏:‏ إلهنا وسيدنا بقي نبيَّك هذا يتيماً‏.‏

فقال الله تعالى للملائكة‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا له ولي وحافظ ونصير‏)‏‏)‏ فتبرَّكوا بمولده ميموناً مباركاً، وفتح الله لمولده أبواب السَّماء وجنَّاته، وكانت آمنة تحدِّث عن نفسها وتقول‏:‏ أتى لي آتٍ حين مرَّ لي من حمله ستة أشهر فوكزني برجله في المنام وقال‏:‏ يا آمنة إنَّك حملت بخير العالمين طراً، فإذا ولدتيه فسمِّيه محمَّداً أو النَّبيّ، شأنك‏.‏

قال‏:‏ وكانت تحدِّث عن نفسها وتقول‏:‏ لقد أخذني ما يأخذ النِّساء ولم يعلم بي أحد من القوم ذكر ولا أنثى، وإنِّي لوحيدة في المنزل وعبد المطَّلب في طوافه، قالت‏:‏ فسمعت وجبةً شديدةً وأمراً عظيماً فهالني ذلك وذلك يوم الإثنين، ورأيت كأنَّ جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي فذهب كل رعب وكل فزع ووجل كنت أجد، ثمَّ التفت فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبناً وكنت عطشانة فتناولتها فشربتها فأصابني نور عال ثمَّ رأيت نسوة كالنَّخل الطِّوال كأنَّهن من بنات عبد المطَّلب يحدِّقن بي، فبينا أنا أعجب وأقول‏:‏ واغوثاه من أين علمن بي واشتد بي الأمر، وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول، وإذا أنا بديباج أبيض قد مدَّ بين السَّماء والأرض، وإذا قائل يقول‏:‏ خذوه عن أعين النَّاس‏.‏

قالت‏:‏ رأيت رجالاً وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة، وأنا يرشح مني عرق كالجُمان أطيب ريحاً من المسك الأزفر، وأنا أقول‏:‏ ياليت عبد المطَّلب قد دخل علي‏.‏

قالت‏:‏ ورأيت قطعة من الطَّير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتَّى غطَّت حجرتي مناقيرها من الزُّمرُّد، وأجنحتها من اليواقيت، فكشف الله لي عن بصيرتي فأبصرت من ساعتي مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاث علامات مضروبات‏:‏ علم بالمشرق، وعلم بالمغرب، وعلم على ظهر الكعبة، فأخذني المخاض واشتدَّ بي الطَّلق جداً، فكنت كأنِّي مسندة إلى أركان النِّساء، وكثرن عليَّ حتى كأنِّي مع البيت وأنا لا أرى شيئاً، فولدت محمَّداً، فلمَّا خرج من بطني درت فنظرت إليه فإذا هو ساجد وقد رفع إصبعيه كالمتضرِّع المبتهل، ثمَّ رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السَّماء تنزل حتَّى غشيته فغيِّب عن عيني، فسمعت منادياً ينادي يقول‏:‏ طوفوا بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم شرق الأرض وغربها وأدخلوه البحار كلَّها ليعرفوه باسمه ونعته وصورته ويعلموا أنَّه سمي الماحيّ لا يبقي شيء من الشِّرك إلا محي به‏.‏

قالت‏:‏ ثمَّ تخلَّوا عنه في أسرع وقت، فإذا أنا به مدرج في ثوب صوف أبيض أشدُّ بياضاً من اللَّبن، وتحته حريرة خضراء، وقد قبض محمَّد ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرَّطب الأبيض وإذا قائل يقول‏:‏ قبض محمَّد مفاتيح النَّصر، ومفاتيح الرِّيح، ومفاتيح النُّبُّوة، هكذا أورده وسكت عليه وهو غريب جداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/331‏)‏

وقال الشَّيخ جمال الدِّين أبو زكريا يحيى بن يوسف بن منصور بن عمر الأنصاريّ الصَّرصريّ الماهر الحافظ للأحاديث واللُّغة ذو المحبَّة الصَّادقة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ فلذلك يشبَّه في عصره بحسَّان بن ثابت رضي الله عنه وفي ديوانه المكتوب عنه في مديح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد كان ضرير البصر بصير البصيرة، وكانت وفاته ببغداد في سنة ست وخمسين وستَّمائة قتله التَّتار في كل بنة بغداد كما سيأتي ذلك في موضعه في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى وبه الثِّقة وعليه التُّكلان‏.‏

قال في قصيدته من حرف الحاء المهملة من ديوانه

محمَّدٌ المبعوثُ لِلنَّاس رَحمةً * يُشيدُ مَا أوهى الضَّلالُ ويُصْلِحُ

لئنْ سبَّحَتْ صمُّ الجبالِ مجيبةٍ * لداودَ أَو لانَ الحَديدُ المُصَفَّحِ

فإنَّ الصُّخورَ الصُّمَّ لانت بكفِّهِ * وإنَّ الحصا في كفِّهِ ليسبِّحُ

وإنْ كانَ مُوسى أَنبعَ الماء منَ العَصَا * فَمِن كفِّهِ قدْ أصبحَ الماءَ يَطفَحُ

وإنْ كانَتْ الرِّيحُ الرُّخاءَ مطيعةً * سُليمانَ لا تألُو تَروحُ وتَسرحُ

فإنَّ الصَبا كانت لِنصر نبيِّنَا * بِرُعْبٍ على شهرٍ بهِ الخَصْمُ يُكْلَحُ

وإنْ أوتي المُلكَ العظيمَ وسُخِّرتْ * لهُ الجنُّ تُشفِي مارضيهُ وَتلدَحُ

فإنَّ مفاتيحَ الكُنوزِ بأَسرهَا * أَتَتْهُ فَرَدَّ الزَّاهدُ المترجِّحُ

وإنْ كانَ إبراهيمُ أُعطي خِلَّة * وَموسَى بتَكليمٍ على الطُّورِ يمنحُ

فهذا حَبيبٌ بلْ خليلٌ مُكَلَّمٌ * وخُصِّص بالرُّؤيا وبالحقِّ أَشرحُ

وخُصِّص بالحوضِ العَظيمِ وباللِّوا * وَيشفَعُ للعاصينَ والنَّارُ تَلفَحُ

وبالمقعدِ الأعْلى المقرَّبِ عِنْدَهُ * عطاءٌ بِبُشْراهُ أقرُّ وأَفرحُ

وبالرِّتبةِ العُليَا الأَسيلةِ دُونهَا * مَراتبُ أربابِ المواهِبِ تَلْمَحُ

وفي جنَّة الفِردوسِ أوَّل داخلٍ * لهُ سائرُ الأبوابِ بالخَارِ تُفْتَحُ ‏(‏ج/ص‏:‏6/332‏)‏

