فصل: سنة خمس وستين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 أولاد يزيد بن معاوية وعددهم

فمنهم معاوية بن يزيد بن معاوية يكنى أبا ليلى، وهو الذي يقول فيه الشاعر‏:‏

إني أرى فتنة قد حان أولها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا

وخالد بن يزيد يكنى أبا هاشم كان يقال‏:‏ إنه أصاب علم الكيمياء، وأبو سفيان، وأمهما أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس‏.‏

وقد تزوجها بعد يزيد بن مروان بن الحكم وهي التي يقول فيها الشاعر‏:‏

أنعمي أم خالدٍ * ربَّ ساعٍ كقاعد

وعبد العزيز بن يزيد ويقال له‏:‏ الأسوار، وكان من أرمى العرب، وأمه أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر وهو الذي يقول فيه الشاعر‏:‏

زعم الَّناس أنَّ خير قريشٍ * كلهم حين يذكرون الأساور

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/60‏)‏

وعبد الله الأصغر، وأبو بكر، وعتبة، وعبد الرحمن، والربيع، ومحمد، لأمهات أولاد شتىَّ‏.‏

ويزيد، وحرب، وعمر، وعثمان‏.‏

فهؤلاء خمسة عشر ذكراً، وكان له من البنات‏:‏ عاتكة، ورملة، وأم عبد الرحمن، وأم يزيد، وأم محمد، فهؤلاء خمس بنات‏.‏

وقد انقرضوا كافة فلم يبق ليزيد عقب، والله سبحانه أعلم‏.‏

 إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية

أبي عبد الرحمن ويقال‏:‏ أبو يزيد‏.‏

ويقال‏:‏ أبو يعلى القرشي الأموي، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، بويع له بعد موت أبيه - وكان ولي عهده من بعده - في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين‏.‏

وكان رجلاً صالحاً ناسكاً، ولم تطل مدته‏.‏

قيل‏:‏ إنه مكث في الملك أربعين يوماً‏.‏

وقيل‏:‏ عشرين يوماً‏.‏

وقيل‏:‏ شهرين‏.‏

وقيل‏:‏ شهراً ونصف‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاثة أشهر وعشرون يوماً‏.‏

وقيل‏:‏ أربعة أشهر فالله أعلم‏.‏

وكان في مدة ولايته مريضاً لم يخرج إلى الناس، وكان الضحاك بن قيس هو الذي يصلي بالناس ويسد الأمور، ثم مات معاوية بن يزيد هذا عن إحدى وعشرين‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يوماً‏.‏

وقيل‏:‏ تسع عشرة سنة‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاث وعشرون سنة‏.‏

وقيل‏:‏ إنما عاش ثماني عشرة سنة‏.‏

وقيل‏:‏ تسع عشرة سنة‏.‏

وقيل‏:‏ عشرون‏.‏

وقيل‏:‏ خمس وعشرون فالله أعلم‏.‏

وصلى عليه أخوه خالد‏.‏

وقيل‏:‏ عثمان بن عنبسة‏.‏

وقيل‏:‏ الوليد بن عتبة وهو الصحيح، فإنه أوصى إليه بذلك، وشهد دفنه مروان بن الحكم، وكان الضحاك بن قيس هو الذي يصلي بالناس بعده حتى استقر الأمر لمروان بالشام‏.‏

ودفن بمقابر باب الصغير بدمشق، ولما حضرته الوفاة، قيل له‏:‏ ألا توصي‏.‏

فقال‏:‏ لا أتزوّد مرارتها إلى آخرتي وأترك حلاوتها لبني أمية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/261‏)‏

وكان رحمه الله أبيض شديد البياض، كثير الشعر، كبير العينين، جعد الرأس، أقنى الأنف، مدور الرأس، جميل الوجه، كثير شعر الوجه دقيقه، حسن الجسم‏.‏

قال أبو زرعة الدمشقي‏:‏ معاوية، وعبد الرحمن، وخالد أخوه، وكانوا من صالحي القوم، وقال فيه بعض الشعراء - وهو عبد الله بن همام البلوي -‏:‏

تلقاها يزيدٌ عن أبيه * فدونكها معاوي عن يزيدا

أديروها بني حربٍ عليكم * ولا ترموا بها الغرض البعيدا

ويروى أن معاوية بن يزيد هذا نادى في الناس‏:‏ الصلاة جامعة ذات يوم، فاجتمع الناس فقال لهم فيما قال‏:‏ يا أيها الناس ‏!‏ إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة منكم كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك، وقد تركت لكم أمركم فولوا عليكم من يصلح لكم‏.‏

ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج منه حتى مات رحمه الله تعالى‏.‏

ويقال‏:‏ إنه سقي‏.‏

ويقال‏:‏ إنه طعن‏.‏

ولما دفن حضر مروان دفنه، فلما فرغ منه قال مروان‏:‏ أتدرون من دفنتم‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم معاوية بن يزيد‏.‏

فقال مروان‏:‏ هو أبو ليلى الذي قال فيه أرثم الفزاري‏:‏

إني أرى فتنة تغلي مراجلها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا

قالوا‏:‏ فكان الأمر كما قال، وذلك أن أبا ليلى توفي من غير عهد منه إلى أحد، فتغلب إلى الحجاز عبد الله بن الزبير، وعلى دمشق وأعمالها مروان بن الحكم، وبايع أهل خراسان سلم بن زياد حتى يتولى على الناس خليفة، وأحبوه محبة عظيمة، وسار فيهم سلم سيرة حسنة أحبوه عليها، ثم أخرجوه من بين أظهرهم‏.‏

وخرج القراء والخوارج بالبصرة وعليهم نافع بن الأزرق، وطردوا عنهم عبيد الله بن زياد بعدما كانوا بايعوه عليهم حتى يصير للناس إمام، فأخرجوه عنهم، فذهب إلى الشام بعد فصول يطول ذكرها‏.‏

وقد بايعوا بعده عبد الله بن الحارث بن نوفل المعروف ببَّة، وأمه هند بنت أبي سفيان، وقد جعل على شرطة البصرة هميان بن عدي السدوسي، فبايعه الناس في مستهل جمادى الآخرة سنة أربع وستين‏.‏

وقد قال الفرزدق‏:‏

وبايعت أقواماً وفيت بعهدهم * وببة قد بايعته غير نادم

فأقام فيها أربعة أشهر ثم لزم بيته، فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم شهرين، ثم كان ما سنذكره‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/262‏)‏

وخرج نجدة بن عامر الحنفي باليمامة، وخرج بنو ماحورا في الأهواز وفارس وغير ذلك على ما سيأتي تفصيله قريباً إن شاء الله تعالى‏.‏

 إمارة عبد الله بن الزبير

وعند ابن حزم وطائفة أنه أمير المؤمنين آنذاك‏.‏

قد قدمنا أنه لما مات يزيد أقلع الجيش عن مكة، وهم الذين كانوا يحاصرون ابن الزبير هو عائذ بالبيت، فلما رجع حصين بن نمير السكوني بالجيش إلى الشام، استفحل ابن الزبير بالحجاز وما والاها، وبايعه الناس بعد يزيد بيعة هناك‏.‏

واستناب على أهل المدينة أخاه عبيد الله بن الزبير، وأمره بإجلاء بني أمية عن المدينة فأجلاهم فرحلوا إلى الشام، وفيهم مروان بن الحكم وابنه عبد الملك‏.‏

ثم بعث أهل البصرة إلى ابن الزبير بعد حروب جرت بينهم وفتن كثيرة يطول استقصاؤها، غير أنهم في أقل من ستة أشهر أقاموا عليهم نحواً من أربعة أمراء من بينهم ثم تضطرب أمورهم‏.‏

