فصل: ذكر من توفي فيها من الأعيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة ثمان وستين

ففيها‏:‏ رد عبد الله أخاه مصعباً إلى إمرة البصرة، فأتاها فأقام بها، واستخلف على الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، قباع، واستعمل على المدينة جابر بن الأسود الزهري‏.‏

وعزل عنها عبد الرحمن بن الأشعث لكونه ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطاً، فإنه أراد منه أن يبايع لابن الزبير فامتنع من ذلك فضربه، فعزله ابن الزبير‏.‏

وفيها‏:‏ هلك ملك الروم قسطنطين بن قسطنطين ببلده‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة الأزارقة‏.‏

وذلك أن مصعباً كان قد عزل عن ناحية فارس المهلب بن أبي صفرة، وكان قاهراً لهم وولاه الجزيرة، وكان المهلب قاهراً للأزارقة، وولى على فارس عمر بن عبيد الله بن معمر، فثاروا عليه فقاتلهم عمر بن عبيد الله فقهرهم وكسرهم، وكانوا مع أميرهم الزبير بن ماحوز، ففروا بين يديه إلى اصطخر فاتبعهم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وقتلوا ابنه‏.‏

ثم ظفر بهم مرة أخرى ثم هربوا إلى بلاد أصبهان ونواحيها، فتقووا هنالك وكثر عَدَدهم وعُدَتهم، ثم أقبلوا يريدون البصرة، فمروا ببعض بلاد فارس وتركوا عمر بن عبيد الله بن معمر وراء ظهورهم‏.‏

فلما سمع مصعب بقدومهم ركب في الناس وجعل يلوم عمر بن عبيد الله بتركه هؤلاء يجتازون ببلاده، وقد ركب عمر بن عبيد الله في آثارهم، فبلغ الخوارج أن مصعباً أمامهم، وعمر بن عبيد الله وراءهم، فعدلوا إلى المدائن فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالاً لم يفعلها غيرهم‏.‏

فقصدهم نائب الكوفة الحارث بن أبي ربيعة ومعه أهلها وجماعات من أشرافها، منهم ابن الأشتر، وشبت بن ربعي، فلما وصلوا إلى جسر الصراة قطعه الخوارج بينه وبينهم، فأمر الأمير بإعادته، ففرت الخوارج هاربين بين يديه، فاتبعهم عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف فمروا على الكوفة، ثم صاروا إلى أرض أصبهان فانصرف عنهم ولم يقاتلهم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/324‏)‏

ثم أقبلوا فحاصروا وعتاب بن ورقاء شهراً، بمدينة جيا، حتى ضيقوا على الناس فنزلوا إليهم فقاتلوهم فكشفوهم وقتلوا أميرهم الزبير بن الماحوز وغنموا ما في معسكرهم، وأمرت الخوارج عليهم قطري بن الفجاءة، ثم ساروا إلى بلاد الأهواز‏.‏

فكتب مصعب بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة -وهو على الموصل - أن يسير إلى قتال الخوارج وكان أبصر الناس بقتالهم، وبعث مكانه إلى الموصل إبراهيم بن الأشتر فانصرف المهلب إلى الأهواز فقاتل فيها الخوارج ثمانية أشهر قتالاً لم يسمع بمثله‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة كان القحط الشديد ببلاد الشام بحيث لم يتمكنوا معه من الغزو لضعفهم وقلة طعامهم وميرتهم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها‏:‏ قتل عبيد الله بن الحر وكان من خبره أنه كان رجلاً شجاعاً تتقلب به الأحوال والأيام والآراء، حتى صار من أمره أنه لا يطاع لأحد من بني أمية ولا لآل الزبير‏.‏

وكان يمر على عامل الكورة من العراق وغيره فيأخذ منه جميع ما في بيت المال قهراً، ويكتب له براءة ويذهب فينفقه على أصحابه‏.‏

وكان الخلفاء والأمراء يبعثون إليه الجيوش فيطردها ويكسرها قلت أو كثرت، حتى كاع فيه مصعب بن الزبير وعماله ببلاد العراق، ثم إنه وفد على عبد الملك بن مروان فبعثه في عشرة نفر وقال‏:‏ ادخل الكوفة وأعلمهم أن الجنود ستصل إليهم سريعاً‏.‏

فبعث في السر إلى جماعة من إخوانه فظهر على أمره فأعلم أمير الكوفة الحارث بن عبد الله فبعث إليه جيشاً فقتلوه في المكان الذي هو فيه، وحمل رأسه إلى الكوفة، ثم إلى البصرة، واستراح الناس منه‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها شهد موقف عرفة أربع رايات متباينة، كل واحدة منها لا تأتم بالأخرى، الواحدة‏:‏ لمحمد بن الحنفية في أصحابه، والثانية‏:‏ لنجدة الحروري وأصحابه، والثالثة‏:‏ لبني أمية، والرابعة‏:‏ لعبد الله بن الزبير‏.‏

وكان أول من دفع رايته ابن الحنفية، ثم نجدة، ثم بنو أمية، ثم دفع ابن الزبير فدفع الناس معه، وكان عبد الله بن عمر فيمن انتظر دفع ابن الزبير، ولكنه تأخر دفعه، فقال ابن عمر‏:‏ أشبه بتأخره دفع الجاهلية‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/325‏)‏

فدفع ابن عمر فدفع ابن الزبير، وتحاجز الناس في هذا العام فلم يكن بينهم قتال‏.‏

وكان على نيابة المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري من جهة ابن الزبير، وعلى الكوفة والبصرة أخوه مصعب، وعلى ملك الشام ومصر عبد الملك بن مروان، والله أعلم‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان

 عبد الله بن يزيد الأوسي، شهد الحديبية، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث‏.‏

 وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي، ابن أخي عمر بن الخطاب، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالمدينة عن نحو سبعين سنة‏.‏

عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري‏.‏

عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن امرئ القيس، صحابي جليل، سكن الكوفة، ثم سكن قوميسيا‏.‏

زيد بن أرقم بن زيد صحابي جليل‏.‏

 وفيها توفي عبد الله بن عباس ترجمان القرآن

هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أبو العباس الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبر هذه الأمة، ومفسر كتاب الله وترجمانه، كان يقال له‏:‏ الحبر والبحر‏.‏

وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كثيراً، وعن جماعة من الصحابة، وأخذ عنه خلق من الصحابة وأمم من التابعين، وله مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله ونبل أصله، رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

وأمه‏:‏ أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وهو والد الخلفاء العباسيين، وله أخوة عشرة ذكور من أم الفضل للعباس، وهو آخرهم مولداً، وقد مات كل واحد منهم في بلد بعيد عن الآخر كما سيأتي ذلك‏.‏

قال مسلم بن خالد الزنجي المكي‏:‏ عن ابن نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب جاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ يا محمد، أرى أم الفضل قد اشتملت على حمل‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لعل الله أن يقر أعينكم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلما ولدتني أتى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في خرقة فحنكني بريقه‏.‏

قال مجاهد‏:‏ فلا نعلم أحداً حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه غيره‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لعل الله أن يبيض وجوهنا بغلام‏)‏‏)‏، فولدت عبد الله بن عباس‏.‏

وعن عمرو بن دينار قال‏:‏ ولد ابن عباس عام الهجرة‏.‏

وروى الواقدي‏:‏ من طريق شعبة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ولدت قبل الهجرة بثلاث سنين، ونحن في الشعب، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاث عشرة سنة‏.‏

ثم قال الواقدي‏:‏ وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل العلم‏.‏

واحتج الواقدي‏:‏ بأنه كان قد ناهز الحلم عام حجة الوداع‏.‏

وفي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏‏:‏ عن ابن عباس قال‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مختون، وكانوا لا يختنون الغلام حتى يحتلم‏.‏

وقال شعبة، وهشام، وابن عوانة‏:‏ عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين مختون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/326‏)‏

زاد هشام‏:‏ وقد جمعت المحكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ وما المحكم‏؟‏

قال‏:‏ المفصل‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة مختون، وهذا هو الأصح ويؤيده صحة ما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏.‏

ورواه مالك‏:‏ عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف، فلم ينكر عليّ ذلك أحد‏.‏

وثبت عنه في ‏(‏الصحيح‏)‏ أنه قال‏:‏ كنت أنا وأمي من المستضعفين، كانت أمي من النساء، وكنت أنا من الولدان، وهاجر مع أبيه الفتح فاتفق لقياهما النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة، وهو ذاهب لفتح مكة، فشهد الفتح وحنيناً والطائف عام ثمان‏.‏

وقيل‏:‏ كان في سنة تسع وحجة الوداع سنة عشر، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ولزمه، وأخذ عنه وحفظ وضبط الأقوال والأفعال والأحوال، وأخذ عن الصحابة علماً عظيماً مع الفهم الثاقب، والبلاغة والفصاحة والجمال والملاحة، والأصالة والبيان‏.‏