وهذا آخر ما يسَّر الله جمعه من الأخبار بالمغيبات التي وقعت إلى زماننا ممَّا يدخل في دلائل النُّبُّوة والله الهادي، وإذا فرغنا إن شاء الله من إيراد الحادثات من بعد موته عليه السلام إلى زماننا نتبع ذلك بذكر الفتن والملاحم الواقعة في آخر الزَّمان، ثمَّ نسوق بعد ذلك أشراط السَّاعة، ثمَّ نذكر البعث والنُّشور، ثمَّ ما يقع يوم القيامة من الأهوال، وما فيه من العظمة، ونذكر الحوض والميزان والصِّراط، ثمَّ نذكر صفة النَّار، ثمَّ صفة الجنَّة‏.‏

كتاب تاريخ الإسلام الأوَّل من الحوادث الواقعة في الزَّمان ووفيَّات المشاهير والأعيان سنة إحدى عشرة من الهجرة‏:‏

تقدَّم ما كان في ربيع الأول منها من وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في يوم الإثنين وذلك لثاني عشر منه على المشهور، وقد بسطنا الكلام في ذلك بما فيه كفاية وبالله التَّوفيق‏.‏

 خلافة أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه وما فيها من الحوادث‏:‏

قد تقدَّم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم توفِّي يوم الإثنين وذلك ضحى، فاشتغل النَّاس ببيعة أبي بكر الصِّديق في سقيفة بني ساعدة، ثمَّ في المسجد البيعة العامة في بقية يوم الإثنين وصبيحة الثُّلاثاء كما تقدَّم ذلك بطوله، ثمَّ أخذوا في غسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتكفينه والصَّلاة عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم تسليماً - بقية يوم الثُّلاثاء، ودفنوه ليلة الأربعاء كما تقدَّم ذلك مبرهناً في موضعه‏.‏

وقال محمَّد بن إسحاق بن يسار‏:‏ حدَّثني الزُّهريّ، حدَّثني أنس بن مالك قال‏:‏ لمَّا بويع أبو بكر في السَّقيفة وكان الغد جلس أبو بكر فقام عمر فتكلَّم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثمَّ قال‏:‏ أيُّها النَّاس إنِّي قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إليَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولكنِّي قد كنت أرى أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سيدبِّر أمرنا، يقول‏:‏ يكون آخرنا، وإنَّ الله قد أبقى فيكم الذي به هدى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله، وإنَّ الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وثاني إثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه، فبايع النَّاس أبا بكر بعد بيعة السَّقيفة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/333‏)‏

ثمَّ تكلَّم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثمَّ قال‏:‏ أمَّا بعد أيُّها النَّاس فإنِّي قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصِّدق أمانة، والكذب خيانة، والضَّعيف فيكم قويّ عندي حتى أرجِّع عليه حقَّه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتَّى آخذ الحقَّ منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذُّل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله، وهذا إسناد صحيح وقد اتَّفق الصَّحابة - رضي الله عنهم - على بيعة الصِّديق في ذلك الوقت، حتَّى علي ابن أبي طالب والزُّبير بن العوَّام رضي الله عنهما‏.‏

والدَّليل على ذلك ما رواه البيهقيّ حيث قال‏:‏ أنبأنا أبو الحسين علي بن محمَّد بن علي الحافظ الإسفرايينيّ، ثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، ثنا أبو بكر ابن خزيمة وإبراهيم ابن أبي طالب قالا‏:‏ ثنا بندار بن يسار، ثنا أبو هشام المخزوميّ، ثنا وهيب، ثنا داود ابن أبي هند، ثنا أبو نصرة عن أبي سعيد الخدريّ قال‏:‏ قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واجتمع النَّاس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر‏.‏

قال فقام خطيب الأنصار فقال‏:‏ أتعلمون أنَّا أنصار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فنحن أنصار خليفته كما كنَّا أنصاره‏.‏

قال‏:‏ فقام عمر بن الخطَّاب فقال‏:‏ صدق قائلكم، ولو قلتم غير هذا لم نبايعكم، فأخذ بيد أبي بكر وقال‏:‏ هذا صاحبكم فبايعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار‏.‏

وقال‏:‏ فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزُّبير قال‏:‏ فدعا الزُّبير فجاء‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ ابن عمَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أردت أن تشقَّ عصا المسلمين ‏؟‏

قال‏:‏ لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه، ثمَّ نظر في وجوه القوم فلم ير علياً فدعا بعلي ابن أبي طالب‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ ابن عمِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وختنه على ابنته أردت أن تشقَّ عصا المسلمين ‏؟‏

قال‏:‏ لا تثريب يا خليفة رسول الله فبايعه هذا أو معناه‏.‏

قال الحافظ أبو علي النّيسابوريّ‏:‏ سمعت ابن خزيمة يقول‏:‏ جاءني مسلم بن الحجَّاج فسألني عن هذا الحديث فكتبته له في رقعة وقرأت عليه‏.‏

فقال‏:‏ هذا حديث يساوي بدنة‏.‏

فقلت‏:‏ يسوي بدنة بل هذا يسوي بدرة‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن الثِّقة، عن وهيب مختصراً‏.‏

وأخرجه الحاكم في مستدركه من طريق عفَّان بن مسلم عن وهيب مطولاً كنحو ما تقدَّم‏.‏

وروينا من طريق المحامليّ عن القاسم بن سعيد بن المسيّب، عن علي بن عاصم، عن الحريري، عن أبي نصرة، عن أبي سعيد فذكره مثله في مبايعة علي والزُّبير رضي الله عنهما يومئذ‏.‏

وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم حدَّثني أبي أنَّ أباه عبد الرَّحمن بن عوف كان مع عمر، وأنَّ محمَّد بن مسلمة كسر سيف الزُّبير‏.‏

ثمَّ خطب أبو بكر واعتذر إلى النَّاس وقال‏:‏ والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتها الله في سرٍّ ولا علانية، فقبل المهاجرون مقالته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/334‏)‏

وقال علي والزُّبير‏:‏ ما تأخرنا إلا لأنَّنا أُخرنا عن المشورة، وإنا نرى أبا بكر أحقَّ النَّاس بها إنَّه لصاحب الغار، وإنَّا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالصَّلاة بالنَّاس وهو حيّ وهذا اللائق بعلي رضي الله عنه والذي يدل عليه الآثار من شهوده معه الصَّلوات وخروجه معه إلى ذي القصَّة بعد موت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كما سنورده وبذله له النَّصيحة والمشورة بين يديه‏.‏

وأمَّا ما يأتي من مبايعته إيَّاه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها عليه السلام بستة أشهر فذلك محمول على أنها بيعة ثانية أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث ومنعه إيَّاهم ذلك بالنَّص عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورِّث ما تركنا فهو صدقة‏)‏‏)‏ كما تقدم إيراد أسانيده وألفاظه ولله الحمد‏.‏

وقد كتبنا هذه الطرق مستقصاة في الكتاب الذي أفردناه في سيرة الصِّديق رضي الله عنه وما أسنده من الأحاديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وما روى عنه من الأحكام مبوَّبة على أبواب العلم ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال سيف بن عمر التَّميميّ‏:‏ عن أبي ضمرة عن أبيه، عن عاصم بن عدي قال‏:‏ نادى منادي أبي بكر من الغد من متوفَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ليتمَّم بعث أسامة ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جيش أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف‏.‏