ثم بعثوا إلى ابن الزبير وهو بمكة يخطبونه لأنفسهم، فكتب إلى أنس بن مالك ليصلي بهم‏.‏

ويقال‏:‏ إن أول من بايع الزبير مصعب بن عبد الرحمن‏.‏

فقال الناس‏:‏ هذا أمر فيه صعوبة، وبايعه عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن علي بن أبي طالب، وبعث إلى ابن عمر، وابن الحنفية، وابن عباس ليبايعوا فأبوا عليه‏.‏

وبويع في رجب بعد أن أقام الناس نحو ثلاثة أشهر بلا إمام‏.‏

وبعث ابن الزبير إلى أهل الكوفة عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله على الخراج، واستوثق له المصران جميعاً، وأرسل إلى مصر فبايعوه‏.‏

واستناب عليها عبد الرحمن بن جحدر، وأطاعت له الجزيرة، وبعث على البصرة الحارث بن عبد الله بن ربيعة، وبعث إلى اليمن فبايعوه، وإلى خراسان فبايعوه، وإلى الضحاك بن قيس بالشام فبايع‏.‏

وقيل‏:‏ إن أهل دمشق وأعمالها من بلاد الأردن لم يبايعوه، لأنهم بايعوا مروان بن الحكم لما رجع الحصين بن نمير من مكة إلى الشام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/263‏)‏

وقد كان التف على عبد الله بن الزبير جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم‏:‏ نافع بن الأزرق، وعبد الله بن أباض، وجماعة من رؤوسهم‏.‏

فلما استقر أمره في الخلافة قالوا فيما بينهم‏:‏ إنكم قد أخطأتم لأنكم قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان - وكانوا ينتقصون عثمان - فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما يسوؤهم، وذكر لهم ما كان متصفاً به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان والسيرة الحسنة، والرجوع إلى الحق إذا تبين له‏.‏

فعند ذلك نفروا عنه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بأبدانهم وأديانهم ومذاهبهم، ومسالكهم المختلفة المنتشرة، التي لا تنضبط ولا تنحصر، لأنها مفرعة على الجهل وقوة النفوس، والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البلدان والكور، حتى انتزعت منهم على ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله‏.‏

 ذكر بيعة مروان بن الحكم

وكان سبب ذلك أن حصين بن نمير لما رجع من أرض الحجاز وارتحل عبيد الله بن زياد من البصرة إلى الشام، وانتقلت بنو أمية من المدينة إلى الشام، اجتمعوا إلى مروان بن الحكم بعد موت معاوية بن يزيد‏.‏

وقد كان معاوية بن يزيد قد عزم على أن يبايع لابن الزبير بدمشق، وقد بايع أهلها الضحاك بن قيس على أن يصلح بينهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس على إمام، والضحاك يريد أن يبايع لابن الزبير‏.‏

وقد بايع لابن الزبير النعمان بن بشير بحمص، وبايع له زفر بن عبد الله الكلابي بقنسرين، وبايع له نائل بن قيس بفلسطين، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي، فلم يزل عبيد الله بن زياد والحصين بن نمير بمروان بن الحكم يحسنون له أن يتولى، حتى ثنوه عن رأيه وحذروه من دخول سلطان ابن الزبير وملكه إلى الشام‏.‏

وقالوا له‏:‏ أنت شيخ قريش وسيدها‏:‏ فأنت أحق بهذا الأمر‏.‏

فرجع عن البيعة لابن الزبير، وخاف ابن زياد الهلاك إن تولى غير بني أمية، فعند ذلك التف هؤلاء كلهم مع قومه بني أمية ومع أهل اليمن على مروان، فوافقهم على ما أرادوا، وجعل يقول‏:‏ ما فات شيء‏.‏

وكتب حسان بن مالك بن بحدل الكلبي إلى الضحاك بن قيس يثنيه عن المبايعة لابن الزبير، ويعرفه أيادي بني أمية عنده وإحسانهم، ويذكر فضلهم وشرفهم‏.‏

وقد بايع حسان بن مالك أهل الأردن لبني أمية، وهو يدعو إلى ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان‏.‏

وبعث الضحاك كتاباً بذلك، وأمره أن يقرأ كتابه على أهل دمشق يوم الجمعة على المنبر، وبعث بالكتاب مع رجل يقال له‏:‏ ناغضة بن كريب الطابجي‏.‏

وقيل‏:‏ هو من بني كلب وقال له‏:‏ إن لم يقرأه هو على الناس فاقرأه أنت، فأعطاه الكتاب فسار إلى الضحاك فأمره بقراءة الكتاب فلم يقبل، فقام ناغض فقرأه على الناس فصدقه جماعة من أمراء الناس، وكذبه آخرون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/264‏)‏

وثارت فتنة عظيمة بين الناس، فقام خالد بن يزيد بن معاوية وهو شاب حدث على درجتين من المنبر فسكن الناس، ونزل الضحاك فصلى بالناس الجمعة، وأمر الضحاك بن قيس بأولئك الذين صدقوا ناغضة أن يسجنوا‏.‏

فثارت قبائلهم فأخرجوهم من السجن، واضطرب أهل دمشق في ابن الزبير وبني أمية، وكان اجتماع الناس لذلك ووقوفهم بعد صلاة الجمعة بباب الجيرون، فسمي هذا اليوم يوم جيرون‏.‏

قال المدائني‏:‏ وقد أراد الناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أن يتولى عليهم فأبى، وهلك في تلك الليالي، ثم أن الضحاك بن قيس صعد منبر المسجد الجامع فخطبهم به، ونال من يزيد بن معاوية‏.‏

فقام إليه شاب من بني كلب فضربه بعصى كانت معه، والناس جلوس متقلدي سيوفهم، فقام بعضهم إلى بعض فاقتتلوا في المسجد قتالاً شديداً، فقيس ومن لف لفيفها يدعون إلى ابن الزبير وينصرون الضحاك بن قيس، وبنو كلب يدعون إلى بني أمية وإلى البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، ويتعصبون ليزيد وأهل بيته‏.‏

فنهض الضحاك بن قيس فدخل دار الإمارة وأغلق الباب، ولم يخرج إلى الناس إلا يوم السبت لصلاة الفجر‏.‏

ثم أرسل إلى بني أمية فجمعهم إليه فدخلوا عليه وفيهم مروان بن الحكم، وعمرو بن سعيد بن العاص، وخالد، وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية‏.‏

قال المدائني‏:‏ فاعتذر إليهم مما كان منه، واتفق معهم أن يركب معهم إلى حسان بن مالك الكلبي فيتفقوا على رجل يرتضونه من بني أمية للإمارة، فركبوا جميعاً إليه، فبينما هم يسيرون إلى الجابية لقصد حسان، إذ جاء معن بن ثور بن الأخنس في قومه قيس‏.‏

فقال له‏:‏ إنك دعوتنا إلى بيعة ابن الزبير فأجبناك، وأنت الآن ذاهب إلى هذا الأعرابي ليستخلف ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية‏.‏

فقال له الضحاك‏:‏ وما الرأي‏؟‏

قال‏:‏ الرأي أن نظهر ما كنا نسر، وأن ندعو إلى طاعة ابن الزبير ونقاتل عليها من أباها‏.‏

فمال الضحاك بمن معه فرجع إلى دمشق، فأقام بها بمن معه من الجيش من قيس ومن لف لفيفها، وبعث إلى أمراء الأجناد وبايع الناس لابن الزبير، وكتب بذلك إلى ابن الزبير يعلمه بذلك، فذكره ابن الزبير لأهل مكة وشكره على صنيعه، وكتب إليه بنيابة الشام‏.‏