ودعا له رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم كما وردت به الأحاديث الثابتة الأركان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بأن يعلمه التأويل، وأن يفقهه في الدين‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني ساعدة بن عبيد الله المزني، عن داود بن عطاء، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنه قال‏:‏ إن عمر كان يدعو عبد الله بن عباس فيقر به ويقول‏:‏ إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك يوماً فمسح رأسك وتفل في فيك وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل‏)‏‏)‏‏.‏

وبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم بارك فيه وانشر منه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال حماد بن سلمة‏:‏ عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ بت في بيت خالتي ميمونة فوضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلاً، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من وضع هذا‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ عبد الله بن عباس‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه غير واحد عن ابن خيثم بنحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن بكر بن أبي صفرة، أبو يونس، عن عمرو بن دينار‏:‏ أن كريباً أخبره أن ابن عباس قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل فصليت خلفه فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه‏.‏

فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاته خنست فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف من صلاته قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما شأني أجعلك في حذائي فتخنس‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله أوينبغي لأحد أن يصلي في حذائك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله عز وجل‏؟‏ قال‏:‏ فأعجبته فدعا الله لي أن يزيدني علماً وفهماً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/327‏)‏

ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نام حتى سمعت نفخه، ثم أتاه بلال فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ الصلاة، فقام فصلى ما أعاد وضوءاً‏.‏

وقال الإمام أحمد وغيره‏:‏ حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا ورقاء، وسمعت عبيد الله بن أبي يزيد يحدث عن ابن عباس قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلاء فوضعت له وضوءاً، فلما خرج قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من وضع ذا‏؟‏‏)‏‏)‏

فقيل‏:‏ ابن عباس‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الثوري وغيره‏:‏ عن ليث، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن ابن عباس أنه رأى جبريل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بالحكمة، وفي رواية بالعلم، مرتين‏.‏

وقال الدار قطني‏:‏ حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي وآخرون قالوا‏:‏ حدثنا العباس بن محمد، حدثنا محمد بن مصعب بن أبي مالك النخعي، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ رأيت جبريل مرتين، ودعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين‏.‏

ثم قال‏:‏ غريب من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن عكرمة تفرد به عنه أبو مالك النخعي عبد الملك بن حسين‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هاشم، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم علمه الحكمة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أحمد أيضاً، عن إسماعيل بن علية، عن خالد الحذاء، عن عكرمة عنه قال‏:‏ ضمني إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم علمه الكتاب‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث خالد، وهو ابن مهران الحذاء، عن عكرمة عنه به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو سعيد، ثنا سليمان بن بلال، ثنا حسين بن عبد الله بن عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد، وقد روى هذا الحديث غير واحد عن عكرمة بنحو هذا‏.‏

ومنهم من أرسله عن عكرمة، والمتصل هو الصحيح، فقد رواه غير واحد من التابعين عن ابن عباس‏.‏

وروى من طريق أمير المؤمنين المهدي، عن أبيه، عن أبي جعفر المنصور - عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن عباس‏.‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم علمه الكتاب وفقهه في الدين‏)‏‏)‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/328‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو كامل، وعفان المعني قالا‏:‏ ثنا حماد، ثنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ كنت مع أبي عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يناجيه‏.‏

قال عفان‏:‏ وهو كالمعرض عن العباس، فخرجنا من عنده فقال العباس‏:‏ ألم أر ابن عمك كالمعرض عني‏؟‏

فقلت‏:‏ إنه كان عنده رجل يناجيه‏.‏

قال عفان‏:‏ قال عباس‏:‏ أوَكان عنده أحد‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

فرجع إليه فقال‏:‏ يا رسول الله هل كان عندك أحد آنفاً‏؟‏ فإن عبد الله أخبرني أنه كان عندك رجل يناجيك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل رأيته يا عبد الله‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذاك جبريل عليه السلام‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روي من حديث المهدي عن آبائه، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما إنك ستصاب في بصرك‏)‏‏)‏‏.‏

وكان كذلك، وقد روي من وجه آخر أيضاً والله أعلم‏.‏

 ذكر صفة أخرى لرؤيته جبريل

رواها قتيبة عن الدراوردي، عن ثور بن يزيد، عن موسى بن ميسرة أن العباس بعث ابنه عبد الله في حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده رجلاً فرجع ولم يكلمه من أجل مكان ذلك الرجل‏.‏

فلقي العباس بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس‏:‏ يا رسول الله أرسلت إليك ابني فوجد عندك رجلاً فلم يستطع أن يكلمك فرجع وراءه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عم تدري من ذاك الرجل‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لا ‏!‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذاك جبريل، ولن يموت ابنك حتى يذهب بصره ويؤتى علماً‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه سليمان بن بلال، عن ثور بن يزيد كذلك، وله طريق أخرى‏.‏

وقد ورد في فضائل ابن عباس أحاديث كثيرة منها ما هو منكر جداً أضربنا عن كثير منها صفحاً، وذكرنا ما فيه مقنع وكفاية عما سواه‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأ أبو عبد الله الحافظ، أنبأ عبد الله بن الحسن القاضي بمرو، ثنا الحارث بن محمد، أنبأ يزيد بن هارون، أنبأ جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار‏:‏ هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير‏.‏

فقال‏:‏ يا عجباً لك يا ابن عباس ‏!‏‏!‏ أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم‏؟‏

قال‏:‏ فترك ذلك وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول‏:‏ يا بن عم رسول الله ما جاء بك‏؟‏ هلا أرسلت إليّ فآتيك‏؟‏

فأقول‏:‏ لا ‏!‏ أنا أحق أن آتيك‏.‏

قال‏:‏ فأساله عن الحديث‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/329‏)‏

قال‏:‏ فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع حولي الناس يسألوني، فيقول‏:‏ هذا الفتى كان أعقل مني‏.‏

وقال محمد بن عبد الله الأنصاري‏:‏ ثنا محمد بن عمرو ابن علقمة، ثنا أبو سلمة، عن ابن عباس قال‏:‏ وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقبل بباب أحدهم، ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأذن لي، ولكن ابتغي بذلك طيب نفسه‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنبأ محمد بن عمر، حدثني قدامة بن موسى، عن أبي سلمة الحضرمي قال‏:‏ سمعت ابن عباس يقول‏:‏ كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحداً منهم إلا سر بإتياني إليه، لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أسأل أبي بن كعب يوماً - وكان من الراسخين في العلم - عما نزل من القرآن بالمدينة، فقال‏:‏ نزل سبع وعشرون سورة وسائرها مكي‏.‏

وقال أحمد‏:‏ عن عبد الرزاق، عن معمر قال‏:‏ عامة علم ابن عباس من ثلاثة‏:‏ من عمر، وعلي، وأبيَّ بن كعب‏.‏

وقال طاوس‏:‏ عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد من ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال مغيرة‏:‏ عن الشعبي قال‏:‏ قيل لابن عباس‏:‏ أنى أصبت هذا العلم‏؟‏

قال‏:‏ بلسان سؤول، وقلب عقول‏.‏

وثبت عن عمر بن الخطاب أنه كان يجلس ابن عباس مع مشايخ الصحابة ويقول‏:‏ نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس‏.‏

وكان إذا أقبل يقول عمر‏:‏ جاء فتى الكهول، وذو اللسان السؤول، والقلب العقول‏.‏

وثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏ أن عمر سأل الصحابة عن تفسير‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏‏[‏النصر‏:‏ 1‏]‏ فسكت بعض وأجاب بعض بجواب لم يرتضه عمر‏.‏

ثم سأل ابن عباس عنها فقال‏:‏ أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعي إليه‏.‏

فقال‏:‏ لا أعلم منها إلا بما تعلم، وأراد عمر بذلك أن يقرر عندهم جلالة قدره، وكبير منزلته في العلم والفهم‏.‏

وسأله مرة عن ليلة القدر فاستنبط أنها في السابعة من العشر الأخير، فاستحسنه عمر واستجاده كما ذكرنا في التفسير‏.‏

وقد قال الحسن بن عرفة‏:‏ حدثنا يحيى بن اليمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن عمر أنه قال لابن عباس‏:‏ لقد علمت علماً ما علمناه‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ قال عمر لابن عباس‏:‏ إنك لأصبح فتياننا وجهاً، وأحسنهم عقلاً، وأفقههم في كتاب الله عز وجل‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ عن الشعبي، عن ابن عباس قال‏:‏ قال لي أبي‏:‏ إن عمر يدنيك ويجلسك مع أكابر الصحابة فاحفظ عني ثلاثاً‏:‏ لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذباً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/330‏)‏

قال الشعبي‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ كل واحدة خير من ألف‏.‏

فقال ابن عباس‏:‏ بل كل واحدة خير من عشرة آلاف‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا عبد الله بن الفضل بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن عطاء بن يسار‏:‏ أن عمر وعثمان كانا يدعوان ابن عباس فيسير مع أهل بدر، وكان يفتي في عهد عمر وعثمان إلى يوم مات‏.‏