وقام أبو بكر في النَّاس فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ أيُّها النَّاس إنَّما أنا مثلكم، وإنِّي لعلَّكم تكلِّفونني ما كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يطيق، إنَّ الله اصطفى محمَّداً على العالمين وعصمه من الآفات، وإنَّما أنا متَّبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فبايعوني، وإن زغت فقوِّموني، وإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبض وليس أحد من هذه الأمَّة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها، وإنَّ لي شيطاناً يعتريني، فإذا أتاني فاجتذوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم وإنَّكم تغدون وتروحون في أجل قد غُيِّب عنكم علمه، وإن استطعتم أن لا يمضي إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، وسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلِّمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإنَّ قوماً نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم بعدهم فإيَّاكم أن تكونوا أمثالهم، الجدَّ الجدَّ، النَّجاة النَّجاة، الوحا الوحا فإنَّ وراءكم طالباً حثيثاً، وأجلاً أمره سريع، احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والأخوان، ولا تطيعوا الأحياء إلا بما تطيعوا به الأموات‏.‏

قال‏:‏ وقام أيضاً فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال‏:‏ إنَّ الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، فإنَّما أخلصتم لحين فقركم وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكَّروا فيمن كان قبلكم أين كانوا أمس، وأين هم اليوم، أين الجبَّارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب، قد تضعضع بهم الدَّهر وصاروا رميماً، قد تولَّت عليهم العالات الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمَّروها‏؟‏ قد بعدوا ونسي ذكرهم وصاروا كلا شيء، إلا أنَّ الله عزَّ وجل قد أبقى عليهم التَّبعات وقطع عنهم الشَّهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم والدُّنيا دنيا غيرهم، وبعثنا خلفا بعدهم فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن انحدرنا كنَّا مثلهم، أين الوضاءة الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم صاروا تراباً، وصار ما فرَّطوا فيه حسرة عليهم، أين الذين بنوا المدائن وحصَّنوها بالحوائط وجعلوا فيها الأعاجيب‏؟‏ قد تركوها لمن خلفهم فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا‏؟‏ أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم‏؟‏ قد انتهت بهم آجالهم، فوردوا على ما قدَّموا فحلُّوا عليه وأقاموا للشَّقوة أو السَّعادة بعد الموت، ألا إن الله لا شريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيراً ولا يصرف به عنه سوءاً إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنَّكم عبيد مدينون، وأنَّ ما عنده لا يدرك إلا بطاعته، أما آن لأحدكم أن تحسر عنه النَّار ولا تبعد عنه الجنَّة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/335‏)‏

 فصل في تنفيذ جيش أسامة بن زيد

الذين كانوا قد أمرهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالمسير إلى تخوم البلقاء من الشَّام حيث قتل زيد بن حارثة، وجعفر وابن رواحة، فيغتزوا على تلك الأراضي، فخرجوا إلى الجُّرف فخيَّموا به، وكان بينهم عمر بن الخطَّاب، ويقال‏:‏ وأبو بكر الصِّديق فاستثناه رسول الله منهم للصَّلاة، فلمَّا ثقل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أقاموا هنالك فلمَّا مات عظم الخطب واشتدَّ الحال، ونجم النِّفاق بالمدينة، وارتدَّ من ارتدَّ من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من أداء الزَّكاة إلى الصِّديق، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أوَّل قرية أقامت الجمعة بعد رجوع النَّاس إلى الحقِّ كما في صحيح البخاري عن ابن عبَّاس كما سيأتي، وقد كانت ثقيف بالطَّائف ثبتوا على الإسلام لم يفرُّوا ولا ارتدُّوا‏.‏

والمقصود أنَّه لمَّا وقعت هذه الأمور أشار كثير من النَّاس على الصِّديق أن لا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه، فيما هو أهمّ لأنَّ ما جهِّز بسببه في حال السَّلامة، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطَّاب، فامتنع الصِّديق من ذلك، وأبى أشدَّ الإباء إلا أن ينفذ جيش أسامة‏.‏

وقال‏:‏ والله لا أحلّ عقدة عقدها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولو أنَّ الطَّير تخطَّفنا والسَّباع من حول المدينة، ولو أنَّ الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزنَّ جيش أسامة، وآمر الحرس يكونون حول المدينة، فكان خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح والحالة تلك، فساروا لا يمرُّون بحيٍّ من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم، وقالوا‏:‏ ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة، فقاموا أربعين يوماً، ويقال‏:‏ سبعين يوماً، ثمَّ أتوا سالمين غانمين، ثمَّ رجعوا فجهَّزهم حينئذ مع الأحياء الذين أخرجهم لقتال المرتدَّة وما نعي الزَّكاة على ما سيأتي تفصيله‏.‏

قال سيف بن عمر‏:‏ عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ لمَّا بويع أبو بكر وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه، قال‏:‏ ليتم بعث أسامة وقد ارتدَّت العرب إمَّا عامَّة وإمَّا خاصَّة في كل قبيلة، ونجم النِّفاق واشرأبَّت اليهودية والنَّصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة في اللَّيلة الشَّاتية لفقد نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم وقلَّتهم وكثرة عدوِّهم‏.‏

فقال له النَّاس‏:‏ إنَّ هؤلاء جلَّ المسلمين والعرب على ما ترى قد انتقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرِّق عنك جماعة المسلمين‏.‏

فقال‏:‏ والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أنَّ السِّباع تخطَّفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/336‏)‏

وقد روي هذا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

ومن حديث القاسم وعمرة عن عائشة قالت‏:‏ لمَّا قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ارتدَّت العرب قاطبة وأشرأبَّت النِّفاق، والله لقد نزل بي ما لو نزل بالجِّبال الرَّاسيات لهاضها، وصار أصحاب محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم كأنَّهم معزى مطيَّرة في وحش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطلها وعنانها وفصلها، ثمَّ ذكرت عمر فقالت‏:‏ من رأى عمر علم أنَّه خلق غنى للإسلام، كان والله أحوذيا نسيج وحده قد أعدَّ للأمور أقرانها‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو عبد الله الحافظ، أنَّا أبو العبَّاس محمَّد بن يعقوب، ثنا محمَّد بن علي الميمونيّ، ثنا الفريابيّ، ثنا عبَّاد بن كثير عن أبي الأعرج، عن أبي هريرة قال‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو لولا أنَّ أبا بكر استخلف ما عبد الله، ثمَّ قال الثَّانية، ثمَّ قال الثَّالثة‏.‏

فقيل له‏:‏ مه يا أبا هريرة‏.‏

فقال‏:‏ إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجَّه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشَّام فلمَّا نزل بذي خشب قُبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وارتدَّت العرب حول المدينة فاجتمع إليه أصحاب رسول الله فقالوا‏:‏ يا أبا بكر ردَّ هؤلاء توجَّه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدَّت العرب حول المدينة‏.‏