وقيل‏:‏ بل بايع لنفسه بالخلافة فالله أعلم‏.‏

والذي ذكره المدائني أنه إنما دعا إلى بيعة ابن الزبير أولاً، ثم حسن له عبيد الله بن زياد أن يدعو إلى نفسه، وذلك إنما فعله مكراً منه وكباراً ليفسد عليه ما هو بصدده، فدعا الضحاك إلى نفسه ثلاثة أيام، فنقم الناس عليه ذلك وقالوا‏:‏ دعوتنا إلى بيعة رجل فبايعناه، ثم خلعته بلا سبب ولا عذر، ثم دعوتنا إلى نفسك‏؟‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/265‏)‏

فرجع إلى البيعة لابن الزبير فسقط بذلك عند الناس، وذلك الذي أراد ابن زياد‏.‏

وكان اجتماع عبيد الله بن زياد به بعد اجتماعه بمروان وتحسينه له أن يدعو إلى نفسه، ثم فارق مروان ليخدع له الضحاك، فنزل عنده بدمشق وجعل يركب إليه كل يوم، ثم أشار ابن زياد على الضحاك أن يخرج من دمشق إلى الصحراء ويدعو بالجيوش إليه ليكون أمكن له‏.‏

فركب الضحاك إلى مرج راهط فنزل بمن معه من الجنود، وعند ذلك اجتمع بنو أمية ومن اتبعهم بالأردن، واجتمع إليهم من هنالك من قوم حسان بن مالك من بني كلب‏.‏

ولما رأى مروان بن الحكم ما أنتظم من البيعة لابن الزبير، وما استوثق له من الملك، وعزم على الرحيل إليه لمبايعته وليأخذ منه أماناً لبني أمية‏.‏

فسار حتى بلغ أذرعات فلقيه ابن زياد مقبلاً من العراق فصده عن ذلك وهجّن رأيه، واجتمع إليه عمرو بن سعيد بن العاص، وحصين بن نمير، وابن زياد، وأهل اليمن وخلق‏.‏

فقالوا لمروان‏:‏ أنت كبير قريش، وخالد بن يزيد غلام، وعبد الله بن الزبير كهل، فإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تناوئه بهذا الغلام، وارم بنحرك في نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه بالجابية في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة، سنة أربع وستين، قاله الواقدي‏.‏

فلما تمهد له الأمر سار بمن معه نحو الضحاك بن قيس فالتقيا بمرج راهط، فغله مروان بن الحكم وقتله وقتل من قيس مقتلة لم يسمع بمثلها، على ما سيأتي تفصيله في أول سنة خمس وستين‏.‏

فإن الواقدي وغيره قالوا‏:‏ إنما كانت هذه الوقعة في المحرم من أول سنة خمس وستين‏.‏

وفي رواية محمد بن سعد‏:‏ وعن الواقدي وغيره قالوا‏:‏ إنما كانت في أواخر هذه السنة‏.‏

وقال الليث بن سعد، والواقدي، والمدائني، وأبو سليمان بن يزيد، وأبو عبيدة وغير واحد‏:‏ كانت وقعة مرج راهط للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 وقعة مرج راهط ومقتل الضحّاك بن قيس الفهري رضي الله عنه

قد تقدم أن الضحاك كان نائب دمشق لمعاوية بن أبي سفيان، وكان يصلي عنهم إذا اشتغلوا أو غابوا، ويقيم الحدود ويسد الأمور، فلما مات معاوية قام بأعباء بيعة يزيد ابنه، ثم لما مات يزيد بايع الناس لمعاوية بن يزيد، فلما مات معاوية بن يزيد بايعه الناس من دمشق حتى تجتمع الناس على إمام‏.‏

فلما اتسعت البيعة لابن الزبير عزم على المبايعة له، فخطب الناس يوماً وتكلم في يزيد بن معاوية وذمه‏.‏

فقامت فتنة في المسجد الجامع حتى اقتتل الناس فيه بالسيوف، فسكن الناس ثم دخل دار الإمارة من الخضراء وأغلق عليه الباب، ثم اتفق مع بني أمية على أن يركبوا إلى حسان بن مالك بن بحدل وهو بالأردن فيجتمعوا عنده على من يراه أهلاً للإمارة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/266‏)‏

وكان حسان يريد أن يبايع لابن أخته خالد بن يزيد، ويزيد بن ميسون، وميسون بنت بحدل، أخت حسان، فلما ركب الضحاك معهم انخذل بأكثر الجيش فرجع إلى دمشق فامتنع بها، وبعث إلى أمراء الأجناد فبايعهم لابن الزبير‏.‏

وسار بنو أمية ومعهم مروان، وعمرو بن سعيد، وخالد، وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية، حتى اجتمعوا بحسان بن مالك بالجابية‏.‏

وليس لهم قوة طائلة بالنسبة إلى الضحاك بن قيس، فعزم مروان على الرحيل إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ أماناً منه لبني أمية، فإنه كان قد أمر بإجلائهم عن المدينة‏.‏

فسار حتى وصل إلى أذرعات، فلقيه عبيد الله بن زياد مقبلاً من العراق، فاجتمع به ومعه حصين بن نمير، وعمرو بن سعيد بن العاص، فحسنوا إليه أن يدعو إلى نفسه، فإنه أحق بذلك من ابن الزبير الذي قد فارق الجماعة، وخلع ثلاثة من الخلفاء، فلم يزالوا بمروان حتى أجابهم إلى ذلك‏.‏

وقال له عبيد الله بن زياد‏:‏ وأنا ذاهب لك إلى الضحاك إلى دمشق فأخدعه لك وأخذل أمره، فسار إليه وجعل يركب إليه كل يوم ويظهر له الود والنصحية والمحبة، ثم حسن له أن يدعو إلى نفسه ويخلع ابن الزبير فإنك أحق بالأمر منه، لأنك لم تزل في الطاعة مشهوراً بالأمانة، وابن الزبير خارج عن الناس‏.‏

فدعا الضحاك الناس إلى نفسه ثلاثة أيام فلم يصمد معه، فرجع إلى الدعوة لابن الزبير، ولكن انحط بها عند الناس‏.‏

ثم قال له ابن زياد‏:‏ إن من يطلب ما تطلب لا ينزل المدن والحصون، وإنما ينزل الصحراء ويدعو إليه بالجنود، فبرز الضحاك إلى مرج راهط فنزله، وأقام ابن زياد بدمشق، وبنو أمية بتدمر، وخالد وعبد الله عند خالهم حسان بالجابية‏.‏

فكتب ابن زياد إلى مروان يأمره أن يظهر دعوته، فدعا إلى نفسه، وتزوج بأم خالد بن يزيد - وهي أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة - فعظم أمره وبايعه الناس واجتمعوا عليه‏.‏

وسار إلى مرج راهط نحوه الضحاك بن قيس، وركب إليه عبيد الله بن زياد، وأخوه عباد بن زياد، حتى اجتمع مع مروان ثلاثة عشر ألفاً، وبدمشق من جهته يزيد بن أبي النمر، وقد أخرج عامل الضحاك منها وهو يمد مروان بالسلاح والرجال وغير ذلك‏.‏

ويقال‏:‏ كان نائبه على دمشق يومئذٍ عبد الرحمن بن أم الحكم، وجعل مروان على ميمنته عبيد الله بن زياد، وعلى ميسرته عمرو بن سعيد بن العاص، وبعث الضحاك إلى النعمان بن بشير فأمده النعمان بأهل حمص عليهم شرحبيل بن ذي الكلاع‏.‏