قلت‏:‏ وشهد فتح إفريقية سنة سبع وعشرين مع ابن أبي سرح‏.‏

وقال الزهري‏:‏ عن علي بن الحسين، عن أبيه قال‏:‏ نظر أبي إلى ابن عباس يوم الجمل يمشي بين الصفين، فقال‏:‏ أقر الله عين من له ابن عم مثل هذا‏.‏

وقد شهد مع علي الجمل وصفين، وكان أميراً على الميسرة، وشهد معه قتال الخوارج، وكان ممن أشار على علي أن يستنيب معاوية على الشام، وأن لا يعزله عنها في بادئ الأمر، حتى قال له فيما قال‏:‏ إن أحببت عزله فوله شهراً واعزله دهراً، فأبى علي إلا أن يقاتله، فكان ما كان مما قد سبق بيانه‏.‏

ولما تراض الفريقان على تحكيم الحكمين طلب ابن عباس أن يكون من جهة علي ليكافئ عمرو بن العاص، فامتنعت مذحج وأهل اليمن إلا أن يكون من جهة علي أبو موسى الأشعري، وكان من أمر الحكمين ما سلف‏.‏

وقد استنابه علي على البصرة، وأقام للناس الحج في بعض السنين فخطب بهم في عرفات خطبة وفسر فيها سورة البقرة‏.‏

وفي رواية سورة النور، قال‏:‏ من سمعه فسر ذلك تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا‏.‏

وهو أول من عرّف بالناس في البصرة، فكان يصعد المنبر ليلة عرفة ويجتمع أهل البصرة حوله فيفسر شيئاً من القرآن، ويذكر الناس من بعد العصر إلى الغروب، ثم ينزل فيصلي بهم المغرب‏.‏

وقد اختلف العلماء بعده في ذلك، فمنهم من كره ذلك وقال‏:‏ هو بدعة لم يعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه إلا ابن عباس‏.‏

ومنهم من استحب ذلك لأجل ذكر الله وموافقة الحجاج‏.‏

وقد كان ابن عباس ينتقد على علي في بعض أحكامه فيرجع إليه علي في ذلك، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن عكرمة أن علياً حرق ناساً ارتدوا عن الإسلام‏.‏

فبلغ ذلك ابن عباس فقال‏:‏ لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تعذبوا بعذاب الله‏)‏‏)‏ بل كنت قاتلهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏‏)‏‏.‏

، فبلغ ذلك علياً فقال‏:‏ ويح ابن عباس‏.‏

وفي رواية ويح ابن عباس، إنه لغواص على الهنات، وقد كافأه علي فإن ابن عباس كان يرى إباحة المتعة، وأنها باقية، وتحليل الحمر الأنسية‏.‏

فقال علي‏:‏ إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر‏.‏

وهذا الحديث مخرج في ‏(‏الصحيحين‏)‏ وغيرهما، وله ألفاظ هذا من أحسنها، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/331‏)‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأ أبو عبد الله الحافظ قال‏:‏ سمعت أبا بكر بن المؤمل يقول‏:‏ سمعت أبا نصر بن أبي ربيعة يقول‏:‏ ورد صعصعة بن صوحان على علي بن أبي طالب من البصرة فسأله عن ابن عباس - وكان علي خلفه بها -‏.‏

فقال صعصعة‏:‏ يا أمير المؤمنين، إنه آخذ بثلاث وتارك لثلاث، آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، وبحسن الاستماع إذا حُدث، وبأيسر الأمرين إذا خولف‏.‏

وترك المراء، ومقارنة اللئيم، وما يعتذر منه‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ ثنا أبو بكر بن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ ما رأيت أحداً أحضر فهماً ولا ألب لباً، ولا أكثر علماً، ولا أوسع حلماً من ابن عباس‏.‏

ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات ثم يقول‏:‏ عندك قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإن حله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ عن أبي الضحى، عن مسروق قال‏:‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد‏.‏

وكان يقول‏:‏ نعم ترجمان القرآن ابن عباس‏.‏

وعن ابن عمر أنه قال‏:‏ ابن عباس أعلم الناس بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ حدثنا محمد بن عمر، حدثني يحيى بن العلاء، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه قال‏:‏ سمعت جابر بن عبد الله يقول حين بلغه موت ابن عباس وصفق بإحدى يديه على الأخرى‏:‏ مات اليوم أعلم الناس وأحلم الناس، وقد أصيبت به هذه الأمة لا ترتق‏.‏

وبه إلى يحيى بن العلاء، عن عمر بن عبد الله، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم‏.‏

قال‏:‏ لما مات ابن عباس قال رافع بن خديج‏:‏ مات اليوم من كان يحتاج إليه مَن بين المشرق والمغرب في العلم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عمرو بن أبي عمرو‏:‏ عن عكرمة قال‏:‏ سمعت معاوية يقول‏:‏ مات والله أفقه من مات ومن عاش‏.‏

وروى ابن عساكر عن ابن عباس قال‏:‏ دخلت على معاوية حين كان الصلح وهو أول ما التقيت أنا وهو، فإذا عنده أناس فقال‏:‏ مرحباً بابن عباس، ما تحاكت الفتنة بيني وبين أحد كان أعز علي بعداً ولا أحب إليّ قرباً، الحمد لله الذي أمات علياً‏.‏

فقلت له‏:‏ إن الله لا يذم في قضائه‏.‏

وغير هذا الحديث أحسن منه، ثم قلت له‏:‏ أحب أن تعفيني من ابن عمي وأعفيك من ابن عمك‏.‏

قال‏:‏ ذلك لك‏.‏

وقالت عائشة وأم سلمة حين حج ابن عباس بالناس‏:‏ هو أعلم الناس بالمناسك‏.‏

وقال ابن مبارك‏:‏ عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال‏:‏ ركب زيد بن ثابت فأخذ ابن عباس بركابه فقال‏:‏ لا تفعل يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا‏.‏

فقال زيد‏:‏ أنى يداك‏؟‏

فأخرج يديه فقبّلهما فقال‏:‏ هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني داود بن هند، عن سعيد بن جبير سمعت ابن المسيب يقول‏:‏ ابن عباس أعلم الناس‏.‏

وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عتبة‏.‏

قال‏:‏ كان ابن عباس قد فات الناس بخصال، بعلم ما سبق إليه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب ونائل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم منه، ولا بقضاء أبي بكر، وعمر، وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير القرآن ولا بحساب، ولا بفريضة منه، ولا أعلم فيما مضى ولا أثقب رأياً فيما احتيج إليه منه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/332‏)‏

ولقد كان يجلس يوماً ما يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً ما يذكر فيه إلا التأويل، ويوماً ما يذكر فيه إلا المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب‏.‏

وما رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، ولا وجدت سائلاً سأله إلا وجد عند علماً‏.‏

قال‏:‏ وربما حفظت القصيدة من فيه ينشدها ثلاثين بيتاً‏.‏

وقال هشام بن عروة عن أبيه‏:‏ ما رأيت مثل ابن عباس قط‏.‏

وقال عطاء‏:‏ ما رأيت مجلساً أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر فقهاً، ولا أعظم هيبة، أصحاب القرآن يسألونه، وأصحاب العربية يسألونه، وأصحاب الشعر عنه يسألونه، فكلهم يصدر في وادٍ أوسع‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني بشر بن أبي سليم، عن ابن طاوس، عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ كان ابن عباس قد يسبق على الناس في العلم كما تسبق النخلة السحوق على الودى الصغار‏.‏

وقال ليث بن أبي سليم قلت لطاوس‏:‏ لم لزمت هذا الغلام‏؟‏ - يعني‏:‏ ابن عباس - وتركت الأكابر من الصحابة‏؟‏

فقال‏:‏ إني رأيت سبعين من الصحابة إذا تماروا في شيء صاروا إلى قوله‏.‏

وقال طاوس أيضاً‏:‏ ما رأيت أفقه منه‏.‏

قال‏:‏ وما خالفه أحد قط فتركه حتى يقرره‏.‏

وقال علي بن المديني‏:‏ ويحيى بن معين، وأبو نعيم وغيرهم، عن سفيان بن عيينة، عن ابن نجيج، عن مجاهد‏.‏

قال‏:‏ ما رأيت مثله قط، ولقد مات يوم مات وأنه لحبر هذه الأمة - يعني‏:‏ ابن عباس -‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة وغيره‏:‏ عن أبي أسامة، عن الأعمش، عن مجاهد‏.‏

قال‏:‏ كان ابن عباس أمدهم قامة، وأعظمهم جفنة، وأوسعهم علماً‏.‏

وقال عمرو بن دينار‏:‏ ما رأيت مجلساً أجمع لكل خير من مجلسه - يعني‏:‏ ابن عباس - الحلال والحرام، وتفسير القرآن، والعربية، والشعر، والطعام‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ما رأيت أعرب لساناً من ابن عباس‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ ثنا عفان بن مسلم، ثنا سليم بن أخضر، عن سليمان التيمي - وهو ممن أرسله الحكم بن أديب - إلى الحسن سأله عن أول من جمّع بالناس في هذا المسجد يوم عرفه‏؟‏