فقال‏:‏ والذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما رددت جيشاً وجَّهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده رسول الله، فوجَّه أسامة فجعل لا يمرُّ بقبيل يريدون الإرتداد إلا قالوا‏:‏ لولا أنَّ لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الرُّوم، فلقوا الرُّوم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام - عبَّاد بن كثير هذا أظنه البرمكي - لرواية الفريابي عنه، وهو متقارب الحديث، فأمَّا البصريّ الثَّقفيّ فمتروك الحديث والله أعلم‏.‏

وروى سيف بن عمر عن أبي ضمرة وأبي عمرو وغيرهما، عن الحسن البصريّ أنَّ أبا بكر لمَّا صمَّم على تجهيز جيش أسامة، قال بعض الأنصار لعمر‏:‏ قل له فليؤمِّر علينا غير أسامة، فذكر له عمر ذلك، فيقال‏:‏ أنَّه أخذ بلحيته وقال‏:‏ ثكلتك أمَّك يا ابن الخطَّاب أؤمِّر غير أمير رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثمَّ نهض بنفسه إلى الجُّرف فاستعرض جيش أسامة وأمرهم بالمسير وسار معهم ماشياً وأسامة راكباً وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصِّديق‏.‏

فقال أسامة‏:‏ يا خليفة رسول الله إمّا أن تركب، وإمَّا أن أنزل‏.‏

فقال‏:‏ والله لست بنازل ولست براكب، ثمَّ استطلق الصِّديق من أسامة عمر بن الخطَّاب وكان مكتتبا في جيشه فأطلقه له، فلهذا كان عمر لا يلقاه بعد ذلك إلا قال‏:‏ السَّلام عليك أيُّها الأمير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/337‏)‏

 مقتل الأسود العنسي المتنبِّي الكذَّاب‏:‏

قال أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدَّثني عمرو بن شيبة النميريّ، ثنا علي بن محمَّد - يعني‏:‏ المدائني - عن أبي معشر ويزيد بن عياض، عن جعد به، وغسَّان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء عن مشيختهم قالوا‏:‏ أمضى أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول، وأتى مقتل الأسود في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة، فكان ذلك أوَّل فتح فتح أبو بكر وهو بالمدينة‏.‏

 صفة خروجه وتمليكه ومقتله‏:‏

قد أسلفنا فيما تقدَّم أنَّ اليمن كانت لحمير وكانت ملوكهم يسمُّون التبابعة، وتكلَّمنا في أيَّام الجاهلية على طرف صالح من هذا، ثمَّ إنَّ ملك الحبشة بعث أميرين من قواده وهما‏:‏ أبرهة الأشرم، وأرياط، فتملَّكا له اليمن من حمير وصار ملكها للحبشة، ثمَّ اختلف هذان الأميران فقتل أرياط واستقلَّ أبرهة بالنِّيابة وبنى كنيسة سماها العانس لارتفاعها، وأراد أن يصرف حجَّ العرب إليها دون الكعبة، فجاء بعض قريش فأحدث في هذه الكنيسة، فلمَّا بلغه ذلك حلف ليخربنَّ بيت مكة، فسار إليه ومعه الجُّنود والفيل محمود، فكان من أمرهم ما قصَّ الله في كتابه، وقد تقدَّم بسط ذلك في موضعه، فرجع أبرهة ببعض من بقي من جيشه في أسوأ حال، وشرِّ خيبة وما زال تسقط أعضاؤه أنملة أنملة فلمَّا وصل إلى صنعاء انصدع صدره فمات، فقام بالملك بعده ولده بلسيوم بن أبرهة، ثمَّ أخوه مسروق بن أبرهة، فيقال‏:‏ إنَّه استمر ملك اليمن بأيدي الحبشة سبعين سنة، ثمَّ ثار سيف بن ذي يزن الحميريّ فذهب إلى قيصر ملك الرُّوم يستنصره عليهم فأبى ذلك عليه لما بينه وبينهم من الاجتماع في دين النَّصرانية، فسار إلى كسرى ملك الفرس فاستغاث به وله معه مواقف ومقامات في الكلام تقدَّم بسط بعضها، ثمَّ اتَّفق الحال على أن بعث معه ممن بالسُّجون طائفة تقدَّمهم رجل منهم يقال له‏:‏ وهرز، فاستنقذ ملك اليمن من الحبشة، وكسر مسروق بن أبرهة وقتله، ودخلوا إلى صنعاء وقرروا سيف بن ذي يزن في الملك على عادة آبائه، وجاءت العرب تهنِّئه من كل جانب، غير أنَّ لكسرى نوايا على البلاد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/338‏)‏

فاستمر الحال على ذلك حتى بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأقام بمكة ما أقام ثمَّ هاجر إلى المدينة فلمَّا كتب كتبه إلى الآفاق يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فكتب في جملة ذلك إلى كسرى ملك الفرس‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمَّد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتَّبع الهدى، أمَّا بعد فأسلم تسلم إلى آخره‏.‏

فلمَّا جاءه الكتاب قال‏:‏ ما هذا ‏؟‏

قالوا‏:‏ هذا كتاب جاء من عند رجل بجزيرة العرب يزعم أنَّه نبيّ‏.‏

فلمَّا فتح الكتاب فوجده قد بدأ باسمه قبل اسم كسرى غضب كسرى غضباً شديداً وأخذ الكتاب فمزَّقه قبل أن يقرأه، وكتب إلى عامله على اليمن وكان اسمه باذام‏:‏ أمَّا بعد فإذا جاءك كتابي هذا فابعث من قبلك أميري إلى هذا الرَّجل الذي بجزيرة العرب الذي يزعم أنَّه نبيّ فابعثه إلي في جامعة، فلمَّا جاء الكتاب إلى باذام بعث من عنده أميرين عاقلين، وقال‏:‏ إذهبا إلى هذا الرَّجل فانظرا ما هو‏؟‏ فإن كان كاذباً فخذاه في جامعة حتَّى تذهبا به إلى كسرى، وإن كان غير ذلك فارجعا إليَّ فأخبراني ما هو حتى أنظر في أمره‏.‏

فقدما على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة فوجداه على أسدِّ الأحوال وأرشدها، ورأيا منه أموراً عجيبة يطول ذكرها، ومكثا عنده

شهراً حتَّى بلغا ما جاءا له، ثمَّ تقاضاه الجواب بعد ذلك‏.‏

فقال لهما‏:‏ ‏(‏‏(‏إرجعا إلى صاحبكما فأخبراه أنَّ ربي قد قتل اللَّيلة ربه‏)‏‏)‏ فأرَّخا ذلك عندهما، ثمَّ رجعا سريعاً إلى اليمن فأخبرا باذام بما قال لهما‏.‏

فقال‏:‏ أحصوا تلك اللَّيلة، فإن ظهر الأمر كما قال فهو نبيّ، فجاءت الكتب من عند ملكهم أنَّه قد قتل كسرى في ليلة كذا وكذا لتلك اللَّيلة، وكان قد قتله بنوه، ولهذا قال بعض الشُّعراء‏:‏