وركب إليه زفر بن الحارث الكلابي في أهل قنسرين‏.‏

فكان الضحاك في ثلاثين ألفاً، على ميمنته زياد بن عمرو العقيلي، وعلى ميسرته زكريا بن شمر الهلالي، فتصافوا وتقاتلوا بالمرج عشرين يوماً، يلتقون بالمرج في كل يوم فيقتتلون قتالاً شديداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/267‏)‏

ثم أشار عبيد الله على مروان أن يدعوهم إلى الموادعة خديعة فإن الحرب خديعة، وأنت وأصحابك على الحق، وهم على الباطل، فنودي الناس بذلك، ثم غدر أصحاب مروان فمالوا يقتلونهم قتالاً شديداً، وصبر الضحاك صبراً بليغاً‏.‏

فقتل الضحاك بن قيس في المعركة، قتله رجل يقال له‏:‏ زحمة بن عبد الله من بني كلب، طعنه بحربة فأنفذه ولم يعرفه‏.‏

وصبر مروان وأصحابه صبراً شديداً حتى فر أولئك بين يديه، فنادى مروان‏:‏ ألا لا تتبعوا مدبراً، ثم جيء برأس الضحاك‏.‏

ويقال‏:‏ أن أول من بشره بقتله روح بن زنباع الجذامي، واستقر ملك الشام بيد مروان بن الحكم‏.‏

وروي أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط، فقال‏:‏ أبعد ما كبرت وضعفت صرت إلى أن أقتل بالسيوف على الملك ‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ ولم تطل مدته في الملك إلا تسعة أشهر على ما سنذكره‏.‏

وقد كان الضحاك بن قيس بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك، أبو أنيس الفهري أحد الصحابة على الصحيح‏.‏

وقد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أحاديث عدة، وروى عنه جماعة من التابعين‏.‏

وهو أخو فاطمة بنت قيس وكانت أكبر منه بعشر سنين، وكان أبو عبيدة بن الجراح عمه‏.‏

حكاه ابن أبي حاتم‏.‏

وزعم بعضهم أنه لا صحبة له‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه قبل البلوغ‏.‏

وفي رواية عن الواقدي أنه قال‏:‏ ولد الضحاك قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين‏.‏

وقد شهد فتح دمشق وسكنها وله بها دار عند حجر الذهب مما يلي نهر بردى، وكان أميراً على أهل دمشق يوم صفين مع معاوية، ولما أخذ معاوية الكوفة استنابه بها في سنة أربع وخمسون‏.‏

وقد روى البخاري في ‏(‏التاريخ‏)‏‏:‏ أن الضحاك قرأ سورة ‏(‏‏(‏ص‏)‏‏)‏ في الصلاة فسجد فيها فلم يتابعه علقمة وأصحاب ابن مسعود في السجود‏.‏

ثم استنابه معاوية عنده على دمشق فلم يزل عنده حتى مات معاوية وتولى ابنه يزيد، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم صار أمره إلى ما ذكرنا‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة، أنبأنا علي بن زيد، عن الحسن أن الضحاك بن قيس كتب إلى الهيثم حين مات يزيد بن معاوية‏:‏ السلام عليك، أما بعد‏:‏

فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، فتناً كقطع الدخان، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام أخلاقهم ودينهم بعرض من الدنيا قليل‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/268‏)‏

وإن يزيد بن معاوية قد مات وأنتم إخواننا وأشقاؤنا فلا تسبقونا حتى نحتال لأنفسنا‏.‏

وقد روى ابن عساكر من طريق ابن قتيبة عن العباس بن الفرج الرياشي، عن يعقوب بن إسحاق بن ثوبة، عن حماد بن زيد‏.‏

قال‏:‏ دخل الضحاك بن قيس على معاوية فقال معاوية منشداً له‏:‏

تطاولت للضحاك حتى رددته * إلى حسبٍ في قومه متقاصر

فقال الضحاك‏:‏ قد علم قومنا أنا أحلاس الخيل‏.‏

فقال‏:‏ صدقت، أنتم أحلاسها ونحن فرسانها يريد معاوية أنتم راضة وساسة، ونحن الفرسان‏.‏

ورأى أن أصل الكلمة من الحلس وهو كساء يكون تحت البرذعة أي أنه لازم ظهر الفرس كما يلزم الحلس ظهر البعير والدابة‏.‏

وروى أن مؤذن دمشق قال للضحاك بن قيس‏:‏ والله أيها الأمير، إني لأحبك في الله‏.‏

فقال له الضحاك‏:‏ ولكني والله أبغضك في الله‏.‏

قال‏:‏ ولِمَ أصلحك الله‏؟‏

قال‏:‏ لأنك تتراءى في أذانك وتأخذ على تعليمك أجراً‏.‏

قتل الضحاك رحمه الله يوم مرج راهط، وذلك للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين، قاله الليث بن سعد، وأبو عبيدة، والواقدي، وابن زير، والمدائني‏.‏

 وفيها مقتل النعمان بن بشير الأنصاري

وأمه عمرة بنت رواحة، كان النعمان أول مولود ولد بالمدينة بعد الهجرة للأنصار، في جمادى الأول سنة ثنتين من الهجرة، فأتت به أمه تحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وبشرها بأنه يعيش حميداً، ويقتل شهيداً، ويدخل الجنة، فعاش في خير وسعة‏.‏

ولي نيابة الكوفة لمعاوية تسعة أشهر، ثم سكن الشام، وولي قضاءها بعد فضالة بن عبيد، وفضالة بعد أبي الدرداء‏.‏

وناب بحمص لمعاوية، وهو الذي رد آل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بأمر يزيد له في ذلك، وهو الذي أشار على يزيد بالإحسان إليهم فرق لهم يزيد وأحسن إليهم وأكرمهم، ثم لما كانت وقعة مرج راهط وقتل الضحاك بن قيس، وكان النعمان قد أمده بأهل حمص‏.‏

فقتلوه بقرية يقال لها‏:‏ بيرين، قتله رجل يقال له‏:‏ خالد بن خلي المازني، وقتل خلي بن داود وهو جد خالد بن خلي‏.‏

وقد رثته ابنته فقالت‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/269‏)‏

ليت ابن مرنة وابنه * كانوا لقتلك واقية

وبني أمية كلهم * لم تبق منهم باقية

جاء البريد بقتله * يا للكلاب العاوية

يستفتحون برأسه * دارت عليهم فانية

فلأبكين سريرةً * ولأبكين علانية

ولا بكينك ما حييـ*ـت مع السباع العادية

وقيل‏:‏ إن أعشى همدان قدم على النعمان بن بشير وهو على حمص وهو مريض‏.‏

فقال له النعمان‏:‏ ما أقدمك‏؟‏

قال‏:‏ لتصلني وتحفظ قرابتي وتقضي ديني‏.‏

فقال‏:‏ والله ما عندي، ولكني سائلهم لك شيئاً‏.‏

ثم قام فصعد المنبر ثم قال‏:‏ يا أهل حمص، إن هذا ابن عمكم من العراق، وهو مسترفدكم شيئاً، فما ترون‏؟‏

فقالوا‏:‏ احتكم في أموالنا، فأبى عليهم‏.‏

فقالوا‏:‏ قد حكمنا من أموالنا كل رجل دينارين -وكانوا في الديوان عشرين ألف رجل - فعجلها له النعمان من بيت المال أربعين ألف دينار، فلما خرجت أعطياتهم أسقط من عطاء كل رجل منهم دينارين‏.‏