قال‏:‏ ابن عباس، وكان رجلاً مثجى - أحسب في الحديث - كثير العلم، وكان يصعد المنبر فيقرأ سورة البقرة ويفسرها آية آية‏.‏

وقد روي من وجه آخر، عن الحسن البصري نحوه‏.‏

وقال عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري‏:‏ روى سفيان عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن قال‏:‏ كان ابن عباس أول من عرّف بالبصرة، صعد المنبر فقرأ البقرة وآل عمران ففسرهما حرفاً حرفاً‏.‏

مثجى‏:‏ قال ابن قتيبة‏:‏ مثجى من الثج وهو السيلان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً‏}‏‏[‏النبأ‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ كثيراً بسرعة‏.‏

وقال يونس بن بكير‏:‏ حدثنا أبو حمزة الثمالي، عن أبي صالح قال‏:‏ لقد رأيت من ابن عباس مجلساً لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر، لقد رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا يذهب‏.‏

قال‏:‏ فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه‏.‏

فقال لي‏:‏ ضع لي وضوءاً‏.‏

قال‏:‏ فتوضأ وجلس وقال‏:‏ اخرج فقل لهم‏:‏ من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أريد منه فليدخل‏.‏

قال‏:‏ فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم عنه وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر‏.‏

ثم قال‏:‏ إخوانكم، فخرجوا‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/333‏)‏

ثم قال‏:‏ اخرج فقل‏:‏ من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل‏.‏

قال‏:‏ فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله أو أكثر‏.‏

ثم قال‏:‏ إخوانكم فخرجوا‏.‏

ثم قال‏:‏ اخرج فقل‏:‏ من كان يريد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها، فليدخل‏.‏

فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم مثله أو أكثر‏.‏

ثم قال‏:‏ إخوانكم فخرجوا‏.‏

ثم قال‏:‏ اخرج فقل‏:‏ من كان يريد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل‏.‏

فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله‏.‏

ثم قال‏:‏ إخوانكم فخرجوا‏.‏

قال أبو صالح‏:‏ فلو أن قريشاً كلها فخرت بذلك لكان فخراً، فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس‏.‏

وقال طاوس وميمون بن مهران‏:‏ ما رأينا أورع من ابن عمر، ولا أفقه من ابن عباس‏.‏

قال ميمون‏:‏ وكان ابن عباس أفقههما‏.‏

وقال شريك القاضي‏:‏ عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال‏:‏ كنت إذا رأيت ابن عباس قلت‏:‏ أجمل الناس، فإذا نطق، قلت‏:‏ أفصح الناس، فإذا تحدث، قلت‏:‏ أعلم الناس‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن الزبير بن الحارث، عن عكرمة قال‏:‏ كان ابن عباس أعلمهما بالقرآن، وكان علي أعلمهما بالمبهمات‏.‏

وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ إنما كان كذلك لأن ابن عباس كان قد أخذ ما عند علي من التفسير، وضم إلى ذلك ما أخذه عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبيَّ بن كعب وغيرهم من كبار الصحابة‏.‏

مع دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يعلمه الله الكتاب‏.‏

وقال أبو معاوية‏:‏ عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال‏:‏ خطب ابن عباس وهو على الموسم فافتتح سورة البقرة، فجعل يقرأها ويفسرها فجعلت أقول ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، لو سمعته فارس والروم لأسلمت‏.‏

وقد روى أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، أن ابن عباس حج بالناس عام قتل عثمان فقرأ سورة النور، وذكر نحو ما تقدم‏.‏

فلعل الأول كان في زمان علي فقرأ في تلك الحجة سورة البقرة، وفي فتنة عثمان سورة النور، والله أعلم‏.‏

وقد روينا عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ عرضت القرآن على ابن عباس مرتين أقف عند كل آية فأسأل عنها‏.‏

وروي عنه أنه قال‏:‏ أربع من القرآن لا أدري ما به جيء، الأواه، والحنان، والرقيم، والغسلين‏.‏

وكل القرآن أعلمه إلا هذه الأربع‏.‏

وقال ابن وهب وغيره‏:‏ عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال‏:‏ كان ابن عباس إذا سئل عن مسألة فإن كانت في كتاب الله قال بها، وإن لم تكن وهي في السنة قال بها، فإن لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدها عن أبي بكر وعمر قال بها، وإلا اجتهد رأيه‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا أبو عاصم، وعبد الرحمن بن الشعبي، عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/334‏)‏

قال‏:‏ شتم رجل ابن عباس فقال له‏:‏ إنك لتشتمني وفيَّ ثلاث خصال، لآتي على الآية من كتاب الله فأود أن الناس علموا منها مثل الذي أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو إليه، ولعلي لا أقاضي إليه ولا أحاكم أبداً، وإني لأسمع بالغيث يصيب الأرض من أرض المسلمين، فأفرح به ومالي بها من سائمة أبداً‏.‏

ورواه البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن الأصم، عن الحسن بن مكرم، عن يزيد بن هارون، عن كهمس به‏.‏

وقال ابن أبي مليكة‏:‏ صحبت ابن عباس من المدينة إلى مكة، وكان يصلي ركعتين فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القرآن حرفاً حرفاً، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب، ويقرأ‏:‏ ‏{‏وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ‏}‏‏[‏ق‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ عن المعتمر بن سليمان، عن شعيب بن درهم قال‏:‏ كان في هذا المكان - وأومأ إلى مجرى الدموع من خديه - يعني‏:‏ خدي ابن عباس - مثل الشراك البالي من البكاء‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان يصوم يوم الاثنين والخميس‏.‏

وقال‏:‏ أحب أن يرتفع عملي وأنا صائم‏.‏

وروى هاشم وغيره، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس‏:‏ أن ملك الروم كتب إلى معاوية يسأله عن أحب الكلام إلى الله عز وجل‏.‏

ومن أكرم العباد على الله عز وجل، ومن أكرم الإماء على الله عز وجل‏.‏

وعن أربعة فيهم الروح، فلم يركضوا في رحم، وعن قبر سار بصاحبه، وعن مكان في الأرض لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة، وعن قوس قزح ما هو‏؟‏ وعن المجرة‏.‏

فبعث معاوية فسأل ابن عباس عنهن فكتب ابن عباس إليه‏:‏ أما أحب الكلام إلى الله فسبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وأكرم العباد على الله آدم، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء‏.‏

وأكرم الإماء على الله مريم بنت عمران‏.‏

وأما الأربعة الذين لم يركضوا في رحم فآدم وحواء وعصى موسى، وكبش إبراهيم الذي فدى به إسماعيل‏.‏

وفي رواية‏:‏ وناقة صالح‏.‏

وأما القبر الذي سار بصاحبه فهو حوت يونس‏.‏

وأما المكان الذي لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة، فهو البحر لما انفلق لموسى حتى جاز بنو إسرائيل فيه‏.‏

وأما قوس قزح فأمان لأهل الأرض من الغرق، والمجرة باب في السماء‏.‏

وفي رواية‏:‏ الذي ينشق منه‏.‏

فلما قرأ ملك الروم ذلك أعجبه وقال‏:‏ والله ما هي من عند معاوية ولا من قوله، وإنما هي من عند أهل النبي صلى الله عليه وسلم، من وقد ورد هذه الأسئولة روايات كثيرة فيها، وفي بعضها نظر والله أعلم‏.‏

 فصل تولي ابن عباس إمامة الحج‏.‏

تولى ابن عباس إمامة الحج سنة خمس وثلاثين بأمر عثمان بن عفان له وهو محصور، وفي غيبته هذه قتل عثمان، وحضر ابن عباس مع علي الجمل، وكان على الميسرة يوم صفين‏.‏

وشهد قتال الخوارج وتأمّر على البصرة من جهة علي، وكان إذا خرج منها يستخلف أبا الأسود الدؤلي على الصلاة، وزياد بن أبي سفيان على الخراج، وكان أهل البصرة مغبوطين به، يفقههم ويعلم جاهلهم، ويعظ مجرمهم، ويعطي فقيرهم، فلم يزل عليها حتى مات علي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/335‏)‏

ويقال‏:‏ إن علياً عزله عنها قبل موته، ثم وفد على معاوية فأكرمه وقربه واحترمه وعظمه، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب عنها سريعاً، فكان معاوية يقول‏:‏ ما رأيت أحداً أحضر جواباً منه‏.‏

ولما جاء الكتاب بموت الحسن بن علي اتفق كون ابن العباس عند معاوية فعزاه فيه بأحسن تعزية، ورد عليه ابن عباس رداً حسناً كما قدمنا‏.‏

وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس، وعزاه بعبارة فصيحة وجيزة، شكره عليها ابن عباس‏.‏