وكسرَى إذْ تَقَاسمَهُ بَنوهُ * بأَسيافٍ كما اقتسَمَ اللَّحامُ

تمَخَّضتْ المَنونُ لهُ بيومٍ * أنى ولكلِّ حاملةٍ تمامُ

وقام بالملك بعده ولده يزدجرد، وكتب إلى باذام أن خذ لي البيعة من قبلك، واعمد إلى ذلك الرَّجل فلا تهنه، وأكرمه، فدخل الإسلام في قلب باذام وذريَّته من أبناء فارس ممَّن باليمن، وبعث إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بإسلامه، فبعث إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بنيابة اليمن بكمالها، فلم يعزله عنها حتى مات، فلمَّا مات استناب ابنه شهر بن باذام على صنعاء وبعض مخاليف، وبعث طائفة من أصحابه نواباً على مخاليف أخر، فبعث أولاً في سنة عشر علياً وخالداً، ثمَّ أرسل معاذاً وأبا موسى الأشعري وفرَّق عمالة اليمن بين جماعة من الصَّحابة فمنهم‏:‏ شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمذانيّ على همذان، وأبو موسى على مأرب، وخالد بن سعيد بن العاص على عامر نجران، ورفع وزبيد ويعلى ابن أمية على الجند، والطَّاهر ابن أبي هالة على عك والأشعريين، وعمرو بن حرام على نجران، وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد، وعلى السكاسك عكاشة بن مور بن أخضر، وعلى السكون معاوية بن كندة، وبعث معاذ بن جبل معلماً لأهل البلدين اليمن وحضرموت يتنقَّل من بلد إلى بلد، ذكره سيف بن عمر، وذلك كلَّه في سنة عشر، وآخر حياة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فبينما هم على ذلك إذ نجم هذا اللَّعين الأسود العنسيّ‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/339‏)‏

 خروج الأسود العنسيّ‏:‏

واسمه عبهلة بن كعب بن غوث من بلد يقال لها‏:‏ كهف حنان في سبعمائة مقاتل وكتب إلى عمَّال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أيُّها المتمرِّدون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفِّروا ما جمعتم فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه، ثمَّ ركب فتوجَّه إلى نجران فأخذها بعد عشر ليال من مخرجه، ثم قصد إلى صنعاء فخرج إليه شهر بن باذام فتقاتلا فغلبه الأسود وقتله، وكسر جيشه من الأبناء، واحتلَّ بلدة صنعاء لخمس وعشرين ليلة من مخرجه، ففرَّ معاذ بن جبل من هنالك، واجتاز بأبي موسى الأشعريّ فذهبا إلى حضرموت، وانحاز عمَّال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الطَّاهر، ورجع عمر بن حرام وخالد بن سعيد بن العاص إلى المدينة، واستوثقت اليمن بكمالها للأسود العنسيّ، وجعل أمره يستطير استطارة الشَّرارة، وكان جيشه يوم لقي شهراً سبعمائة فارس، وأمراؤه قيس بن عبد يغوث، ومعاوية ابن قيس، ويزيد بن محرم بن حصن الحارثيّ، ويزيد بن الأفكل الأزديّ، واشتدَّ ملكه واستغلظ أمره، وارتدَّ خلق من أهل اليمن، وعامله المسلمون الذين هناك بالتِّقية، وكان خليفته على مذحج عمرو بن معدي كرب، وأسند أمر الجند إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز الدَّيلمي وداذويه، وتزوَّج بامرأة شهر بن باذام وهي ابنة عم فيروز الدَّيلمي واسمها زاذ، وكانت امرأة حسناء جميلة وهي مع ذلك مؤمنة بالله ورسوله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ومن الصَّالحات، قال سيف بن عمر التَّميميّ‏:‏ وبعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كتابه حين بلغه خبر الأسود العنسيّ مع رجل يقال له‏:‏ وبر بن يحنس الدَّيلمي يأمر المسلمين الذين هناك بمقاتلة الأسود العنسي ومصاولته، وقام معاذ بن جبل بهذا الكتاب أتمَّ القيام، وكان قد تزوَّج امرأة من السكون يقال لها‏:‏ رملة، فحزبت عليه السكون لصبره فيهم، وقاموا معه في ذلك، وبلَّغوا هذا الكتاب إلى عمَّال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومن قدروا عليه من النَّاس، واتَّفق اجتماعهم بقيس بن عبد يغوث أمير الجند، وكان قد غضب على الأسود واستخفَّ به وهمَّ بقتله، وكذلك كان أمر فيروز الدَّيلميّ قد ضعف عنده أيضاً وكذا داوذيه، فلمَّا أعلم وبر بن نحيس قيس بن عبد يغوث وهو قيس بن مكشوح كان كأنَّما نزلوا عليه من السَّماء، ووافقهم على الفتك بالأسود، وتوافق المسلمون على ذلك وتعاقدوا عليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/340‏)‏

فلمَّا أيقن ذلك في الباطن اطلع شيطان الأسود للأسود على شيء من ذلك، فدعا قيس بن مشكوح فقال له‏:‏ يا قيس ما يقول هذا ‏؟‏

قال‏:‏ وما يقول ‏؟‏

قال‏:‏ يقول‏:‏ عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كلَّ مدخل وصار في العزِّ مثلك، مال ميل عدوِّك وحاول ملكك، وأضمر على الغدر، إنَّه يقول‏:‏ يا أسود يا أسود، يا سوآه يا سوآه، فطف به وخذ من قيس أعلاه وإلا سلبك وقطف رقبتك‏.‏

فقال له قيس وحلف له فكذَّب‏:‏ وذي الخمار لأنت أعظم في نفسي، وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي‏.‏

فقال له الأسود‏:‏ ما أخالك تكذِّب الملك فقد صدق الملك، وعرف الآن أنَّك تائب عمَّا اطَّلع عليه منك‏.‏

ثمَّ خرج قيس من بين يديه فجاء إلى أصحابه فيروز وداوذيه وأخبرهم بما قال له وردَّ عليه‏.‏

فقالوا‏:‏ إنَّا كلَّنا على حذر فما الرَّأي‏؟‏ فبينما هم يشتورون إذ جاءهم رسوله فأحضرهم بين يديه‏.‏

فقال‏:‏ ألم أشرِّفكم على قومكم ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فماذا يبلغني عنكم ‏؟‏

فقالوا‏:‏ أقلنا مرتنا هذه‏.‏

فقال‏:‏ لا يبلغني عنكم فأقيلكم‏.‏

قال‏:‏ فخرجنا من عنده ولم نكد وهو في ارتياب من أمرنا، ونحن على خطر فبينما نحن في ذلك إذ جاءتنا كتب من عامر بن شهر أمير همدان، وذي ظليم، وذي كلاع وغيرهم من أمراء اليمن يبذلون لنا الطَّاعة والنَّصر على مخالفة الأسود، وذلك حين جاءهم كتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحثَّهم على مصاولة الأسود العنسيّ، فكتبنا إليهم أ لا يحدثوا شيئاً حتَّى نبرم الأمر‏.‏

قال قيس‏:‏ فدخلت على امرأته

ازاذ فقلت‏:‏ يا ابنة عمِّي قد عرفت بلاء هذا الرَّجل عند قومك قتل زوجك، وطأطأ في قومك القتل، وفضح النِّساء فهل عندك ممالأة عليه ‏؟‏