ومن كلام النعمان بن بشير رضي الله عنه قوله‏:‏ إن الهلكة كل الهلكة أن تعمل السيئات في زمان البلاء‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا أبو اليمان، ثنا إسماعيل بن عياش، عن أبي رواحة‏:‏ يزيد ابن أيهم، عن الهيثم بن مالك الطائي، سمعت النعمان بن بشير على المنبر يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن للشيطان مصالي وفخوخاً، وإن من مصاليه وفخوخه البطر بنعم الله، والفخر بعطاء الله، والكبر على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله‏)‏‏)‏‏.‏

ومن أحاديثه الحسان الصحاح ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الحلال بَيّن، والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه‏.‏

ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏)‏‏)‏‏.‏

رواه البخاري ومسلم‏.‏

وقال أبو مسهر‏:‏ كان النعمان بن بشير على حمص عاملاً لابن الزبير، فلما تملك مروان خرج النعمان هارباً فاتبعه خالد بن خلي الكلاعي فقتله‏.‏

قال أبو عبيدة وغير واحد‏:‏ في هذه السنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/270‏)‏

وقد روى محمد بن سعد بأسانيده أن معاوية تزوج امرأة جميلة جداً، فبعث إحدى امرأتيه - قيسون أو فاختة - لتنظر إليها، فلما رأتها أعجبتها جداً، ثم رجعت إليه فقال‏:‏ كيف رأيتيها‏؟‏

قالت‏:‏ بديعة الجمال، غير أني رأيت تحت سرتها خالاً أسود، وإني أحسب أن زوجها يقتل ويلقى رأسه في حجرها‏.‏

فطلقها معاوية وتزوجها النعمان بن بشير، فلما قتل أتي برأسه فألقي في حجرها، سنة خمس وستين‏.‏

وقال سليمان بن زير‏:‏ قتل بسلمية سنة ست وخمسين‏.‏

وقال غيره‏:‏ سنة خمس وستين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة ستين والصحيح ما ذكرناه‏.‏

وفيها‏:‏ توفي المسوَّر بن مخرمة بن نوفل، صحابي صغير، أصابه حجر المنجنيق مع ابن الزبير بمكة وهو قائم يصلي في الحجر‏.‏

وهو من أعيان من قتل في حصار مكة وهو المسوّر بن مخرمة بن نوفل، أبو عبد الرحمن الزهري، أمه عاتكة أخت عبد الرحمن بن عوف، له صحبة ورواية، ووفد على معاوية، وكان ممن يلزم عمر بن الخطاب‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كان ممن يصوم الدهر، وإذا قدم مكة طاف لكل يوم غاب عنها سبعاً، وصلى ركعتين‏.‏

وقيل‏:‏ إنه وجد يوم القادسية إبريق ذهب مرصع بالياقوت فلم يدر ما هو، فلقيه رجل من الفرس فقال له‏:‏ بعنيه بعشرة آلاف، فعلم أنه شيء له قيمة، فبعث به إلى سعد بن أبي وقاص فنفله إياه، فباعه بمائة ألف‏.‏

ولما توفي معاوية قدم مكة فأصابه حجر المنجنيق مع ابن الزبير لما رموا به الكعبة، فمات من بعد خمسة أيام، وغسله عبد الله بن الزبير، وحمله في جملة من حمل إلى الحجون‏.‏

وكانوا يطأون به القتلى، ويمشون به بين أهل الشام، واحتكر المسوّر بن مخرمة طعاماً في زمن عمر بن الخطاب، فرأى سحاباً فكرهه، فلما أصبح عدا إلى السوق فقال‏:‏ من جاءني أعطيته‏.‏

فقال عمر‏:‏ أجننت يا أبا مخرمة‏؟‏

فقال‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت سحاباً فكرهت ما فيه الناس فكرهت أن أربح فيه شيئاً‏.‏

فقال له عمر‏:‏ جزاك الله خيراً‏.‏

ولد المسوَّر بمكة بعد الهجرة بسنتين‏.‏

المنذر بن الزبير بن العوام

ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وقد غزا المنذر القسطنطينية مع يزيد بن معاوية، ووفد على معاوية فأجازه بمائة ألف، وأقطعه أرضاً، فمات معاوية قبل أن يقبض المال‏.‏

وكان المنذر بن الزبير، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام يقاتلون أهل الشام بالنهار، ويطعمانهم بالليل‏.‏

قتل المنذر بمكة في حصارها مع أخيه، ولما مات معاوية أوصى إلى المنذر أن ينزل في قبره‏.‏

مصعب بن عبد الرحمن بن عوف

كان شاباً ديناً فاضلاً‏.‏

قتل مصعب أيضاً في حصار مكة مع ابن الزبير‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/271‏)‏

وممن قتل في وقعة الحرة محمد بن أبي بن كعب، وعبد الرحمن بن أبي قتادة، وأبو حكيم معاذ بن الحارث الأنصاري الذي أقامه عمر يصلي بالناس‏.‏

وقتل يومئذ ولدان لزينب بنت أم سلمة، وزيد بن محمد بن سلمة الأنصاري قتل يومئذ، وقتل معه سبعة من إخوته وغير هؤلاء رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الأخنس بن شريق، شهد فتح مكة وكان مع علي يوم صفين‏.‏

وفي هذه السنة - أعني‏:‏ سنة أربع وستين - جرت حروب كثيرة وفتن منتشرة ببلاد المشرق، واستحوذ على بلاد خراسان رجل يقال له‏:‏ عبد الله بن خازم، وقهر عمالها وأخرجهم منها، وذلك بعد موت يزيد وابنه معاوية، قبل أن يستقر ملك ابن الزبير على تلك النواحي‏.‏

وجرت بين عبد الله بن خازم هذا وبين عمرو بن مرثد حروب يطول ذكرها وتفصيلها، اكتفينا بذكرها إجمالاً إذ لا يتعلق بذكرها كبير فائدة، وهي حروب فتنة وقتال بغاة بعضهم في بعض، والله المستعان‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة بعد موت معاوية بن يزيد بايع أهل خراسان سلم بن زياد بن أبيه، وأحبوه حتى أنهم سموا باسمه في تلك السنة أكثر من ألف غلام مولود، ثم نكثوا واختلفوا فخرج عنهم سلم وترك عليهم المهلب بن أبي صفرة‏.‏

وفيها‏:‏ اجتمع ملأ الشيعة على سليمان بن صرد بالكوفة، وتواعدوا النخيلة ليأخذوا بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب، وما زالوا في ذلك مجدين، وعليه عازمين، من مقتل الحسين بكربلاء من يوم عاشوراء عشرة المحرم سنة إحدى وستين‏.‏

وقد ندموا على ما كان منهم من بعثهم إليه، فلما أتاهم خذلوه وتخلوا عنه ولم ينصروه، فجادت بوصل حين لا ينفع الوصل، فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد وهو صحابي جليل، وكان رؤوس القائمين في ذلك خمسة‏:‏

سليمان بن صرد الصحابي، والمسيب بن نجية الفزاري أحد كبار أصحاب علي، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن والٍ التيمي، ورفاعة بن شداد البجلي‏.‏

وكلهم من أصحاب علي رضي الله عنه، فاجتمعوا كلهم بعد خطب ومواعظ على تأمير سليمان بن صرد عليهم، فتعاهدوا وتعاقدوا، وتواعدوا النخيلة، وأن يجتمع من يستجيب لهم إلى ذلك الموضع بها في سنة خمس وستين، ثم جمعوا من أموالهم وأسلحتهم شيئاً كثيراً وأعدوه لذلك‏.‏