ولما مات معاوية ورام الحسين الخروج إلى العراق نهاه ابن عباس أشد النهي، وأراد ابن عباس أن يتعلق بثياب الحسين - لأن ابن عباس كان قد أضر في آخر عمره - فلم يقبل منه، فلما بلغه موته حزن عليه حزناً شديداً ولزم بيته، وكان يقول‏:‏ يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، فإنك إن لا تفعل تندم‏.‏

وجاء إليه رجل يقال له‏:‏ جندب، فقال له‏:‏ أوصني‏.‏

فقال‏:‏ أوصيك بتوحيد الله والعمل له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن كل خير آتيه أنت بعد ذلك منك مقبول، وإلى الله مرفوع، يا جندب إنك لن تزدد من موتك إلا قرباً، فصلِّ صلاة مودعٍ‏.‏

وأصبح في الدنيا كأنك غريب مسافر، فإنك من أهل القبور، وابك على ذنبك وتب من خطيئتك، ولتكن الدنيا عليك أهون من شسع نعلك، فكأن قد فارقتها وصرت إلى عدل الله، ولن تنتفع بما خلفت، ولن ينفعك إلا عملك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أوصى ابن عباس بكلمات خير من الخيل الدهم‏.‏

قال‏:‏ لا تكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى له موضعاً، ولا تمار سفيهاً ولا حليماً، فإن الحليم يغلبك، والسفيه يزدريك، ولا تذكرن أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يتكلم فيك إذا تواريت عنه، واعمل عمل من يعلم أنه مجزى بالإحسان مأخوذ بالإجرام‏.‏

فقال رجل عنده‏:‏ يا ابن عباس ‏!‏ هذا خير من عشرة آلاف‏.‏

فقال ابن عباس‏:‏ كلمة منه خير من عشرة آلاف‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ تمام المعروف تعجيله وتصغيره وستره - يعني‏:‏ أن تعجل العطية للمعطى - وأن تصغر في عين المعطي - وأن تسترها عن الناس فلا تظهرها ‏!‏ فإن في إظهارها فتح باب الرياء وكسر قلب المعطى، واستحياءه من الناس‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ أعز الناس على جليس لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ لا يكافئ من أتاني يطلب حاجة فرآني لها موضعاً إلا الله عز وجل، وكذا رجل بدأني بالسلام أو أوسع لي في مجلس، أو قام لي عن المجلس، أو رجل سقاني شربة ماء على ظمأ، ورجل حفظني بظهر الغيب‏.‏

والمأثور عنه من هذه المكارم كثير جداً، وفيما ذكرنا إشارة إلى ما لم نذكره‏.‏

وقد عده الهيثم بن عدي في العميان من الأشراف، وفي بعض الأحاديث الواردة عنه ما يدل على ذلك، وقد أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه، فلما أصيبت الأخرى عاد إليه لحمه، فقيل له في ذلك فقال‏:‏ أصابني ما رأيتم في الأولى شفقة على الأخرى، فلما ذهبتا اطمأن قلبي‏.‏

وقال أبو القاسم البغوي‏:‏ ثنا علي بن الجعد، ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه وقع في عينيه الماء فقال له الطبيب‏:‏ ننزعك من عينيك الماء على أن لا تصلي سبعة أيام‏.‏

فقال‏:‏ لا ‏!‏ إنه من ترك الصلاة وهو يقدر عليها لقي الله وهو عليه غضبان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/336‏)‏

وفي رواية أنه قيل له‏:‏ نزيل هذا الماء من عينيك على أن تبقى خمسة أيام ولا تصلي إلا على عود‏.‏

وفي رواية‏:‏ إلا مستلقياً‏.‏

فقال‏:‏ لا والله ولا ركعة واحدة، إنه من ترك صلاة واحدة متعمداً لقي الله وهو عليه غضبان‏.‏

وقد أنشد المدائني لابن عباس حين عمي‏:‏

إن يأخذ الله من عيني نورهما * ففي لساني وسمعي منهما نور

قلبي ذكيٌّ وعقلي غير ذي دخلٍ * وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثور

ولما وقع الخلف بين ابن الزبير وبين عبد الملك بن مروان اعتزل ابن عباس ومحمد بن الحنفية الناس، فدعاهما ابن الزبير ليبايعاه فأبيا عليه، وقال كل منهما‏:‏ لا نبايعك ولا نخالفك، فهمّ بهما فبعثا أبا الطفيل عامر بن واثلة فاستنجد لهما من العراق من شيعتهما‏.‏

فقدم أربعة آلاف فكبروا بمكة تكبيرة واحدة، وهموا بابن الزبير فهرب فتعلق بأستار الكعبة، وقال‏:‏ أنا عائذ بالله، فكفوهم عنه، ثم مالوا إلى ابن عباس وابن الحنفية وقد حمل ابن الزبير حول دورهم الحطب ليحرقهم، فخرجوا بهما حتى نزلوا الطائف، وأقام ابن عباس سنتين لم يبايع أحداً كما تقدم‏.‏

فلما كان في سنة ثمان وستين توفي ابن عباس بالطائف، وصلى عليه محمد بن الحنفية، فلما وضعوه ليدخلوه في قبره جاء طائر أبيض لم ير مثل خلقته، فدخل في أكفانه، والتف بها حتى دفن معه‏.‏

قال عفان‏:‏ وكانوا يرون علمه وعمله، فلما وضع في اللحد تلا تالٍ لا يعرف من هو، وفي رواية‏:‏ أنهم سمعوا من قبره‏:‏ ‏{‏يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27-30‏]‏‏.‏

هذا القول في وفاته هو الذي صححه غير واحد من الأئمة، ونص عليه أحمد بن حنبل، والواقدي، وابن عساكر، وهو المشهور عند الحافظ‏.‏

وقيل‏:‏ أنه توفي سنة ثلاث وستين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة ثلاث وسبعين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة سبع وستين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة تسع وستين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة سبعين، والأول أصح، وهذه الأقوال كلها شاذة غريبة مردودة، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وكان عمره يوم مات ثنتين وسبعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ إحدى وسبعين‏.‏

وقيل‏:‏ أربع وسبعين، والأول أصح والله أعلم‏.‏

 صفة ابن عباس

كان جسيماً إذا جلس يأخذ مكان رجلين، جميلاً له وفرة، قد شاب مقدم رأسه، وشابت لمته، وكان يخضب بالحناء‏.‏

وقيل‏:‏ بالسواد، حسن الوجه يلبس حسناً ويكثر من الطيب بحيث إنه كان إذا مر في الطريق يقول النساء‏:‏ هذا ابن عباس أو رجل معه مسك، وكان وسيماً، أبيض طويلاً، جسيماً فصيحاً، ولما عمي اعترى لونه صفرة يسيرة‏.‏

وقد كان بنو العباس عشرة، وهم‏:‏ الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، ومعبد، وقثم، وعبد الرحمن، وكثير، والحارث، وعون، وتمام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/337‏)‏

وكان أصغرهم تمام، ولهذا كان يحمله ويقول‏:‏

تموا بتمامٍ فصاروا عشرة * يا رب فاجعلهم كراماً بررة

واجعلهم ذكراً وانم الثمرة

فأما الفضل فمات بأجنادين شهيداً، وعبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، ومعبد وعبد الرحمن بإفريقية، وقثم وكثير بينبع‏.‏

وقيل‏:‏ إن قثماً مات بسمرقند‏.‏

وقد قال مسلم بن حماد المكي مولى بني مخزوم‏:‏ ما رأيت مثل بني أمٍ واحدة أشراف ولدوا في دار واحدة أبعد قبوراً من بني أم الفضل، ثم ذكر مواضع قبورهم كما تقدم، إلا أنه قال‏:‏ الفضل مات بالمدينة، وعبيد الله بالشام‏.‏

وقد كان عبد الله بن عباس يلبس الحلة بألف درهم، وكان له من الولد العباس وعلي، وكان علي يدعى السجاد لكثرة صلاته، وكان أجمل قرشي على وجه الأرض‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه كان يصلي كل يوم ألف ركعة‏.‏

وقيل‏:‏ في الليل والنهار مع الجمال التام، وعلى هذا فهو أبو الخلفاء العباسيين، ففي ولده كانت الخلافة العباسية كما سيأتي‏.‏

وكان لابن العباس أيضاً محمد، والفضل، وعبد الله، وأمهم‏:‏ زرعة بنت مسرح بن معدي كرب، وله أسماء وهي لأم ولد‏.‏

وكان له من الموالي‏:‏ عكرمة، وكريب، وأبو معبد، وشعبة، ودقيق، وأبو عمرة، وأبو عبيدة‏.‏

وأسند ألفاً وستمائة وسبعين حديثاً، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أبو شريح الخزاعي العدوي الكعبي، اختلف في اسمه على أقوال أصحها خويلد بن عمرو، أسلم عام الفتح، وكان معه أحد ألوية بني كعب الثلاثة‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ مات في هذه السنة، وله أحاديث‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أبو واقد الليثي صحابي جليل، مختلف في اسمه وفي شهوده بدراً‏.‏

قال الواقدي‏:‏ توفي سنة ثمان وستين عن خمس وستين سنة، وكذا قال غير واحد في تاريخ وفاته‏.‏