قالت‏:‏ على أي أمر ‏؟‏

قلت‏:‏ إخراجه‏.‏

قالت‏:‏ أو قتله ‏؟‏

قلت‏:‏ أو قتلة‏.‏

قالت‏:‏ نعم والله ما خلق الله شخصاً هو أبغض إليَّ منه فما يقوم لله عليّ حقّ ولا ينتهي له عن حرمة فإذا عزمتم أخبروني أعلمكم بما في هذا الأمر‏.‏

قال‏:‏ فأخرج، فإذا فيروز وداوذيه ينتظراني يريدون أن يناهضوه فما استقرَّ اجتماعه بهما حتى بعث إليه الأسود فدخل في عشرة من قومه‏.‏

فقال‏:‏ ألم أخبرك بالحقِّ، وتخبرني بالكذَّابة إنَّه يقال‏:‏ يا سوأة يا سوأة، إن لم تقطع من قيس يده يقطع رقبتك العليا حتَّى ظنَّ قيس أنَّه قاتله‏.‏

فقال‏:‏ إنَّه ليس من الحقِّ أن أهلك وأنت رسول الله، فقتلي أحبُّ إليَّ من موتات أموتها كل يوم، فرقَّ له وأمره بالإنصراف، فخرج إلى أصحابه فقال‏:‏ اعملوا عملكم، فبينما هم وقوف بالباب يشتورون، إذ خرج الأسود عليهم وقد جمع له مائة ما بين بقرة وبعير، فقام وخطَّ وأقيمت من ورائه، وقام دونها فنحرها غير محبسة ولا معلقة ما يقتحم الخط منها شيء، فجالت إلى أن زهقت أرواحها‏.‏

قال قيس‏:‏ فما رأيت أمراً كان أفظع منه ولا يوماً أوحش منه‏.‏

ثمَّ قال الأسود‏:‏ أحقٌ ما بلغني عنك يا فيروز‏؟‏ لقد هممت أن أنحرك فألحقك بهذه البهيمة، وأبدى له الحربة‏.‏

فقال له فيروز‏:‏ اخترتنا لصهرك، وفضَّلتنا على الأبناء، فلو لم تكن نبياً ما بعنا نصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الآخرة والدُّنيا فلا تقبل علينا أمثال ما يبلغك فإنَّا بحيث تحبُّ‏.‏

فرضي عنه وأمره بقسم لحوم تلك الأنعام، ففرَّقها فيروز في أهل صنعاء ثمَّ أسرع اللِّحاق به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/341‏)‏

فإذا رجل يحرِّضه على فيروز ويسعى إليه فيه، واستمع له فيروز، فإذا الأسود يقول‏:‏ أنا قاتله غداً وأصحابه، فاغد عليَّ به، ثمَّ التفت فإذا فيروز فقال‏:‏ مه، فأخبره فيروز بما صنع من قسم ذلك اللَّحم فدخل الأسود داره، ورجع فيروز إلى أصحابه فأعلمهم بما سمع، وبما قال، وقيل له، فاجتمع رأيهم على أن عاودوا المرأة في أمره، فدخل أحدهم - وهو فيروز - إليها، فقالت‏:‏ إنَّه ليس من الدَّار بيت إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت، فإنَّ ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطَّريق، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه من دون الحرس، وليس من دون قتله شيء، وإني سأضع في البيت سراجاً وسلاحاً، فلمَّا خرج من عندها تلقَّاه الأسود فقال له‏:‏ ما أدخلك على أهلي‏؟‏ ووجأ رأسه، وكان الأسود شديداً فصاحت المرأة فأدهشته عنه، ولولا ذلك لقتله، وقالت‏:‏ ابن عمِّي جاءني زائراً‏.‏

فقال‏:‏ اسكتي لا أبالك قد وهبته لك‏.‏

فخرج على أصحابه فقال‏:‏ النَّجاء النَّجاء وأخبرهم الخبر، فحاروا ماذا يصنعون، فبعثت المرأة إليهم تقول لهم‏:‏ لا تنثنوا عمَّا كنتم عازمين عليه، فدخل عليها فيروز الدَّيلميّ فاستثبت منها الخبر، ودخلوا إلى ذلك البيت فنقبوا داخله بطائن ليهون عليهم النَّقب من خارج، ثمَّ جلس عندها

جهرة كالزَّائر فدخل الأسود فقال‏:‏ وما هذا ‏؟‏

فقالت‏:‏ إنَّه أخي من الرَّضاعة، وهو ابن عمِّي، فنهره وأخرجه فرجع إلى أصحابه، فلمَّا كان اللَّيل نقبوا ذلك البيت فدخلوا، فوجدوا فيه سراجاً تحت جفنة، فتقدَّم إليه فيروز الدَّيلميّ والأسود نائم على فراش من حرير قد غرق رأسه في جسده، وهو سكران يغطّ، والمرأة جالسة عنده، فلمَّا قام فيروز على الباب أجلسه شيطانه وتكلَّم على لسانه - وهو مع ذلك يغطّ - فقال‏:‏ مالي ومالك يا فيروز ‏؟‏

فخشي إن رجع يهلك وتهلك المرأة فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل فأخذ رأسه فدق عنقه، ووضع ركبتيه في ظهره حتى قتله، ثمَّ قام ليخرج إلى أصحابه ليخبرهم فأخذت المرأة بذيله وقالت‏:‏ أين تذهب عن حرمتك فظنَّت أنَّها لم تقتله، فقال‏:‏ أخرج لأعلمهم بقتله، فدخلوا عليه ليحتزوا رأسه، فحرَّكه شيطانه فاضطرب، فلم يضبطوا أمره حتى جلس اثنان على ظهره، وأخذت المرأة بشعره، وجعل يبربر بلسانه فاحتزَّ الآخر رقبته، فخار كأشدِّ خوار ثور سمع قطّ، فابتدر الحرس إلى المقصورة فقالوا‏:‏ ما هذا‏؟‏ ما هذا ‏؟‏

فقالت المرأة‏:‏ النَّبيّ يوحي إليه، فرجعوا، وجلس قيس داذويه وفيروز يأتمرون كيف يعلمون أشياعهم، فاتَّفقوا على أنَّه إذا كان الصَّباح ينادون بشعارهم الذي بينهم وبين المسلمين، فلمَّا كان الصَّباح قام أحدهم وهو قيس على سور الحصن فنادى بشعارهم فاجتمع المسلمون والكافرون حول الحصن، فنادى قيس، ويقال‏:‏ وبر بن يحنش الأذان أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله، وأنَّ عبهلة كذَّاب وألقى إليهم رأسه، فانهزم أصحابه وتبعهم النَّاس يأخذونهم، ويرصدونهم في كل طريق يأسرونهم، وظهر الإسلام وأهله، وتراجع نوَّاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أعمالهم، وتنازع أولئك الثَّلاثة في الإمارة، ثمَّ اتَّفقوا على معاذ ابن جبل يصلِّي بالنَّاس، وكتبوا بالخبر إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد أطلعه الله على الخبر من ليلته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/342‏)‏