وقام المسيب بن نجية خطيباً فيهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ أما بعد فقد ابتلينا بطول العمر وكثرة الفتن، وقد ابتلانا الله فوجدنا كاذبين في نصرة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن كتبنا إليه وراسلناه، فأتانا طمعاً في نصرتنا إياه، فخذلناه وأخلفناه، وأتينا به إلى من قتله وقتل أولاده وذريته وقراباته الأخيار‏.‏

فما نصرناهم بأيدينا، ولا خذلنا عنهم بألسنتنا، ولا قويناهم بأموالنا، فالويل لنا جميعاً ويلاً متصلاً أبداً لا يفتر ولا يبيد دون أن نقتل قاتله والممالئين عليه، أو أن نُقتل دون ذلك وتذهب أموالنا وتخرب ديارنا‏.‏

أيها الناس قوموا في ذلك قومة رجل واحد، وتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم‏.‏

وذكر كلاماً طويلاً‏.‏

ثم كتبوا إلى جميع إخوانهم أن يجتمعوا بالنخيلة في السنة الآتية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/272‏)‏

وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان وهو أمير على المدائن يدعوه إلى ذلك، فاستجاب له ودعا إليه سعد من أطاعه من أهل المدائن، فبادروا إليه بالاستجابة والقبول، وتمالأوا عليه وتواعدوا النخيلة في التاريخ المذكور‏.‏

وكتب سعد بن حذيفة إلى سليمان بن صرد بذلك ففرح أهل الكوفة من موافقة أهل المدائن لهم على ذلك، وتنشطوا لأمرهم الذي تمالأوا عليه‏.‏

فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بعد قليل، طمعوا في الأمر، واعتقدوا أن أهل الشام قد ضعفوا، ولم يبق من يقيم لهم أمراً، فاستشاروا سليمان في الظهور وأن يخرجوا إلى النخيلة قبل الميقات‏.‏

فنهاهم عن ذلك وقال‏:‏ لا ‏!‏ حتى يأتي الأجل الذي واعدنا إخواننا فيه، ثم هم في الباطن يعدون السلاح والقوة ولا يشعر بهم جمهور الناس، وحينئذٍ عمد جمهور أهل الكوفة إلى عمرو بن حريث نائب عبيد الله بن زياد على الكوفة فأخرجوه من القصر، واصطلحوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الملقب دحروجة، فبايع لعبد الله بن الزبير، فهو يسد الأمور حتى تأتي نواب ابن الزبير‏.‏

فلما كان يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة أربع وستين - قدم أميران إلى الكوفة من جهة ابن الزبير، أحدهما عبد الله بن يزيد الخطمي، على الحرب والثغر، والآخر إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، على الخراج والأموال‏.‏

وقد كان قدم قبلهما بجمعة واحدة للنصف من هذا الشهر المختار بن أبي عبيد - وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب - فوجد الشيعة قد التفت على سليمان بن صرد وعظموه تعظيماً زائداً، وهم معدون للحرب‏.‏

فلما استقر المختار عندهم بالكوفة، دعا إلى إمامة المهدي محمد بن علي بن أبي طالب، وهو محمد بن الحنفية في الباطن، ولقبه المهدي، فاتبعه على ذلك كثير من الشيعة وفارقوا سليمان بن صرد، وصارت الشيعة فرقتين‏:‏

الجمهور منهم مع سليمان يريدون الخروج على الناس ليأخذوا بثأر الحسين‏.‏

وفرقة أخرى مع المختار، يريدون الخروج للدعوة إلى إمامة محمد بن الحنفية، وذلك عن غير أمر ابن الحنفية ورضاه، وإنما يتقولون عليه ليروجوا على الناس به، وليتوصلوا إلى أغراضهم الفاسدة‏.‏

وجاءت العين الصافية إلى عبد الله بن يزيد الخطمي نائب ابن الزبير بما تمالأ عليه فرقتا الشيعة على اختلافهما من الخروج على الناس والدعوة إلى ما يريدون‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/273‏)‏

وأشار من أشار عليه بأن يبادر إليهم ويحتاط عليهم، ويبعث الشرط والمقاتلة فيقمعهم عما هم مجمعون عليه من إرادة الشر والفتنة‏.‏

فقام خطيباً في الناس وذكر في خطبته ما بلغه عن هؤلاء القوم، وما أجمعوا عليه من الأمر، وأن منهم من يريد الأخذ بثأر الحسين، ولقد علموا أنني لست ممن قتله، وإني والله لممن أصيب بقتله وكره قتله، فرحمه الله ولعن قاتله‏.‏

وإني لا أتعرض لأحد قبل أن يبدأني بالشر، وإن كان هؤلاء يريدون الأخذ بثأر الحسين فليعمدوا إلى ابن زياد فإنه هو الذي قتل الحسين وخيار أهله فليأخذوا منه بالثأر، ولا يخرجوا بسلاحهم على أهل بلدهم، فيكون فيه حتفهم واستئصالهم‏.‏

فقام إبراهيم بن محمد بن طلحة الأمير الآخر فقال‏:‏ أيها الناس لا يغرنكم من أنفسكم كلام هذا المداهن، إنا والله قد استيقنا من أنفسنا أن قوماً يريدون الخروج علينا، ولنأخذن الوالد بالولد، والولد بالوالد، والحميم بالحميم، والعريف بما في عرافته، حتى تدينوا بالحق، وتذلوا للطاعة‏.‏

فوثب إليه المسيب بن نجية الفزاري فقطع كلامه فقال‏:‏ يا ابن الناكثين أتهددنا بسيفك وغشمك‏؟‏

أنت والله أذل من ذلك، إنا لا نلومك على بغضنا، وقد قتلنا أباك وجدك، وإنا لنرجوا أن نلحقك بهما قبل أن تخرج من هذا القصر‏.‏

وساعد المسيب بن نجية من أصحاب إبراهيم بن محمد بن طلحة جماعة من العمال، وجرت فتنه وشيء كبير في المسجد، فنزل عبد الله بن يزيد الخطمي عن المنبر وحالوا أن يوفقوا بين الأميرين، فلم يتفق لهم ذلك‏.‏

ثم ظهرت الشيعة أصحاب سليمان بن صرد بالسلاح، وأظهروا ما كان في أنفسهم من الخروج على الناس، وركبوا مع سليمان بن صرد فقصدوا نحو الجزيرة وكان من أمرهم ما سنذكره‏.‏

وأما المختار بن عبيد الثقفي الكذاب فإنه قد كان بغيضاً إلى الشيعة من يوم طعن الحسين وهو ذاهب إلى الشام بأهل العراق، فلجأ إلى المدائن، فأشار المختار على عمه وهو نائب المدائن بأن يقبض على الحسين ويبعثه إلى معاوية فيتخذ بذلك عنده اليد البيضاء، فامتنع عم المختار من ذلك، فأبغضته الشيعة بسبب ذلك‏.‏

فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان وقتله ابن زياد، كان المختار يومئذ بالكوفة فبلغ ابن زياد أنه يقول‏:‏ لأقومن بنصرة مسلم ولآخذن بثأره، فأحضره بين يديه وضرب عينه بقضيب كان بيده فشترها، وأمر بسجنه‏.‏

فلما بلغ أخته سجنه بكت وجزعت عليه، وكانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع عنده في إخراج المختار من السجن، فبعث يزيد إلى ابن زياد‏:‏ أن ساعة وقوفك على هذا الكتاب تخرج المختار بن عبيد من السجن، فلم يمكن ابن زياد غير ذلك‏.‏

فأخرجه وقال له‏:‏ إن وجدتك بعد ثلاثة أيام بالكوفة ضربت عنقك‏.‏

فخرج المختار إلى الحجاز وهو يقول‏:‏ والله لأقطعن أنامل عبيد الله بن زياد، ولأقتلن بالحسين بن علي على عدد من قتل بدم يحيى بن زكريا‏.‏