وزعم بعضهم أنه عاش سبعين سنة، مات بمكة بعد ما جاوز بها سنة، ودفن في مقابر المهاجرين والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وستين

 ففيها‏:‏ كان مقتل عمرو بن سعيد الأشدق الأموي، قتله عبد الملك بن مروان، وكان سبب ذلك أن عبد الملك ركب في أول هذه السنة في جنوده قاصداً قرقيسيا ليحاصر زفر بن الحارث الكلابي الذي أعان سليمان بن صرد على جيش مروان حين قاتلوهم بعين وردة‏.‏

ومن عزمه إذا فرغ من ذلك أن يقصد مصعب بن الزبير بعد ذلك، فلما سار إليها استخلف على دمشق عمرو بن سعيد الأشدق، فتحصن بها وأخذ أموال بيت المال‏.‏

وقيل‏:‏ بل كان مع عبد الملك ولكنه انخذل عنه في طائفة من الجيش وكر راجعاً إلى دمشق في الليل، ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلبي، وزهير بن الأبرد الكلبي، فانتهوا إلى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم نائباً من جهة عبد الملك‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/338‏)‏

فلما أحس بهم هرب وترك البلد، فدخلها عمرو بن سعيد الأشدق فاستحوذ على ما فيها من الخزائن، وخطب بالناس فوعدهم العدل والنصف والعطاء الجزيل والثناء الجميل‏.‏

ولما علم عبد الملك بما فعله الأشدق كر راجعاً من فوره، فوجد الأشدق قد حصن دمشق وعلق عليها الستائر والمسوح، وانحاز الأشدق إلى حصن رومي منيع كان بدمشق فنزله‏.‏

فحاصره عبد الملك وقاتله الأشدق مدة ستة عشر يوماً، ثم اصطلحا على ترك القتال، وعلى أن يكون ولي العهد بعد عبد الملك، وعلى أن يكون لكل عامل لعبد الملك عامل له، وكتبا بينهما كتاب أمان، وذلك عشية الخميس‏.‏

ودخل عبد الملك إلى دمشق إلى دار الإمارة على عادته، وبعث إلى عمرو بن سعيد الأشدق يقول له‏:‏ ردَّ على الناس أعطياتهم التي أخذتها من بيت المال‏.‏

فبعث إليه الأشدق‏:‏ أن هذا ليس إليك، وليس هذا البلد لك فاخرج منه‏.‏

فلما كان يوم الاثنين بعث عبد الملك إلى الأشدق يأمره بالإتيان إلى منزله بدار الإمارة الخضراء، فلما جاءه الرسول صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو زوج ابنته أم موسى بنت الأشدق، فاستشاره عمرو في الذهاب إليه‏.‏

فقال له‏:‏ يا أبا سعيد والله لأنت أحب إليّ من سمعي وبصري، وأرى أن لا نأتيه، فإن تبيعاً الحميري ابن امرأة كعب الأحبار قال‏:‏ إن عظيماً من عظماء بني إسماعيل يغلق أبواب دمشق فلا يلبث أن يقتل‏.‏

فقال عمرو‏:‏ والله لو كنت نائماً ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء، وما كان ليجترئ على ذلك مني، مع أن عثمان بن عفان أتاني البارحة في المنام فألبسني قميصه‏.‏

وقال عمرو بن سعيد‏:‏ أبلغه السلام وقل له‏:‏ أنا رائح إليك العشية إن شاء الله‏.‏

فلما كان العشي - يعني‏:‏ بعد الظهر - لبس عمرو درعاً بين ثيابه وتقلد سيفه ونهض فعثر بالبساط، فقالت امرأته وبعض من حضره‏:‏ إنا نرى أن لا تأتيه، فلم يلتفت إلى ذلك ومضى في مائة من مواليه‏.‏

وكان عبد الملك قد أمر بني مروان فاجتمعوا كلهم عنده، فلما انتهى عمرو إلى الباب أمر عبد الملك أن يدخل وأن يحبس من معه عند كل باب طائفة منهم‏.‏

فدخل حتى انتهى إلى صرحة المكان الذي فيه عبد الملك، ولم يبق معه من مواليه سوى وصيف، فرمى ببصره فإذا مروان عن بكرة أبيهم مجتمعون عند عبد الملك، فأحس بالشر فالتفت إلى ذلك الوصيف فقال له همساً‏:‏ ويلك انطلق إلى أخي يحيى فقل له فليأتني‏.‏

فلم يفهم عنه وقال له‏:‏ لبيك‏.‏

فأعاد عليه ذلك فلم يفهم أيضاً، وقال‏:‏ لبيك‏.‏

فقال‏:‏ ويلك أغرب عني في حرق الله وناره‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/339‏)‏

وكان عند عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل، وقبيصة بن ذؤيب، فأذن لهما عبد الملك بالانصراف، فلما خرجا غلقت الأبواب واقترب عمرو من عبد الملك فرحب به وأجلسه معه على السرير، ثم جعل يحدثه طويلاً‏.‏

ثم إن عبد الملك قال‏:‏ يا غلام خذ السيف عنه‏.‏

فقال عمرو‏:‏ إنا لله يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال له عبد الملك‏:‏ أوتطمع أن تتحدث معي متقلداً سيفك‏؟‏

فأخذ الغلام السيف عنه، ثم تحدثا ساعة‏.‏

ثم قال له عبد الملك‏:‏ يا أبا أمية‏.‏

قال‏:‏ لبيك يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ إنك حيث خلعتني آليت بيميني إن ملأت عيني منك، وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة‏.‏

فقالت بنو مروان‏:‏ ثم تطلقه يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ ثم أطلقه، وما عسيت أن أفعل بأبي أمية‏.‏

فقال بنو مروان‏:‏ بر يمين أمير المؤمنين‏.‏

فقال عمرو‏:‏ بر قسمك يا أمير المؤمنين، فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال‏:‏ يا غلام قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها‏.‏

فقال عمرو‏:‏ أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس‏.‏

فقال عبد الملك‏:‏ أمكراً يا أبا أمية عند الموت‏؟‏ لاها الله إذا ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ولما نخرجها منك إلا صعداً‏.‏

ثم اجتذبه اجتذابة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو‏:‏ أذكرك الله أن يدعوك كسر عظمي إلى ما هو أعظم من ذلك‏.‏

فقال عبد الملك‏:‏ والله لو أعلم أنك إذا بقيت تفي لي وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلد قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه‏.‏

وفي رواية أنه قال له‏:‏ أما علمت يا عمرو وأنه لا يجتمع فحلان في شرك ‏؟‏‏.‏

فلما تحقق عمرو ما يريد من قتله قال له‏:‏ أغدراً يا ابن الزرقاء‏؟‏ وأسمعه كلاماً رديئاً بشعاً، وبينما هما كذلك إذ أذن مؤذن للعصر، فقام عبد الملك ليخرج إلى الصلاة‏.‏

وأمر أخاه عبد العزيز بن مروان بقتله، وخرج عبد الملك وقام إليه عبد العزيز بالسيف‏.‏

فقال له عمرو‏:‏ أذكرك الله والرحم أن لا تلي ذلك مني، وليتولّ ذلك غيرك، فكف عنه عبد العزيز‏.‏

ولما رأى الناس عبد الملك قد خرج وليس معه عمرو، أرجف الناس بعمرو، فأقبل أخوه يحيى بن سعيد في ألف عبدٍ لعمرو بن سعيد وأناس معهم كثير، وأسرع عبد الملك الدخول إلى دار الإمارة‏.‏

وجاء أولئك فجعلوا يدقون باب الإمارة ويقولون‏:‏ أسمعنا صوتك يا أبا أمية، وضرب رجل منهم الوليد بن عبد الملك في رأسه بالسيف فجرحه، فأدخله إبراهيم بن عدي صاحب الديوان بيتاً، وأحرزه فيه، ووقعت خبطة عظيمة في المسجد، وضجت الأصوات‏.‏

ولما رجع عبد الملك وجد أخاه لم يقتله فلامه وسبه وسب أمه - ولم تكن أم عبد العزيز أم عبد الملك -فقال له‏:‏ ناشدني الله والرحم، وكان ابن عمّه عبد الملك بن مروان، ثم إن عبد الملك قال‏:‏ يا غلام أتني بالحربة، فأتاه بها فهزها وضربه بها فلم تغن شيئاً، ثم ثنى فلم تغن شيئاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/340‏)‏

فضرب بيده إلى عضد عمرو فوجد مس الدرع فضحك وقال‏:‏ أدارع أيضاً‏؟‏ إن كنت معداً، يا غلام، ائتني بالصمصامة، فأتاه بسيفه ثم أمر بعمرو فصرع، ثم جلس على صدره فذبحه، وهو يقول‏:‏

يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي * أضربك حتى تقول الهامة اسقوني