كما قال سيف بن عمر التَّميميّ‏:‏ عن أبي القاسم الشَّنويّ، عن العلاء بن زيد، عن ابن عمر أتى الخبر إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من السَّماء اللَّيلة التي قتل فيها العنسيّ ليبشِّرنا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قتل العنسيّ البارحة قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين‏)‏‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ ومن ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فيروز، فيروز‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنَّ مدَّة ملكه منذ ظهر إلى أن قتل ثلاثة أشهر، ويقال‏:‏ أربعة أشهر فالله أعلم‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ عن المستنير، عن عروة، عن الضحاك، عن فيروز قال‏:‏ قتلنا الأسود وعاد أمرنا في صنعاء كما كان إلا أنَّا أرسلنا إلى معاذ بن جبل فتراضينا عليه فكان يصلِّي بنا في صنعاء، فوالله ما صلَّى بنا إلا ثلاثة أيَّام حتى أتانا الخبر بوفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فانتقضت الأمور وأنكرنا كثيراً ممَّا كنَّا نعرف واضطربت الأرض‏.‏

وقد قدَّمنا أنَّ خبر العنسي جاء إلى الصِّديق في أواخر ربيع الأول بعد ما جهَّز جيش أسامة، وقيل بل جاءت البشارة إلى المدينة صبيحة توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والأوَّل أشهر والله أعلم‏.‏

والمقصود أنَّه لم يجئهم فيما يتعلق بمصالحهم واجتماع كلمتهم وتأليف ما بينهم

والتَّمسك بدين الإسلام إلا الصِّديق رضي الله عنه‏.‏

وسيأتي إرساله إليهم من يمهِّد الأمور التي اضطربت في بلادهم، ويقوي أيدي المسلمين، ويثبِّت أركان دعائم الإسلام فيهم - رضي الله عنهم -‏.‏

 فصل في تصدِّي الصِّديق لقتال أهل الرِّدَّة ومانعي الزَّكاة‏:‏

قد تقدَّم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا توفِّي ارتدَّت أحياء كثيرة من الأعراب، ونجم النِّفاق بالمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذَّاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدي بنو أسد، وطيء، وبشر كثير أيضاً‏.‏

وادَّعى النُّبُّوة أيضاً كما ادَّعاها مسيلمة الكذَّاب وعظم الخطب، واشتدَّت الحال، ونفذ الصِّديق جيش أسامة فقلَّ الجند عند الصِّديق فطمعت كثير من الأعراب في المدينة، وراموا أن يهجموا عليها فجعل الصِّديق على أنقاب المدينة حراساً يبيتون بالجيوش حولها، فمن أمراء الحرس عليٌّ ابن أبي طالب، والزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبد الله، وسعد ابن أبي وقَّاص، وعبد الرَّحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود‏.‏

وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرُّون بالصَّلاة، ويمتنعون من أداء الزَّكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصِّديق، وذكر أنَّ منهم من احتج بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏خذ من أموالهم صدقة تطهِّرهم وتزكِّيهم بها وصلِّ عليهم إنَّ صلاتك سكن لهم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا، وأنشد بعضهم‏:‏

أَطَعْنَا رَسُولَ اللهِ إذْ كانَ بينَنَا * فَواعجَباً ما بالُ مُلْكِ أَبي بَكْرِ ‏(‏ج/ص‏:‏6/343‏)‏

وقد تكلَّم الصَّحابة مع الصِّديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزَّكاة ويتألَّفهم حتَّى يتمكَّن الإيمان في قلوبهم، ثمَّ هم بعد ذلك يزكُّون فامتنع الصِّديق من ذلك وأباه‏.‏

وقد روى الجماعة في كتبهم سوى ابن ماجه عن أبي هريرة أنَّ عمر بن الخطَّاب قال لأبي بكر‏:‏ علام تقاتل النَّاس وقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أُمرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ والله لو منعوني عناقاً، وفي رواية‏:‏ عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأقاتلنَّهم على منعها، إنَّ الزَّكاة حقَّ المال، والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصَّلاة والزَّكاة‏.‏

قال عمر‏:‏ فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنَّه الحقّ‏.‏

قلت‏:‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وثبت في الصَّحيحين‏:‏ ‏(‏‏(‏بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وحجُّ البيت، وصوم رمضان‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريقين عن شبابة ابن سوار، ثنا عيسى بن يزيد المدينيّ، حدَّثني صالح بن كيسان قال‏:‏ لمَّا كانت الرِّدَّة قام أبو بكر في النَّاس فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال‏:‏ الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إنَّ الله بعث محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رثَّ حبله، وخلق عهده، وضلَّ أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيراً لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شراً لشرِّ عندهم، قد غيَّروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنَّهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشاً، وأضلَّهم ديناً في ظلف من الأرض مع ما فيه من السَّحاب، فختمهم الله بمحمَّد وجعلهم الأمَّة الوسطى، نصرهم بمن اتَّبعهم، ونصرهم على غيرهم حتَّى قبض الله نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم فركب منهم الشَّيطان مركبه الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم وبغى هلكتهم ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏‏.‏

إنَّ من حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدَّم من بركة نبيِّكم صلَّى الله عليه وسلَّم وقد وكَّلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالاً فهداه، وعائلاً فأغناه، ‏{‏وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏‏.‏

والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منَّا شهيداً من أهل الجنَّة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ثمَّ نزل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/344‏)‏

وقال الحسن وقتادة وغيرهما في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبَّهم ويحبُّونه‏)‏‏)‏ الآية

قالوا‏:‏ المراد بذلك أبو بكر وأصحابه في قتالهم المرتدِّين ومانعي الزَّكاة‏.‏

وقال محمَّد بن إسحاق‏:‏ ارتدَّت العرب عند وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما خلا أهل المسجدين مكة والمدينة‏.‏

وارتدَّت أسد، وغطفان، وعليهم طليحة بن خويلد الأسدي الكاهن‏.‏

وارتدَّت كندة ومن يليها وعليهم الأشعث بن قيس الكندي‏.‏

وارتدَّت مذحج ومن يليها وعليهم الأسود بن كعب العنسي الكاهن‏.‏

وارتدَّت ربيعة مع المعرور ابن النُّعمان بن المنذر‏.‏

وكانت حنيفة مقيمة على أمرها مع مسيلمة بن حبيب الكذَّاب‏.‏

وارتدَّت سليم مع الفجأة واسمه أنس بن عبد ياليل‏.‏

وارتدَّت بنو تميم مع سجاح الكاهنة‏.‏

وقال القاسم بن محمَّد‏:‏ اجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة الأسدي، وبعثوا وفوداً إلى المدينة، فنزلوا على وجوه النَّاس فأنزلوهم إلا العبَّاس، فحملوا بهم إلى أبي بكر على أن يقيموا الصَّلاة ولا يؤتوا الزَّكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحقِّ وقال‏:‏ لو منعوني عقالاً لجاهدتهم، فردَّهم، فرجعوا إلى عشائرهم فأخبروهم بقلَّة أهل المدينة وطمَّعوهم فيها، فجعل أبو بكر الحرس على أنقاب المدينة، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد، وقال‏:‏ إنَّ الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلَّة، وإنَّكم لا تدرون ليلاً يأتون أم نهاراً، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يؤملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، فاستعدُّوا وأعدُّوا فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارةً، وخلَّفوا نصفهم بذي حسى ليكونوا ردءاً لهم، وأرسل الحرس إلى أبي بكر يخبرونه بالغارة، فبعث إليهم أن الزموا مكانكم، وخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم فانفشَّ العدوّ واتَّبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حسي، فخرج عليهم الردء، فالتقوا مع الجمع فكان الفتح، وقد قال‏:‏