فلما استفحل أمر عبد الله بن الزبير بايعه المختار بن عبيد، وكان من كبار الأمراء عنده، ولما حاصره الحصين بن نمير مع أهل الشام، قاتل المختار دون ابن الزبير أشد القتال‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/274‏)‏

فلما بلغه موت يزيد بن معاوية واضطراب أهل العراق، نقم على ابن الزبير في بعض الأمر، وخرج من الحجاز فقصد الكوفة فدخلها في يوم الجمعة والناس يتهيئون للصلاة، فجعل لا يمر بملأ إلا سلم عليه، وقال‏:‏ أبشروا بالنصر‏.‏

ودخل المسجد فصلى إلى سارية هنالك حتى أقيمت الصلاة، ثم صلى من بعد الصلاة حتى صليت العصر، ثم انصرف فسلم عليه الناس وأقبلوا إليه وعليه وعظموه، وجعل يدعو إلى إمامة المهدي محمد بن الحنفية، ويظهر الانتصار لأهل البيت، وأنه ما جاء إلا بصدد أن يقيم شعارهم، ويظهر منارهم، ويستوفي ثأرهم‏.‏

ويقول للناس الذين اجتمعوا على سليمان بن صرد من الشيعة- وقد خشي أن يبادروا إلى الخروج مع سليمان - فجعل يخذلهم ويستميلهم إليه‏.‏

ويقول لهم‏:‏ إني قد جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الرضى، والإمام المهدي، بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء‏.‏

وأن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه إنما هو غشمة من الغشم، وشن بال ليس بذي تجربة للأمور، ولا له علم بالحروب، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم، وإني إنما أعمل على مثل مُثل لي، وأمر قد بُينّ لي، فيه عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني وأطيعوا أمري‏.‏

ثم أبشروا وتباشروا، فإني لكم بكل ما تأملون وتحبون كفيل‏.‏

فالتف عليه خلق كثير من الشيعة، ولكن الجمهور منهم مع سليمان بن صرد، فلما خرجوا مع سليمان إلى النخيلة قال عمر بن سعد بن أبي وقاص، وشبث بن ربعي وغيرهما لعبد الله بن زياد، نائب الكوفة‏:‏ إن المختار بن أبي عبيد أشد عليكم من سليمان بن صرد‏.‏

فبعث إليه الشرط فأحاطوا بداره فأخذه فذهب به إلى السجن مقيداً‏.‏

وقيل‏:‏ بغير قيد، فأقام به مدة ومرض فيه‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏ فحدثني يحيى بن أبي عيسى أنه قال‏:‏ دخلت إليه مع حميد بن مسلم الأزدي نعوده ونتعاهده‏.‏

فسمعته يقول‏:‏ أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامة والقفار، والملائكة الأبرار، والمصلين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن جثَّار خطار، ومهند بتار، بجند من الأخيار، وجموع من الأنصار، ليسوا بميل الأغمار، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، وجبرت صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت ثأر أولاد النبيين، لم أبك على زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا دنا‏.‏

قال‏:‏ وكان كلما أتيناه وهو في السجن يردد علينا هذا القول حتى خرج‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/275‏)‏

 ذكر هدم الكعبة وبنائها في أيام ابن الزبير

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة هدم ابن الزبير الكعبة، وذلك لأنه مال جدارها من رمي المنجنيق فهدم الجدار حتى وصل إلى أساس إبراهيم‏.‏

وكان الناس يطوفون ويصلون من وراء ذلك، وجعل الحجر الأسود في تابوت في سرق من حرير، وادخر ما كان في الكعبة من حلي وثياب وطيب، عند الخزان، حتى أعاد ابن الزبير بناءها على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يبنيها عليه من الشكل‏.‏

وذلك كما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ وغيرهما من المسانيد والسنن، من طرق عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة ولأدخلت فيها الحجر، فإن قومك قصرت بهم النفقة، ولجعلت لها باباً شرقياً وباباً غربياً، يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الآخر، ولألصقت بابها بالأرض فإن قومك رفعوا بابها ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا‏)‏‏)‏‏.‏

فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزاه الله خيراً‏.‏

ثم لما غلبه الحجاج بن يوسف في سنة ثلاث وسبعين كما سيأتي، هدم الحائط الشمالي وأخرج الحجر كما كان أولاً، وأدخل الحجارة التي هدمها في جوف الكعبة فرصها فيه، فارتفع الباب وسد الغربي‏.‏

وتلك آثاره إلى الآن، وذلك بأمر عبد الملك بن مروان في ذلك، ولم يكن بلغه الحديث، فلما بلغه الحديث قال‏:‏ وددنا أنا تركناه وما تولى من ذلك‏.‏

وقد هم ابن المنصور المهدي أن يعيدها على ما بناها ابن الزبير، واستشار الإمام مالك بن أنس في ذلك، فقال‏:‏ إني أكره أن يتخذها الملوك لعبة، - يعني‏:‏ يتلاعبون في بنائها بحسب آرائهم - فهذا يرى رأي ابن الزبير، وهذا يرى رأي عبد الملك بن مروان، وهذا يرى رأياً آخر، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان عامله على المدينة أخوه عبيد الله، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن المرزبان، وامتنع شريح أن يحكم في زمان الفتنة‏.‏

وعلى البصرة عمر بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم، وكان في آواخر هذه السنة وقعة مرج راهط كما قدمنا‏.‏

وقد استقر ملك الشام لمروان بن الحكم، وذلك بعد ظفره بالضحاك بن قيس وقتله له في الوقعة‏.‏

وقيل‏:‏ إن فيها دخل مروان مصر وأخذها من نائبها الذي من جهة ابن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدر‏.‏

واستقرت يد مروان على الشام ومصر وأعمالها والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/276‏)‏

وقال الواقدي‏:‏ لما أراد ابن الزبير هدم البيت شاور الناس في هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد الله، وعبيد بن عمير بذلك‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم حتى يتهاون الناس بحرمتها، ولكن أرى أن تصلح ما يتهدم من بنيانها‏.‏

ثم إن ابن الزبير استخار الله ثلاثة أيام، ثم غدا في اليوم الرابع فبدأ ينقض الركن إلى الأساس، فلما وصلوا إلى الأساس وجدوا أصلاً بالحجر مشبكاً كأصابع اليدين، فدعا ابن الزبير خمسين رجلاً فأمرهم أن يحفروا‏.‏

فلما ضربوا بالمعاول في تلك الأحجار المشبكة ارتجت مكة فتركه على حاله، ثم أسس عليه البناء، وجعل للكعبة بابين موضوعين بالأرض، باب يدخل منه وباب يخرج منه، ووضع الحجر الأسود بيده، وشده بفضة لأنه كان قد تصدع، وزاد في وسع الكعبة عشرة أذرع، ولطخ جدرانها بالمسك وسترها بالديباج‏.‏

ثم اعتمر من مساجد عائشة، وطاف بالبيت وصلى وسعى، وأزال ما كان حول الكعبة من الزبالة، وما كان حولها من الدماء، وكانت الكعبة قد وهت من أعلاها إلى أسفلها من حجارة المنجنيق، واسود الركن وانصدع الحجر الأسود من النار التي كانت حول الكعبة، وكان سبب تجديد ابن الزبير لها ما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث عائشة المتقدم ذكره والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وستين

فيها‏:‏ اجتمع إلى سليمان بن صرد نحو من سبعة عشر ألفاً، كلهم يطلبون الأخذ بثأر الحسين ممن قتله‏.‏