قالوا‏:‏ وانتفض عبد الملك بعد ما ذبحه كما تنتفض القصبة برعدة شديدة جداً، بحيث إنهم ما رفعوه عن صدره إلا محمولاً، فوضوعه على سريره وهو يقول‏:‏ ما رأيت مثل هذا قط قبله صاحب دنيا ولا آخرة‏.‏

ودفع الرأس إلى عبد الرحمن بن أم الحكم فخرج إلى الناس فألقاه بين أظهرهم، وخرج عبد العزيز بن مروان ومعه البدر من الأموال تحمل، فألقيت بين الناس، فجعلوا يختطفونها‏.‏

ويقال‏:‏ إنها استرجعت بعد ذلك من الناس إلى بيت المال‏.‏

ويقال‏:‏ إن الذي ولي قتل عمرو بن سعيد مولى عبد الملك أبو الزعيزعة بعد ما خرج عبد الملك إلى الصلاة فالله أعلم‏.‏

وقد دخل يحيى بن سعيد - أخو عمرو بن سعيد - دار الإمارة بعد مقتل أخيه بمن معه فقام إليهم بنو مروان فاقتتلوا، وجرح جماعات من الطائفتين، وجاءت يحيى بن سعيد صخرة في رأسه أشغلته عن نفسه وعن القتال‏.‏

ثم إن عبد الملك بن مروان خرج إلى المسجد الجامع فصعد المنبر فجعل يقول‏:‏ ويحكم أين الوليد‏؟‏ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم‏.‏

فأتاه إبراهيم بن عدي الكناني فقال‏:‏ هذا الوليد عندي قد أصابته جراحة وليس عليه بأس‏.‏

ثم أمر عبد الملك بيحيى بن سعيد أن يقتل، فتشفع فيه أخوه عبد العزيز بن مروان، وفي جماعات آخرين معه كان عبد الملك قد أمر بقتلهم، فشفعه فيهم وأمر بحبسه فحبس شهراً، ثم سيره وبني عمرو بن سعيد وأهليهم إلى العراق، فدخلوا على مصعب بن الزبير فأكرمهم وأحسن إليهم‏.‏

ثم لما انعقدت الجماعة لعبد الملك بعد مقتل ابن الزبير، وفدوا عليه فكاد يقتلهم فتلطف بعضهم في العبارة حتى رق لهم رقة شديدة‏.‏

فقال لهم عبد الملك‏:‏ إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، وأما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم، وأرعاني لحقكم، فأحسن جائزتهم وقربهم‏.‏

وقد كان عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو بن سعيد أن ابعثي إليّ بكتاب الأمان الذي كنت كتبته لعمرو‏.‏

فقالت‏:‏ إني دفنته معه ليحاكمك به يوم القيامة عند الله‏.‏

وقد كان مروان بن الحكم وعد عمرو بن سعيد هذا أن يكون ولي العهد من بعد ولده عبد الملك، كلاماً مجرداً، فطمع في ذلك وقويت نفسه بسبب ذلك، وكان عبد الملك يبغضه بغضاً شديداً من حال الصغر، ثم كان هذا صنيعه إليه في الكبر‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وذكر أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم‏:‏ أعجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرته حتى قتلته‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/341‏)‏

وأدنيته مني ليسكن روعه * فأصول صولة حازمٍ مستمكن

غضباً ومحمية لديني إنه * ليس المسيء سبيله كالمحسن

قال خليفة بن خياط‏:‏ وهذا الشعر للضبي بن أبي رافع، تمثل به عبد الملك‏.‏

وروى ابن دريد‏:‏ عن أبي حاتم، عن الشعبي أن عبد الملك قال‏:‏ لقد كان عمرو بن سعيد أحب إليّ من دم النواظر، ولكن الله لا يجتمع فحلان في الإبل إلا أخرج أحدهما الآخر، وأنا لَكَما قال أخو بني يربوع‏:‏

أجازي من جزاني الخير خيراً * وجازى الخير يجزى بالنوال

وأجزي من جزاني الشر شراً * كما تحذا النعال على النعال

قال خليفة بن خياط‏:‏ وأنشد أبو اليقظان لعبد الملك في قتله عمرو بن سعيد‏:‏

صحت ولا تشلل وضرت عدوها * يمين أراقت مهجة ابن سعيد

وجدت ابن مروان ولا نبل عنده * شديدٌ ضرير الناس غر بليد

هو ابن أبي العاصي لمروان ينتهي * إلى أسرةٍ طابت له وجدود

وكان الواقدي يقول‏:‏ أما حصار عبد الملك لعمرو بن سعيد الأشدق فكان في سنة تسع وستين، رجع إليه من بطنان فحاصره بدمشق، ثم كان قتله في سنة سبعين والله أعلم‏.‏

 وهذه ترجمة الأشدق

هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو أمية القرشي الأموي، المعروف‏:‏ بالأشدق‏.‏

يقال‏:‏ أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما نحل والد ولداً أحسن من أدب حسن‏)‏‏)‏‏.‏

وحديثاً آخر في العتق، وروى عن عمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، وحدث عنه بنوه أمية، وسعيد، وموسى، وغيرهم‏.‏

واستنابه معاوية على المدينة، وكذلك يزيد بن معاوية بعد أبيه كما تقدم، وكان من سادات المسلمين، ومن الكرماء المشهورين، يعطي الكثير، ويتحمل العظائم، وكان وصي أبيه من بين بنيه، وكان أبوه كما قدمنا من المشاهير الكرماء، والسادة النجباء‏.‏

قال عمرو‏:‏ ما شتمت رجلاً منذ كنت رجلاً، ولا كلفت من قصدني أن يسألني، لهو أمنّ علي مني عليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/342‏)‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ خطباء الناس في الجاهلية الأسود بن عبد المطلب، وسهيل بن عمرو‏.‏

وخطباء الناس في الإسلام معاوية وابنه، وسعيد بن العاص وابنه، وعبد الله بن الزبير‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد، ثنا علي بن زيد، أخبرني من سمع أبا هريرة يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ليرعفن على منبري جبار من جبابرة بني أمية حتى يسيل رعافه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص رعف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سال رعافه‏.‏

وهو الذي كان يبعث البعوث إلى مكة بعد وقعة الحرة أيام يزيد بن معاوية لقتال ابن الزبير، فنهاه أبو شريح الخزاعي وذكر له الحديث الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم مكة‏.‏

فقال‏:‏ نحن أعلم بذلك منك يا شريح، إن الحرام لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدمٍ، ولا فاراً بجزية‏.‏

الحديث كما تقدم وهو في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏.‏

ثم إن مروان دخل إلى مصر بعد ما دعا إلى نفسه واستقر له الشام، ودخل معه عمرو بن سعيد ففتح مصر، وقد كان وعد عمراً أن يكون ولي العهد من بعد عبد الملك، وأن يكون قبل ذلك نائباً بدمشق، فلما قويت شوكة مروان رجع عن ذلك، وجعل الأمر من بعد ذلك لولده عبد العزيز، وخلع عمراً‏.‏

فما زال ذلك في نفسه حتى كان من أمره ما تقدم، فدخل عمرو دمشق وتحصن بها وأجابه أهلها، فحاصره عبد الملك ثم استنزله على أمان صوري، ثم قتله كما قدمنا‏.‏

وكان ذلك في هذه السنة على المشهور عند الأكثرين‏.‏

وقال الواقدي، وأبو سعيد بن يونس‏:‏ سنة سبعين فالله أعلم‏.‏

ومن الغريب ما ذكره هشام بن محمد الكلبي بسند له‏:‏ أن رجلاً سمع في المنام قائلا يقول على سور دمشق قبل أن يخرج عمرو بالكلية، وقبل قتله بمدة هذه الأبيات‏:‏

ألا يا قوم للسفاهة والوهن * وللفاجر الموهون والرأي الأفن

ولا ابن سعيدٍ بينما هو قائم * على قدميه خرّ للوجه والبطن

رأى الحصن منجاة من الموت فالتجأ * إليه فزارته المنية في الحصن

قال‏:‏ فأتى الرجل عبد الملك فأخبره فقال‏:‏ ويحك سمعها منك أحد‏؟‏

قال‏:‏ لا ‏!‏

قال‏:‏ فضعها تحت قدميك‏.‏

قال‏:‏ ثم بعد ذلك خلع عمرو الطاعة وقتله عبد الملك بن مروان‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن عبد الملك لما حاصره راسله وقال‏:‏ أنشدك الله والرحم أن تدع أمر بيتك وما هم عليه من اجتماع الكلمة فإن فيما صنعت قوة لابن الزبير علينا، فارجع إلى بيعتك ولك عليّ عهد الله وميثاقه، وحلف له بالأيمان المؤكدة أنك ولي عهدي من بعدي‏.‏

وكتبا بينهما كتاباً فانخدع له عمرو وفتح له أبواب دمشق فدخلها عبد الملك وكان من أمرهما ما تقدم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/343‏)‏

 وممن توفي فيها من الأعيان  أبو الأسود الدؤلي

ويقال له‏:‏ الديلي‏.‏

قاضي الكوفة، تابعي جليل، واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن جلس بن شباثة بن عدي بن الدؤل بن بكر، أبو الأسود الذي نسب إليه علم النحو‏.‏