أطَعْنَا رَسولَ اللهِ ما كانَ وَسْطَنَا * فَيالعِبادِ اللهِ مَا لأبي بكرِ

أَيُورِثُنَا بَكْراً إذا مَاتَ بعْدَهُ * وَتِلْكَ لَعمرُ اللهِ قَاصِمَةُ الظَّهرِ

فَهَلا رَدَدْتمْ وَفْدَنا بِزَمانِه * وَهَلا خَشِيتُمْ حسَّ راعيةَ البِكْرِ

وإنَّ التي سألوكُمو فَمَنَعتمُو * لكالتَّمرِ أو أحلى إليَّ منَ التَّمْرِ ‏(‏ج/ص‏:‏6/345‏)‏

وفي جمادى الآخرة ركب الصِّديق في أهل المدينة وأمراء الأنقاب إلى من حول المدينة من الأعراب الذين أغاروا عليها، فلمَّا تواجه هو وأعداؤه من بني عبس، وبني مرَّة، وذبيان، ومن ناصب معهم من بني كنانة، وأمدَّهم طليحة بابنه حبال، فلمَّا تواجه القوم كانوا قد صنعوا مكيدة وهي أنَّهم عمدوا إلى أنحاء فنفخوها، ثمَّ أرسلوها من رءوس الجبال فلمَّا رأتها إبل أصحاب الصِّديق نفرت وذهبت كل مذهب، فلم يملكوا من أمرها شيئاً إلى اللَّيل وحتى رجعت إلى المدينة، فقال في ذلك الخطيل بن أوس‏:‏

فدىً لِبني ذُبْيَانَ رَحلي وَنَاقَتي * عَشِيةَ يحدَى بالرِّماحِ أَبُو بَكرِ

وَلَكنْ يُدَهْدَى بالرِّجالِ فَهَبْنَهُ * إلى قَدَرِ ما تقيمُ وَلا تَسرِي

وللهِ أجنادٌ تذاقُ مَذاقَهُ * لِتُحْسَبَ فيما عُدَّ من عَجَبِ الدَّهرِ

أَطَعْنَا رَسُولَ اللهِ ما كانَ بينَنَا * فَيالعِبادِ اللهِ ما لأبي بَكْرِ

فلمَّا وقع ما وقع ظنَّ القوم بالمسلمين الوهن وبعثوا إلى عشائرهم من نواحي أخر فاجتمعوا، وبات أبو بكر رضي الله عنه قائماً ليله يعبِّي النَّاس، ثمَّ خرج على تعبئة من آخر اللَّيل وعلى ميمنته النُّعمان ابن مقرن، وعلى الميسرة أخوه عبد الله بن مقرن، وعلى السَّاقة أخوهما سويد بن مقرن، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين حساً ولا همساً حتى وضعوا فيهم السُّيوف، فما طلعت الشَّمس حتَّى ولُّوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصَّة وكان أوَّل الفتح، وذلَّ بها المشركون، وعزَّ بها المسلمون، ووثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وفعل من وراءهم كفعلهم، فحلف أبو بكر ليقتلنَّ من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، ففي ذلك يقول زياد بن حنظلة التَّميميّ‏:‏

غَداةَ سَعى أَبو بكرٍ إليهمُ * كمَا يَسعَى لموتَتِهِ حلالُ

أَراحَ على نَواهِقِهَا عَلِيَّاً * ومَجَّ لهنَّ مُهْجَتَهُ حَبَالُ

وقال أيضا‏:‏

أَقَمْنَا لهمْ عَرضَ الشَّمالِ فَكَبْكِبُوا * كَكَبْكَبَةِ الغُزَى أَنَاخُوا عَلى الوَفُرِ

فَمَا صَبرُوا لِلْحَرْبِ عِنْدَ قِيامِهَا * صَبيحَةَ يَسمُو بالرِّجالِ أبو بَكرِ

طَرَقْنَا بني عبسٍ بأدنى نِبَاجِها * وَذُبيانَ نَهْنَهْنَا بِقَاصِمَةِ الظَّهرِ

فكانت هذه الوقعة من أكبر العون على نصر الإسلام وأهله، وذلك أنَّه عزَّ المسلمون في كل قبيلة، وذلَّ الكفَّار في كل قبيلة، ورجع أبو بكر إلى المدينة مؤيداً منصوراً، سالماً غانماً، وطرقت المدينة في اللَّيل صدقات عدي بن حاتم، وصفوان، والزَّبرقان‏:‏ إحداها في أوَّل اللَّيل، والثَّانية في أوسطه، والثَّالثة في آخره، وقدم بكل واحدة منهنَّ بشير من أمراء الأنقاب، فكان الذي بشَّر بصفوان سعد ابن أبي وقَّاص، والذي بشَّر بالزَّبرقان عبد الرَّحمن بن عوف، والذي بشَّر بعدي بن حاتم عبد الله ابن مسعود، ويقال‏:‏ أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه وذلك على رأس ستِّين ليلة من متوفَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ثمَّ قدم أسامة بن زيد بعد ذلك بليال فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وأمرهم أن يريحوا ظهرهم، ثمَّ ركب أبو بكر في الذين كانوا معه في الوقعة المتقدِّمة إلى ذي القصَّة فقال له المسلمون‏:‏ لو رجعت إلى المدينة وأرسلت رجلاً‏.‏

فقال‏:‏ والله لا أفعل، ولأواسينَّكم بنفسي، فخرج في تعبئته إلى ذي حسىً، وذي القصَّة والنُّعمان وعبد الله وسويد بنو مقرن على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الرِّبذة بالأبرق وهناك جماعة من بني عبس وذبيان وطائفة من بني كنانة فاقتتلوا فهزم الله الحارث وعوفاً، وأخذ الحطيئة أسيراً فطارت بنو عبس، وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أيَّاماً، وقد غلب بني ذبيان على البلاد، وقال‏:‏ حرام على بني ذبيان أن يتملَّكوا هذه البلاد إذ غنَّمناها الله وحمى الأبرق بخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة، ولما فرَّت عبس وذبيان صاروا إلى مؤازرة طلحة وهو نازل على بزاخة، وقد قال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة‏:‏ ويومٌ بالأبارقِ قدْ شهدنَا * عَلى ذُبيانَ يَلتهبُ التِهابَا

أتيناهُمْ بِداهيةٍ نَسُوفٍ * مَعَ الصِّديقِ إذْ تَرَكَ العِتابَا ‏(‏ج/ص‏:‏6/346‏)‏