قال الواقدي‏:‏ لما خرج الناس إلى النخيلة كانوا قليلاً، فلم تعجب سليمان قلتهم، فأرسل حكيم بن منقذ فنادى في الكوفة بأعلى صوته‏:‏ يا ثارات الحسين، فلم يزل ينادي حتى بلغ المسجد الأعظم، فسمع الناس فخرجوا إلى النخيلة، وخرج أشراف الكوفة فكانوا قريباً من عشرين ألفاً أو يزيدون، في ديوان سليمان بن صرد‏.‏

فلما عزم على المسير بهم لم يصف معه منهم سوى أربعة آلاف، فقال المسيب بن نجية لسليمان‏:‏ إنه لا ينفعك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، وباع نفسه لله عز وجل، فلا تنتظرن أحداً وامض لأمرك في جهادك عدوك، واستعن بالله عليهم‏.‏

فقام سليمان في أصحابه وقال‏:‏ يا أيها الناس ‏!‏ من كان إنما خرج لوجه الله وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، ومن كان خروجه معنا للدنيا فليس منا ولا يصحبنا‏.‏

فقال الباقون معه‏:‏ ما للدنيا خرجنا، ولا لها طلبنا‏.‏

فقيل له‏:‏ أنسير إلى قتلة الحسين بالشام وقتلته عندنا بالكوفة كلهم مثل عمر بن سعد وغيره‏؟‏

فقال سليمان‏:‏ إن ابن زياد هو الذي جهز الجيش إليه وفعل به ما فعل، فإذا فرغنا منه عدنا إلى أعدائه بالكوفة، ولو قاتلتوهم أولاً، وهم أهل مصركم ما عدم الرجل منكم أن يرى رجلاً قد قتل أباه قد قتل أخاه أو حميمه، فيقع التخاذل، فإذا فرغتم من الفاسق ابن زياد لكم المراد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/277‏)‏

فقالوا‏:‏ صدقت‏.‏

فنادى فيهم سيروا على اسم الله تعالى، فساروا عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول‏.‏

وقال في خطبته‏:‏ من كان خرج منكم للدنيا ذهبها وزبرجدها فليس معنا مما يطلب شيء، وإنما معنا سيوف على عواتقنا ورماح في أكفنا، وزاد يكفينا حتى نلقى عدونا‏.‏

فأجابوه إلى السمع والطاعة والحالة هذه، وقال لهم‏:‏ عليكم بابن زياد الفاسق أولاً، فليس له إلا السيف، وها هو قد أقبل من الشام قاصداً العراق‏.‏

فصمم الناس معه على هذا الرأي، فلما أزمعوا على ذلك بعث عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد أمراء الكوفة من جهة ابن الزبير، إلى سليمان بن صرد، يقولان له‏:‏ إنا نحب أن تكون أيدينا واحدة على ابن زياد، وأنهم يريدون أن يبعثوا معهم جيشاً ليقويهم على ما هم قد قصدوا له، وبعثوا بريداً بذلك ينتظرهم حتى يقدموا عليه‏.‏

فتهيأ سليمان بن صرد لقدومهم عليه في رؤوس الأمراء، وجلس في أبهته والجيوش محدقة به، وأقبل عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن طلحة في أشراف أهل الكوفة من غير قتلة الحسين لئلا يطمعوا فيهم، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص في هذه الأيام كلها لا يبيت إلا في قصر الإمارة عند عبد الله بن يزيد خوفاً على نفسه‏.‏

فلما اجتمع الأميران عند سليمان بن صرد قالا له وأشارا عليه‏:‏ أن لا يذهبوا حتى تكون أيديهما واحدة على قتال ابن زياد، ويجهزوا معهم جيشاً، فإن أهل الشام جمع كثير وجم غفير، وهم يحاجفون عن ابن زياد‏.‏

فامتنع سليمان من قبول قولهما وقال‏:‏ إنا خرجنا لأمر لا نرجع عنه ولا نتأخر فيه‏.‏

فانصرف الأميران راجعين إلى الكوفة، وانتظر سليمان بن صرد وأصحابه أصحابهم الذين كانوا قد واعدوهم من أهل البصرة وأهل المدائن فلم يقدموا عليهم ولا واحد منهم‏.‏

فقام سليمان في أصحابه خطيباً وحرضهم على الذهاب لما خرجوا عليه، وقال‏:‏ لو قد سمع إخوانكم بخروجكم للحقوكم سراعاً‏.‏

فخرج سليمان وأصحابه من النخيلة يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول سنة خمس وستين، فسار بهم مراحل، ما يتقدمون مرحلة إلى نحو الشام إلا تخلف عنه طائفة من الناس الذين معه، فلما مروا بقبر الحسين صاحوا صيحة واحدة، وتباكوا وباتوا عنده ليلة يصلون ويدعون، وظلوا يوماً يترحمون عليه ويستغفرون له ويترضون عنه ويتمنون أن لو كانوا ماتوا معه شهداء‏.‏

- قلت‏:‏ لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة، لكان أنفع له، وأنصر من اجتماع سليمان وأصحابه لنصرته بعد أربع سنين - ولما أرادوا الانصراف جعل لا يريم أحد منهم حتى يأتي القبر فيترحم عليه ويستغفر له، حتى جعلوا يزدحمون أشد من ازدحامهم عند الحجر الأسود‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/278‏)‏

ثم ساروا قاصدين الشام، فلما اجتازوا بقرقيسيا تحصن منهم زفر بن الحارث، فبعث إليه سليمان بن صرد‏:‏ إنا لم نأت لقتالكم فأخرج إلينا سوقاً فإنا إنما نقيم عندكم يوماً أو بعض يوم‏.‏

فأمر زفر بن الحارث أن يخرج إليهم سوق، وأمر للرسول إليه وهو المسيب بن نجبة بفرس وألف درهم‏.‏

فقال‏:‏ أما المال فلا‏.‏

وأما الفرس فنعم‏.‏

وبعث زفر بن الحارث إلى سليمان بن صرد و رؤوس الأمراء الذين معه إلى كل واحد عشرين جزوراً وطعاماً وعلفاً كثيراً، ثم خرج زفر بن الحارث فشيعهم‏.‏

وسار مع سليمان بن صرد وقال له‏:‏ إنه قد بلغني أن أهل الشام قد جهزوا جيشاً كثيفاً وعدداً كثيراً، مع حصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعة بن مخارق الغنوي، وجبلة بن عبد الله الخثعمي‏.‏

فقال سليمان بن صرد‏:‏ على الله توكلنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏.‏

ثم عرض عليهم زفر أن يدخلوا مدينته أو يكونوا عند بابها، فإن جاءهم أحد كان معهم عليه، فأبوا أن يقبلوا وقالوا‏:‏ قد عرض علينا أهل بلدنا مثل ذلك فامتنعنا‏.‏

قال‏:‏ فإذا أبيتم ذلك فبادروهم إلى عين الوردة، فيكون الماء والمدينة والأسواق والسباق خلف ظهوركم، وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه‏.‏

ثم أشار عليهم بما يعتمدونه في حال القتال فقال‏:‏ ولا تقاتلوهم في فضاء فإنهم أكثر منكم عدداً فيحيطون بكم، فإني لا أرى معكم رجالاً والقوم ذووا رجال وفرسان، ومعهم كراديس فاحذروهم‏.‏

فأثنى عليه سليمان بن صرد والناس خيراً، ثم رجع عنهم، وسار سليمان بن صرد فبادر إلى عين الوردة فنزل غربيها، وأقام هناك قبل وصول أعدائه إليه، واستراح سليمان وأصحابه واطمأنوا‏.‏