ويقال‏:‏ أنه أول من تكلم فيه، وإنما أخذه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد اختلف في اسمه على أقوال‏:‏ أشهرها أن اسمه ظالم بن عمرو‏.‏

وقيل‏:‏ عكسه‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ اسمه عويمر بن ظويلم‏.‏

قال‏:‏ وقد أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وشهد الجمل وهلك في ولاية عبد الله بن زياد‏.‏

وقال يحيى بن معين، وأحمد بن عبد الله العجلي‏:‏ كان ثقة وهو أول من تكلم في النحو‏.‏

وقال ابن معين وغيره‏:‏ مات بالطاعون الجارف سنة تسع وستين‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقيل‏:‏ أنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقد كان ابتداؤها في سنة تسع وتسعين‏.‏

قلت‏:‏ وهذا غريب جداً‏.‏

قال ابن خلكان وغيره‏:‏ كان أول من ألقى إليه علم النحو علي بن أبي طالب، وذكر له أن الكلام اسم وفعل وحرف‏.‏

ثم أن أبا الأسود نحى نحوه وفرع على قوله، وسلك طريقه، فسمى هذا العلم النحو لذلك‏.‏

وكان الباعث لأبي الأسود على ذلك تغير لغة الناس، ودخول اللحن في كلام بعضهم أيام ولاية زياد على العراق، وكان أبو الأسود مؤدب بنيه، فإنه جاء رجل يوماً إلى زياد فقال‏:‏ توفي أبانا وترك بنون، فأمره زياد أن يضع للناس شيئاً يهتدون به إلى معرفة كلام العرب‏.‏

ويقال‏:‏ إن أول من وضع منه باب التعجب من أجل أن ابنته قالت له ليلة‏:‏ يا أبة ما أحسن السماء‏.‏

قال‏:‏ نجومها‏.‏

فقالت‏:‏ إني لم أسأل عن أحسنها إنما تعجبت من حسنها‏.‏

فقال‏:‏ قولي‏:‏ ما أحسن السماء‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقد كان أبو الأسود يبخل‏.‏

وكان يقول‏:‏ أطعنا المساكين في أموالنا لكنا مثلهم، وعشى ليلة مسكيناً ثم قيده وبيته عنده ومنعه أن يخرج ليلة تلك لئلا يؤذي المسلمين بسؤاله‏.‏

فقال له المسكين‏:‏ أطلقني‏.‏

فقال‏:‏ هيهات، إنما عشيتك لأريح منك المسلمين الليلة، فلما أصبح أطلقه‏.‏

وله شعر حسن‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وقد أظهر خارجي التحكيم بمنى فقتل عند الحجرة‏.‏

والنواب فيها هم الذين كانوا في السنة التي قبلها‏.‏

وممن توفي فيها

 جابر بن سمرة بن جنادة له صحبة ورواية، ولأبيه أيضاً صحبة ورواية‏.‏

وقيل‏:‏ توفي سنة ست وستين فالله أعلم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/344‏)‏

 أسماء بنت يزيد

بن السكن الأنصارية، بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وقتلت بعمود خيمتها يوم اليرموك تسعة من الروم ليلة عرسها، وسكنت دمشق، ودفنت بباب الصغير‏.‏

 حسان بن مالك

أبو سليمان البحدلي، قام ببيعة مروان لما تولى الخلافة، مات في هذه السنة والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبعين من الهجرة

فيها‏:‏ ثارت الروم واستجاشوا على من بالشام، واستضعفوهم لما يرون من الاختلاف الواقع بين بني مروان وابن الزبير، فصالح عبد الملك ملك الروم وهادنه على أن يدفع إليه عبد الملك في كل جمعة ألف دينار خوفاً منه على الشام‏.‏

وفيها‏:‏ وقع الوباء بمصر فهرب منه عبد العزيز بن مروان إلى الشرقية، فنزل حلوان وهي على مرحلة من القاهرة، واتخذها منزلاً واشتراها من القبط بعشرة آلاف دينار، وبنى بها داراً للإمارة وجامعاً، وأنزلها الجند‏.‏

وفيها‏:‏ ركب مصعب بن الزبير من البصرة إلى مكة ومعه أموال جزيلة‏.‏

فأعطى وفرق وأطلق الجماعة من رؤوس الناس بالحجاز أموالاً كثيرة‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 عاصم بن عمر بن الخطاب

القرشي العدوي، وأمه جميلة بنت ثابت ابن أبي الأقلح، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرو إلا عن أبيه حديثاً واحداً‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا أقبل الليل من ههنا‏)‏‏)‏ الحديث‏.‏

وعنه ابناه حفص، وعبد الله، وعروة بن الزبير، وقد طلق أبوه أمه فأخذته جدته الشموس بنت أبي عامر، أتى به الصديق وقال‏:‏ شمها ولطفها أحب إليه منك‏.‏

ثم لما زوجه أبوه في أيام إمارته، أنفق عليه من بيت المال شهراً، ثم كف عن الإنفاق عليه، وأعطاه من ماله، وأمره أن يتجر وينفق على عياله‏.‏

وذكر غير واحد‏:‏ أنه كان بين عاصم وبين الحسن والحسين منازعة في أرض، فلما تبين عاصم من الحسن الغضب، قال‏:‏ هي لك‏.‏

فقال له‏:‏ بل هي لك‏.‏

فتركاها ولم يتعرضا لها، ولا أحد من ذريتهما حتى أخذها الناس من كل جانب، وكان عاصم رئيساً وقوراً، كريماً فاضلاً‏.‏

قال الواقدي‏:‏ مات سنة سبعين بالمدينة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 8/345‏)‏

 قبيصة بن دؤيب الخزاعي الكلبي

أبو العلاء من كبار التابعين، وهو أخو معاوية من الرضاعة، كان من فقهاء أهل المدينة وصالحيهم، انتقل إلى الشام وكان معلم كتّاب‏.‏

 قيس بن ذريج

المشهور أنه من بادية الحجاز‏.‏

وقيل‏:‏ إنه أخو الحسين بن علي من الرضاعة، وكان قد تزوج لبنى بنت الحباب ثم طلقها، فلما طلقها هام لما به من الغرام، وسكن البادية، وجعل يقول فيها الأشعار ونحل جسمه‏.‏

فلما زاد ما به أتاه ابن أبي عتيق فأخذه ومضى به إلى عبد الله بن جعفر، فقال له‏:‏ فداك أبي وأمي، اركب معي في حاجة، فركب واستنهض معه أربعة نفر من وجوه قريش، فذهبوا معه وهم لا يدرون ما يريد، حتى أتى بهم باب زوج لبنى، فخرج إليهم فإذا وجوه قريش، فقال‏:‏ جعلني الله فداكم ‏!‏ ما جاء بكم‏؟‏

قالوا‏:‏ حاجة لابن أبي عتيق‏.‏

فقال الرجل‏:‏ اشهدوا أن حاجته مقضية، وحكمه جائز‏.‏

فقالوا‏:‏ أخبره بحاجتك‏.‏

فقال ابن أبي عتيق‏:‏ اشهدوا على أن زوجته لبنى منه طالق‏.‏

فقال عبد الله بن جعفر‏:‏ قبحك الله ‏!‏ ألهذا جئت بنا‏؟‏

فقال‏:‏ جعلت فداكم يطلق هذا زوجته ويتزوج بغيرها، خير من أن يموت رجل مسلم في هواها صبابة، والله لا أبرح حتى ينتقل متاعها إلى بيت قيس‏.‏

ففعلت، وأقاموا مدة في أرغد عيش وأطيبه رحمهم الله تعالى‏.‏

 يزيد بن زياد بن ربيعة الحميري

الشاعر، كان كثير الشعر والهجو، وقد أراد عبيد الله بن زياد قتله لكونه هجا أباه زياداً، فمنعه معاوية من قتله‏.‏

وقال‏:‏ أدبه فسقاه دواء مسهلاً وأركبه على حمار، وطاف به في الأسواق، وهو يسلح على الحمار، فقال في ذلك‏:‏

يغسل الماء ما صنعت وشعري * راسخٌ منك في العظام البوالي

 بشير بن النضر

قاضي مصر، كان رزقه في العام ألف دينار، توفي بمصر، وولى بعده عبد الرحمن بن حمزة الخولاني، والله سبحانه أعلم‏.‏

 مالك بن يخامر

السكسكي الألهاني الحمصي تابعي جليل‏.‏

ويقال له‏:‏ صحبة فالله أعلم‏.‏

روى البخاري من طريق معاوية عنه، عن معاذ بن جبل في حديث الطائفة الظاهرة على الحق أنهم بالشام، وهذا من باب رواية الأكابر عن الأصاغر، إلا أن يقال له‏:‏ صحبة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8 /346‏)‏

والصحيح‏:‏ أنه تابعي وليس بصحابي، وكان من أخص أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال غير واحد‏:‏ مات في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ سنة اثنتين وسبعين والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